موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

وصهره عبد الله بن جعفر :

وتقدّم إلى الإمام صهره عبد الله بن أخيه جعفر وقال له : يا أمير المؤمنين ، ما عندي شيء إلّا أن أبيع بعض دوابّي فلو أمرت لي بمعونة أو نفقة!

فقال له الإمام عليه‌السلام : لا والله ما أجد لك شيئا إلّا أن تأمر عمّك أن يسرق فيعطيك (١)!

نعم ، كانت نفقته تأتيه من غلّته من ينبع من نواحي المدينة وكان طعامه الثريد بالزيت ويجلّله بتمر العجوة (من تمر المدينة) ويطعم الناس الخبز واللحم. ويضع يده على بطنه ويقول : والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لا تنطوي ثميلتي (طعامي في بطني) على شيء من خيانة ، ولأخرجنّ منها خميصا (جائعا)!

ويقول : يا أهل الكوفة ، إذا أنا خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن (٢) وكان يجعل سويقه في جراب يختمه مخافة أن يزاد فيه شيء.

وفي كلّ شهر رمضان كان يأمر بعض عمّاله أن يصنعوا للناس طعاما ، ووضعوا عنده خمسة وعشرين جفنة ، واتي إليه بقصعة عليها أضلاع ، فأخذ منها ضلعين وقال : تجزياني (٣) وكان أحيانا يأكل كسر خبز يابس بلبن حامض (٤) وكان يرى على وجه الرغيف قشار الشعير وهو يكسره وأحيانا يستعين لكسره بركبته.

قال سويد بن غفلة : رأيت ذلك وجاريته فضّة عند رأسه قائمة فقلت لها : يا فضة! أما تتقون الله في هذا الشيخ! لو نخلتم دقيقه (وكأنّه لم يسمعه) فسألها :

__________________

(١) الغارات ١ : ٦٦ ـ ٦٧.

(٢) الغارات ١ : ٦٨ ـ ٦٩.

(٣) الغارات ١ : ٨٢.

(٤) الغارات ١ : ٨٥.

٣٦١

ما يقول؟ قالت : سله. فقلت له : لو ينخلون دقيقك! فبكى ثمّ قال : بأبي وأمّي من لم يشبع ثلاثا متوالية من خبز برّ حتّى فارق الدنيا ولم ينخل دقيقه. يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وقال له عقبة بن علقمة : يا أمير المؤمنين أتأكل مثل هذا؟ فقال له : يا أبا الجنوب رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يأكل أيبس من هذا ، فإن أنا لم آخذ بما أخذ به خفت أن لا ألحق به (٢).

نعم ، إنّما كان حلواه التمر واللبن ، وثيابه الكرابيس (القطن) ولكنّه أعتق ألف مملوك ممّا عملت يداه (٣) واشترى ثوبين أحدهما بدرهمين والآخر بثلاثة دراهم ، فقال لغلامه قنبر : يا قنبر خذ الذي بثلاثة ، قال : يا أمير المؤمنين أنت تصعد المنبر وتخطب الناس فأنت أولى به ، فقال له : يا قنبر ، أنا استحيي من ربّي أن أتفضّل عليك! فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «ألبسوهم ممّا تلبسون وأطعموهم ممّا تأكلون» وأنت شابّ ولك شرّة الشباب (٤) وكان يخرج إلى السوق ومعه درّته (٥) يأمر وينهى. وفرض لمن قرأ (وحفظ) القرآن ألفين ألفين (٦) بينما فرض لشريح خمسمائة (٧).

وعاد عبد الله بن العباس إلى البصرة ، هذا وأخوه عبيد الله على اليمن ، وأخوه قثم على مكّة وهو الذي حجّ بالناس في هذه السنة (٣٨ ه‍) واستمرّت غارات معاوية.

__________________

(١) الغارات ١ : ٨٧ ـ ٨٨.

(٢) الغارات ١ : ٨٥.

(٣) الغارات ١ : ٩٢ بطريقين عن الحسن والصادق عليهما‌السلام.

(٤) الغارات ١ : ١٠٦ عن أبي مطر الجهني البصري وكان مسافرا يبيت في المسجد الجامع.

(٥) الغارات ١ : ١١٤.

(٦) الغارات ١ : ١٣١.

(٧) الغارات ١ : ١٢٢ واستطردنا للمناسبة.

٣٦٢

غارة النعمان على عين تمر :

قبل نهاية السنة (٣٨ ه‍) بشهرين أو ثلاثة قال معاوية لمن حوله : أما من رجل أبعث معه بجريدة خيل ، حتّى يغير على شاطئ الفرات ؛ فإنّ الله يرعب بها أهل العراق! (وكأنّهم أعداء الله) فغزا الضحّاك بن قيس أرض العراق مع انصراف الحجّاج ثمّ انصرف إلى معاوية.

فتقدّم النعمان بن بشير الأنصاري الخزرجي إلى معاوية وقال له : ابعثني فإنّ لي في قتالهم هوى ونيّة! فقال له : فانتدب على اسم الله! وندب إليه ألفي رجل منهم ، وأوصاه : أن يتجنّب المدن والجماعات ، وأن لا يغير إلّا على مسلحة ، وأن يعجّل بالرجوع!

فخرج النعمان حتّى دنا من عين تمر ، وبها مالك بن كعب الأرحبي الهمداني ، وقد مرّ خبره معه من قبل ، وكذلك خبر إرسال الإمام لمالك الأرحبي لإغاثة ابن أبي بكر ولكنّه لم يدركه فرجع ، فيبدو أنّ الإمام بعد عودة مالك من تلك البعثة بعثه إلى مسلحة عين تمر ، وكان معه بها ألف رجل ، ولكنّه كان قد أذن لهم بزيارة أهلهم في الكوفة فتفرّقوا عنه إليها إلّا مائة منهم تقريبا!

فكتب مالك إلى الإمام عليه‌السلام : أمّا بعد ، فإنّ النعمان بن بشير قد نزل إليّ في جمع كثيف ، فانظر ما ترى ، ثبّتك الله وسدّدك ، والسلام.

وقد مرّ خبر مشادّة مخنف بن سليم الأزدي مع شبث بن ربعي التميمي بمحضر الإمام عليه‌السلام بشأن عشائرهما بالبصرة في أمر الحضرمي وزياد ، ويبدو أنّ الإمام بعد ذلك بعث مخنفا لجباية صدقات أراضي الفرات إلى بكر بن وائل (في الجزيرة) ومعه خمسون رجلا وفيهم ابنه عبد الرحمن ، وكان أقرب إلى عين تمر (١).

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٤٩ ـ ٤٥٠.

٣٦٣

فقال مالك لابن حوزة الأزدي : إن أقرب من هاهنا إلينا من «شيعة» علي وأنصاره وعمّاله : مخنف بن سليم وقرظة بن كعب الأنصاري ، فاركض إليهما وأعلمهما حالنا وقل لهما فلينصرانا بما استطاعا!

قال ابن حوزة : فتركته وأصحابه وإنّهم ليترامون بالنبل أمام جدران القرية وحيطانها ، وجعلت أركض فرسي حتّى بلغت إلى قرظة الأنصاري فاستغثته فقال : إنّما أنا صاحب خراج وما معي أحد أغيثه به! فمضيت حتى بلغت مخنف بن سليم فأخبرته الخبر ، فدعا ابنه عبد الرحمن في خمسين رجلا فأغاثنا بهم ، فرجعت إلى مالك وأصحابه عصرا عند المساء وقد كسروا جفون سيوفهم واستسلموا للموت! فلمّا رآنا أهل الشام قد أقبلنا إليهم ظنّوا أنّ وراءنا مددا فأخذوا ينكصون عنهم ويرتفعون ، ورآنا مالك وأصحابه فشدّوا عليهم حتّى دفعوهم عن القرية ، وصرعنا منهم ثلاثة رجال ، وحال بيننا وبينهم الليل ، فارتفعوا وانصرفوا.

وكتب مالك بن كعب إلى الإمام عليه‌السلام : أمّا بعد ، فقد نزل بنا النعمان بن بشير في جمع من أهل الشام كالظاهر (المنتصر علينا) وكنّا آمنين عمّا كان منهم (ولذا) كان عظم أصحابي متفرّقين ، فخرجنا إليهم فقاتلناهم حتّى المساء ، واستصرخنا مخنف بن سليم فبعث إلينا رجالا من «شيعة» أمير المؤمنين ، مع ولده عند المساء ، فنعم الفتى ونعم الأنصار ، فحملنا على عدوّنا وشددنا عليهم ، فأنزل الله علينا نصره وهزم عدوّه وأعزّ جنده ، والحمد لله رب العالمين ، والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته (١).

خطاب علي عليه‌السلام وجواب عدي :

لكنّ الكتاب الأول لمالك الأرحبي لمّا بلغ إلى الإمام عليه‌السلام صعد المنبر

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٥٦ ـ ٤٥٧ ، وفي الطبري ٥ : ٣٣ السنة (٣٩ ه‍) عن المدائني ، عن عوانة.

٣٦٤

فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

يا أهل الكوفة : أإذا أطلّ عليكم منسر (فوج) من مناسر أهل الشام أغلقتم أبوابكم وانجحرتم في بيوتكم انجحار الضبّة في جحرها والضباع في وجارها! الذليل ـ والله ـ من نصرتموه! ومن رمى بكم رمى بأفوق ناصل (سهم بلا نصل) أفّ لكم! لقد لقيت منكم ترحا (حزنا)! ويحكم يوما أناجيكم ويوما أناديكم ، فلا أحباب عند النداء ولا إخوان صدق عند اللقاء! أنا ـ والله ـ منيت بكم! صمّ لا تسمعون ، وبكم لا تنطقون وعمي لا تبصرون.

ويحكم اخرجوا إلى أخيكم مالك بن كعب ، فإنّ النعمان بن بشير قد نزل به في جمع من أهل الشام ليس بالكثير! فانهضوا إلى إخوانكم ، لعلّ الله يقطع بكم من الظالمين طرفا! ثمّ نزل ودخل منزله.

فقام عديّ بن حاتم الطائي (وقد فرّ ابنه إلى معاوية ، والآخر قتل بالنهروان) وقال لهم :

هذا ـ والله ـ الخذلان القبيح! هذا ـ والله ـ الخذلان غير الجميل! ما على هذا بايعنا أمير المؤمنين!

ثمّ دخل على الإمام عليه‌السلام وقال له : يا أمير المؤمنين ، إنّ معي من طيّئ ألف رجل لا يعصونني ، فإن شئت أن أسر بهم سرت؟ فقال له : اخرج إلى النخيلة فعسكر بهم ، فخرج فعسكر.

وفرض الإمام عليه‌السلام لمن يلحق بهم سبعمائة ، فاجتمع إليه ألف فارس سواهم ، فسار بهم على شاطئ الفرات ، وفاته النعمان بن بشير فأغار على أداني أراضي الشامات ثمّ عاد إلى البلاد (١).

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٥١ ـ ٤٥٥.

٣٦٥

وجدل على دومة الجندل :

كان أكثر أهل دومة الجندل من بني كلب ، ومنهم امرؤ القيس بن عدي صهر الإمام عليه‌السلام له ولولديه الحسنين عليهم‌السلام ، وكانت دومة الجندل محلّ تحكّم الحكمين ، ولعلّه لذلك تجرّءوا فقالوا : نكون على حالنا لا في طاعة علي عليه‌السلام ولا معاوية حتّى يجتمع الناس على إمام.

وتذكّرهم معاوية فبعث إليهم مسلم بن عقبة المرّي الأنصاري ليجبي صدقاتهم.

وبلغ ذلك إلى الإمام عليه‌السلام فبعث إلى مالك بن كعب الأرحبي الهمداني في عين تمر : أن استعمل رجلا وأقبل إليّ ، فولّاها ابن أخيه عبد الرحمن وأقبل إلى الإمام عليه‌السلام ، فسرّحه في ألف فارس ، فتواقفا ثمّ تقاتلا إلى الليل ، فلمّا أصبح مسلم المرّي وصلّى بأصحابه انصرف بهم.

فأقام مالك في الدومة يدعوهم ليجتمعوا على الإمام عليه‌السلام فلم يفعلوا ، فأقام كذلك عشرة أيّام ثمّ رجع إلى الإمام (١).

والعامريّ في السماوة :

وأقبل من الشام رجل يقال له : زهير بن مكحول العامري إلى السماوة يجبي صدقاتهم ، فبعث عليهم الإمام الجلاس بن عمير الكندي وجعفر بن عبد الله الأشجعي وعمرو بن عشبة الكلبي ومع كلّ واحد منهم جماعة ، وقال لهم : إذا اجتمعتم فعليكم عمرو بن عشبة ، فتلاقوا واقتتلوا ثمّ انهزمت خيل الإمام ، فقدم عليه عمرو بن عشبة وجعفر الأشجعي مهزومين ، وعلم الإمام بذلك

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٥٩ ـ ٤٦١.

٣٦٦

فلمّا رأى عمرا علا رأسه بدرّته وقال له : انهزمت؟! وسكت الرجل ، ولكنّه لمّا خرج من عنده فرّ إلى معاوية! فبعث الإمام إلى داره فهدمها (١).

الغامديّ على الأنبار (٢) :

دعا معاوية سفيان بن عوف الغامدي الأزدي للغارة على العراق ، ثمّ خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد أيّها الناس ، فانتدبوا مع سفيان بن عوف ، فإنّه وجه عظيم وفيه أجر عظيم مع أوبة سريعة إن شاء الله ، ثمّ سكت ونزل.

وخرج سفيان من دمشق فعسكر بناحيتها ، فما مرّت به ثلاثة أيّام حتى اجتمع إليه ستّة آلاف.

ودعاه معاوية فقال له : إنّي باعثك في هذا الجيش الكثيف ذي الأداة والجلادة ، فالزم لي جانب الفرات حتّى تمرّ على هيت ، فإن لم تجد بها جندا فامض حتّى تغير على الأنبار ، فإن لم تجد بها جندا فامض حتّى تغير على المدائن! وخرّب كلّ ما مررت به من القرى! واحرب الأموال فإنّه شبيه بالقتل! بل هو أوجع للقلوب! واقتل كلّ من لقيته ممّن لا يكون على رأيك! واعلم أنّك إن أغرت على أهل الأنبار وأهل المدائن فكأنّك أغرت على الكوفة ، ثمّ أقبل إليّ واتّق أن تقرب الكوفة! يا سفيان ، إنّ هذه الغارات على أهل العراق ترهب قلوبهم ، وتجرّئ كلّ من كان له فينا هوى ويرى فراقهم ، وتدعو إلينا كلّ من كان يخاف الدوائر!

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٦٣ ـ ٤٦٤.

(٢) الأنبار : كانت مخازن أرزاق جيوش الأكاسرة الفرس ، كما في معجم البلدان ومراصد الاطلاع.

٣٦٧

فخرج سفيان في ستّة آلاف يلزم جانب الفرات ، فأسرع سيره بهم إلى هيت ، وبلغهم أنّه يغشاهم فعبروا الفرات وقطعوا جسورهم فوطأ هيت وما بها أحد. وهكذا مرّ على صندوداء ، وبلغ أهل الأنبار أخباره فخرج إليه أهل السلاح فيها ، فلمّا دنا منها أخذ غلمانا منها فأخبروه أنّ عدّة رجال المسلحة بها خمسمائة رجل ولكنّه قد رجع كثير منهم إلى الكوفة متبدّدين وقد بقي منهم مائتان.

فروى الثقفي ، عن جندب بن عفيف الأزدي قال : كنت في جند الأنبار مع أشرس بن حسان البكري ، إذ صبّحنا سفيان بن عوف في كتائب تلمع الأبصار منها ، وقد تفرّقنا فلم يبق نصفنا ، وخرج إليهم صاحبنا وايم الله لقد قاتلناهم فأحسنّا قتالهم ، ثمّ نزل صاحبنا وقال لنا :

من كان لا يريد لقاء الله ولا يطيب نفسا بالموت فليخرج عن القرية ما دمنا نقاتلهم ، فإنّ قتالنا إيّاهم شاغل لهم عن طلب هارب ، ومن أراد ما عند الله فما عند الله خير للأبرار! ثمّ نزل فنزل معه ثلاثون رجلا منّا فاستقدم هو وأصحابه فقاتلوا حتّى قتلوا ، فلمّا قتلوا انهزمنا (١).

ودخل سفيان وجنوده الأنبار فحملوا ما كان فيها من أموال أهلها ، ثمّ انصرفوا (٢).

ردّ الغامدي وخطب للإمام :

ولمّا أغار سفيان بن عوف على الأنبار قدم رجل من أهلها على علي عليه‌السلام فأخبره خبره ، فخطب فقال :

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٦٤ ـ ٤٧٠.

(٢) الغارات ٢ : ٤٦٨ ، وفي الطبري ٥ : ١٣٤ عن المدائني ، عن عوانة بن الحكم.

٣٦٨

أيّها الناس ، إنّ أخاكم البكريّ قد أصيب بالأنبار ، وهو مغترّ لا يخاف ما كان ، فاختار ما عند الله على الدنيا ، فانتدبوا إليهم حتّى تلاقوهم ، فإن أصبتم طرفا منهم أنكلتموهم عن العراق أبدا ما بقوا! ثمّ سكت. فلم ينبس أحد منهم بكلمة. واخبر أنّ القوم قد جاءوا بجمع كثيف.

فدعا بسعيد بن قيس الهمداني وانتدب له ثمانية آلاف فارس ، وقال له : إنّي قد بعثتك في ثمانية آلاف ، فاتّبع هذا الجيش حتّى تخرجه من أرض العراق.

فخرج على شاطئ الفرات في طلبه حتّى بلغ عانات ، فسرّح أمامه هانئ بن الخطّاب الهمداني ، فاتّبع آثارهم حتّى بلغ أداني أراضي قنسرين (قبل حلب بمرحلة) فلم يلقهم فانصرف عنهم.

واعتلّ الإمام عليه‌السلام في تلك الأيّام حتّى لم يطق القيام بالخطاب والكلام ، لكنّه أملى كلاما على كاتبه ثمّ دعا الصحابيّ صاحب شرطته سعد بن الحارث الخزاعي فدفع إليه الكتاب وأمره أن يقرأه على الناس بمحضره ، وخرج مع ابنيه الحسنين عليهم‌السلام وابن أخيه عبد الله بن جعفر ، فجلس معهم بباب السدّة إلى المسجد الجامع ، فقام سعد بحيث يسمع الإمام قراءته وما يردّ عليه الناس ، ثمّ قرأ الكتاب :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من عبد الله عليّ (بلا لقب!) إلى من قرئ عليه كتابي من المسلمين ، سلام عليكم ، أمّا بعد ، فالحمد لله ربّ العالمين ، وسلام على المرسلين ، ولا شريك لله الأحد القيّوم ، وصلوات الله على محمد والسلام عليه في العالمين.

أمّا بعد ، فإنّي قد عاتبتكم في رشدكم حتّى سئمت ، وراجعتموني بالهزء من قولكم حتّى برمت ، هزء من القول لا يعاد (لا يعتدّ) به ، وخطل (بالرأي) لا يعزّ أهله! ولو وجدت بدّا من خطابكم والعتاب إليكم ما فعلت ، وهذا كتابي يقرأ عليكم ، فردّوا خيرا وافعلوه ، وما أظنّ أن تفعلوا ، فالله المستعان.

٣٦٩

أيّها الناس ، إنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه ، وهو لباس التقوى ، ودرع الله الحصينة ، وجنّته الوثيقة ، فمن ترك الجهاد في الله ألبسه الله ثوب الذلّ ، وشمله البلاء ، وضرب على قلبه بالشبهات ، وديّث بالصغار والقماءة ، وأديل الحقّ منه بتضييع الجهاد ، وسيم الخسف ومنع النصف!

ألا وإنّي قد دعوتكم إلى جهاد عدوّكم ليلا ونهارا وسرّا وإعلانا ، وقلت لكم : اغزوهم قبل أن يغزوكم ، فو الله ما غزي قوم في عقر دارهم إلّا ذلّوا! فتواكلتم وتخاذلتم ، وثقل عليكم قولي فعصيتم ، واتخذتموه وراءكم ظهريّا ، حتّى شنّت عليكم الغارات في بلادكم ، وملكت عليكم الأوطان!

فهذا أخو غامد (سفيان بن عوف) قد وردت خيله الأنبار ، فقتل بها أشرس بن حسان (البكري) (١) وأزال مسالحكم عن مواضعها ، وقتل منكم رجالا صالحين ، وقد بلغني أنّ الرجل من أعدائكم كان يدخل بيت المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع خلخالها من ساقها ورعثها (زينتها) من أذنها فلا تمتنع منه ، ثمّ انصرفوا وافرين ، لم يكلم (يجرح) منهم رجل كلما! فلو أنّ امرأ مسلما مات من دون هذا أسفا ما كان عندي ملوما بل كان عندي به جديرا.

فيا عجبا ، عجبا والله يميث القلب ويجلب الهمّ ، ويسعّر الأحزان اجتماع هؤلاء على باطلهم ، وتفرّقكم عن حقّكم! فقبحا لكم وترحا! لقد صيّرتم أنفسكم غرضا يرمى ، يغار عليكم ولا تغيرون ، وتغزون ولا تغزون ، ويعصى الله وترضون ، ويفضى إليكم فلا تأنفون.

قد ندبتكم إلى جهاد عدوّكم في الصيف فقلتم : هذه حمّارة القيظ ، أمهلنا حتى ينسلخ عنّا الحرّ! وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم : هذه صبارّة القرّ ،

__________________

(١) وفي نهج البلاغة : حسان بن حسان.

٣٧٠

أمهلنا حتّى ينسلخ عنّا البرد! فإذا كنتم من الحرّ والصرّ تفرّون فأنتم ـ والله ـ من حرّ السيوف أفرّ ، فحتّى متى وإلى متى؟!

يا أشباه الرجال ولا رجال ، ويا طغام الأحلام ، أحلام الأطفال وعقول ربّات الحجال ، يعلم الله لقد سئمت الحياة بين أظهركم ، ولوددت أنّ الله يقبضني إلى رحمته من بينكم ليتني لم أركم ولم أعرفكم معرفة والله جرّت ندما وأعقبت سدما! (لقد) أوغرتم ـ يعلم الله ـ صدري غيظا ، وجرّعتموني جرع الهمام أنفاسا ، وأفسدتم عليّ رأيي وخرصي بالعصيان والخذلان ، حتّى قالت قريش وغيرها : إنّ ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب! لله أبوهم! وهل كان منهم رجل أشدّ مقاساة وتجربة ، ولا أطول مراسا لها منّي! فو الله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، وها أنا ذا قد ذرّفت على الستّين ، ولكن «لا رأي لمن لا يطاع» فكرّرها ثلاثا ثمّ سكت» (١).

ثمّ أمر الإمام عليه‌السلام الحارث بن الأعور الهمداني أن ينادي في الناس : أين من يشري نفسه لربّه؟ ويبيع دنياه بآخرته؟ اصبحوا غدا بالرّحبة إن شاء الله ، ولا يحضرنا إلّا صادق النيّة في المسير معنا والجهاد لعدوّنا. فأصبح وليس في الرّحبة إلّا دون الثلاثمائة رجل! وتخلّف آخرون وأتاه قوم يعتذرون.

ومكث الإمام عليه‌السلام أيّاما ثمّ أمر فنودي في الناس بالاجتماع فاجتمعوا ، فقام فيهم خطيبا على المنبر فقال لهم :

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٧٠ ـ ٤٧٧ ، وفي معاني الأخبار : ٣٠٩ ـ ٣١٠ أنّها كانت خطبة له عليه‌السلام بالنخيلة لإرسال سعيد بن قيس ، وكذلك في نهج البلاغة خ ٢٧ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٧٩ ، وانظر وقارن بالإرشاد ١ : ٢٧٨ ـ ٢٨٣ ، وموارد نقلها كذلك في تعليقات الغارات ٢ : ٨١٩ ـ ٨٢١.

٣٧١

أمّا بعد أيّها الناس ، فو الله لأهل مصركم في الأمصار أكثر من الأنصار في العرب ، وما كانوا يوم أعطوا رسول الله أن يمنعوه ومن معه من المهاجرين حتّى يبلّغ رسالات ربه ، إلّا قبيلتين صغير مولدهما ، وما هما بأقدم العرب ميلادا ، ولا بأكثرهم عددا ، فلمّا آووا النبيّ وأصحابه ونصروا الله ودينه ، رمتهم العرب عن قوس واحدة ، وتحالفت عليهم وغزتهم العرب واليهود ، والقبائل قبيلة بعد قبيلة. فتجرّدوا لنصرة دين الله ، وقطعوا ما بينهم وبين العرب من الحبائل ، وما بينهم وبين اليهود من العهود ، ونصبوا لأهل نجد وتهامة ، وأهل مكة واليمامة ، وأهل الحزن والسهل ، حتّى أقاموا قناة الدين ، وتصبّروا تحت أحلاس الجهاد حتى دانت لرسول الله العرب ، ورأى فيهم قرّة العين قبل أن يقبضه الله إليه.

فأنتم (اليوم) في الناس أكثر من أولئك في أهل ذلك الزمان من العرب.

فقام إليه رجل طويل أسمر فقال له : ما أنت بمحمد! ولا نحن بأولئك الذين ذكرت ، فلا تكلّفنا ما لا طاقة لنا به!

فقال الإمام عليه‌السلام : ثكلتكم الثواكل! ما تزيدونني إلّا غمّا! وهل أخبرتكم أنّي محمد وأنّكم الأنصار؟! إنّما ضربت لكم مثلا ، وإنّما أرجو أنّ تتأسّوا بهم.

وتكلّم الناس من كل ناحية ولغطوا ، فقام رجل وصاح بهم : لقد استبان فقد الأشتر على أهل العراق! وأشهد أن لو كان حيّا لعلم كلّ امرئ ما يقول ولقلّ اللغط!

فقال الإمام عليه‌السلام : هبلتكم الهوابل ، لأنا أوجب عليكم حقّا من الأشتر! وغضب فنزل ودخل منزله.

فقام حجر بن عدي وسعيد بن قيس الهمداني ووجوه أصحابه فدخلوا عليه ، فقالوا له :

يا أمير المؤمنين ، لا يسوؤك الله ، مرنا بأمرك نتّبعه ، فو الله لا نعظم جزعا على عشائرنا إن قتلت في طاعتك. فقال لهم : أشيروا عليّ برجل صليب ناصح يحشر الناس من السواد (العراق).

٣٧٢

فقال له سعيد بن قيس : يا أمير المؤمنين ، أشير عليك بالناصح الأريب ، الشجاع الصليب : معقل بن قيس التميمي. فقال عليه‌السلام : نعم ، ثمّ أرسل عليه يدعوه إليه ليوجّهه (١).

خطاب وعتاب آخر :

روى الثقفي عن جندب بن عبد الله الأزدي قال : إنّ عليّا عليه‌السلام استنفر الناس أيّاما فلم ينفروا ، فقام فيهم فقال : أمّا بعد ، أيّها الناس ، فإنّي قد استنفرتكم فلم تنفروا ، ونصحت لكم فلم تقبلوا ، فأنتم شهود كغيّاب ، وصمّ ذوو أسماع ، أتلو عليكم الحكمة ، وأعظكم بالموعظة الحسنة ، وأحثّكم على جهاد عدوّكم الباغين ، فماء آتي على آخر منطقي حتّى أراكم متفرّقين أيادي سبا ، فإذا أنا كففت عنكم عدتم إلى مجالسكم حلقا عزين ، تضربون الأمثال ، وتتناشدون الأشعار ، وتسألون عن الأخبار ، قد نسيتم الاستعداد للحرب ، وشغلتم قلوبكم بالأباطيل! تربت أيديكم! اغزوا القوم قبل أن يغزوكم ، فو الله ما غزي قوم قطّ في عقر ديارهم إلّا ذلّوا! وايم الله ما أراكم تفعلون حتّى يفعلوا ، ولوددت أنّي لقيتهم على نيّتي وبصيرتي فاسترحت من مقاساتكم! فما أنتم إلّا كإبل جمة ضلّ راعيها! كلما ضمت من جانب انتشرت من جانب آخر. والله لكأنّي بكم لو قد حمس الوغى وأحمّ البأس قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرأس ، وانفراج المرأة عن قبلها!

فقام الأشعث بن قيس وقال له : يا أمير المؤمنين ، فهلّا تفعل كما فعل ابن عفّان؟!

فقال له الإمام عليه‌السلام : يا عرف النار! ويلك! إنّ الذي فعله ابن عفّان (بالقعود في الدار حتّى يغزى) لمخزاة على من لا دين له ولا حجّة معه! فكيف وأنا على بيّنة

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٧٠ ـ ٤٨٢ بأسناده ، وعنه في أمالي الطوسي : ١٧٣ الحديث ٢٩٣ م ٦.

٣٧٣

من ربّي والحقّ في يدي؟! والله إنّ امرأ يمكّن عدوّه من نفسه يجدع لحمه ويهشّم عظمه ، ويفري جلده ويسفك دمه ، لضعيف ما ضمّت عليه جوانح صدره (يعني قلبه) أنت كن كذلك إن أحببت ، فأمّا أنا فدون ذلك ضرب بالمشرفي يطير منه فراش إلهام ، وتطيح منه الأكف والأقدام! ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء! وسكت.

فقام أبو أيوب خالد بن يزيد الأنصاري وتوجّه إلى الناس وقال لهم :

أيّها الناس ، إنّ أمير المؤمنين قد أسمع من كانت له أذن واعية وقلب حفيظ! إنّ الله قد أكرمكم بكرامة لم تقبلوها حقّ قبولها : إنّه ترك بين أظهركم ابن عمّ نبيكم وسيّد المسلمين من بعده ، يفقّهكم في الدين ، ويدعوكم إلى جهاد المحلّين ، فكأنّكم صمّ لا تسمعون ، أو قلوبكم غلف ، بل مطبوع عليها فأنتم لا تعقلون ، أفلا تستحيون؟!

عباد الله! إنّما عهدكم بالجور والعدوان أمس (في عهد عثمان) قد شمل البلاء وشاع في البلاد : فذو حقّ محروم ، وملطوم وجهه ، وموطأ بطنه (عمّار بن ياسر) ومنفيّ بالعراء تسفي عليه الأعاصير ، لا يكنّه من الحرّ والقرّ وصهر الشمس والضحّ إلّا الأثواب الهامدة وبيوت الشعر البالية (أبو ذر الغفاري) حتّى حباكم الله بأمير المؤمنين ، فصدع بالحقّ ، ونشر العدل ، وعمل بما في الكتاب.

يا قوم فاشكروا نعمة الله عليكم ولا تولّوا مدبرين (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)(١).

اشحذوا السيوف ، واستعدّوا لجهاد عدوّكم ، فإذا دعيتم فأجيبوا ، وإذا أمرتم فاسمعوا وأطيعوا ، وما قلتم فليكن ما أضمرتم عليه ، تكونوا بذلك من الصادقين (٢).

__________________

(١) الأنفال : ٢١.

(٢) الغارات ٢ : ٤٩٣ ـ ٤٩٨.

٣٧٤

وتشبّث الأشعث بالقشّة :

وكأنّ الأشعث الكندي أمسى أشعث أغبر من الردّ العنيف من الإمام عليه‌السلام على كلامه له ، فكأنّه رام الانتقام أو الانتقاص منه! وكان عمر بن الخطاب يدني الأعراب ويباعد الموالي ، وكان الإمام عليه‌السلام على عكسه أميل إلى الموالي وألطف بهم! وكانت العرب تسمّي الموالي العجم بالحمراء ، وكانوا في الكوفة قد أسلموا وأطافوا بالإمام عليه‌السلام حتّى كأنّهم تغلّبوا عليه أكثر من العرب والأعراب.

ودخل الأشعث المسجد يوما ورأى الحال كذلك ، فأخذ يتخطّى الناس ليتقرّب إلى الإمام عليه‌السلام زلفى لديه حتّى توصّل إليه فتقوّل لديه :

يا أمير المؤمنين ؛ غلبتنا هذه الحمراء على وجهك؟! فكأنّه غضب الإمام عليه‌السلام وقال : من يعذرني من هؤلاء الضياطرة (الضخام بلا أفهام) يتقيّل أحدهم (ينام القيلولة) يتقلّب على حشاياه (فراشه) ويهجّر قوم (يخرج في هجير الحرّ) لذكر الله فيأمرني أن أطردهم فأكون من الظالمين ، ثمّ قال : والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لقد سمعت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «ليضربنّكم (الفرس) والله على الدين عودا كما ضربتموهم عليه بدءا» (١).

وكأنّ الإمام عليه‌السلام كان يرى هذا القدر من التأنيب غير كاف ، فنسبه إلى بقايا قوم ثمود وقال : أين (هذا) الثموديّ؟! فاطّلع الأشعث! فأخذ الإمام كفّا من الحصى وضرب به وجهه فأدماه وناداه : ترحا لهذا الوجه! ترحا لهذا الوجه! فانجفل الأشعث هاربا وانجفل معه الناس (٢)!

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٩٨ ـ ٤٩٩.

(٢) الغارات ٢ : ٥٠٠ ـ ٥٠١ مسندا ، فهل يستبعد أن يبعّد الناس عنه ويدبّر لقتله؟!

٣٧٥

وحلم معاوية بالموسم :

مرّ الخبر عن استشارة الإمام عليه‌السلام من حجر الكندي وسعيد بن قيس الهمداني في من يبعثه لصدّ غارات معاوية وتعقيبها ، فأشار عليه سعيد بن قيس بمعقل بن قيس التميمي ، وأنّ الإمام أرسل إليه يدعوه ليوجّهه. والآن يبدو أنّ ذلك كان في أواخر سنة (٣٩ ه‍) لموسم الحجّ.

كان يزيد بن شجرة الرّهاوي عثمانيّا ناسكا يتألّه وقد شهد مع معاوية صفين! ودنا موسم الحجّ لسنة (٣٩ ه‍) فدعاه معاوية وقال له : إنّ أهلي وعشيرتي وبيضتي التي انفلقت عنّي أهل الله في حرم الله ، ولكن واليها رجل ممّن قتل عثمان وسفك دمه! (قثم بن العباس)! فأنا مسرّ إليك سرّا لا تطلع أحدا عليه حتى تخرج من كلّ أراضي الشام ، إنّي باعثك إلى مكة وواليها ، وفي ذلك شفاء لنا ولك ، وقربة إلى الله وزلفى! فسر على بركة الله حتى تنزلها ، وأنت تلاقي الآن الناس هناك بالموسم ، وإنّهم الأصل والعشيرة وإنّي كاره لاستئصالهم ومحبّ لاستبقائهم ، فادعهم إلى اتّباعنا وطاعتنا! فإن أجابوك فاقبل منهم واكفف عنهم ، وإن أدبروا عنك فنابذهم وناجزهم ، ولا تقاتلهم حتّى تبلّغهم أنّي قد أمرتك أن تبلّغهم عنّي! ثمّ تولّ أمر الموسم وصلّ بالناس!

ثمّ سيّره في ثلاثة آلاف فارس ، وخرج بهم من دمشق مسرعا وشيّعه رؤساؤها وهم يسألونه : أين يريد؟ فقال : سبحان الله (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ)(١) ما أسرع ما تعلمون ، وكأنّكم قد علمتم إن شاء الله ، ومضى مسرعا.

ثمّ قدّم أمامه الحارث بن نمير التنوخي (البحراني ، ولعلّه في ثلثهم) ثمّ مرّوا بوادي القرى ثمّ ميقات الجحفة ثمّ قدموا مكة يوما قبل التروية (٢).

__________________

(١) الأنبياء : ٣٧ ، وعدد الجيش عن الكامل لابن الأثير ٣ : ١٥١ سنة (٣٩ ه‍).

(٢) الغارات ٢ : ٥٠٤ ـ ٥٠٧.

٣٧٦

كتاب الإمام إلى قثم بمكة :

وكان للإمام عليه‌السلام عيون بالشام وعلم بذلك فكتب إلى الإمام بالإعلام ، فكتب الإمام إلى قثم يقول له : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى قثم ابن العباس ، سلام عليك ، أمّا بعد ، فإنّ عيني بالمغرب كتب إليّ يخبرني : أنّه قد وجّه إلى الموسم ناسا من العرب من العمي القلوب والصمّ الأسماع ، والبكم الأبصار ، الذين يلبسون الحقّ بالباطل ، ويطيعون المخلوقين في معصية الخالق ، ويجلبون الدنيا بالدين (ومع ذلك) يتمنّون على الله جوار الأبرار! وإنّه لا يفوز بالخير إلّا فاعله ، ولا يجزى بالسوء إلّا فاعله!

وقد وجّهت إليكم جمعا من المسلمين ذوي بسالة ونجدة ، مع الحسيب الصليب الورع التقي معقل بن قيس الرياحي ، وقد أمرته باتباعهم وقصّ آثارهم حتّى ينفيهم من أرض الحجاز.

فقم على ما في يديك ممّا إليك ، مقام الصليب الحازم ، المانع سلطانه ، الناصح لإمامه ، ولا يبلغني عنك وهن ولا خور ولا ما منه تعتذر ، ووطّن نفسك على الصبر في البأساء والضراء ، ولا تكوننّ فشلا ولا طائشا ولا رعديدا! والسلام.

إلّا أنّه لم ينتفع بهذا الكتاب ؛ لأنّه سمع بأن قد سبقت خيلهم خيله فلا يصله إلّا بعد الموسم! وإنّما سمع بذلك قبل رحيلهم من ميقات الجحفة إلى مكة ، فقام في أهل مكة فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم :

أمّا بعد ، فقد وجّه إليكم من الشام جند عظيم قد أظلّكم! فإن كنتم على بيعتكم وطاعتكم فانهضوا معي إليهم حتّى أناجزهم! وإن كنتم غير فاعلين فبيّنوا لي ما في أنفسكم ، ولا تغرّوني! فإنّ الغرور حتف يضلّ معه الرأي ويصرع معه الرائي والأريب. ثمّ سكت. وسكت القوم! فذهب لينزل وهو يقول لهم : قد بيّنتم ما في أنفسكم!

٣٧٧

فقام إليه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدري (صاحب مفتاح الكعبة) وقال له : أيّها الأمير ، رحمك الله ، لا يقبح رأيك فينا ولا يسوء ظنّك بنا ، فنحن على بيعتنا وطاعتنا ، وأنت أميرنا وابن عمّ خليفتنا ، فإن تدعنا نجبك وإن تأمرنا نطعك فيما أطقنا وقدرنا عليه. فسكت قثم ولم يتكلّم ، ولكنّه تقدم إلى مواليه أن يحضروا له متاعه ودوابّه ليتنحّى عن مكة! وعلم الناس بذلك.

وقدم أبو سعيد الخدري مكة وكان مصافيا في صداقة قثم فسأل عنه فأخبر خبره فجاءه وسأله فقال له : قد حدث الأمر الذي بلغك ، وليس معي جند أمتنع به ، فرأيت أن أعتزل عن مكة ، فإن يأتني جند أقاتل به وإلّا كنت قد تنحّيت بدمي!

فأخبره الخدري : أنّه لم يخرج من المدينة حتّى قدم عليهم حجّاج العراق وتجّارهم يخبرون : أنّ الناس بالكوفة قد ندبوا إلى مكة مع معقل بن قيس الرياحي.

فقال قثم : هيهات هيهات يا أبا سعيد ، إلى ذلك ما يعيش أولادنا!

فقال أبو سعيد : فما عذرك عند ابن عمّك وما عذرك عند العرب أن انهزمت قبل أن تضرب وتطعن!

فأراه قثم كتاب الإمام ولكنّه قال : سمعت قد سبقت خيلهم خيله فلا يأتي جيشه حتّى ينقضي أمر الموسم كلّه.

فقال أبو سعيد : إنّك إن أجهدت نفسك في مناصحة إمامك فرأى ذلك لك وعرف ذلك الناس فخرجت من اللائمة وقضيت الذي عليك من الحقّ ، والقوم يقدمون وأنت في الحرم والحرم حرم الله الذي جعله للناس آمنا ، وقد كنّا في الجاهلية نعظّم الحرم فاليوم أحقّ أن يفعل ذلك. فقبل قثم وأقام (١).

__________________

(١) الغارات ٢ : ٥٠٩ و ٥٠٧ ـ ٥١٠ عن عباس بن سهل بن سعد الأنصاري.

٣٧٨

أمر موسم الحج عام (٣٩ ه‍):

قدم يزيد بن شجرة الرهاوي بجيشه الثلاثة آلاف إلى مكة قبل التروية بيوم ، فأمر مناديا ينادي في الناس : ألا إنّ الناس آمنون إلّا من يعرض لنا في سلطاننا وعملنا! وقام هو يخطبهم فقال لهم :

أمّا بعد ـ يا أهل الحرم ومن حضره ـ فإنّي وجّهت إليكم لأصلّي بكم وأجمّع وآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر! ووالي هذه البلدة كره ما جئنا له والصلاة معنا ، ونحن كارهون للصلاة معه! فإن شاء اعتزلنا بالناس للصلاة ، واعتزلها هو وتركنا أهل مكة يختارون لأنفسهم من أحبّوا أن يصلي بهم ، فإن أبى فأنا آبى كذلك. والذي لا إله غيره لو شئت لصلّيت بالناس وأخذته حتّى أردّه إلى الشام ، وما معه من يمنعه ولكنّي والله ما احبّ أن استحلّ حرمة هذا البلد الحرام.

ثمّ أتى يزيد بن شجرة إلى أبي سعيد الخدري وطلب إليه أن يلقى قثم ويطلب منه ذلك ، فانطلق أبو سعيد إلى قثم وطلب منه ذلك فقبل منه قثم ، واعتزلا الصلاة فاختار الناس شيبة بن عثمان العبدري صاحب مفاتيح الكعبة فصلّى بهم حتى انقضى الحج.

فلمّا انقضى الحج رجع يزيد الرهاوي إلى الشام. ثمّ قدم خيل الإمام عليه‌السلام وعليهم معقل بن قيس الرياحي التميمي ، ورأوا الشاميين قد رجعوا ، فتبعوهم فأدركوهم بعد وادي القرى فاقتطعوا من أواخرهم عددا منهم أخذوهم أسارى (١) وبذلك انتهت سنة (٣٩ ه‍) ودخلت سنة أربعين.

__________________

(١) الغارات ٢ : ٥١٠ ـ ٥١١ ، وفي الكامل لابن الأثير في حوادث السنة (٣٩ ه‍) قال : ولمّا قدم يزيد بن شجرة الرهاوي على معاوية ـ وعلم بأسر أولئك النفر منهم ـ وجّه الحارث بن نمير التنوخي أمير مقدمتهم إلى الجزيرة في شمال العراق ليأتيه بجمع ممّن هو في

٣٧٩

غارة بسر بن أبي أرطاة :

مرّ في مقدمة خبر سابق : أن كان في سبى بني فزارة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صبيّ صغير يسمّى عبد الله بن مسعدة ، فوهبه النبيّ لابنته فاطمة عليها‌السلام ثمّ كان عند علي عليه‌السلام ، وخرج جنديا ضمن جنود فتوح الشام حتّى أفضى أمره إلى معاوية فصار من أشدّ الناس على علي عليه‌السلام ، فوجّهه معاوية سنة (٣٩ ه‍) لجباية الصدقة ممّن في حكم الإمام عليه‌السلام ، فوجّه إليه الإمام المسيّب بن نجبة الفزاري فأخرجه (١) فكان من صغار الصحابة ، وعاش حتّى عهد عبد الملك بن مروان ، وفي عهده حدّث ليزيد بن جابر الأزدي قال :

لمّا دخلت سنة أربعين شاع في الشام بين الناس وتذاكروا : أنّ أهل العراق قد اختلفت أهواؤهم ووقعت الفرقة بينهم حتّى أنّ عليّا عليه‌السلام يستنفرهم فلا ينفرون معه. فاتّفقت مع نفر من أهل الشام وقمنا إلى الوليد بن عقبة فقلنا له : إنّ الناس لا يشكّون في اختلاف الناس في العراق على علي عليه‌السلام فادخل إلى صاحبك (معاوية) واسأله ليسر بنا إليهم قبل أن يصلح لصاحبهم منهم ما قد فسد عليه من أمرهم وقبل أن يجتمعوا من تفرّقهم.

فدخل عليه فخبّره بمجيئنا إليه ومقالتنا له ، فأذن لنا ، فدخلنا عليه فقال لنا : ما هذا الخبر الذي جاءني الوليد به عنكم؟ فقلنا له : هذا خبر سائر في الناس ، فشمّر للحرب وناهض الأعداء واهتبل الفرصة واغتنم الغرّة ، فإنّك لا تدري

__________________

ـ طاعة علي عليه‌السلام ليفادي بهم أولئك النفر ، فتوجّه الحارث إلى بلدة دارا وفيها جمع من بني تغلب فأخذ منهم سبعة إلى معاوية ، فكتب معاوية إلى علي عليه‌السلام ليفاديه بهم فسيّرهم إلى معاوية ، وأطلق معاوية هؤلاء السبعة من بني تغلب ـ ٣ : ١٥٢ ط. ١ ، وعنه في هامش الغارات ٢ : ٥٠٦ ، الحديث ٤.

(١) الغارات ٢ : ٤١٨ ـ ٤١٩ ، الحديث ٣ عن الإصابة.

٣٨٠