موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

وسمع بحديث عمرو عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في عمّار بعض الشاميين فأتوا عمرا وسألوه : أنت سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول في عمّار : «قاتله وسالبه في النار» سمعت هذا من رسول الله وها أنت قاتله؟!

فقال لهم : إنّما قال : «قاتله وسالبه» (١) أفلا تعجب منه؟! ومنهم كيف صدّقوه؟!

وروى عن الصادق عليه‌السلام قال : لما قتل عمّار ارتعدت فرائص خلق كثير وقالوا : قال رسول الله : «عمّار تقتله الفئة الباغية»! وبلغ ذلك عمرو بن العاص فدخل على معاوية وقال له : يا أمير! قد هاج الناس واضطربوا! قال : لما ذا؟ قال : لقتل عمار بن ياسر! قال معاوية : وقتل عمار فما ذا؟ قال عمرو : أليس قال رسول الله : «عمّار تقتله الفئة الباغية»؟!

__________________

ألا أيها الموت الذي ليس تاركي

أرحني فقد أفنيت كلّ خليل

أراك بصيرا بالذين أودّهم

كأنّك تنحو نحوهم بدليل

كما في كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر : ١٢٠ عن ابن عمار ، إلّا أن ننكر خبر حزّ رأسه وحمله إلى معاوية.

ولا أساس كذلك لما روي أنّه عليه‌السلام احتمله فلما وضعه جعل يمسح عن وجهه الدم والتراب ويقول :

وما ظبية تسبي القلوب بطرفها

إذا التفتت خلنا بأجفانها سحرا

بأحسن منه! كلّل السيف وجهه

دما في سبيل الله حتّى قضى صبرا

كما في الدرجات الرفيعة : ٢٨٢ مرسلا.

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣١٥ ، الحديث ٣٨٢.

١٦١

فقال له معاوية : يا عمرو ، لقد رخصت في قولك! أنحن قتلناه؟ إنما قتله عليّ بن أبي طالب لمّا ألقاه بين رماحنا! فانتشر هذا الخبر حتّى بلغ عليا عليه‌السلام فقال : فإذن رسول الله قتل حمزة لمّا ألقاه بين رماح المشركين (١).

وروى ابن الأعثم : قال معاوية : إنما قتله من جاء به إلى الحرب! وكان عبد الله بن عمرو حاضرا فقال : فكذلك حمزة يوم احد إنما قتله النبيّ! فالتفت معاوية إلى عمرو وقال له : نحّ ابنك هذا الموسوس الذي لا يدري ما يقول (٢)!

وروى الجزري الموصلي ، عن عبد الرحمن السلمي ـ القارئ المعروف وكان مع الإمام عليه‌السلام ـ قال :

لما قتل عمار وأمسينا دخلت عسكر معاوية لأنظر هل بلغ منهم قتل عمّار ما بلغ منا؟ فإذا أنا بمعاوية ومعه عمرو بن العاص وابنه عبد الله (٣) وأبو الأعور السّلمي يتسايرون ، فتداخلت بفرسي بينهم لأسمعهم ما يقولون؟!

فسمعت عبد الله بن عمرو يقول لأبيه عمرو : في يومكم هذا قتلتم هذا الرجل (عمّار) وقد قال فيه رسول الله ما قال! فقال له أبوه عمرو : وما قال؟ قال : ألم يكن المسلمون في بناء مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ينقلون لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فغشي عليه (من الضعف) فأتاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول له : «ويحك يا ابن سميّة! الناس ينقلون لبنة لبنة وأنت تنقل لبنتين لبنتين رغبة في الأجر! وتقتلك الفئة الباغية»؟!

فالتفت عمرو إلى معاوية وقال له : أما تسمع ما يقول عبد الله؟ قال : وما يقول؟ فأخبره فقال : أفنحن قتلناه؟! إنما قتله من جاء به!

__________________

(١) الدرجات الرفيعة : ٢٨١ ـ ٢٨٢ مرسلا مرفوعا.

(٢) الفتوح لابن الأعثم ٣ : ٢٦٨.

(٣) هنا ذكر في الخبر عبيد الله بن عمر ، وقد قتل يومئذ.

١٦٢

ونشروا هذا فيهم ، فرأيتهم خرجوا من أخبيتهم وفساطيطهم وهم يقولون : إنما قتل عمارا من جاء به! فلا أدري أيهم كان أعجب؟ أهو أم هم (١)؟

شهادة ذي الشهادتين :

شهد خزيمة بن ثابت الأنصاري لنبيّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لشرائه فرسه المرتجز من أعرابي تميمي ، اعتمادا على تصديقه له لا لشهادة سابقة ، ولوحده! فأنفذ النبيّ شهادته بمثابة شهادتين ، وسمّاه ذا الشهادتين (٢).

ومرّ في أخبار حرب الجمل أنه قدم البصرة مع الإمام عليه‌السلام على فرس أشقر في ثياب بيض وعمامة صفراء في نحو ألف فارس من الأنصار وغيرهم (٣) وشفع في الحرب لمحمد بن الحنفية لدى أبيه علي عليه‌السلام ليردّ عليه رايته فقبل شفاعته (٤).

نعم لم يذكر له أيّ شأن خاص في القتال في الجمل وصفين ولذا ادّعي على لسان حفيده محمّد بن عمارة بن خزيمة ، قال : ما زال جدّي كافّا سلاحه يوم الجمل ، وصفّين حتّى قتل عمار ، فلما قتل عمار قال : سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «عمّار تقتله الفئة الباغية».

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٣ : ٣١٠.

(٢) عن فروع الكافي ٧ : ٤٠١ ، وكتاب من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٠٨ ، الحديث ٣٤٢٧ وأنساب الأشراف ١ : ٩ ، وتاريخ الطبري ٣ : ١٧٣ ، والاختصاص المنسوب إلى المفيد : ٥٨. وفي أسد الغابة : عن عمارة بن خزيمة أن البائع كان سواء بن قيس المحاربي ، وانظر قاموس الرجال ٥ : ٣٢٨ برقم : ٣٤٥٣ و ٤ : ١٦٩ برقم ٢٦١٥.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٣٥٩.

(٤) مروج الذهب ٢ : ٣٦٧.

١٦٣

نقل ذلك الكشي عن أبي معشر (؟) فهي من أخبار العامّة في رجاله ، وأولى منه ما نقله قبله بسنده عن أبي إسحاق قال : لما قتل عمّار ، دخل خزيمة بن ثابت فسطاطه فاغتسل ثمّ خرج بسلاحه فقاتل حتّى قتل (١).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٢ ، الحديث ١٠٠ ـ ١٠١ وعلّق عليه المحقق الشوشتري في قاموس الرجال ٤ : ١٧٣ قال : فالظاهر أنه قبل شهادة عمّار كان شاهدا ومجاهدا أيضا ، ولو كان شاكّا لما حضر ، وأنه إنما كانت استماتته بعد عمار ، وأنه لو صحّ استناده إلى الحديث فإنّما كان جدلا.

وعلّق المحقق المعتزلي الشافعي في شرح نهج البلاغة ٨ : ١٧ على مثل هذه الأحاديث يقول : «وا عجباه! من قوم يعتريهم الشك في أمرهم لمكان عمّار ولا يعتريهم الشكّ لمكان عليّ عليه‌السلام! ويستدلّون على أنّ الحقّ مع أهل العراق بكون عمّار بين أظهرهم ، ولا يعبئون بمكان علي عليه‌السلام! ويحذرون من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «تقتلك الفئة الباغية» ويرتاعون لذلك ، ولا يرتاعون لقوله في علي : «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» ولا لقوله : «لا يحبّك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق» وهذا يدلّك على أنّ عليا عليه‌السلام اجتهدت قريش كلّها من مبدأ الأمر في إخمال ذكره وستر فضائله» ، ونقله عنه الدكتور عبد السلام هارون في تحقيقه لوقعة صفين : ٣٣٤.

وقال المعتزلي الشافعي أيضا : ولو أنصف الناس هذا الرجل (عليا عليه‌السلام) ورأوه بالعين الصحيحة لعلموا أنه لو كان وحده وحاربه الناس كلّهم أجمعون! لكان هو على الحقّ وهم على الباطل! فأيّ حاجة لناصري أمير المؤمنين أن يتكثروا بعمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت وغيرهم؟!

قال : ومن غريب ما وقفت عليه من العصبية القبيحة : أن أبا حيّان التوحيدي قال في (كتاب البصائر) : إن خزيمة بن ثابت المقتول مع علي في صفّين ليس هو خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين ، بل هو شخص آخر من الأنصار اسمه خزيمة بن ثابت!

١٦٤

يوم وقعة الخميس :

تلك كانت الواقعة المعروفة بوقعة الخميس ، وفي هذا اليوم قتل عمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين من العراق ، وقتل من أهل الشام عبد الله بن ذي الكلاع الحميري وعبيد الله بن عمر. واختصر خبرها ابن مزاحم المنقري بسنده عن القعقاع بن الأبرد الطهوي قال : كنت في يوم وقعة الخميس قريبا من علي عليه‌السلام وكانت مذحج في ميمنته ، والتقت بالأشعريين (والحميريين) وجذام ولخم وعك في الشاميين. والله لقد رأيت في ذلك اليوم من قتالهم وسمعت من وقع السيوف على الرءوس ، وخبط الخيول بحوافرها في الأرض وفي القتلى. ما لا الجبال تهدّ ولا الصواعق تصعق بأعظم هولا في الصدور من تلك الأصوات! ودنوت من علي عليه‌السلام

__________________

ـ قال : وهذا خطأ ؛ لأن كتب الحديث والأنساب تنطق بأنه لم يكن في الصحابة من الأنصار ولا من غيرهم : خزيمة بن ثابت ، إلّا ذو الشهادتين ، وإنما الهوى داء لا دواء له! على أن الطبري صاحب التاريخ قد سبق أبا حيان بهذا القول ، ومن كتابه نقل أبو حيان. شرح النهج للمعتزلي ١٠ : ١٠٩.

والطبري إنما نقل ذلك عن سيف بن عمر التميمي الزنديق الكذّاب في ٤ : ٤٤٧ ، وأبو حيان التوحيدي البغدادي مولدا ومنشأ والنيشابوري أصلا والشيرازي مدفنا في (٣٨٠ ه‍) أيضا قالوا فيه : كان صوفيا قليل الورع بل كثير الزندقة! انظر قاموس الرجال ١١ : ٣٠١ برقم ٢٨٩.

ومثل ذي الشهادتين : أبو الهيثم بن التيهان ، فإنّه لم يتمالك بعد شهادة عمار دون أن قاتل حتّى قتل ، وذكر البلاذري خبره في أنساب الأشراف ٢ : ٣١٩ ، الحديث ٣٩١ ثمّ نقل عن الواقدي أنه مات قبل ذلك سنة (٢٠ ه‍)!

ثم نقل مقتل أويس القرني العابد ثمّ قال : ويقال : بل مات في سجستان! وكأنّهم يقللون بذلك من شأن علي عليه‌السلام!

١٦٥

حين قام قائم الظهيرة فسمعته قال : لا حول ولا قوة إلّا بالله والله المستعان (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ)(١) وجرّد سيفه وحمل على أهل الشام بنفسه ، فيومئذ قتل أعلام العرب (٢).

وروى بسنده عن عمار بن ربيعة قال : زحف الناس بعضهم إلى بعض فارتموا بالنبل حتّى التقوا فتطاعنوا بالرماح حتّى تكسرت ، ثمّ بعمد الحديد حتّى اندقّت ، ثمّ بالسيوف فلا يسمع السامع إلّا وقع الحديد بعضه على بعض أشد هولا من الصواعق ، ومن جبال تهامة يدكّ بعضها بعضا! وثار القتام حتّى انكسفت الشمس ، وضلّت الألوية والرايات ، أو تجادلوا بعمد الحديد والسيوف من (بعد) صلاة الفجر إلى (جوف) الليل لم يصلّوا أيّ صلاة لله (بغير التكبير) ولم يزالوا كذلك حتّى أصبحوا ، والأشتر في ميمنة الناس ، وابن عباس في الميسرة ، وعلي عليه‌السلام في القلب. تلك هي ليلة الهرير ، واستمر القتال من الليل إلى ارتفاع (الشمس) (٣).

مقتل المرقال ليلا :

وعند المساء من يوم الخميس دعا هاشم بن عتبة الزهري المرقال الرجال فأقبل عليه ناس فقال لهم :

«لا يهولنّكم ما ترون من صبرهم! فو الله ما ترون منهم إلّا حميّة العرب وصبرها في مراكزها وتحت راياتها ، وإنهم لعلى الضلال وإنكم لعلى الحقّ.

__________________

(١) الأعراف : ٨٩.

(٢) وقعة صفين : ٣٦٢ ـ ٣٦٣ ، وفيه : فو الله ما حجز بيننا إلّا الله في قريب من ثلث الليل. أي ليلة الجمعة العاشر من صفر القتال ، وهي الليلة المعروفة بليلة الهرير ، وقد استمر القتال فيها إلى صباح الغد حيث رفعت المصاحف.

(٣) وقعة صفين : ٤٧٥.

١٦٦

يا قوم اجتمعوا وامشوا بنا إلى عدوّنا على توئدة رويدا ، ثمّ تآسوا وتصابروا واذكروا الله ، ولا يسلم رجل أخاه ، ولا تكثروا الالتفات ، واصمدوا صمدهم ، وجالدوهم محتسبين حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين» ثمّ شدّ في عصابة من أصحابه على أهل الشام مرارا وليس من وجه يحمل عليه إلّا صبروا له وقوتل قتالا شديدا ، ومضى في عصابة من القرّاء من أسلم فقاتل هو وأصحابه قتالا شديدا حتى رأوا ما يسرّون به.

وخرج عليهم منهم شاب ضرّاب بسيفه يرتجز ويسهب في ذمّ علي عليه‌السلام وشتمه ولعنه.

فقال له هاشم : إنّ هذا الكلام والخصام بعده الحساب! فاتّق الله فإنّك راجع إلى ربّك فسائلك عمّا أردت من هذا الموقف.

قال : فإني أقاتلكم أنّ صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم وازرتموه على قتله! ولأنّ صاحبكم لا يصلّي وأنّكم لا تصلّون كما ذكر لي (١)!

فقال له هاشم : وما أنت وابن عفّان! إنّما قتله أصحاب محمّد وقرّاء الناس حين أحدث أحداثا خالف فيها حكم الكتاب! وأصحاب محمد هم أصحاب الدين وأولى بالنظر في أمور المسلمين ... ولا علم لك بهذا الأمر فخلّه وأهل العلم به! وأمّا قولك : إن صاحبنا لا يصلّي! فهو أوّل من صلّى مع رسول الله ، وأفقههم في دين الله ، وأولاهم برسول الله. وأما من ترى معه فكلّهم قارئ الكتاب لا ينامون الليل تهجّدا! فلا يغررك عن دينك الأشقياء المغرورون!

__________________

(١) هذا ما انفرد به هذا الخبر المسند عند ابن مزاحم ، عن أبي سلمة ، ولا نظير له غيره ، وهل كانت دعاية تركهم الصلاة لتركهم الصلاة يوم وقعة الخميس؟ وإلّا ، فكيف صدّقهم الرجل أما كان يراهم ويسمعهم؟ وأما ما اشتهر أنّ أهل الشام إنما علموا بصلاة الإمام لما قتل في صلاته ، فليس له أي مصدر معتبر.

١٦٧

فقال الفتى : يا عبد الله ، إني لأظنّك امرأ صالحا ، وأظنّك قد نصحتني والله ، وأظنّني مخطئا آثما فأخبرني هل تجد لي من توبة؟

فقرأ له : إنّ الله (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ)(١) و (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(٢) نعم تب إلى الله يتب عليك. فرجع الفتى وذهب ليتوب!

ورجع هاشم وأصحابه إلى القتال حتّى أتتهم كتيبة من تنوخ فشدوا عليه فشدّ عليهم حتّى قتل منهم تسعة فحمل عليه عاشرهم الحارث بن المنذر فطعنه برمحه فشق بطنه فسقط.

وكأنّ الإمام عليه‌السلام كان يرقبه فاستبطأ تقدّم لوائه أو رايته فبعث إليه : أن قدّم لواءك ، فلما وصل إليه رسوله قال له : انظر إلى بطني ، فإذا هو منشق ، فأخذ رايته رجل من بكر بن وائل (٣) وأصيب مع هاشم عصابة من القرّاء من أسلم ، وجزع الناس عليه جزعا شديدا ، فمرّ عليهم وعلى أصحابه الذين قتلوا معه وهم حوله فقال شعرا :

جزى الله خيرا عصبة أسلميّه

صباح الوجوه صرّعوا حول هاشم

وضرب الرجل البكريّ فوقع ، فقام عبد الله بن هاشم وأخذ راية أبيه وخطب أصحابه فقال لهم :

أيها الناس ، إن هاشما كان عبدا من عباد الله قدّر أرزاقهم وكتب آثارهم ، وأحصى أعمالهم وقضى آجالهم ، فدعاه ربّه الذي لا يعصى فأجابه ، وسلّم الأمر لله ،

__________________

(١) الشورى : ٢٥.

(٢) البقرة : ٢٢٢.

(٣) وقعة صفين : ٣٥٢ ـ ٣٥٧.

١٦٨

وجاهد في طاعة ابن عمّ رسول الله ، وأوّل من آمن به ، وأفقههم في دين الله ، المخالف لأعداء الله المستحلّين ما حرّم الله ، الذين عملوا في البلاد بالجور والفساد ، واستحوذ عليهم الشيطان فزيّن لهم الإثم والعدوان. فحق عليكم جهاد من خالف سنّة رسول الله وعطّل حدود الله وخالف أولياء الله ، فجودوا بمهج أنفسكم في طاعة الله في هذه الدنيا ، تصيبوا الآخرة والمنزل الأعلى والملك الذي لا يبلى. ولو لم يكن ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ، لكان القتال مع عليّ أفضل من القتال مع معاوية ابن آكلة الأكباد! فكيف وأنتم ترجون ما ترجون (١)!

فلما كان نصف الليل ... انحاز معاوية وخيله من صفوفهم ، فغلب علي عليه‌السلام على قتلاه في تلك الليلة ، فأقبل على أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه فدفنهم وهم كثير ، وقتلى أصحاب معاوية أكثر (٢).

وروي أن هاشما هو الذي أوصى رجلا عند شهادته ـ ولعلّه هو مبعوث الإمام إليه ـ أن يبلّغ الإمام عليه‌السلام : أنشدك الله إلّا أصبحت وقد ربطت مقاود خيلك بأرجل القتلى فإن الدّبرة (العاقبة) تكون غدا لمن غلب على القتلى! فأخبر الرجل عليا عليه‌السلام بذلك ، فسار في أواخر الليل حتّى جعل القتلى خلف ظهره فكانت العاقبة له عليهم (٣).

وكان الإمام عليه‌السلام حينئذ تحت رايات بكر بن وائل من ربيعة ، فجاءه عديّ بن حاتم الطائي ما يطأ إلّا على القتلى أيديهم أو أرجلهم حتى وجده فقال : يا أمير المؤمنين ، ألا نتوقف حتّى نموت؟!

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٥٣ ـ ٣٥٧.

(٢) وقعة صفين : ٣٦٩.

(٣) وقعة صفين : ٣٥٣ و ٤٥٧ أكثر تفصيلا.

١٦٩

فأدناه حتّى أجابه في أذنه ، فروى أنّه قال له : «ويحك إنّ عامّة (أكثر) من معي يعصيني ، وإنّ معاوية فيمن يطيعه ولا يعصيه» (١) فكشف له : أن الخاصّة أمثاله يريدون وقف القتال ، ولكن العامّة وهم الأكثر يعصونه في ذلك إن أراده.

حملة الإمام وخطبته :

وأرسل الإمام عليه‌السلام إلى معاوية : أن ابرز لي وأعف الفريقين من القتال ، فأيّنا قتل صاحبه كان له الأمر ، وعلم ابن العاص بذلك فقال : لقد أنصفك الرجل! فقال معاوية : إني لأكره أن أبارز الشجاع الأهوج ، لعلك طمعت فيها يا عمرو!

فلما لم يجب معاوية قال علي عليه‌السلام : وا نفساه! أيطاع معاوية وأعصى؟! ثمّ قال : ما قاتلت أمّة قطّ «أهل بيت» نبيّها وهي مقرّة بنبيّها إلّا هذه الأمّة!

ثمّ أرسل إلى أهل الكوفة والبصرة أن احملوا ، فحمل الناس من كل جانب فاقتتلوا قتالا شديدا ، ثمّ حملت خيل عليّ على صفوف أهل الشام فقوّضت صفوفهم (٢).

ثمّ وقف في ناس من أصحابه فقال لهم : «انهدّوا إليهم وعليكم السكينة وسيما الصالحين ووقار الإسلام ، والله لأقرب قوم من الجهل بالله عزوجل قوم قائدهم ومؤدّبهم : معاوية وابن النابغة (٣) وأبو الأعور السلمي وابن أبي معيط شارب الحرام والمجلود حدّا في الإسلام ، وهم أولاء يقومون فيقصبونني ويشتمونني ، وقبل اليوم ما قاتلوني وشتموني وأنا إذ ذاك أدعوهم إلى الإسلام وهم يدعونني إلى عبادة الأصنام ، فالحمد لله ولا إله إلّا الله ، وقديما ما عاداني الفاسقون ، وإنّ هذا لهو الخطب

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٧٩.

(٢) وقعة صفين : ٣٨٨.

(٣) النابغة اسم أم عمرو بن العاص ، كما في الإصابة برقم ٥٨٧٧.

١٧٠

الجليل : أنّ فسّاقا كانوا عندنا غير مرضيّين وعلى الإسلام وأهله متخوّفين ، أصبحوا وقد خدعوا شطر هذه الأمة فأشربوا قلوبهم حبّ الفتنة ، فاستمالوا أهواء هم بالإفك والبهتان وقد نصبوا لنا الحرب وجدّوا في إطفاء نور الله (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(١).

اللهمّ فإنهم قد ردّوا الحقّ فافضض جمعهم وشتّت كلمتهم وأبسلهم بخطاياهم ، فإنّه لا يذلّ من واليت ولا يعزّ من عاديت» (٢).

ثمّ مرّ عليه‌السلام على جماعة من أهل الشام لا يزولون عن موقفهم وذكر له أنّهم غسّان فقال : إنّ هؤلاء لن يزولوا عن موقفهم دون طعن دراك يخرج منه النسم ، وضرب يفلّق إلهام ويطيح العظام ، وتسقط منه المعاصم والأكف ، وحتّى تصدع جباههم وتنشر حواجبهم على الصدور والأذقان. ثمّ نادى : أين أهل الصبر وطلّاب الخير؟ أين من يشري وجهه لله عزوجل؟ فثابت إليه عصابة من أصحابه.

فدعا ابنه محمدا وقال له : امش نحو هذه الراية مشيا رويدا على هينتك ، حتّى إذا أشرعت في صدورهم الرماح فأمسك يدك حتّى يأتيك أمري ، ففعل.

ثمّ أعدّ علي عليه‌السلام الأشتر ومعه مثلهم ودنا منهم وأشرع الرماح في صدورهم ، أمر عليّ الذين أعدّوا فشدوا عليهم ونهض ابنه محمد في وجوههم فأزالوهم عن مواقفهم (٣) وأصابوا منهم رجالا واقتتلوا ، وغربت الشمس وصار المغرب ، فما صلّوا إلّا إيماء (٤).

__________________

(١) الصف : ٨.

(٢) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٨١١ ، الحديث ٣٥ ، وتخريجه : ٣٥ وجعله واللاحق خبرا واحدا ، وخبرين في وقعة صفين : ٣٩١ ، والإرشاد ١ : ٢٦٤.

(٣) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٨١١ ، الحديث ٣٥ وتخريجه : ٣٥.

(٤) وقعة صفين : ٣٩٢ ، ومروج الذهب ٢ : ٣٨٨ ، وإرشاد المفيد : ٢٦٧ مختصرا آخره.

١٧١

ثمّ إنّ عليّا عليه‌السلام أرسل إلى الناس أن احملوا ، فحمل الناس على راياتهم كل منهم يحمل على من بإزائه ، فتجالدوا بعمد الحديد ثمّ السيوف ، لا يسمع إلّا صوت ضرب الهامات كوقع المطارق على السنادين ، وحتّى مرّت الصلوات (المغرب والعشاء) ولم يصلّوا إلّا تكبيرا (١).

إلى فسطاط معاوية وعمرو :

وكان علي عليه‌السلام قد ركب فرس النبيّ : المرتجز ، ثمّ قال : البغلة البغلة ، يعني بغلة النبيّ : الشهباء فقدّمت له ، فتعمّم بعمامة رسول الله السوداء ، وركب البغلة ثمّ نادى :

أيها الناس ، من يشر نفسه لله يربح ، هذا يوم له ما بعده ، إن عدوّكم قد مسّه القرح كما مسّكم.

فانتدب له عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفا واضعين سيوفهم على عواتقهم فتقدم بهم عليه‌السلام (٢).

وحمل الناس حملة واحدة ، فلم يبق لأهل الشام صفّ إلّا انتقض ، وأهمدوا ما أتوا عليه حتّى أفضى الأمر إلى فسطاط معاوية ، وعليّ يضربهم بسيفه ويقول :

أضربهم ولا أرى معاوية

الأخزر العين العظيم الحاويه

 هوت به في النار أمّ هاويه

فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه ... ثمّ التفت إلى ابن العاص وقال له : يا ابن العاص ، اليوم صبر وغدا فخر! فقال عمرو : صدقت. فثنى معاوية رجله من الركاب ونزل واستصرخ بعكّ والأشعريين ، فأغاثوه ووقفوا دونه وجالدوا عنه وقال لهم معاوية : هذا يوم تمحيص! إنّ القوم قد أسرع فيهم كما أسرع فيكم ، اصبروا يومكم هذا (ليلتكم هذه) وخلاكم ذمّ.

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٩٣.

(٢) وقعة صفين : ٤٠٣.

١٧٢

وحمل أهل العراق وتلقّاهم أهل الشام فاجتلدوا ، وحمل عمرو بن العاص وارتجز ، فاعترضه علي عليه‌السلام مرتجزا ثمّ طعنه فصرعه ، فاتّقاه عمرو برجله فبدت عورته ، فصرف علي وجهه عنه.

وكان ابن العاص معلما بعلامة ، ولكن الناس لم يعرفوه ، ولذا قالوا لعليّ عليه‌السلام : أفلت الرجل يا أمير المؤمنين! فقال لهم : وهل تدرون من هو؟ قالوا : لا ، قال : إنه عمرو بن العاص تلقّاني بعورته فصرفت وجهي عنه!

ورجع عمرو إلى معاوية فقال له : ما صنعت يا عمرو؟ قال : لقيني عليّ فصرعني. قال : فاحمد الله وعورتك! أما والله لو عرفته ما أقحمت عليه ... فغضب عمرو وقال : ما أشد تعظيمك عليا في كسري هذا! هل هو إلّا رجل لقيه ابن عمّه فصرعه ، أفترى السماء تقطر لذلك دما؟! قال : لا ، ولكنّها معقّبة لك خزيا (١).

وتشبّث بالأشعث :

ثمّ دعا معاوية أخاه عتبة وكان لسنا لا يطاق ، فقال له : الق الأشعث بن قيس الكندي ، فإنّه إن رضي رضيت العامّة (الأكثرية).

فخرج عتبة إلى أهل العراق ونادى الأشعث ، فأخبروه فقال : فسلوه : من هو؟ فعرّف نفسه ، فأخبروه فقال : غلام مترف ولا بدّ من لقائه! ثمّ خرج إليه ، فقال عتبة له : أيها الرجل ، إنك سيّد أهل اليمن ورأس أهل العراق ، وقد سلف إليك من عثمان ما سلف من الصّهر (؟) والعمل (على آذربايجان) وإنّك إذ حاربت أهل الشام حاميت عن أهل العراق حميّة وتكرّما ... وقد بلغت منّا ما أردت

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٠٣ ـ ٤٠٧ و : ٤٢٤ ، وانظر : ٤٧٢ و ٤٧٣ ، وأنساب الأشراف ٢ : ٣٣٠ ، الحديث ٣٩٨ ، ومروج الذهب ٢ : ٣٨٦ ـ ٣٨٧.

١٧٣

وبلغنا منك ، ولا ندعوك إلى ترك عليّ ونصر معاوية ولكنّا ندعوك إلى البقيّة التي فيها صلاحنا وصلاحك.

فأجابه الأشعث : يا عتبة ، أما ما سلف من عثمان إليّ فما زادني صهره (؟) شرفا ولا عمله عزّا! وأما قولك إني سيد أهل اليمن ورأس أهل العراق ، فإنّ الرأس المتّبع والسيّد المطاع هو علي بن أبي طالب. وأما محاماتي عن أهل العراق فمن نزل بيتا حماه! (وليس من التزم دينا) وأما البقية ، فلستم بأحوج إليها منّا ، وسنرى رأينا فيها إن شاء الله.

فلمّا بلّغ عتبة كلام الأشعث إلى أخيه معاوية قال : قد جنح للسّلم.

وشاع قولهما في أهل العراق (١).

والإمامة بعد علي عليه‌السلام :

وكأن بعض العراقيين خافوا القتل على الامام عليه‌السلام ولم يوص إلى أحد ، فقام شاعرهم بشر بن منقذ الأعور الشنيّ بين يديه وقال كلاما قال فيه : أنت الإمام ، فإن هلكت فمن بعدك هذان (الحسنان) وقد قلت شيئا فاسمعه؟ قال عليه‌السلام : هاته. فقال شعرا :

أبا حسن أنت شمس النهار

وهذان في الحادثات القمر

وأنت وهذان حتّى الممات

بمنزلة السمع بعد البصر

وأنتم أناس لكم سورة

يقصّر عنها أكفّ البشر

يخبّرنا الناس عن فضلكم

وفضلكم اليوم فوق الخبر (٢)

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٠٨ ـ ٤٠٩ باختصار.

(٢) وقعة صفين : ٤٢٥ ـ ٤٢٦ إلى تمام اثني عشر بيتا ، فأتحفوه وأهدوا له ، والإمام؟

١٧٤

حرص معاوية على الحياة :

كان من رؤساء أصحاب معاوية أبرهة بن الصبّاح الحميري ومن أفضلهم بأسا ورأيا وحتّى دينا ، فلما بلغ القتل من أصحابه مبلغا عظيما قام في الحميريين من اليمن وقال لهم : ويلكم يا معشر أهل اليمن ، والله إني لأظنّ أن قد اذن في فنائكم! ويحكم خلّوا بين هذين الرجلين فليقتتلا! فأيهما قتل صاحبه ملنا معه جميعا! وبلغ كلامه معاوية فقال لمن حوله : إني لأظنّه أصيب في عقله! فقال الشاميون : والله إن أبرهة لأفضلنا دينا ورأيا وبأسا! ولكنّ معاوية تأخّر بعد ذلك إلى آخر صفوفه!

وبرز عند ذلك عروة بن داود ونادى : يا أبا الحسن ؛ إن كان معاوية كره مبارزتك فهلمّ إليّ!

فتقدّم إليه علي عليه‌السلام وحمل عليه فضربه فقدّه نصفين سقط نصفه يمنة ونصفه الآخر يسرة!

فبرز ابن عمّه وهو يقول : وا سوء صباحاه! قبح الله البقاء بعد أبي داود ثمّ ارتجز وحمل على علي عليه‌السلام وضرب برمحه ليطعنه فبراه ، فقنّعه علي بضربة فألحقه بابن عمّه أبي داود (١).

وكان عليه‌السلام لا يأذن للحسنين ولا لابن عباس واخوته بالبراز (٢).

ومن أخبار عيون الحرب :

كان صاحب راية بني سليم مع معاوية : معاوية بن الضحاك السّلمي ، ولكنه كان يبغضه وله هوى في علي عليه‌السلام ، فكان يكتب بأخبار معاوية إلى صديقه عبد الله

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٥٧ ـ ٤٥٩.

(٢) وقعة صفين : ٤٦٣.

١٧٥

ابن الطفيل العامري فيبعث بها إلى علي عليه‌السلام. وسمع بعضهم شعرا منه يهوّل به أهل الشام فأتوا به معاوية فهمّ بقتله ولكنه راقب فيه قومه فطرده عن الشام (١).

وكان لمعاوية طليعة على أهل العراق يتجسّس له ، فندب له الإمام الأشتر فأخذه أسيرا ليلا وشدّ وثاقه وألقاه عند أصحابه ينتظر به الصباح ... فقال له الإمام عليه‌السلام : إذا أصبت لهم أسيرا فلا تقتله ، فإن أسير أهل القبلة لا يقتل ولا يفادى. وكان علي عليه‌السلام ينهى عن قتل الأسير الكافّ عن القتال (٢).

زئير الأشتر ليلة الهرير :

ثمّ استمر القتال من النصف الثاني من الليل (ليلة الهرير الجمعة العاشر من صفر القتال) حتّى (الفجر) ويزحف الأشتر بأصحابه نحو أهل الشام ويقول لهم : ازحفوا قيد رمحي هذا! فإذا فعلوا عاد فقال لهم : ازحفوا قاب هذا القوس ، فإذا فعلوا سألهم مثل ذلك حتّى ملّ أكثرهم! وكانت رايته مع حيّان بن هوذة النخعي فأمره فركزها ، ثمّ دعا بفرسه فركبه وخرج يسير على الكتائب ينادي فيهم : ألا من يشري نفسه لله ويقاتل مع الأشتر حتى ينتصر أو يلحق بالله تعالى؟ فخرج إليه رجال منهم أقبلوا معه حتّى رجع إلى المكان الذي كانوا به فقام فيهم فقال لهم : فدى لكم عمّي وخالي! شدّوا إذا شددت شدّة ترضون بها الله وتعزّون بها الدين! ثمّ نزل عن دابّته وضرب وجهها وقال لصاحب رايته : أقدم! فأقدم بها ثمّ شدّ على القوم وشدّ معه أصحابه حتّى انتهى بهم إلى عسكرهم فقاتلوهم قتالا شديدا ، وقتل صاحب رايته (٣).

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٦٨ ـ ٤٦٩.

(٢) وقعة صفين : ٤٦٦ ـ ٤٦٧.

(٣) وقعة صفين : ٤٧٥ ـ ٤٧٦.

١٧٦

صفة الإمام وذي الفقار :

روى المنقري بسنده عن التابعي زيد بن وهب الجهني الهمداني في وصف الإمام عليه‌السلام يومئذ فقال : كان رجلا دحداحا (ربعة) أصلع ليس في رأسه شعر إلّا خفاف من خلفه ، وجهه كأنه القمر ليلة البدر حسنا مائلا إلى السمرة ، أدعج العينين ، صغير الأنف وقصيره ، عنقه كأنه إبريق فضّة ، لمنكبيه مشاش كمشاش السبع الضّاري ، وله كاهل مثل كاهل الثور ، ضخم الكسور (والأعضاء) لا تبين عضده من ساعده قد أدمجت إدماجا ، شثن الكفين ، لا يمسك بذراع رجل قط إلّا أمسك بنفسه فلا يمكنه أن يتنفّس (١).

وروى عن الجعفي ، عن الصحابي جابر بن عمير الأنصاري وكان مع الإمام علي عليه‌السلام كان يقول : كان يخرج من القوم بسيفه ذي الفقار منحنيا فكنّا نأخذه فنقوّمه ثمّ يتناوله من أيدينا ويقول : معذرة إلى الله عزوجل وإليكم من هذا لقد هممت أن أصقله ولكن حجزني عنه أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أقاتل دونه يقول كثيرا : «لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا علي» ثمّ يقتحم به في عرض الصفّ ، فلا والله ، ما ليث بأشدّ نكاية منه في عدوّه! لا والله الذي بعث محمدا بالحقّ نبيّا منذ خلق الله السماوات والأرض ما سمعنا برئيس أصاب بيده في يوم واحد (يوم الخميس وليلة الهرير) ما أصاب : إنّه ـ فيما ذكر العادّون ـ قتل زيادة على خمسمائة من أعلام العرب! ثمّ قال : رحمة الله عليه رحمة واسعة (٢)!

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٣٣.

(٢) وقعة صفين : ٤٧٧ ـ ٤٧٨ ، والفقار : الحفر الصغار كانت عليه فكان يريد صقله لإزالتها ، ويمنعه الإبقاء على معنى الحديث الشريف. ويدلّ فقها على استحباب استبقاء آثار الأخبار. وفي مروج الذهب ٢ : ٣٨٩ : قتل بيده في يومه وليلته خمسمائة وثلاثة وعشرين رجلا ، علم ذلك من تكبيره.

١٧٧

وروى عن الباقر عليه‌السلام : أنّ الحرب في صفين كانت في أيام الشّعرى الطويلة شديدة الحرّ ، فتراموا حتّى فنيت النبال! ثمّ تطاعنوا حتّى تقصّفت رماحهم ، ثمّ نزلوا عن خيولهم وكسروا أجفان سيوفهم وتضاربوا بها وبعمد الحديد ، فلم يكن يسمع السامع إلّا تغمغم القوم وصليل الحديد على الهامات! وثار القتام وضلّت الألوية والرايات ، ومرّت مواقيت أربع صلوات لم يصلوا إلّا بالتكبير ، وكان أبو جعفر الباقر عليه‌السلام يحدّث بهذا الحديث وهو يبكي (١)!

تشبّث الأشعث :

فقام الأشعث الكندي في كندة فقال لهم : يا معشر المسلمين ، قد رأيتم ما قد كان في يومكم هذا الماضي ، وما قد فنى فيه من العرب! فو الله لقد بلغت من السنّ ما شاء الله أن أبلغ فما رأيت مثل هذا اليوم قط! ألا فليبلّغ الشاهد الغائب : أنا إن نحن تواقفنا غدا إنه لفناء العرب وضيعة الحرمات! أما والله ما أقول هذه المقالة جزعا من الحتف ، ولكنّي رجل مسنّ أخاف على الذراري غدا إذا فنينا! اللهمّ إنّك تعلم أني قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آل ، وما توفيقي إلّا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ، والرأي يخطئ ويصيب ... أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الأشعث ، فقال : أصاب وربّ الكعبة ، لئن نحن التقينا غدا ليميلنّ الروم على ذرارينا ونسائنا ، وليميلنّ أهل فارس على نساء العراق وذراريهم ، وإنّما يبصر هذا ذوو الأحلام والنهى.

فأشاع ذلك في أهل الشام ، فأخذوا يتنادون في سواد الليل : يا أهل العراق ، من لذرارينا إن قتلتمونا؟! ومن لذراريكم إن قتلناكم؟! الله الله في البقية (٢).

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٧٩.

(٢) وقعة صفين : ٤٨٠ ـ ٤٨١.

١٧٨

وخطبة معاوية :

وكأنّ معاوية أراد أن يعمّي أمر الأشعث على الناس فقال : «يا أهل الشام ، ما أنتم أحقّ بالجزع على قتلاكم من أهل العراق على قتلاهم ، فو الله ما ذو الكلاع فيكم بأعظم من عمار بن ياسر فيهم ، ولا حوشب فيكم بأعظم من هاشم فيهم ، وما عبيد الله بن عمر فيكم بأعظم من ابن بديل فيهم ، وما الرجال إلّا أشباه ، وما التمحيص إلّا من عند الله ، فأبشروا فإن الله قد قتل من القوم ثلاثة : قتل عمّار بن ياسر وهو كان فتاهم ، وقتل هاشما وكان جمرتهم ، وقتل ابن بديل وهو فاعل الأفاعيل. وبقي : الأشعث والأشتر وعديّ بن حاتم ، فأما الأشعث فحما مصره فحماه مصره ، وأما الأشتر وعديّ فغضبا (لاشتراكهما) في الفتنة ، فالله قاتلهما غدا إن شاء الله» (١) وبذلك عمّى أمر الأشعث على الناس أنه ليس متأثرا منه.

فضيحة بسر بعد عمرو :

ورأى معاوية شدّة وطأة الإمام عليه‌السلام في القتال ، وكان حوله أخوه عتبة والوليد بن عقبة وبسر بن أبي أرطاة العامري ، فقال معاتبا : تبّا لهذه الرجال وقبحا! أما فيهم من يقتل هذا مبارزة أو غيلة أو في اختلاط الفيلق وثوران النقع؟!

فصارحه الوليد فقال : ابرز إليه أنت فإنّك أولى الناس بمبارزته!

فقال معاوية : والله لقد دعاني إلى البراز حتّى استحييت من قريش! وإني والله لا أبرز إليه ؛ ما جعل العسكر بين يدي الرئيس إلّا وقاية له!

فقال عتبة : الهوا عن هذا ، كأنكم لم تسمعوا نداءه ، فقد علمتم أنه قتل حريثا وفضح عمرا ، ولا أرى أحدا يتحكّك به إلّا قتله!

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٥٥.

١٧٩

فالتفت معاوية لبسر وقال له : أتقوم لمبارزته؟! قال : ما أحد أحقّ بها منك ، وإذ أبيتموه فأنا له! فقال له معاوية : أما إنّك ستلقاه في العجاجة غدا في أوّل الخيل.

وفي أول الغداة غدا الإمام عليه‌السلام ومعه الأشتر منقطعا عن خيله ... فاستقبله بسر وهو مقنّع بالحديد لا يعرف وناداه : أبرز إليّ أبا حسن! وكان معه خيله.

فانحدر إليه على توئدة غير مكترث ، حتّى إذا قاربه طعنه فألقاه على الأرض وكان دارعا فمنع الدرع أن يصل السنان إليه ، وأراد بسر أن يكشف (عورته) يدفع بها عن نفسه بأسه! فانصرف عنه علي عليه‌السلام مستدبرا له.

وعرفه الأشتر فقال : يا أمير المؤمنين هذا بسر بن أبي أرطاة عدوّ الله وعدوّك! فقال : أبعد أن فعلها؟! دعه فعليه لعنة الله ، وقام بسر من طعنة عليّ مولّيا وولى من معه من الخيل ، فناداه عليّ : يا بسر ، معاوية كان أحقّ بها منك.

محاولة أخرى لوقف القتال :

وخرج رجل من أهل الشام باتّجاه الإمام عليه‌السلام وناداه : يا أبا الحسن يا علي ابرز إليّ!

فخرج إليه الإمام عليه‌السلام حتى إذا اختلفت أعناق دابّتيهما بين الصفّين. فقال الرجل : يا علي ، إنّ لك قدما في الإسلام وهجرة ، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن هذه الدماء وتأخير هذه الحروب حتّى ترى من رأيك؟ فقال له الإمام عليه‌السلام : وما ذاك؟ قال : ترجع إلى عراقك فنخلّي بينك وبين العراق ، ونرجع إلى شامنا فتخلّي بيننا وبين شامنا!

فقال له علي عليه‌السلام : لقد عرفت أنك إنما عرضت هذا نصيحة وشفقة ، ولقد أهمّني هذا الأمر وأسهرني ، وضربت أنفه وعينيه فلم أجد إلّا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله! إنّ الله تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض

١٨٠