موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٠

١
٢

٣
٤

٥
٦

أهم حوادث

السنة الاولى للهجرة

٧
٨

وصول النبيّ الى قباء :

روى الكليني في «روضة الكافي» بسنده عن سعيد بن المسيّب عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال (وهو في مسجد الرسول بالمدينة) : قدم (الرسول) المدينة لاثنتي عشر ليلة خلت من شهر ربيع الأول مع زوال الشمس ، فنزل بقباء فصلّى الظهر ركعتين والعصر ركعتين ... وكان نازلا على (بني) عمرو بن عوف ، فأقام عندهم بضعة عشر يوما يقولون له : أتقيم عندنا فنتّخذ لك منزلا؟ فيقول : لا ، إني أنتظر عليّ بن أبي طالب ، وقد أمرته أن يلحقني ، ولست مستوطنا منزلا حتى يقدم عليّ ، وما أسرعه إن شاء الله.

فقال له أبو بكر : انهض بنا الى المدينة ، فانّ القوم قد فرحوا بقدومك ، وهم يستريثون اقبالك إليهم ، فانطلق بنا ولا تقم هاهنا تنتظر عليا ، فما أظنّه يقدم إليك الى شهر!

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ولست اريم حتى يقدم ابن عمّي وأخي في الله عزوجل وأحبّ أهل بيتي إليّ ، فقد وقاني بنفسه من المشركين!

٩

فغضب عند ذلك أبو بكر واشمأزّ وداخله من ذلك حسد لعلي عليه‌السلام ، وكان ذلك أول عداوة بدت منه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في علي عليه‌السلام ، وأول خلاف على رسول الله. فانطلق حتى دخل المدينة ، وتخلّف رسول الله بقباء حتى ينتظر عليا عليه‌السلام (١).

إسلام سلمان :

روى الطبرسي في «إعلام الورى» : أنّ سلمان الفارسي كان بعض أهل الكتاب قد اخبروه بالدين الحنيف ، فكان قد خرج من بلاده فارس يطلب ذلك الدين ، فوقع الى راهب من رهبان النصارى بالشام فصحبه حتى سأله عن ذلك فقال له : اطلبه بمكة مخرجه ، واطلبه بيثرب فثمّ مهاجره.

فقصد مكة ، فسباه بعض الأعراب فباعه على رجل من يهود المدينة ، فكان سلمان يعمل في نخله ، وكان على نخلة اذ دخل على صاحبه رجل من اليهود وقال له : يا أبا فلان ، أشعرت أنّ هؤلاء المسلمة قد قدم عليهم نبيّهم؟

فقال سلمان : جعلت فداك ما الذي تقول؟!

فقال له صاحبه : ما لك وللسؤال عن هذا؟! أقبل على عملك ..

ونزل سلمان وأخذ طبقا من ذلك الرطب وحمله الى رسول الله.

فقال له رسول الله : ما هذا؟

قال : صدقة تمورنا ، بلغنا أنكم قوم غرباء قدمتم هذه البلاد ، فأحببت أن تأكلوا من صدقتنا. فقال رسول الله لأصحابه : سمّوا وكلوا.

فعقد سلمان باصبعه وقال بالفارسية : «اين يكي» : هذه واحدة (أي من

__________________

(١) روضة الكافي : ٢٨٠.

١٠

العلائم). ثم ذهب فأتاه بطبق آخر من التمر. فقال له رسول الله : ما هذا؟ فقال له سلمان : رأيتك لا تأكل الصدقة ، فهذه هديّة أهديتها لك. فأكل عليه الصلاة والسلام. فعقد سلمان بيده ثانية وقال بالفارسية : «اين دوتا» : هاتان اثنتان. ثم دار خلفه (وطلب إليه أن يزيح قميصه عن كتفه) فألقى عن كتفه الإزار ، فنظر سلمان الى خاتم النبوة على الشامة ، فأقبل يقبّلها (وأسلم). فقال له رسول الله : من أنت؟ قال : أنا رجل من أهل فارس ـ وحدّثه بحديث طويل ـ فقال له رسول الله : أبشر واصبر ، فانّ الله سيجعل لك فرجا من هذا اليهودي (١).

اسلام عبد الله بن سلام :

وروى ابن اسحاق في اسلام عبد الله بن سلام عن (بعض أهله) عنه حديثا شبيها بحديث اسلام سلمان ، قال : لما سمعت برسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نترقّبه ونتوقّعه له ، ولكني كنت مستسرّا لذلك ساكتا حتى قدم رسول الله المدينة (٢).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٥١ ، ١٥٢ وروى الخبر ابن اسحاق في سيرته ١ : ٨٧ ـ ٩٣ ، وابن هشام عنه في سيرته ١ : ٢٢٨ ـ ٢٣٦ بسنده عن عبد الله بن عباس. والطبرسي روى مختصره باختلاف في الألفاظ. وقد روى الصدوق في اكمال الدين : ١٥٩ ـ ١٦٤ خبرا عن الامام الكاظم عليه‌السلام عن اسلام سلمان أيضا ، باختلاف في المعاني أيضا.

ولم أجد تحديدا دقيقا لتاريخ اسلام سلمان زمانا أو مكانا : هل كان في قباء أو بعد انتقال الرسول الى المدينة ، ولكن يبدو أنه كان في الأوائل ، ويشبه خبره خبر اسلام عبد الله بن سلام الآتي.

(٢) نقل الطبرسي في مجمع البيان عن القاضي في تفسيره : أن عبد الله بن سلام انطلق الى

١١

فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها ، وعمتي خالدة بنت الحارث جالسة عندي ، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله كبّرت ، فحين سمعت عمّتي تكبيري قالت : خيّبك الله! والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت! فقلت لها : هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه ، بعث بما بعث به. فقالت : أهو النبيّ الّذي كانوا يخبروننا عنه أنه يبعث مع الساعة؟ فقلت لها : نعم.

ثم خرجت الى رسول الله فأسلمت ، ثم رجعت الى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا ، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث. وكتمت اسلامي من اليهود.

ثم جئت رسول الله فقلت : يا رسول الله ... إني أحبّ أن تدخلني في بعض بيوتك وتغيّبني عنهم ثم تسألهم عنّي حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا باسلامي ، فانهم إن علموا به عابوني وبهتوني.

فأدخلني رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم في بعض بيوته (وأرسل إليهم أن يأتوه) فدخلوا عليه ... فقال لهم : أيّ رجل فيكم الحصين بن سلام؟

قالوا : سيّدنا وابن سيّدنا ، وحبرنا وعالمنا.

فخرجت عليهم فقلت لهم : يا معشر يهود ، اتّقوا الله ، واقبلوا ما جاءكم به ، فو الله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله ، وأومن به وأصدّقه وأعرفه.

فقالوا : كذبت! ثم وقعوا بي.

__________________

ـ رسول الله وهو بمكة فقال له رسول الله : أنشدك بالله هل تجدني في التوراة رسول الله؟

فقال : انعت لنا ربك. فنزلت هذه السورة (التوحيد) فقرأها النبيّ فكانت سبب اسلامه ، الّا أنه كان يكتم ذلك الى أن هاجر النبيّ الى المدينة ثم اظهر الاسلام : مجمع البيان ١٠ : ٨٥٩ وقال ابن اسحاق : كان عبد الله بن سلام الحبر الأعلم لبني قينقاع ، وكان اسمه الحصين بن سلام فلما اسلم سمّاه رسول الله : عبد الله ـ سيرة ابن هشام ٢ : ١٦٢.

١٢

فقلت لرسول الله : ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم أهل غدر وكذب وفجور! (١).

ثم روى حديثا عن شهادة صفية بنت حييّ بن أخطب من بني النضير ـ وهي التي تزوّجها الرسول فيما بعد ـ تشهد بمعرفة أبيها وعمها بالنبيّ وعداوتهم له ، قالت : كنت أحبّ ولد أبي إليه وكذلك الى عمّي أبي ياسر ... فلما قدم رسول الله المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف ، غدا عليه أبي حييّ بن أخطب وعمّي أبو ياسر مغلّسين ، فلم يرجعا الّا مع غروب الشمس ، اذ أتيا كالّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا ، فو الله ما التفت إليّ واحد منهما مع ما بهما من الغمّ ، وسمعت عمّي أبا ياسر وهو يقول لأبي حييّ بن أخطب : أهو هو؟ قال : نعم والله ، قال : أتعرفه وتثبته؟ قال : نعم. قال : فما في نفسك منه؟ قال : عداوته ما بقيت والله (٢).

بناء مسجد قباء :

ولا خلاف في أخبار السيرة عامة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله مكث في قباء حتى جاء أبو الأوصياء علي عليه‌السلام (٣) ، وذكر الديار بكري والسمهودي أنه أمر عليا عليه‌السلام فخطّ لمسجد قباء ، فلنذكر خبره :

قالوا : كان موضع مسجد قباء لامرأة يقال لها : ليّة ، كانت تربط حمارا فيه (٤).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٣) ذكر عبدالرحمان الخويلدي في كتابه : المساجد والأماكن الأثرية المجهولة مسجداً يقع جنوب مسجد قباء بكيلومتر واحد فيما يعرف اليوم بالعين الزرقاء خلف خزّانات مصلحة المياه والصرف الصحّي ، كان يعرف باسم مسجد المصبّح ، وحوّرته مديرية الأوقاف إلى مسجد الصبح برقم ٧٩. وقيل في وجه اسمه أنّه المكان الذي بات فيه النبي صلّى الله عليه وآله حتّى صلّى فيه الصبح بانتظار وصول علي عليه السلام إلى المدينة من مكّة للهجرة ـ كما في مجلّة ميقات الحجّ ٨ : ٢٤٧ ـ ٢٤٩.

(٤) تاريخ المدينة لابن شبّة ١ : ٥٤ ولذلك كره المنافقون الصلاة فيه.

١٣

وذكر السهيلي : أن عمارا هو الذي أشار على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ببنيانه ، وهو الذي جمع الحجارة له (١) ولذلك كان الشعبيّ يقول : إنّ أول من بنى مسجدا هو عمار بن ياسر (٢).

وذكر الدياربكري ، والسمهودي : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر أبا بكر بأن يركب الناقة ويسير بها ليخطّ المسجد على ما تدور عليه ، فلم تنبعث به! فأمر عمر فكان كذلك! فأمر عليا فانبعثت ودارت به ، فأسّس المسجد على حسب ما دارت عليه وقال : إنها مأمورة (٣) فلما أسّسه الرسول استتم بنيانه عمار (٤).

وروى البزّاز : أن ابن أبي أوفى كان يقول : كنا نحمل حجارة المسجد الذي أسّس على التقوى حجرين حجرين بالنهار ، وأن امرأته ومواليها كنّ يحملن الحجارة له بالليل (٥).

وقد روى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إن المسجد الذي أسّس على التقوى في قوله سبحانه : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ)(٦) هو مسجد قباء (٧) ، وعنه قال : ابدأ بقباء فصلّ فيه فانه أول مسجد صلّى فيه رسول الله في هذه العرصة (٨).

وروى العياشي في تفسيره عنه عليه‌السلام سئل : هل كان النّبيّ يصلّي في

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ١٤٣ الهامش عن الروض الانف.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ١٤٣ وطبقات ابن سعد ٣ : ١٧٨ وتاريخ ابن كثير ٧ : ٣١١.

(٣) تاريخ الخميس ١ : ٣٣٨ ووفاء الوفاء ١ : ٢٥١.

(٤) سيرة ابن هشام ٢ : ١٤٣ الهامش عن الروض الانف.

(٥) حياة الصحابة ٣ : ١١٢ عن مجمع الزوائد للهيثمي ٢ : ١٠.

(٦) التوبة : ١٠٨.

(٧) فروع الكافي ١ : ٨١ كما في بحار الأنوار ١٩ : ١٢٠.

(٨) فروع الكافي ١ : ٣١٨ كما في بحار الأنوار ١٩ : ١٢٠.

١٤

مسجد قباء؟ قال : نعم ، كان منزله على سعد بن خيثمة الأنصاري (١).

فكأنّه عليه‌السلام ذكر نزوله على سعد بن خيثمة يشير بذلك الى جواره المسجد. وكأنّ هذا مما أوهم لبعضهم فنسبوا بناءه الى سعد بن خيثمة (٢) وهو وهم.

وقال ابن اسحاق : قد سمعنا فيما يذكرون : أن رسول الله نزل على كلثوم بن هدم ، ويقولون : واذا خرج من منزل كلثوم بن هدم جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة ، وذلك أنه كان عزبا لا أهل له ، فكان منزله منزل العزّاب من مهاجري الأصحاب فكان يقال لبيت سعد : بيت الأعزاب (٣).

أول صلاة جمعة وأول خطبة :

روى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن سعيد بن المسيّب عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال (وهو في مسجد الرسول بالمدينة) : قدم علي عليه‌السلام والنبيّ في بيت (بني) عمرو بن عوف فنزل معه ، ثم تحوّل منهم الى بني سالم بن عوف وعلي عليه‌السلام معه ، مع طلوع الشمس من يوم الجمعة ، فخطّ لهم مسجدا ونصب قبلته (الى بيت المقدس) (٤) وصلّى بهم فيه الجمعة ركعتين وخطب خطبتين (٥) ثم لم يرو الخطبتين.

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ١١١ ، ١١٢.

(٢) تاريخ المدينة لابن شبّة ١ : ٥٤.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ : ١٣٨ وانفرد اليعقوبي بقوله : نزل على كلثوم بن الهدم فلم يلبث الّا أياما حتى مات كلثوم ، وانتقل فنزل على سعد بن خيثمة فمكث أياما ، ثم كان سفهاء بني عمرو بن عوف ومنافقوهم يرجمونه بالليل ، فلما رأى ذلك قال : ما هذا الجوار؟ وركب راحلته فارتحل عنهم. اليعقوبي ٢ : ٤١.

(٤) واقرأ عنه في كتاب : المساجد والاماكن الأثرية المجهولة في المدينة لعبدالرحمان خويلد الحجازي المدني ، وعنه في مجلّد ميقات الحج ٤ : ٢٧١.

(٥) روضة الكافي : ٣٣٨ ـ ٣٤١. ولکنه صلّى الله عليه وآله أياماً في دار سعد بن خيثمة روى ابن شية في

١٥

وروى الطبري في تاريخه بسنده عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي أنه بلغه عن خطبة رسول الله في أول جمعة صلّاها في بني سالم بن عوف بالمدينة أنه قال : الحمد لله ، أحمده وأستعينه ، وأستغفره واستهديه ، وأومن به ولا اكفره ، وأعادي من يكفره. وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى والنور والموعظة ، على فترة من الرسل وقلّة من العلم ، وضلالة من الناس وانقطاع من الزمان ، ودنوّ من الساعة وقرب من الأجل. من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى وفرّط وضلّ ضلالا بعيدا. اوصيكم بتقوى الله ، فان خير ما أوصى به المسلم المسلم : أن يحظّه على الآخرة وأن يأمره بتقوى الله. فاحذروا ما حذّركم الله من نفسه ، وإن تقوى الله لمن

__________________

تاريخ المدينة ١ : ١٦١ و ١٦٢ بسنده عن ابن اُقيش قال : كان صلّى الله عليه وآله يتوضّأ من المهراس (= الحوض الصخري) الذي كان في دار سعد بقُباء وتوضّأ من بئره الغرس وأهرق بقية وضوئه فيها ، وروى عن الباقر عليه السلام أربع روايات تقول : إنّه صلّى الله عليه وآله كان يشرب من بئر سعد بن خيثمة في قباء يقال لها الغرس. وزاد ابن سعد في الطبقات ١ : ٥٠٣ أنّه قال : هي عين من عيون الجنّة. ويسمّيها الناس اليوم يئر الفُرس أو بالتصغير : الفُريس. وذكرها السمهودي في وفاء الوفاء ٢ : ١٤٥ وقال : هي على نصف ميل إلى الشمال من مسجد قُباء. وفي تأريخ معالم المدينة : ١٨٣ : عن المطري قال : هي بئر كثيرة الماء وعرضها عشرة أذرع وطولها يزيد على ذلك ، وماؤها تغلب عليه الخضرة ولكنّه عذب طيّب ، اشتراها الخواجة حسين القاواني وعمّرها وحوّط عليها بحديقة وأنشأ بجانبها مسجداً عام ٨٨٢ هـ وقال عبدالرحمان خويلد في المساجد والمساكن الأثرية المجهولة : هي الآن جافة ، ومكانها على يسار القادم من قربان أو مسجد قُباء إلى باب العوالي خلف الاشارة الضوئية من شرقها بمسافة نصف كم بمحاذاة معهد دار الهجرة ومدارس الشاوي الأهليّة في غربيّها ، وهي الآن مسوّرة من جهاتها الأربع فلا يمكن رؤيتها إلّا بالصعود على سورها ، كما في مجلّة ميقات الحجّ ٧ : ٢٧٠.

١٦

عمل به ـ على وجل ومخافة من ربه ـ عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة. ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره ، فى السرّ والعلانية ، لا ينوي بذلك الّا وجه الله ، يكن ذكرا له في عاجل أمره ، وذخرا له فيما بعد الموت حين يفتقر المرء الى ما قدّم ، وما كان سوى ذلك يودّ له أنّ بينه وبينه (... أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(١) والذي صدّق قوله ونجّز وعده لا خلف له فانه يقول : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(٢).

فاتّقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السرّ والعلانية ، فانه (... مَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً)(٣) ومن يتّق الله (... فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً)(٤) وإن تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته وتوقي سخطه ، وان تقوى الله تبيّض الوجوه وترضي الرب وترفع الدرجة.

خذوا بحظكم ولا تفرّطوا في جنب الله ، فقد علّمكم الله كتابه ونهج لكم سبيله ، ليعلم (... الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ)(٥) ، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم ، وعادوا أعداءه ، وجاهدوا في سبيل الله (... حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ ...)(٦)(... هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ...)(٧)(... لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ...)(٨) ولا حول و (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)(٩).

فاكثروا ذكر الله ، واعملوا لما بعد اليوم ، فانه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس ، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه ،

__________________

(١) آل عمران : ٣٠.

(٢) ق : ٢٩.

(٣) الطلاق : ٥.

(٤) الأحزاب : ٧١.

(٥) العنكبوت : ٣.

(٦) الحج : ٧٨.

(٧) الحج : ٧٨ الّا أن الضمير فيها الى ابراهيم عليه‌السلام.

(٨) الأنفال : ٤٢.

(٩) الكهف : ٣٩. وما عداها وق والقصص والعنكبوت مدنيات نزلن في فترات متباعدة بعد هذه الفترة ، وهذا مما يفتّ في عضد هذا الخبر.

١٧

ويملك من الناس ولا يملكون منه. الله أكبر ولا قوة الّا بالله العلي العظيم (١).

والخطبة هذه كما ترى واحدة ، مع ما فيها من استشهاد بآيات من سور نازلة فيما بعد. ولكنّ ابن اسحاق قد روى الخطبتين عن أبي سلمة بن عبد الرحمن : أنه قام فيهم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : «أما بعد أيها الناس ، فقدّموا لأنفسكم ، تعلّمنّ والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعنّ غنمه ليس لها راع ، ثم ليقولنّ له ربّه وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه : ألم يأتك رسولي فيبلّغك؟ وآتيتك مالا وأفضلت عليك ، فما قدّمت لنفسك؟ فلينظرنّ يمينا وشمالا فلا يرى شيئا ، ثم لينظرنّ قدّامه فلا يرى غير جهنم. فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل ، ومن لم يجد فبكلمة طيّبة ، فانّ بها تجزى الحسنة عشر أمثالها الى سبعمائة ضعف. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

ثم خطب مرة اخرى فقال :

«إنّ الحمد لله ، أحمده وأستعينه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله الّا الله وحده لا شريك له. إنّ أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى ، قد أفلح من زيّنه الله في قلبه ، وأدخله في الاسلام بعد الكفر ، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس ، إنه أحسن الحديث وأبلغه. أحبّوا ما أحبّ الله ، أحبّوا الله من كل قلوبكم ، ولا تملّوا كلام الله وذكره ، ولا تقس عنه قلوبكم ، فانه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي ، قد سمّاه الله خيرته من الأعمال ومصطفاه من العباد ، والصالح من الحديث ومن كلّ ما أوتي الناس من الحلال والحرام. فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، واتّقوه حقّ تقاته ، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم ،

__________________

(١) الطبري ٢ : ٣٩٤ ، ٣٩٥ ورواها الطبرسي في مجمع البيان ١٠ : ٤٣٢ بلا إسناد.

١٨

وتحابّوا به بروح الله بينكم ، إنّ الله يغضب أن ينكث عهده ، والسلام عليكم» (١).

وليس في رواية ابن اسحاق هذه ما في رواية الطبري الاولى من إكثار الاستشهاد بآيات من سور مدنية نازلة بعد في فترات متباعدة بعد هذه الفترة ، مما يفتّ في عضد تلك الرواية الاولى للطبري دون هذه الثانية لابن اسحاق.

وفي تمام خبر الكليني في «روضة الكافي» عن سعيد بن المسيّب عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال : ثم راح (بعد العصر) من يومه الى المدينة على ناقته التي كان قدم عليها ، وعلي عليه‌السلام معه لا يفارقه يمشي بمشيته ، وليس يمرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ببطن من بطون الأنصار الّا قاموا إليه يسألونه أن ينزل عليهم فيقول لهم : خلّوا سبيل الناقة فانّها مأمورة. فانطلقت به ورسول الله واضع لها زمامها ، حتى انتهت الى الموضع الذي ترى ـ وأشار بيده الى باب مسجد رسول الله الذي يصلّى عنده على الجنائز ـ فوقفت عنده وبركت ووضعت جرانها على الأرض ، فنزل رسول الله.

وأقبل ابو أيوب مبادرا حتى احتمل رحله فأدخله منزله ، ونزل رسول الله وعليّ معه (عنده) حتى بني له مسجده وبنيت له مساكنه ومنزل علي عليه‌السلام ، فتحوّلا الى منازلهما (٢).

سائر أخبار وصول الرسول :

نقل الطبرسي في «إعلام الورى» عن ابن شهاب الزهري قال : كان ناس من المهاجرين قد قدموا على (بني) عمرو بن عوف قبل قدوم رسول الله فنزلوا فيهم ... فلما أقبل رسول الله ووافى ذا الحليفة سأل عن طريق بني عمرو بن عوف فدلّوه.

فوافى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونزل ، واجتمع إليه بنو عمرو بن عوف وسرّوا به ، فنزل على شيخ صالح منهم مكفوف البصر هو كلثوم بن هدم. وبنو عمرو بن

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ١٤٦ ، ١٤٧.

(٢) روضة الكافي : ٢٨٠.

١٩

عوف من بطون الأوس. فأقبل رسول الله يتصفّح الوجوه فلا يرى أحدا من الخزرج .. لما كان بينهم من الحروب والعداوة (١).

__________________

(١) وهنا قال الطبرسي : وروي : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لما قدم المدينة جاء النساء والصبيان فقلن : ـ

طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع

وجب الشكر علينا ما دعا لله داع

ثم يعود الى أخبار الرسول في قباء ، بينما هذا الخبر عن نساء المدينة ، فهو يقحمه بين أخبار قباء.

وقد خلت سيرة ابن اسحاق وابن هشام وتواريخ اليعقوبي والطبري والمسعودي عن هذا الخبر. ولعل أول من نقله هو البيهقي (ت ٤٥٨) في دلائل النبوة ٢ : ٢٣٣ ثم ابن حجر (ت ٨٥٢) في فتح الباري ٧ : ٢٠٤ ثم السمهودي (ت ٩١١) في وفاء الوفاء ٤ : ١١٧٢ ثم الديار بكري (ت ٩٨٢) في تاريخ الخميس ١ : ٣٤١ ثم الحلبي (ت ١٠٤٤) في سيرته ٢ : ٥٤.

والسمهودي نقلها وقال : ولم أر لثنيّة الوداع ذكرا في سفر من الأسفار التي بجهة مكة. وقد قال قبله ياقوت الحموي (ت ٦٢٦) في معجم البلدان ٢ : ٨٥ : الثنيّة : كل عقبة في الجبل مسلوكة ، وثنية الوداع ـ بفتح الواو ـ ثنية مشرفة على المدينة يطؤها من يريد مكة ، سمّي لتوديع المسافرين. وكذلك في مراصد الاطلاع ١ : ٣٠١.

فقال السمهودي يرده : إن ثنيّات الوداع ليست من جهة مكة ولا يراها القادم من مكة الى المدينة ولا يمر بها الّا اذا توجه الى الشام فهي من جهة الشام. والظاهر أن مستند من جعلها من جهة مكة ما سبق من قول النسوة ، وأن ذلك عند القدوم في الهجرة. ودور بني ساعدة في شامي المدينة ، فلعله دخل المدينة من تلك الناحية.

ولكن من نقل الخبر قال : ثم عدل ذات اليمين حتى نزل بقباء. فهل مرّ على بني ساعدة في المدينة قبل نزوله بقباء؟! هذا من المستبعد جدّا.

وروى ابن شبّة في تاريخ المدينة ١ : ٢٦٩ بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري : انما سميت ثنية الوداع لأن رسول الله أقبل من خيبر ومعه المسلمون ومعهم ازواجهم بالمتعة فقال لهم : دعوا ما بأيديكم من نساء المتعة. فارسلوهن فسمّيت ثنية الوداع ، لتوديع النساء

٢٠