موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

فقال له الأشعث : ويحك ـ يا عمرو ـ والله إن كنت لأظن أنّ لك رأيا! فإذا أنت لا عقل لك! أترانا نخلّيك والماء؟! تربت فمك ويداك! أما علمت أنا معشر عرب؟ ثكلتك امك وهبلتك لقد رمت أمرا عظيما!

فأجابه عمرو : أما والله لتعلمنّ اليوم أنا سنفي بالعهد ونقيم على العقد ونلقاك بصبر وجدّ (١).

وكان الأشتر قد تعالى بخيله حيث أمره الإمام عليه‌السلام ، ولكنّه الآن بعث إليه الأشعث يطلب منه أن يقحم خيله ، وبإذن من الإمام أقحم خيله حين سمع جواب عمرو (٢).

فناده الأشتر : والله لقد نزلنا هذه الفرضة ـ يا ابن العاص ـ والناس تريد القتال على البصائر والدين ، وما قتالنا اليوم إلّا حمية!

ثمّ كبّر الأشتر والأشعث وحملا (٣) وازدلفوا إليهم فتراموا بالسهام ثمّ تطاعنوا بالرماح ثمّ تضاربوا بالسيوف ، وطال ذلك بينهم (٤).

ثمّ إنّ عمرا أرسل إلى معاوية : أن خلّ بينهم وبين الماء ، أترى القوم يموتون عطشا وهم ينظرون إلى الماء؟!

فأرسل معاوية إلى يزيد بن أسد القسري ـ وكان مع السّلمي ـ : أن خلّ بين القوم وبين الماء. وكان القسريّ قاسيا في عثمانيته فأبى وقال : كلّا! لنقتلنّهم عطشا كما قتلوا عثمان!

__________________

(١) وقعة صفين : ١٦٩.

(٢) وقعة صفين : ١٦٧.

(٣) وقعة صفين : ١٦٩.

(٤) وقعة صفين : ١٦٢.

١٠١

وحمل الأشتر على ابن العاص وهو يرتجز له ، ولكنّه لم يدركه. وقتل رجالا من أهل الشام بيده وهو يقول : والله إن كنت كارها قتال أهل الصلاة! ولكن معي من هو أقدم منّي في الإسلام وأعلم بالكتاب والسنّة ، وهو يسخي بنفسي (١).

مبارزات الأشتر :

ثمّ دعا الأشتر الحارث بن همّام النخعي وقال له : يا حارث ، لو لا أنّي أعلم أنك تصبر عند الموت لم أحبك بكرامتي ولوائي ، وأعطاه لواءه. فقال الحارث : يا مالك لأسرنّك اليوم أو لأموتن ، فاتّبعني فاستدناه الأشتر ودنا منه فقبّل رأسه وقال : لا يتبع رأسك اليوم إلّا خير! ثمّ التفت إلى أصحابه يحرّضهم يقول :

فدتكم نفسي! شدّوا شدة المحرج الراجي الفرج ، فإذا نالتكم الرماح فالتووا فيها ، وإذا عضتكم السيوف فليعضّ الرجل نواجذه ، فإنّه أشدّ لشئون الرأس! ثمّ استقبلوا القوم بهاماتكم. وكان هو على فرس أدهم حالك السواد محذوف الذيل.

وبرز إليه رجل يقال له صالح بن فيروز العكي وكان مشهورا بشدّة البأس وارتجز له ، فبرز إليه الأشتر وارتجز له ثمّ شدّ عليه برمحه ففلق ظهره فقتله ورجع إلى مكانه.

فخرج إليه مالك بن أدهم السلماني من فرسان الشام وارتجز له وشدّ عليه

__________________

(١) وقعة صفين : ١٧٠ و ١٧١ ، والجملة الأخيرة نقلها عن الأشعث الكندي ، راويا إياه عن عمرو بن شمر ، عن إسماعيل السدّي ، عن بكر بن تغلب ، عن من سمع ... بعد أن نقله قبله عن من سمع الأشتر ، بطريقه وألفاظه ، ثمّ الجملة تناسب الأشتر أكثر من الأشعث.

١٠٢

فالتوى الأشتر عنه على فرسه فأخطأه السنان ، ثمّ استوى على فرسه وشدّ عليه برمحه وارتجز له حتّى قتله.

ثمّ خرج له فارس آخر يقال له : رياح بن عتيك وارتجز له ، فخرج إليه الأشتر وارتجز له وشدّ عليه فقتله.

ثمّ خرج إليه فارس آخر يقال له : إبراهيم بن الوضّاح وارتجز له ، فخرج إليه الأشتر وارتجز له حتّى قتله.

ثمّ خرج إليه فارس آخر يقال له : زامل بن عتيك الجذامي من أصحاب ألوية الشام ، فشدّ عليه وارتجز له وطعن الأشتر فصرعه عن فرسه ، وشدّ عليه الأشتر راجلا فقطع قوائم فرسه وارتجز له ثمّ ضربه وهو راجل.

ثمّ خرج إليه فارس يقال له الأجلح من أعلام العرب وفرسانها وهو على فرس لاحق ، فاستقبله الأشتر وارتجز له ثمّ شدّ عليه مرتجزا حتى ضربه.

ثم حمل محمد بن روضة على أهل العراق يضربهم ضربا منكرا وهو يرتجز ، فشدّ عليه الأشتر يرتجز له ثمّ ضربه فقتله.

ثم حمل الأشتر يضرب بسيفه جمهور الناس حتى كشف أهل الشام عن الماء (١) وصار الماء في أيديهم فقالوا : والله لا نسقيهم! وسمعهم الإمام عليه‌السلام فأرسل إليهم : خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا إلى معسكركم وخلّوا بينهم وبين الماء ، فإنّ الله قد نصركم ببغيهم وظلمهم ، وهذا يوم نصرتم فيه بالحميّة (٢) فما أمسوا حتى كان سقاتهم وسقاة العراق يزدحمون على الماء فما يؤذى إنسان إنسانا (٣)!

__________________

(١) وقعة صفين : ١٧٠ ـ ١٧٩.

(٢) وقعة صفين : ١٦٢.

(٣) وقعة صفين : ١٨٤.

١٠٣

وهل عسكر الإمام هناك؟ :

مرّ الخبر آنفا : أن الإمام عليه‌السلام قال لهم : خذوا حاجتكم من الماء وارجعوا إلى معسكركم. رواه ابن مزاحم ، ثمّ زاحم هذا بعده بقوله : ثمّ إن عليا عسكر هناك (١) وكرّره بقوله : عسكر علي على الماء ، وعسكر معاوية فوق ذلك (٢).

ثمّ قال : واحتال معاوية فكتب في سهم : من عبد الله الناصح : اخبركم أنّ معاوية يريد أن يفجّر عليكم الفرات فيغرقكم! فخذوا حذركم! ورماه في عسكر علي عليه‌السلام ، فقرأه أحدهم ثمّ أقرأه صاحبه وأقرأه الناس من أقبل وأدبر ، ولم يزل يقرأ ويرتفع حتّى رفع إلى أمير المؤمنين.

فقال لهم علي عليه‌السلام : ويحكم ، إنّ الذي يعالج معاوية لا يستقيم له ولا يقوى عليه ، وإنما يريد أن يزيلكم عن مكانكم! فالهوا عن ذلك ودعوه.

وبعث معاوية مائتي رجل من الفعلة إلى انحراف في النهر بحيال عسكر الإمام بأيديهم زبلان ومساحي ومرور يرون أنهم يحفرون ، فقال العراقيون : هم والله يحفرون الساعة!

فقال علي عليه‌السلام : يا أهل العراق ، لا تكونوا ضعافا! ويحكم لا تغلبوني على رأيي!

قالوا : والله لنرتحلنّ! فإن شئت فارتحل وإن شئت فأقم!

ثمّ ارتحلوا وصعدوا بعسكرهم بعيدا! فتمثّل بقول شاعر باهلي :

ولو أنى اطعت عصبت قومي

إلى ركن اليمامة أو شمام (٣)

ولكنّي إذا أبرمت أمرا

منيت بخلف آراء الطّغام

__________________

(١) وقعة صفين : ١٦٧.

(٢) وقعة صفين : ١٨٨.

(٣) شمام : جبل كانت باهلة في سفوحها وعندها.

١٠٤

واضطرّ فارتحل في اخرياتهم! فارتحل معاوية حتّى نزل على معسكر علي عليه‌السلام!

وكان رأي الأشعث ـ والأشتر ـ مع الناس! فدعاهما الإمام وقال للأشتر :

ألم تغلبني على رأيي أنت والأشعث؟! فدونكما!

فقال الأشعث : يا أمير المؤمنين : ساداوي ما أفسدت اليوم من ذلك! ثمّ جمع كندة وقال لهم : يا معشر كندة ، إنما اقارع بكم اليوم أهل الشام فلا تفضحوني ولا تخزوني! فخرجوا يمشون معه رجّالة قد كسروا جفون سيوفهم! وبيد الأشعث رمح يلقيه على الأرض ويقول : امشوا قيد رمحي هذا! فلم يزل يقيس لهم الأرض برمحه ذلك وهم يمشون معه رجّالة حتّى لقوا معاوية واقفا على الماء وسط بني سليم! فاقتتلوا على الماء ساعة قتالا شديدا. وأقبل الأشتر في خيل من أهل العراق وحمل على معاوية ، فردّوا وجوههم قدر ثلاثة فراسخ! (١٦ كم!) ثمّ نزل ووضع أهل الشام أثقالهم.

ورجع الأشعث إلى الإمام عليه‌السلام وقال له : يا أمير المؤمنين ، قد غلب الله لك على الماء وأرضيتك يا أمير المؤمنين!

وقال علي عليه‌السلام لأصحابه : أيها الناس ، إن الخطب أعظم من منع الماء! ثمّ بعث إلى معاوية : إنا لا نكافيك بصنعك! هلمّ إلى الماء فنحن وأنتم فيه سواء! فأخذ كل منهما بما يليه (١).

__________________

(١) ثمّ الخير غير مسند لم يذكر له طريق ، ثمّ فيه أن ذلك كان في شهر رجب دون تعيين السنة ، ولا يستقيم ذلك لا من سنة (٣٦ ه‍) ولا (٣٧ ه‍) فإن الإمام عليه‌السلام لتوّه كان قد خرج من البصرة إلى الكوفة ، وفي (٣٧ ه‍) كان بعد انقضاء حرب صفين وعود الإمام عليه‌السلام إلى الكوفة كذلك.

١٠٥

ومقتضى خاتمة هذا الخبر : أن معاوية كان قد استولى على الماء فمنعهم منه فاستردّه منه هؤلاء ، ولكنّهم هؤلاء لا يكافئونه فيمنعوه من الماء كما منعهم منه من قبل ، بل هم يدعونه إليه على سواء. هذا ولم يفترض في هذا الخبر سبق مقدمة معاوية بقيادة السلمي إلى الماء ، وإنما بدأ فجأة بقوله : «وعسكر عليّ على الماء» فاحتال معاوية بما أزاحهم عنه فارتحل حتّى نزل في منزلهم ، ثمّ لم يذكر أنه منعهم عن الماء إلّا أنه ذكر أن أهل العراق رجعوا فقاتلوا أهل الشام عليه حتّى ردّهم عنه إلى ثلاثة فراسخ (١٦ كم!) ألا ترى معي أن الخبر الأول أولى من هذا الثاني الملتوي هذه الالتواءات؟!

واستبطأ أصحابه إذن القتال :

ولما ملك أمير المؤمنين الماء بصفّين ، ومنّ به على الشاميين ، مكث أياما بلا قتال ولا مقال متبادل ، فاستبطأ العراقيون القتال فجاء جمع منهم إليه وقالوا له :

يا أمير المؤمنين ؛ خلّفنا ذرارينا ونساءنا بالكوفة! وجئنا إلى أطراف الشام لنتّخذها وطنا! ائذن لنا في القتال فقد قال الناس في ذلك! فقال : وما قالوا؟

فقال قائل منهم : إنّ من الناس من يظنّ أنك في شكّ من قتال أهل الشام! ويظنّون أنك تكره الحرب كراهية الموت (١)! فقال عليه‌السلام :

أما قولكم : أكلّ ذلك كراهية الموت! فو الله ما أبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ! وأما قولكم : شكّا في (قتال) أهل الشام! فو الله ما دفعت الحرب يوما إلّا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي ، فذلك أحبّ إليّ من أن أقتلها على ضلالها ، وإن كانت هي تبوء بآثامها (٢).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٤ : ١٣.

(٢) نهج البلاغة خ ٥٥.

١٠٦

أو قال عليه‌السلام : أما شكي في القوم ، فلو شككت فيهم لشككت في أهل البصرة! والله لقد ضربت هذا الأمر ظهرا وبطنا فما وجدت يسعني إلّا القتال أو أن أعصي الله ورسوله! ولكنّي أستأني بالقوم عسى أن يهتدوا أو تهتدي منهم طائفة ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي يوم خيبر : «لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس».

ومتى كنت كارها للحرب قط؟! إن من العجب حبّي لها غلاما يافعا ، وكراهيتي لها شيخا بعد نفاد العمر وقرب الوقت (١)!

الوفد الثلاثي إلى معاوية :

ثمّ إنّ عليا عليه‌السلام دعا أبا عمرة بشير بن عمرو الأنصاري ومعه سعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميمي فقال لهم : ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله عزوجل وإلى الطاعة والجماعة.

فقال شبث بن ربعي : ألا نطمعه في سلطان تولّيه إياه ومنزلة تكون له بها أثرة عندك إن هو بايعك؟

فقال علي عليه‌السلام : ائتوه الآن فالقوه واحتجّوا عليه وانظروا ما رأيه (٢)؟

فذهبوا إليه حتى دخلوا عليه فبدأ أبو عمرة فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٤ : ١٣ و ١٤.

(٢) هنا في الخبر «وهذا في شهر ربيع الآخر» بدون ذكر السنة ، ولا يستقيم ، لا في سنة (٣٦ ه‍) إذ مرّ أن خروج الإمام كان في شهر شوال ، ولا في (٣٧ ه‍) لأنه كان بعد انقضاء صفين ، بل لعلّه كان في شهر ذي القعدة ولذلك قعدوا عن القتال إلى المقال.

١٠٧

يا معاوية ، إنّ الدنيا عنك زائلة ، وإنك راجع إلى الآخرة ، وإن الله مجازيك بعملك ، ومحاسبك بما قدّمت يداك. وإني انشدك بالله أن تفرّق جماعة هذه الأمّة ، وأن تسفك دماءها بينها.

فقطع معاوية عليه كلامه وقال له : هلّا أوصيت بهذا صاحبك؟

فقال أبو عمرة : سبحان الله! إنّ صاحبي أحقّ البريّة في هذا الأمر في الفضل والدين ، والسابقة والإسلام ، والقرابة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وإني أدعوك إلى تقوى ربّك ، وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحقّ ، فإنّه أسلم لك في دينك ، وخير لك في عاقبة أمرك!

فقال معاوية : ويطلّ دم عثمان؟! لا والرحمن لا أفعل ذلك أبدا!

فبادر شبث بن ربعي فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

يا معاوية ، قد فهمت ما رددت على ابن محصن ، إنّه لا يخفى علينا ما تطلب! إنك لا تجد شيئا تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلّا أن قلت لهم : قتل إمامكم مظلوما فهلمّوا نطلب بدمه! فاستجاب لك سفهاء طغام رذال! وقد علمنا أنّك قد أبطأت عنه بالنصر وأحببت له القتل ، لهذه المنزلة التي تطلب! وربّ مبتغ أمرا وطالبه يحول الله دونه ، وربّما اوتي المتمنّي امنيّته وربّما لم يؤتها ، وو الله ما لك في أي واحدة منها خير! والله لو أخطأت ما ترجو إنك لشرّ العرب حالا ، ولئن أصبت ما تتمنّاه لا تصيبه حتّى تستحقّ صلي النار! فاتّق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله! وسكت.

فلم يمهل معاوية أن يتكلّم سعيد الهمداني دون أن حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال مجيبا :

١٠٨

أما بعد ، فإن أوّل ما عرفت به سفهك وخفّة حلمك قطعك على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه ، ثمّ عتبت بعد فيما لا علم لك به ، ولقد كذبت ولويت أيها الأعرابيّ الجلف الجافي في كل ما وصفت وذكرت! ثمّ قال لهم : انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم إلّا السيف!

فخرج القوم وأتوا عليا عليه‌السلام فأخبروه بالذي كان من قوله (١).

موقف القرّاء :

وكان من القرّاء في الشام عامر بن عبد القيس كان في بعض السواحل هناك ، فلما عسكر علي عليه‌السلام التقى بالقرّاء فيه : عبد الله بن عتبة ، وعبيدة بن عمرو السّلماني المرادي ، وعلقمة بن قيس النخعي الهمداني فتوافقوا أن يمشوا بين علي عليه‌السلام ومعاوية (بإذن الإمام).

فانصرفوا من عسكر علي عليه‌السلام حتّى دخلوا على معاوية فقالوا له : يا معاوية ، ما الذي تطلب؟ قال : أطلب بدم عثمان! قالوا : فممّن تطلبه؟ قال : من علي! قالوا : وهو قتله؟! قال : نعم هو قتله وآوى قاتليه!

فانصرفوا من عنده حتّى دخلوا على علي عليه‌السلام فقالوا له : إن معاوية يزعم أنّك قتلت عثمان! قال : اللهم لكذب فيما قال ، لم أقتله. فرجعوا إلى معاوية فأخبروه ، فقال لهم : إن لم يكن قتله بيده فقد أمر ومالأ! فرجعوا إلى علي عليه‌السلام فقالوا : إنّ معاوية يزعم أنك إن لم تكن قتلت بيدك فقد أمرت ومالأت على قتل عثمان! فقال : اللهم كذب فيما قال. فرجعوا إلى معاوية فقالوا له : إنّ عليا يزعم أنه لم يفعل. فقال معاوية : إن كان صادقا فليمكنّا من قتلة عثمان فإنهم في عسكره وجنده ،

__________________

(١) هنا مرة ثانية تكرر : «وذلك في شهر ربيع الآخر» والكلام فيه هو ما مرّ في صدره.

١٠٩

وأصحابه وعضده! فرجعوا إلى علي عليه‌السلام فقالوا : إن معاوية يقول لك : إن كنت صادقا فادفع إلينا قتلة عثمان أو أمكنّا منهم. فقال علي عليه‌السلام : إنّ القوم تأوّلوا عليه القرآن ، ووقعت الفرقة ، وقتلوه في سلطانه ، وليس على ضربهم (مثلهم) قود (قصاص) فرجعوا إلى معاوية فأخبروه فخصمت حجّته ، فقال : إن كان كما يزعم فما باله ابتزّ الأمر دوننا على غير مشورة منّا ولا ممّن هاهنا معنا؟! فرجعوا إلى علي عليه‌السلام فأخبروه فقال : إنما الناس تبع للمهاجرين والأنصار ، وهم شهود المسلمين على ولايتهم وأمر دينهم ، وهم رضوا بي وبايعوني (١) ، ولست أستحلّ أن أدع مثل معاوية يتركهم ويشق عصاهم! فرجعوا إلى معاوية فأخبروه فقال : فما بال من هاهنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر فيؤامروه فيؤمّروه؟! فانصرفوا إلى علي عليه‌السلام فأخبروه فقال : ويحكم (بل) هذا دون الصحابة للبدريّين (منهم) وليس في الأرض بدريّ إلّا قد بايعني وهو معي أو قد أقام ورضى. فلا يغرنكم معاوية من أنفسكم ودينكم (٢)!

أبو أمامة وأبو الدّرداء :

ومن الصحابة الأنصار الذين كانوا هناك مع معاوية ممّن أشار هو إليهم : أبو إمامة الباهلي وأبو الدرداء ، ولعلّه بلغهم احتجاج معاوية بهم فتوافقا ودخلا عليه وقالا له :

__________________

(١) وسيأتي يقيّده بالبدريين منهم ، والواقع أنه إنما يلزمه بما التزم من صحة الإمامة بالاختيار والبيعة ، بناء على قاعدة الإلزام ؛ لأن معاوية يأبى صحة الإمامة بالوصاية.

(٢) وقعة صفين : ١٨٨ ـ ١٩٠ وهنا مرة اخرى «فتراسلوا ثلاثة أشهر : ربيع الآخر والجماديين» ويتكرّر الكلام فيه مثل ما مرّ.

١١٠

يا معاوية ، علام تقاتل هذا الرجل؟ فو الله لهو أقدم منك سلما (إسلاما) وأحقّ بهذا الأمر منك ، وأقرب من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فعلام تقاتله؟!

فقال لهم : اقاتله على دم عثمان وأنه آوى قتلته ، فقولوا له : فليقدنا من قتلته فأنا أول من يبايعه من أهل الشام!

فانطلقوا إلى علي عليه‌السلام فأخبروه بقول معاوية.

فهنا يتكرّر في الخبر ما مرّ من رؤية أبي مسلم الخولاني الهمداني في المسجد الجامع بالكوفة أكثر من عشرين ألفا كلّهم يقولون : كلّنا قتلته ، فإن شاءوا فليروموا ذلك منّا!

فرجع أبو أمامة وأبو الدّرداء ، واعتزلا القتال فلم يشهداه (١).

__________________

(١) وقعة صفين : ١٩٠ ، وهنا مرة اخرى «حتى إذا كان شهر رجب» ويعود الكلام فيه كما في سوابقه. وذكر الخبر ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : ١٠٨ باسم أبي الدرداء وأبي هريرة بدل أبي إمامة وأنّهما كانا في حمص ومعاوية بصفّين فأتياه ثمّ أتيا عليا عليه‌السلام ، بتفصيل طويل وفيه : إن معاوية يسألك أن تدفع إليه قتلة عثمان. فقال علي عليه‌السلام : أتعرفانهم؟ قالا : نعم! قال : فخذاهم. فأرادا الأشتر وعمارا وابن أبي بكر (وهو كان في مصر يومئذ) فخرج لهما أكثر من عشرة آلاف رجل (أقرب للقبول) فقالوا : نحن قتلنا عثمان. فانصرفا إلى منزلهما بحمص.

وكان عبد الرحمن بن عثمان في حمص واطّلع على طلعتهما ورجعتهما فراجعهما وسألهما عن مسيرهما فقصّا عليه القصة فقال لهما : أتأتيان عليا وتطلبان إليه قتلة عثمان؟! وقد علمتما أن المهاجرين والأنصار لو كانوا يحرّمون دم عثمان لنصروه ولما بايعوا عليا على قتله له! وأعجب من ذلك : رغبتكما عمّا صنعوا وقولكما لعليّ : أن يخلعها عن عنقه ويردّها شورى ، وانتما تعلمان أن من بايعه خير ممن لم يبايعه ومن رضى به خير ممّن كرهه! ثمّ أنتما صرتما رسولي رجل من الطلقاء لا تحل له الخلافة؟!

ففشا قولهما وقوله لهما حتى بلغ معاوية ، فهمّ بقتله لو لا خوفه من عشيرته!

١١١

وكتاب آخر :

واجتمع طائفة من أصحاب علي عليه‌السلام فقالوا له : اكتب إلى معاوية وإلى من قبله من قومك (من قريش) بكتاب تدعوهم فيه إليك ، وتأمرهم بترك ما هم فيه من الخطأ ، فإن الحجّة بذلك تزداد عليهم عظما! فكتب إليه وإليهم بعد البسملة :

«من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية وإلى من قبله من قريش. سلام عليكم ، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد ، فإنّ لله عبادا آمنوا بالتنزيل وعرفوا التأويل ، وفقهوا في الدين ، وبيّن الله فضلهم في القرآن الحكيم. وأنتم في ذلك الزمان أعداء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تكذّبون بالكتاب ، مجمعون على حرب المسلمين ، من ثقفتم منهم حبستموه أو عذّبتموه أو قتلتموه! حتّى أراد الله إعزاز دينه وإظهار رسوله ، ودخلت العرب في هذا الدين إما رغبة وإما رهبة ، على حين فاز أهل السبق بسبقهم ، وفاز المهاجرون الأولون بفضلهم. فلا ينبغي لمن ليست له مثل سوابقهم في الدين ولا فضائلهم في الإسلام أن ينازعهم الأمر الذي هم أصله وأولى به ، فيحوب بظلم ، ولا ينبغي لمن كان له عقل أن يجهل قدره ولا أن يعدو طوره ، ولا أن يشقي نفسه بالتماس ما ليس له.

ثمّ إنّ أولى الناس بأمر هذه الامة ـ قديما وحديثا ـ أقربها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأعلمها بالكتاب ، وأفقهها في الدين ، وأوّلها إسلاما ، وأفضلها جهادا ، وأشدّها بما تحمّله الرعيّة من امورها اضطلاعا. فاتّقوا الله الذي إليه ترجعون (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١).

__________________

ـ وبتفصيل أطول بكثير نقل مثله سليم بن قيس في كتابه ٢ : ٧٤٨ ـ ٧٧٦ ـ ٢٨ صفحة! من دون الذيل بشأن ابن عثمان.

(١) سورة البقرة : ٤٢.

١١٢

واعلموا أنّ خيار عباد الله الذين يعملون بما يعلمون ، وأنّ شرارهم الجهّال الذين ينازعون بالجهل أهل العلم ، فإنّ للعالم بعلمه فضلا ، وإن الجاهل لن يزداد بمنازعة العالم إلّا جهلا.

ألا وإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحقن دماء هذه الأمة ، فإن قبلتم أصبتم رشدكم واهتديتم لحظّكم ، وإن أبيتم إلّا الفرقة وشق عصا هذه الامة فلن تزدادوا من الله إلّا بعدا ، ولن يزداد الربّ عليكم إلّا سخطا. والسلام».

وأجاب معاوية بالتمثّل ببيت من الشعر ، فقد كتب إليه : «أما بعد ، فإنه :

ليس بيني وبين قيس عتاب

غير طعن الكلى وضرب الرقاب

فلما وقف عليه علي عليه‌السلام تلا قوله سبحانه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)» (١).

وأمر عليه‌السلام بإقامة الحج :

ولموعد موسم الحجّ لهذه السنة (٣٦ ه‍) كتب إلى عامله على مكة قثم بن العباس :

«أما بعد ، فأقم الحجّ للناس ، وذكّرهم بأيام الله ، واجلس لهم العصرين : (الضحى والعصر) فأفت المستفتي وعلّم الجاهل وذاكر العالم.

ولا يكن لك إلى الناس سفير إلّا لسانك ولا حاجب إلّا وجهك ، ولا تحجبنّ ذا حاجة عن لقائك بها ، فإنّها إن ذيدت عن أبوابك في أوّل وردها لم تحمد فيما بعد على قضائها!

__________________

(١) وقعة صفين : ١٤٩ ـ ١٥١ والآية ٥٦ من سورة القصص.

١١٣

وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة ، مصيبا به مواضع الفاقة والخلّات ، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسّمه فيمن قبلنا.

ومر أهل مكة : أن لا يأخذوا من ساكن (في دورهم) أجرا! فإن الله سبحانه يقول : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ)(١) فالعاكف : المقيم به ، والبادي : الذي يحجّ إليه من غير أهله. وفّقنا الله وإياكم لمحابّه ، والسلام» (٢).

وفي ذي الحجة بدأت المبارزات :

مرّ أن الإمام عليه‌السلام خرج إلى الشام لخمس مضين من شهر شوال سنة (٣٦ ه‍) ، فيبدو أنهم بعد وصولهم إلى صفين ومقاتلتهم على الماء مكثوا يتراسلون حتّى مضى شهر ذي القعدة ، فلما كان ذو الحجّة بدأ الإمام يأمر بعض الشرفاء بالخروج للقتال فيخرج ومعه جماعة ، فيخرج إليه من أصحاب معاوية بعضهم فيتقاتلون ثمّ ينصرفون ، وربما اقتتلوا في اليوم الواحد مرّتين في أوله وآخره. فاقتتلوا ذا الحجة كلّه ، فلما أقبل شهر المحرم لسنة (٣٧ ه‍) تداعى الناس إلى أن يكفّ بعضهم عن بعض إلى أن ينقضي المحرم ، لعلّ الله أن يجري صلحا واجتماعا. فكفّ الناس بعضهم عن بعض (٣).

المحرّم (٣٧ ه‍) والوفد الرّباعي :

وأرسل علي عليه‌السلام إلى زياد بن خصفة التيمي ، وشبث بن ربعي التميمي ،

__________________

(١) سورة الحج : ٢٥.

(٢) نهج البلاغة ك ٦٧.

(٣) وقعة صفين : ١٩٥ ، ١٩٦.

١١٤

وعديّ بن حاتم الطائي ، ويزيد بن قيس الأرحبي الهمداني فأرسلهم إلى معاوية ، فذهبوا حتّى دخلوا عليه.

فبدأ عديّ بن حاتم الطائي فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد ، فإنا أتيناك لندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمّتنا ، ويحقن الله به دماء المسلمين. ندعوك إلى أفضلها (الامّة) سابقة وأحسنها في الاسلام آثارا ، وقد اجتمع له الناس وقد أرشدهم الله بالذي رأوا فأتوه ، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك ، فانته يا معاوية من قبل أن يصيبك الله وأصحابك بمثل يوم الجمل!

فقطعه معاوية وقال له : يا عديّ! كأنك جئت متهدّدا لا مصلحا! وإني والله لابن حرب! ما يقعقع لي بالشنان (القربة الخلقة البالية) وانك لمن المجلبين على ابن عفّان ومن قتلته! وإني لأرجو أن تكون ممن يقتله الله! هيهات يا عدي!

فقال له شبث وزياد : أتيناك فيما يصلحنا وإياك فأقبلت تضرب لنا الأمثال؟! فدع ما لا ينفع من القول والفعل وأجبنا فيما يعمّنا وإياك نفعه.

وتكلّم يزيد بن قيس فقال : إنا لم نأتك إلّا لنبلّغك ما بعثنا به إليك ولنؤدّي عنك ما سمعنا منك ، ولن ندع أن ننصح لك ، وأن نذكر ما ظنّنا أنّ لنا به عليك حجة ، أو أنه راجع بك إلى الألفة والجماعة. إن صاحبنا لمن قد عرفت وعرف المسلمون فضله ولا أظنّه يخفى عليك! وإن أهل الدين والفضل لن يعدلوك بعليّ ولن يميّلوا بينك وبينه! فاتّق الله يا معاوية ولا تخالف عليا ، فإنّا والله ما رأينا رجلا قط أعمل بالتقوى وأزهد في الدنيا ولا أجمع لخصال الخير كلّها منه. وسكت.

فبدأ معاوية الكلام فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد ، فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة ، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فنعمّا هي ، ولكن لا نرى لصاحبكم علينا طاعة ، فإنه قتل خليفتنا وفرّق جماعتنا وآوى قتلتنا ، ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم ، فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة!

١١٥

فقال له شبث بن ربعي : يا معاوية! أيسرّك بالله أنّك تمكّن من عمّار بن ياسر فتقتله؟! قال معاوية : والله لو أمكنني صاحبكم من ابن سميّة (يحقّره بها) ما قتلته بعثمان ولكن اقتله بناتل (أو نائل) مولى عثمان (لأنّ عمارا مولى)!

فقال له شبث : وإله السماء ما عدلت! لا والله الذي لا إله إلّا هو لا تصل إلى قتل ابن ياسر حتّى تندر الهامّ عن كواهل الرجال ، وتضيق الأرض والفضاء عليك برحبها!

فقال له معاوية : لو كانت كذلك كانت عليك أضيق! ثمّ قاموا فخرجوا من عنده ورجعوا (١).

وفد معاوية الثلاثي :

وبعث معاوية إلى حبيب بن مسلمة الفهري القرشي ، وشرحبيل بن السمط الكندي ، ومعن بن يزيد السّلمي وأوفدهم إلى الإمام عليه‌السلام.

فبدأ حبيب بن مسلمة فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد ، فإنّ عثمان بن عفّان كان خليفة مهديّا يعمل بكتاب الله وينيب إلى أمر الله ، فاستثقلتم حياته واستبطأتم وفاته ، فعدوتم عليه فقتلتموه ، فادفع إلينا قتلة عثمان نقتلهم به. فإن قلت إنك لم تقتله فاعتزل أمر الناس فيكون أمرهم هذا شورى بينهم ، يولّ الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم!

فقال له علي عليه‌السلام : وما أنت ـ لا أمّ لك ـ والولاية والعزل ، والدخول في هذا الأمر؟! أسكت فإنّك لست هناك ولا بأهل لذاك!

فقال شرحبيل بن السمط الكندي : إن كلّمتك فلعمري ما كلامي إيّاك إلّا كنحو من كلام صاحبي قبلي! فهل لي عندك جواب غير الجواب الذي أجبته به؟!

__________________

(١) وقعة صفين : ١٩٧ ـ ١٩٩.

١١٦

فقال علي عليه‌السلام : نعم عندي جواب غير الذي أجبته به لك ولصاحبك ، ثمّ إنّه حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد فإن الله بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنقذ به من الضلالة ، ونعّش به من الهلكة ، وجمع به بعد الفرقة ، ثمّ قبضه الله إليه وقد أدّى ما عليه.

ثمّ استخلف الناس أبا بكر ثمّ استخلف أبو بكر عمر ، فأحسنا السيرة وعدلا في الامة (١) وقد وجدنا عليهما : أن تولّيا الأمر دوننا ، ونحن آل الرسول وأحقّ بالأمر ، فغفرنا ذلك لهما (٢).

ثمّ ولي أمر الناس عثمان ، فعمل بأشياء عابها الناس عليه ، فسار إليه ناس فقتلوه.

ثمّ أتاني الناس وأنا معتزل أمرهم فقالوا لي : بايع ، فأبيت عليهم فقالوا لي : بايع فإنّ الأمّة لا ترضى إلّا بك ، وإنّا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس! فبايعتهم.

فلم يرعني إلّا شقاق رجلين قد بايعاني ، وخلاف معاوية إياي ، الذي لم يجعل الله له سابقة في الدين ، ولا سلف صدق في الإسلام ، طليق ابن طليق ، وحزب من الأحزاب ، لم يزل لله ولرسوله وللمسلمين عدوّا هو وأبوه حتّى دخلا في الإسلام كارهين مكرهين ، فعجبنا لكم ولإجلابكم معه وانقيادكم له ، وتدعون أهل بيت نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم ، ولا أن تعدلوا بهم أحدا من الناس.

إني أدعوكم إلى كتاب الله عزوجل وسنة نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإماتة الباطل ، وإحياء معالم الدين. أقول قولي هذا واستغفر الله لنا ولكلّ مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة.

فقال له شرحبيل ومعن : أتشهد أن عثمان قتل مظلوما؟

__________________

(١) هذا بالنسبة إلى من بعدهما.

(٢) أي لم ننازعهما الأمر عمليا لعدم الناصر ، عملا بوصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بدلالة ساير كلامه عليه‌السلام.

١١٧

فقال عليه‌السلام : أما أنا فلا أقول ذلك. فقاما وقالا : فمن لم يشهد أن عثمان قتل مظلوما فنحن براء منه! ثمّ انصرفا. فقرأ عليه‌السلام قوله سبحانه : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ* وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)(١) ثمّ التفت إلى أصحابه وقال لهم : لا يكون هؤلاء بأولى في الجدّ في ضلالتهم منكم في حقكم وطاعة إمامكم.

ثمّ مكث الناس حتّى دنا انقضاء شهر محرم (٢).

إعلان الحرب :

فلما انسلخ المحرّم واستقبل شهر صفر من سنة سبع وثلاثين ـ عند غروب الشمس ـ بعث علي عليه‌السلام نفرا من أصحابه حتّى إذا كانوا من عسكر معاوية حيث يسمعونهم الصوت ، فنادوا :

يا أهل الشام ، إنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقولون لكم : إنّا والله ما كففنا عنكم شكّا في أمركم ولا بقيا عليكم ، وإنما كففنا عنكم لخروج المحرّم ، ثمّ انسلخ ، وإنّا قد نبذنا إليكم على سواء (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ)(٣).

ألا إن أمير المؤمنين يقول لكم : إني قد استدمتكم واستأنيت بكم لتراجعوا الحقّ وتنيبوا إليه ، واحتججت عليكم بكتاب الله ودعوتكم إليه ، فلم تتناهوا عن طغيان ولم تجيبوا إلى حقّ وإني قد نبذت إليكم على سواء (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ)(٤).

__________________

(١) سورة النمل : ٨٠ ـ ٨١.

(٢) وقعة صفين : ٢٠٠ ـ ٢٠٢.

(٣) الأنفال : ٥٨.

(٤) سورة الأنفال : ٥٨.

١١٨

ثمّ بات علي عليه‌السلام تلك الليلة كلّها يدور في الناس يحرّضهم ويعبئهم ويكتّب الكتائب. وخرج معاوية ومعه عمرو بن العاص يكتّبان الكتائب ويعبئان العساكر ، وأوقدوا النيران تلك الليلة وأوقدوا الشموع (١).

راياتهم وشعاراتهم وعلاماتهم :

وكانت رايات أهل العراق بيضا وصفراء وحمرا وسودا والألوية سودا ، وشعاراتهم : يا الله يا رحمان ويا رحيم ويا أحد ويا صمد ويا ربّ محمد. وعلامتهم صوف أبيض على رءوسهم وأكتافهم.

وكان شعار أهل الشام : يا لثارات عثمان ، نحن عباد الله حقّا حقّا! وعلامتهم خرقا صفرا على رءوسهم وأكتافهم (٢).

وكانوا عربا حديثي عهد بحمية الجاهليّة ، والتقوا اليوم في الإسلام وبعضهم على بصيرة من إسلامه ودينه ، ولكن في كثير منهم بقايا تلك الحمية الجاهلية ، فتصابروا واستحيوا من الفرار (٣).

خبر أبي نوح وذي الكلاع الحميريّين :

كان ذو الكلاع الحميري من أمراء جند حمص من أصحاب معاوية ، وكان في عهد عمر بن الخطّاب قد سمع خطابا لعمرو بن العاص حدّثهم فيه بحديث :

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٠٢ ، ٢٠٣ وهذه أول بادرة لذكر الشموع. وهنا في «وقعة صفين» نقل وصايا لأمير المؤمنين عند لقائه أعداءه ، هو ما مرّ عنه عليه‌السلام في وقعة الجمل بالبصرة ، وبها أنسب لما فيها من ذكر الدور والبيوت والنساء والستر ، وهي تناسب البصرة دون صفّين.

(٢) وقعة صفين : ٣٣٢.

(٣) وقعة صفين : ٣٣٢.

١١٩

أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «يلتقي أهل الشام وأهل العراق وفي إحدى الكتيبتين الحقّ وإمام الهدى ومعه عمّار بن ياسر».

وكانت حمير يوم صفّين منهم في الشام ومنهم في العراق ، وسمع ذو الكلاع برجل منهم مع علي عليه‌السلام يدعى أبا نوح الكلاعي الحميري ، قال أبو نوح : كنت يوم صفّين في خيل علي عليه‌السلام وهو واقف بين جماعة من حمير وغيرهم من أخلاط قحطان من همدان وغيرهم ، وإذا أنا برجل من أهل الشام ينادي : من يدلّني على أبي نوح الحميري؟ قلت : قد وجدته ؛ فمن أنت؟ قال : أنا ذو الكلاع ، سر إليّ ... ولك ذمّة الله وذمّة رسوله وذمّة ذي الكلاع حتّى ترجع إلى خيلك ، وإنما اريد أن أسألك عن أمر فيكم تمارينا (تجادلنا وتناقشنا) فيه ، فسر دون خيلك حتّى أسير إليك.

فسرت وسار حتّى التقينا ، فقال ذو الكلاع : إنّما دعوتك لأحدّثك حديثا حدّثناه قديما عمرو بن العاص. وحدّثه بحديثه بشأن عمار بن ياسر. قال أبو نوح : فقلت له : لعمرو الله إنّه لفينا! قال ذو الكلاع : أجادّ هو في قتالنا؟! قلت له : نعم وربّ الكعبة لهو أشدّ منّي على قتالكم (١)!

فقال ذو الكلاع : فهل تستطيع أن تأتي معي إلى صفّ أهل الشام ، وأنار جار لك أن لا تقتل ولا تسلب ولا تكره على بيعة ولا تحبس عن جندك ، وإنما هي كلمة تبلّغها عمرو بن العاص ، لعلّ الله أن يصلح بذلك بين هذين الجندين ويضعوا السلاح والحرب.

فقلت داعيا : اللهم إنك ترى ما أعطاني ذو الكلاع ، وأنت تعلم ما في نفسي ، فاعصمني وانصرني وادفع عنّي.

__________________

(١) بدأ ابن مزاحم هذا الخبر بقوله : فلما أصبحوا يوم الثلاثاء (أي الرابع عشر من صفر) ومن بدء القتال! ولو كان كذلك لم ينسجم مع هذه الأسئلة عن موقف عمّار ، ولذلك قدّمنا الخبر هنا قبل القتال.

١٢٠