موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

ولما فرغ عبد الله بن خازم السلمي البصري من تعقيب زياد بن عبيد في أوائل سنة (٤٢) وعاد إلى البصرة ، ضمّه ابن عامر إلى عبد الرحمن بن سمرة ووجّه به لفتوح خراسان ، فاتّجه إلى بلخ وبعد حرب شديدة افتتحها ، ثمّ صار إلى كابل فحاصرها ليالي حتّى توصّل إلى بوّابها ، فجعل له شيئا ليفتح الباب ففتحه ، فأدخل الحرب إلى المدينة حتّى طلبوا إليه الصلح ، فصالحهم ابن سمرة ، ثمّ خلف في خراسان ابن خازم وانصرف هو إلى البصرة (١).

وأمر معاوية لموسم الحجّ هذه السنة (٤٢) أخاه عنبسة (٢).

موسم الحج والاحتجاج على الحسن عليه‌السلام :

مرّ الخبر قبل قليل عن أمر معاوية للمغيرة بإلزام زعماء الشيعة في الكوفة : سليمان بن صرد وعمرو بن الحمق الخزاعيّين مع حجر بن عدي الكندي بحضور صلاة الجماعة مع المغيرة ، فلعلّ هذا ونحوه من المضايقات حملتهم على أن اجتمعوا في موسم الحجّ بعد نحو سنتين من الصلح بالحسن عليه‌السلام في المدينة.

فقال له سليمان : ما ينقضي تعجّبنا من بيعتك معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة ، كلهم يأخذ العطاء وهم على أبواب منازلهم! ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم ، سوى شيعتك من أهل البصرة والحجاز ، ثمّ لم تأخذ لنفسك ثقة في العقد ولا حظّا من العطية! فلو كنت ـ إذ فعلت ما فعلت ـ أشهدت على معاوية وجوه أهل المشرق (العراق) والمغرب (الشام) وكتبت عليه كتابا بأن الأمر لك بعده ، كان الأمر علينا أيسر! ولكنّه أعطاك شيئا بينك وبينه! ثمّ لم يلبث أن قال

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٧ ـ ٢١٨.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ١٨٠.

٥٠١

على رءوس الأشهاد : «إني كنت شرطت شروطا ووعدت عدات ، إرادة لإطفاء نار الحرب ، ومداراة لقطع الفتنة! فأمّا إذ جمع الله لنا الكلمة والألفة فإنّ ذلك تحت قدميّ»! والله ما عنى بذلك غيرك ولا أراد بذلك إلّا ما كان بينه وبينك ، وقد نقضه.

فإذا شئت فأعد الحرب جذعة (رأسا) ، وأذن لي في تقدّمك إلى الكوفة فاخرج عنها عاملها (المغيرة) واظهر خلعه ، وننبذ إليه على سواء (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ)(١).

ثمّ تكلّم الباقون بمثل كلامه.

ثمّ تكلّم الإمام عليه‌السلام فقال لهم : أنتم شيعتنا وأهل مودّتنا ، ولو كنت بالحزم في أمر الدنيا أعمل ، ولسلطانها أربص وأنصب ، لما كان معاوية بأشدّ منّي بأسا ، ولا أسدّ شكيمة ولا أمضى عزيمة. ولكنّي أرى غير ما رأيتم ، ولا أردت بما فعلت إلّا حقن الدماء ، فارضوا بقضاء الله وسلّموا لأمره ، والزموا بيوتكم وكفّوا أيديكم ، حتّى يستريح برّ (الإمام) أو يستراح من فاجر (معاوية) (٢).

هذا ما رواه أبو مخنف الكوفي ، وعنه الكلبي ، وعنه البلاذري والمرتضى ، وأرسله الدينوري معاصر البلاذري وزاد :

مع أن أبي كان يحدّثني : أن معاوية سيلي الأمر! فو الله لو سرنا إليه بالجبال والشجر ما شككت أنه سيظهر ، إن الله لا معقّب لحكمه ولا رادّ لقضائه.

وقد نقل أول الخبر سلامه عليه بقوله : السلام عليك يا مذلّ المؤمنين! فهنا زاد :

__________________

(١) الأنفال : ٥٨ ، يستدل بها للزوم النبذ إليه أي إعلان الحرب دون المفاجأة.

(٢) تنزيه الأنبياء : ١٧١ ـ ١٧٢ عن عباس بن هشام ، عن أبيه هشام الكلبي ، عن أبي مخنف بسنده ، وقال : وهذا كلام منه عليه‌السلام يشفي الصدور ويذهب بكل شبهة. وبالسند نفسه في أنساب الأشراف ٣ : ٥٢ ، الحديث ٥٧.

٥٠٢

وأما قولك «يا مذلّ المؤمنين»! فو الله لئن تذلّوا وتعافوا أحبّ إليّ من أن تعزّوا وتقتلوا! فإن ردّ الله علينا حقّنا في عافية قبلنا وسألنا الله العون على أمره ، وإن صرفه عنّا رضينا وسألنا الله أن يبارك لنا في صرفه عنّا. فليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس بيته ما دام معاوية حيّا ، فإن يهلك ونحن وأنتم أحياء سألنا الله العزيمة على رشدنا والمعونة على أمرنا وأن لا يكلنا إلى أنفسنا ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.

وكأنّ ابن صرد أصرّ على عدم الاستسلام لكلام الإمام ، ظانّا الفرق في الموقف بينه وبين أخيه الحسين عليه‌السلام ، فخرج من عند الحسن ودخل على أخيه الحسين عليهما‌السلام وعرض عليه ما عرضه من قبل وأخبره بردّ الحسن غير مقتنع به.

فقال لهم الحسين عليه‌السلام : إنها بيعة كنت ـ والله ـ لها كارها! ثمّ كرّر عليه أمر أخيه لهم فقال : (ولكن) ليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس بيته ما دام معاوية حيّا ، فإن هلك معاوية نظرنا ونظرتم ورأينا ورأيتم (١) فعلموا أن الحسين يتصاغر لإمامه وأخيه الأكبر الحسن عليهما‌السلام.

ولعلّ هذا ونحوه بلغ معاوية ناقصا فأراد أن يختبر الإمام هل في نفسه الإثارة لذلك فدسّ إليه دسيسا هو جبير بن نفير الحضرمي الشامي ، كما جاء في رسالة محمد بن بحر الشيباني في «علل الشرائع» للصدوق ، ووصفه بالشامي جاء في «تاريخ دمشق» قال : قلت للحسن : إن الناس يقولون : إنك تريد الخلافة! فقال : كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت ، فتركتها ابتغاء وجه الله ، ثمّ اريدها ـ أو قال : ـ أثيرها بأهل الحجاز؟! أو قال : بأتياس الحجاز (٢)؟!

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٦٣ ـ ١٦٥ ، وفيه : ومعك مائة ألف مقاتل! تحريفا منفردا به.

(٢) أنساب الأشراف ٣ : ٥٣ ، الحديث ٥٨ ، وتاريخ دمشق لابن عساكر ، الإمام الحسن عليه‌السلام : ٢٠٥ الحديث ٣٣١ و ٣٣٢. وفي علل الشرائع ١ : ٢٥٨ آخر باب ١٥٩ قال : يا تيّاس

٥٠٣

عقيصا وعويص أمر الصلح :

مرّ الخبر عن «وقعة صفين» في نبع العين لأمير المؤمنين عن أبي سعيد عقيصا من موالي تيم كان معه عليه‌السلام ، ويبدو لي أنّه بعد ذلك سكن المدينة ، فروى الصدوق بسنده عنه قال :

قلت للحسن بن علي عليه‌السلام : يا ابن رسول الله ، لم داهنت معاوية وصالحته؟ وقد علمت أنّ الحقّ لك دونه ، وأن معاوية ضالّ باغ؟!

فقال لي : يا أبا سعيد ، ألست حجّة الله «تعالى ذكره» على خلقه وإماما عليهم بعد أبي؟ قلت : بلى. قال : ألست الذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لي ولأخي : «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا» (١) قلت : بلى. قال : فأنا ـ إذن ـ إمام لو قمت ، وأنا إمام ـ إذن ـ لو قعدت.

يا أبا سعيد ، علّة مصالحتي لمعاوية : علّة مصالحة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لبني ضمرة ، وبني أشجع ، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية ، وأولئك كانوا كفارا بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفّار بالتأويل.

يا أبا سعيد ؛ إذا كنت إماما من قبل الله «تعالى ذكره» لم يجب (أو : يجب أن لا) يسفّه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة ، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبسا. ألا ترى الخضر لما خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وأقام الجدار ، سخط موسى فعله

__________________

ـ أهل الحجاز ، وفسّر التياس بأنه الذي يبيع عسيب التيس أي ماء الفحل منه. وهو غير مناسب للمخاطب الحضرمي الشامي وليس الحجازي.

(١) احتجّ الإمام عليه‌السلام هنا بهذا الحديث النبوي الشريف ، ولم يحتجّ قط بما رووه عن الصحابي أبي بكرة الثقفي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله في الحسن : «ابني هذا سيّد ، وسيصلح الله به بين طائفتين أو فئتين من أمتي» ولو صحّ عنه ذلك لكان أولى بالاحتجاج به ، ممّا يدلّ على اختلاقه ووضعه على لسانه كذبا.

٥٠٤

ـ لاشتباه وجه الحكمة عليه ـ حتّى أخبره ، فرضي. هكذا أنا ؛ سخطتم عليّ بجهلكم وجه الحكمة فيه ، ولو لا ما أتيت لما ترك أحد من «شيعتنا» على وجه الأرض إلّا قتل (١).

وروي أيضا عنه : أن بعض الناس لامه على بيعته لمعاوية فقال لهم :

ويحكم! ما تدرون ما عملت! والله للذي عملت خير «لشيعتي» مما طلعت عليه الشمس أو غربت ، ألا تعلمون أنّي إمامكم ومفترض الطاعة عليكم ، وأحد «سيدي شباب أهل الجنة» بنصّ من رسول الله عليّ؟ قالوا : بلى (٢).

قال : أما علمتم أن الخضر لما خرق السفينة ، وأقام الجدار ، وقتل الغلام ، كان ذلك مسخطا لموسى بن عمران عليه‌السلام إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك ، وكان ذلك عند الله «تعالى ذكره» حكمة وصوابا!

ثمّ أضاف : أما علمتم أنه ما منّا أحد إلّا وتقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه ، إلّا القائم الذي يصلّي خلفه روح الله عيسى بن مريم عليه‌السلام ، فإنّ الله يخفي ولادته ، ويغيّب شخصه ، لئلّا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج. وذلك (هو) التاسع من ولد أخي الحسين ، (وهو) ابن سيدة الإماء ، يطيل الله عمره في غيبته ثمّ يظهره بقدرته في صورة شابّ دون أربعين سنة! ذلك ليعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير (٣).

وعليه فالخبران من البوادر الأولى في تقرير عقيدة الشيعة في الإمامة (٤).

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ٢٤٨ ـ ٢٤٩ ، الباب ١٥٩ ، الحديث ٢.

(٢) يعود هنا الكلام السابق في الحديث السابق ، فلو صحّ حديث الفئتين أو الطائفتين لكان نصّا في شرعية الصلح وصحّته ، ولا نراه احتجّ به أبدا ، وإنما اختلقوه ووضعوه لذلك كذبا.

(٣) كمال الدين ١ : ٣١٦ بسنده عن حنان بن سدير الصيرفي الكوفي مولى الأزد ، ووصف الرجل في الرجال أنه توقّف عن إمامة الرضا عليه‌السلام ، فلم يكن يستدلّ بما يرويه من هذا الخبر على دوام الإمامة حتّى التاسع من ولد الحسين عليه‌السلام!

(٤) وللتفصيل يراجع كتاب عقيدة الشيعة في الإمامة للمرحوم الشيخ محمد باقر شريعتي النجفي رحمه‌الله.

٥٠٥

هل حجّ ابن العاص ولقى الإمام عليه‌السلام؟ :

ذلك أن عمرا لم يعمّر بعد عودته إلى فسطاطه بمصره بعد هدنة الإمام عليه‌السلام إلّا أقل من ثلاث سنين ، إذ توفّي في عيد الفطر عام (٤٣ ه‍) ، ونقل عنه لقاء بالمساءة للإمام عليه‌السلام وهما في الإحرام أو في الطواف ببيت الله الحرام ، فلعلّه كان في أيام الموسم هذا العام.

قال للإمام عليه‌السلام : يا حسن! أزعمت أن الدين لا يقوم إلّا بك وبأبيك؟! فقد رأيت الله أقامه بمعاوية؟! فجعله ثابتا بعد ميله وبيّنا بعد خفائه! أفيرضي الله قتل عثمان؟! أم من الحقّ أنّ تدور بالبيت كما يدور الجمل بالطحين! عليك ثياب كقشر البيض وأنت قاتل عثمان! والله إنّه لألمّ للشعث وأسهل للوعث أن يوردك معاوية حياض أبيك! وسكت.

فأجابه الإمام عليه‌السلام قال له : إنّ لأهل النار علامات يعرفون بها وهي : الإلحاد في دين الله ، والموالاة لأعداء الله ، والانحراف عن دين الله. والله إنّك لتعلم أنّ عليّا عليه‌السلام لم يتريّث في الأمر ، ولم يشكّ في الله طرفة عين ، وايم الله لتنتهينّ ـ يا ابن العاص ـ أو لأقرعنّ جبينك بكلام تبقى سبّة عليك ما حييت! وإياك والجرأة عليّ! فإني من عرفت لست بضعيف المغمز ولا بهشّ المشاشة (العظام) ولا بمريء المأكلة! وإني من قريش كأوسط القلادة ، معرق حسبي لا ادعى لغير أبي! وقد تحاكمت فيك رجال من قريش فغلب عليك ألأمها حسبا وأعظمها لعنة! (هو الأبتر) فإياك عنّي! فإنما أنت نجس! ونحن أهل بيت الطهارة أذهب الله عنّا الرجس وطهّرنا تطهيرا (١).

فأمّا ابن العاص فهو عاص لله في نهيه عن الجدال في الحجّ حتّى لو كان في

__________________

(١) المحاسن للبيهقي : ٨٦ وط ٢ : ٩٦ ، وعنه في الإمام المجتبى للمصطفوي : ٢٠٩.

٥٠٦

الإحرام والطواف ببيته ، وأما الإمام فهو في هذا الكلام عامل بفرض النهي عن المنكر والإنكار على مرتكبيه وفاعليه ، ورادّ عليهم ومدافع عن الحقّ والحقيقة ، فهو يدلّ على جواز ردّ جدال بالباطل كهذا.

الإمام عليه‌السلام في الشام :

مرّ في الخبر حضور ابن عباس في مجلس معاوية واتهام زياد إيّاه بأنّه هو الذي سلّمهم الحسنين عليهما‌السلام في البأساء ، وهو اليوم غرّهما وسوّل لهما ومنعهما من الوفود على معاوية حتّى ذلك الحين من عام (٤٢ ه‍) فمن الطبيعي أن يكون ابن عباس قد نقل ذلك لهما عليهما‌السلام وفي طواف الحجّ لعام (٤٢ ه‍) لقى ابن العاص الإمام الحسن عليه‌السلام فتحجّج عليه واحتجّ الإمام عليه بما شمل معاوية ، فلعلّه في سنة (٤٣ ه‍) وقبل هلاكه في آخر شهر رمضان منها وفد لمرة أخرى على معاوية فصادف وصول الحسن عليه‌السلام هناك ، أو أوقفه معاوية على ذلك واستحضره لذلك المحضر وكذلك المغيرة بن شعبة ، فكان ما يلي :

نقل المعتزلي عن كتاب «المفاخرات» للزبير بن بكّار الزبيري (٢٥٦ ه‍) قال : اجتمع عند معاوية من أصحابه عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ، ومن قومه أخوه عتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة بن أبي معيط ابن أخي عثمان وتوافقوا فيما بينهم وقالوا لمعاوية : إن الحسن عليه‌السلام قد أحيا ذكر أبيه وقال فيه فصدّق! ولا يزال يبلغنا عنه ما يسوؤنا ، وخفق الغال خلفه وإن ذلك لرافعه إلى ما هو أعظم منه! فابعث عليه فليحضر لنسبّه! ونسبّ أباه! ونعيّره ونوبّخه ، ونقرّره أن أباه قتل عثمان! ولا يستطيع أن يغيّر علينا شيئا من ذلك!

فقال معاوية : ويحكم لا تفعلوا! فو الله ما رأيته جالسا عندي قط إلّا خفت عيبه لي في مقاله!

٥٠٧

فقال عمرو : أتخشى أن يربي قوله على قولنا أو يأتي باطله! على حقّنا!

فقال معاوية : فإن أبيتم إلّا ذلك فلا تمرضوا له في القول! واعلموا أنّهم أهل بيت لا يعيبهم العائب ولا يلصق بهم العار ، ولكن تقولون له : إن أباك كره خلافة الخلفاء من قبله وقتل عثمان! تقذفوه بحجره!

فبعث إليه معاوية رسوله فقال له : إن أمير المؤمنين يدعوك. فسأله : من عنده؟ فسمّاهم له فدعا عليهم وقال : «اللهم إني أعوذ بك من شرورهم ، وأدرأ بك في نحورهم ، واستعين بك عليهم ، فاكفنيهم كيف شئت وأنّى شئت ، بحول منك وقوة يا أرحم الراحمين» وقال لجارية لديه : يا جارية ابغيني ثيابي.

فلما دخل على معاوية أعظمه وأكرمه وأجلسه إلى جانبه ، ثمّ قال له : إنّ هؤلاء عصوني فبعثوا إليك!

فقال الحسن عليه‌السلام : سبحان الله ، الدار دارك والإذن فيها إليك ، فإن كنت أجبتهم إلى ما أرادوا وما في أنفسهم ، فإنّي لأستحيي لك من الفحش! وإن كانوا غلبوك على رأيك فإنّي لأستحيي لك من الضعف! فأيّهما تقرّر وأيّهما تنكر؟! أما إنّي لو علمت بمكانهم جئت معي بمثلهم من بني عبد المطلب ، وما لي أن أكون مستوحشا منك ولا منهم إنّ وليّي الله وهو يتولّى الصّالحين (١).

فقال معاوية : يا هذا! إني كرهت أن أدعوك ولكن هؤلاء حملوني على ذلك! وإنما دعوناك لنقرّرك أن أباك قتل عثمان! وأنه قتل مظلوما! فاستمع منهم ثمّ أجبهم.

فبدأ عمرو بن العاص فذكر الله ورسوله فصلّى عليه ، ثمّ ذكر عليّا عليه‌السلام فلم يترك شيئا يعيبه به إلّا قاله ، وقال : إنه كره خلافة أبي بكر وامتنع من بيعته

__________________

(١) مقتبس من الآية : ١٩٦ من الأعراف.

٥٠٨

ثمّ بايعه مكرها وشتمه! ثمّ شرك في دم عمر! ثمّ قتل عثمان ظلما وادّعى الخلافة وليست له! وأضاف إليه الفتنة وذكر مساوئ يعيّره بها. ثمّ قال : ثمّ إنك يا حسن! تحدّثك نفسك أنّ الخلافة صائرة إليك وليس لك عقل ذلك ولا لبّه! كيف ترى الله سبحانه سلبك عقلك وتركك أحمق قريش يسخر منك ويستهزأ بك! وذلك لسوء عمل أبيك! وإنما دعوناك لنسبّك وأباك! فأمّا أبوك فقد تفرّد الله به وكفانا أمره! وأمّا أنت فإنّك في أيدينا نختار فيك الخصال ، ولو قتلناك ما كان علينا إثم من الله ولا عيب من الناس! ثمّ قال : فإن كنت ترى أنا كذبنا في شيء فاردده علينا ، وهل تستطيع أن تردّ علينا وتكذّبنا! وإلّا فاعلم أنّك وأباك ظالمان!

ثمّ تكلّم الوليد بن عقبة فقال : يا بني هاشم ، إنّكم كنتم أخوال عثمان ، فنعم الولد كان لكم ، فعرف حقّكم! وكنتم أصهاره فنعم الصهر كان لكم يكرمكم ، فكنتم أول من حسده! فقتله أبوك ظلما! لا عذر له ولا حجّة! فكيف ترون الله طلب بدمه وأنزلكم منزلتكم؟! والله إنّ بني أمية خير لبني هاشم من بني هاشم لبني أمية! وإنّ معاوية خير لك من نفسك!

ثمّ تكلم عتبة بن أبي سفيان فقال : يا حسن! كان أبوك شرّ قريش لقريش! أسفكها لدمائها! وأقطعها لأرحامها! طويل السيف واللسان! يقتل الحيّ ويعيب الميّت! وإنّك ممن قتل عثمان ونحن قاتلوك به! وأمّا رجاؤك الخلافة فلست في زندها قادحا! ولا في ميراثها راجحا. وإنّكم يا بني هاشم قتلتم عثمان! وإنّ في الحقّ أن نقتلك وأخاك به! فأما أبوك فقد كفانا الله أمره وأقاد منه! وأما أنت فو الله! ما علينا لو قتلناك بعثمان إثم ولا عدوان!

ثمّ تكلّم المغيرة بن شعبة فشتم عليّا ثمّ قال : والله ما أعيبه في قضيّة يخون ولا في حكم يميل ، إلّا أنّه قتل عثمان!

فتكلّم الحسن عليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله وآله ثمّ قال :

٥٠٩

أمّا بعد يا معاوية ؛ فما هؤلاء شتموني ولكنّك شتمتني! فحشا ألفته وسوء رأي عرفت به! وخلقا سيّئا ثبتّ عليه وبغيا علينا! عداوة منك لمحمّد وأهله! فاسمعوا فلأقولنّ فيكم ما هو دون ما فيكم :

أنشدكم الله! أتعلمون أن الذي شتمتموه اليوم صلّى القبلتين كليهما وأنت ـ يا معاوية ـ كافر بهما ، تراها ضلالة ، وتعبد اللات والعزّى غواية!

وأنشدكم الله! هل تعلمون أنه بايع البيعتين : بيعة الرضوان وبيعة الفتح ، وأنت ـ يا معاوية ـ بإحداهما كافر (بالرضوان) وبالأخرى ناكث (بالفتح).

وأنشدكم الله! هل تعلمون أنه أول الناس إيمانا ، وأنت وأباك ـ يا معاوية ـ من المؤلّفة قلوبهم وتستمالون بالأموال فتظهرون الإسلام وتسترون الكفر!

وأنشدكم الله! ألستم تعلمون أنه كان صاحب راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر ، وراية المشركين كانت مع معاوية وأبيه! ثمّ لقيكم يوم أحد ويوم الأحزاب ومعه راية رسول الله ومعك ومع أبيك راية الشرك! وفي كلّ ذلك يفتح الله له ويفلج حجّته وينصر دعوته ويصدّق حديثه ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه راض في كلّ تلك المواطن وعليك وعلى أبيك ساخط!

وأنشدك الله ـ يا معاوية ـ أتذكر يوما جاء أبوك على جمل أحمر وأنت تسوقه وأخوك عتبة هذا يقوده ، فرآكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «اللهم العن الراكب والقائد والسائق»!

يا معاوية ، أتنسى لمّا همّ أبوك أن يسلم كتبت إليه شعرا تنهاه فيه عن ذلك فقلت :

يا صخر لا تسلمن يوما فتفضحنا

بعد الذين ببدر أصبحوا فرقا

خالي وعمّي ، وعمّ الأم ثالثهم

وحنظل الخير! قد أهدى لنا الأرقا

لا تركننّ إلى أمر تكلّفنا ـ

والراقصات ـ به في مكة الخرقا

فالموت أهون من قول العداة لقد

حاد ابن حرب عن العزّى إذا فرقا

٥١٠

ثم قال له : والله لما أخفيت من أمرك أكبر مما أبديت!

وأنشدكم الله ـ أيها الرهط ـ أتعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث أكابر أصحابه (أبا بكر وعمر) بالراية إلى بني قريظة (كذا) فنزلوا من حصنهم فهزموا! فبعث عليّا عليه‌السلام بالراية فاستنزلهم على حكم الله وحكم رسوله! وفي خيبر فعل مثلها!

وأنتم ـ أيها الرهط ـ نشدتكم الله! أتعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعن أبا سفيان في سبعة مواطن لا تستطيعون ردّها :

أولها : يوم لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خارجا من مكة إلى الطائف يدعو ثقيفا إلى الدين ، فوقع به وسبّه وسفّهه وشتمه وكذّبه وتوعّده وهمّ أن يبطش به ثمّ صرف عنه ، فلعنه الله ورسوله!

والثانية : يوم جاءت عيره من الشام وعرض لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فطردها أبو سفيان وساحل بها فلم يظفر المسلمون بها ، فلعنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ودعا عليه ، فكانت لأجلها وقعة بدر!

والثالثة : يوم احد حيث وقف تحت الجبل ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أعلاه ، وهو ينادي : أعل هبل مرارا ، فلعنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عشر مرات ولعنه المسلمون!

والرابعة : يوم جاء بالأحزاب وغطفان واليهود ، فابتهل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولعنه!

والخامسة : يوم الحديبية ، إذ جاء أبو سفيان في قريش فصدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محلّه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كلهم ملعونون وليس فيهم من يؤمن»! فقيل : يا رسول الله كيف باللعنة؟ أفما يرجى الإسلام لأحد منهم؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أمّا القادة فلا يفلح منهم أحد ، ولا تصيب اللعنة أحدا من الأتباع»!

٥١١

والسادسة : يوم الجمل الأحمر (الذي مرّ خبره قبل فدعا على الراكب والقائد والسائق ـ الاحتجاج).

والسابعة : يوم وقفوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في العقبة ليستنفروا به ناقته ، وكانوا اثني عشر رجلا منهم أبو سفيان!

ثمّ قال : يا معاوية أظنك لا تعلّم أنّي أعلم ما دعا به عليك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما أراد أن يكتب كتابا لبني جذيمة (بعد الفتح) فبعث إليك ابن عباس فوجدك تأكل ، ثمّ بعثه إليك مرة أخرى فوجدك تأكل ، فدعا عليك الرسول بجوعك ونهمك إلى أن تموت! ثم قال له :

فهذا لك يا معاوية! ثمّ التفت إلى ابن العاص وقال له :

وأما أنت ـ يا ابن العاص ـ فإن أمرك مشترك! وضعتك أمك مجهولا (لمن؟) من عهر وسفاح ، فتحاكم فيك أربعة من قريش فغلب عليك جزّارها : ألأمهم حسبا ، وأخبثهم منصبا! ثمّ قام أبوك فقال : أنا شأني محمد الأبتر! فأنزل الله فيه ما أنزل!

وقابلت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وآذيته وكدته كيدك كلّه ، وكنت من أشد الناس تكذيبا وعداوة! ثمّ خرجت تريد النجاشي لتأتي بجعفر وأصحابه إلى أهل مكة.

ويحك ـ يا ابن العاص ـ لما خرجت من مكّة إلى النجاشي ألست قلت في بني هاشم :

تقول ابنتي : أين هذا الرحيل؟

وما السير مني بمستنكر

فقلت : ذريني فإني امرؤ

اريد النجاشي في جعفر

لأكويه عنده كيّة

أقيم بها نخوة الأصعر

وشأني أحمد من بينهم

وأقولهم فيه بالمنكر

وأجري إلى عتبة جاهدا

ولو كان كالذّهب الأحمر

ولا أنثني عن بني هاشم

وما استطعت في الغيب والمحضر

فإن قبل العتب منّي له

وإلّا لويت له مشفري!

٥١٢

فلما أخطأت ما رجوت خائبا جعلت حدّك على صاحبك عمارة بن الوليد فوشيت به إلى النجاشي لما ارتكب مع حليلتك! ففضحك الله وفضح صاحبك! ثمّ إنك تعلم وكل هذا الرهط يعلمون أنك هجوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعين بيتا من الشعر فقال رسول الله : «اللهم إني لا أقول الشعر ولا ينبغي لي ، اللهمّ العنه بكل حرف ألف لعنة» فعليك إذا من الله ما لا يحصى من اللعن!

وأما ما ذكرت من أمر عثمان ، فأنت سعّرت عليه الدنيا نارا (لما عزلك) ثمّ لحقت بفلسطين ، فلما أتاك قتله قلت : أنا أبو عبد الله إذا نكات قرحة أدميتها! ثمّ حبست نفسك على معاوية وبعت دينك بدنياه! فلسنا نلومك على بغض ولا نعاتبك على ودّ ، وبالله ما نصرت عثمان حيّا ولا غضبت له مقتولا! ثمّ قال له : فهذا جوابك ، هل سمعته! ثمّ التفت إلى المتكلم الثاني الوليد فقال له :

وأما أنت يا وليد ؛ فو الله ما ألومك على بغض عليّ عليه‌السلام وقد جلدك ثمانين في الخمر ، وقتل أباك بين يدي رسول الله صبرا! وأنت الذي سمّاه الله «الفاسق» وسمّى عليّا «المؤمن» حيث تفاخرتما فقلت له : اسكت يا عليّ ، فأنا أشجع منك جنانا وأطول منك لسانا! فقال لك علي عليه‌السلام : اسكت يا وليد فأنا مؤمن وأنت فاسق! فأنزل الله في موافقة قوله : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ)(١).

ثمّ أنزل فيك على موافقة قوله أيضا : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(٢).

ويحك يا وليد! مهما نسيت فلا تنس قول الشاعر (٣) فيك وفيه :

__________________

(١) السجدة : ١٨.

(٢) الحجرات : ٦.

(٣) نظم الشعر شاعر النبيّ حسان بن ثابت الأنصاري نظما لشأن نزول الآية السابقة ، ولم يسمّه الإمام عليه‌السلام لعلّه لأن ابن ثابت لم يبق ثابتا على ما كان يقوله يومئذ إذ صار عثمانيا.

٥١٣

أنزل الله في الكتاب العزيز

في عليّ وفي الوليد قرآنا

فتبوّى الوليد إذ ذاك «فسقا»

وعليّ مبوأ «إيمانا»

ليس من «كان مؤمنا» عمرك الله

 «كمن كان فاسقا» سيّانا

سوف يدعى الوليد بعد قليل

وعلي إلى الحساب عيانا

فعلي يجزي بذاك جنانا

ووليد يجزى بذاك هوانا

ربّ جدّ لعقبة بن أبان

لابس في بلاده «تبّانا» (١)

وأما أنت يا عتبة ، فو الله ما أنت بحصيف (الرأي) فأجيبك! ولا عاقل فأعاتبك! وما عقلك وعقل أمتك إلّا سواء! فما يضرّ عليا لو سببته على رءوس الأشهاد! وكيف ألومك على بغض عليّ وقد قتل خالك الوليد يوم بدر مبارزة ، وأوحدك من أخيك حنظلة في مقام واحد ، وشرك حمزة في قتل جدّك عتبة (المخزومي)! وأما وعيدك إياي بالقتل! فهلّا قتلت اللحياني إذ وجدته على فراشك (مع عرسك!) أما تستحيي من قول نصر بن الحجاج فيك :

يا للرجال وحادث الأزمان

ولسبّة تخزي أبا سفيان

نبّئت «عتبة» خانه في «عرسه»

جبس لئيم الأصل من «لحيان»

وبعد هذا ما أربأ بنفسي عن ذكره لفحشه! فكيف يخاف أحد سيفك ولم تقتل فاضحك؟

وأما أنت يا مغيرة ، فإنّما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة : استمسكي فإني طائرة عنك! فقالت النخلة : وهل علمت بك واقعة عليّ فاعلم بك طائرة عني! والله ما نشعر بعداوتك إيانا ، ولا اغتممنا إذ علمنا بها! وإن حدّ الله في الزنا لثابت عليك ؛ ولقد درأ عمر عنك حقّا الله سائله عنه! ولقد سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) التبّان معرّب تمبان : سراويل قصيرة ، فهي كناية عن أصول غير عربية.

٥١٤

هل ينظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوّجها؟ فقال : «لا بأس بذلك ـ يا مغيرة ـ ما لم ينو الزنا» لعلمه بأنّك زان!

وأما فخركم علينا بالإمارة فإن الله تعالى يقول : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً)(١).

ثمّ قام الحسن عليه‌السلام وأخذ ينفض ثوبه ، فمدّ عمرو يده وتعلق بثوبه وقال لمعاوية : يا أمير المؤمنين! قد شهدت قوله فيّ وقذفه أمّي بالزنا ، فأنا اطالب بحدّ القذف فيه! فقال معاوية : خلّ عنه! لا جزاك الله خيرا! فتركه ، فانصرف الحسن عليه‌السلام.

فقال معاوية : قد أنبأتكم أنّه ممّن لا تطاق عارضته (ـ لسانه) ونهيتكم أن تسبّوه! والله ما قام حتّى أظلم عليّ البيت! قوموا عنّي ، فلقد فضحكم الله وأخزاكم (٢).

أجل ، كان هذا قبل أجل عمرو بن العاص في آخر شهر رمضان من سنة (٤٣ ه‍).

وقبل ذلك كان خروج المستورد بن علّفة التيمي في العراق في شعبان (٤٣ ه‍).

بقايا خوارج النهروان في شعبان (٤٣ ه‍):

مرّ في أخبار خوارج النهروان أن أربعمائة منهم جرحوا ، وعفا عنهم عليّ عليه‌السلام وأذن لأهلهم أن يؤوهم ويداووهم. وفي أيام المغيرة على الكوفة اجتمع ثلاثمائة

__________________

(١) الإسراء : ١٦.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٨٥ ـ ٢٩٤ عن المفاخرات للزبير بن بكار ، وأرسله الطبرسي في الاحتجاج ١ : ٤٠١ ـ ٤١٦ عن أبي مخنف الأزدي ومولاهم يزيد بن أبي حبيب عن الشعبي.

٥١٥

منهم إلى ثلاثة منهم : حيّان بن ظبيان السلمي والمستورد بن علّفة التيمي ومعاذ بن جوين الطائي ، اجتمعوا في جمادى الآخرة (٤٣ ه‍) في دار حيّان وتشاورا لمن يبايعوا حتّى بائعون أسنّهم المستورد ، وتواعدوا لغرة هلال شعبان.

وكان المغيرة قد جعل على شرطته حليف ثقيف : قبيصة بن الدمون الحضرمي ، وأخبره هذا باجتماعهم في دار حيّان ، فأمره بقبضهم فأحاط بهم وهم عشرون رجلا فحبسهم. فخرج المستورد ببقيّتهم إلى دار بالحيرة ثمّ رجعوا إلى دار سليم السلمي العبدي من عبد قيس الكوفة لمصاهرة بينهم وبينه.

فخطب المغيرة وحذّر القبائل وهدّدهم ، ثمّ بعث إلى رؤساء الناس فدعاهم وطلب منهم أن يكفي كلّ منهم من في قومه ، ومنهم صعصعة بن صوحان العبدي رئيس عبد قيس فخطبهم فقال لهم :

يا معشر عباد الله ، إن الله لما قسم الفضل بين المسلمين خصّكم بأحسن القسم ، فأجبتم إلى دين الله الذي اختاره لنفسه وارتضاه لملائكته ورسله ، فأقمتم عليه حتّى قبض الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ اختلف الناس بعد : فثبتت طائفة ، وارتدت طائفة ، وأدهنت طائفة ، وتربّصت طائفة ، فلزمتم دين الله إيمانا به وبرسوله وقاتلتم المرتدين حتّى قام الدين وأهلك الله الظالمين ، فلم يزل الله يزيدكم بذلك خيرا في كل شيء وعلى كل حال حتّى اختلفت الأمة بينها ، فقالت طائفة : نريد طلحة والزبير وعائشة ، وقالت طائفة : نريد أهل المغرب (الشام) وقالت طائفة (فيما بعد) : نريد عبد الله بن وهب الراسبي الأزدي (الخوارج) وأنتم قلتم : لا نريد إلّا «أهل البيت» الذين ابتدأنا الله بالكرامة من قبلهم ، تسديدا من الله لكم وتوفيقا.

فلم تزالوا على الحقّ لازمين له آخذين به ، حتّى أهلك الله بكم ـ وبمن كان على مثل رأيكم وهداكم ـ «الناكثين» يوم الجمل (وسكت عن ذكر أهل الشام

٥١٦

القاسطين لأن السلطان حينئذ كان سلطانهم ، وقال :) ولا قوم أعدى لله ولكم ولأهل بيت نبيكم ولجماعة المسلمين من هذه «المارقة» الخاطئة ، الذين فارقوا إمامنا (عليّا) واستحلّوا دماءنا وشهدوا علينا بالكفر!

فإياكم أن تؤووهم في دوركم أو تكتموا عليهم ، فإنّه ليس ينبغي لحيّ من أحياء العرب أن يكونوا أعدى منكم لهذه «المارقة» وقد ذكر لي : أن بعضهم في جانب من حيّكم وأنا باحث وسائل عن ذلك ، فإن كان ما حكي لي من ذلك حقّا تقرّبت إلى الله بدمائهم فإنّ دماءهم حلال (١).

وبلغ ذلك ابن علّفة فتواعد مع أصحابه قرية سورا فخرجوا إليها فكانوا ثلاثمائة ، ثم ساروا إلى السّراة. وبلغ خبرهم المغيرة فدعا الرؤساء واستشارهم من يبعث إليهم ، فانبرى لهم معقل بن قيس التميمي ، فجهّز معه ثلاثة آلاف رجل!

وقال لأمير شرطته قبيصة : الصق «بشيعة عليّ» فأخرجهم مع معقل بن قيس ، فإنّه كان من رءوس أصحاب عليّ ، فإذا جمعت إليه «شيعته» استأنسوا وتناصحوا وهم أجرأ على هذه «المارقة» وأشدّ استحلالا لدمائهم وقد قاتلوهم من قبل!

وبلغ المغيرة : أن صعصعة العبدي يكثر ذكر علي عليه‌السلام ويفضّله ويعيب عثمان.

فدعاه وقال له : إنّك لست بذاكر من فضل عليّ شيئا أنا أجهله! بل أنا أعلم بذلك! ولكن هذا السلطان قد ظهر وظفر ، وقد أخذنا باظهار عيبه للناس! فنحن ندع كثيرا مما امرنا به ونذكر الشيء الذي لا نجد بدّا منه ، ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا «تقيّة» فإن كنت ذاكرا فضله فاذكر ذلك بينك وبين أصحابك في منازلكم سرّا! وأما علانية في المسجد فإن هذا لا يحتمله لنا الخليفة ولا يعذرنا به! فإياك أن يبلغني عنك أنك تظهر شيئا من فضل عليّ علانية! وإياك أن يبلغني عنك أنك تعيب عثمان عند أحد من الناس!

__________________

(١) وليته كان يتذكر قول عليّ عليه‌السلام لهم : ألا لا تقاتلوا الخوارج بعدي ، فليس من ....

٥١٧

فكان يقول له : نعم أفعل ما تقول. ثمّ يبلغه أنّه قد عاد إلى ما نهاه عنه!

وخرج المستورد بجمعه من السّراة إلى بهرسير وأراد أن يعبر جسر دجلة إلى مدينة (طيسفون) القديمة فقطع والي المدائن الجسر عليهم فأقاموا في بهرسير يومين أو ثلاثة حتّى تبيّن لهم مسير معقل إليهم ، فمضوا على شاطئ دجلة حتّى انتهوا إلى جرجرايا فعبروا دجلة ، فمضوا في أرض جوخي حتّى بلغوا المذار من البصرة ، فبلغ خبرهم عبد الله بن عامر وقيل له : إنّ المغيرة نظر إلى رجل رئيس شريف كان من أصحاب عليّ عليه‌السلام وقاتل معه الخوارج ، فبعثه ومعه «شيعة علي» لعداوتهم لهم.

فبعث ابن عامر إلى شريك بن الأعور الحارثي الهمداني وهو على رأي عليّ عليه‌السلام ، وقال له : انتخب ثلاثة آلاف رجل واخرج بهم إلى هذه «المارقة» حتّى تخرجهم من أرض البصرة ، أو تقاتلهم فتقتلهم. فانتخب الناس وألحّ على فرسان ربيعة على رأي «الشيعة».

ودنا معقل من المدائن فاخبر أنهم ارتحلوا ، فنزل على باب مدينة بهرسير ، فخرج إليه عامل المدائن سماك بن عبيد وأمر غلمانه ومواليه فأتوهم بالجزر والشعير والقتّ بما يكفيه ومن معه ، وأقام معقل هناك ثلاثة أيام.

ثمّ قدّم مقدمة في ثلاثمائة فارس مع أبي الروّاغ الشاكري الهمداني ، فركب في الوجه الذي أخذوا فيه ، حتّى عبروا جرجرايا في آثارهم حتّى لحقهم مقيمين بالمذار فتنحّوا عنهم وباتوا متحارسين. فلما ارتفع الضحى شدّ الخوارج عليهم ، فتناوشوا وتواقفوا حتّى صلّوا الظهر والعصر. ودعا معقل محرز بن شهاب التميمي وأمره أن يتخلّف في ضعفة الناس ، ليتعجّل هو بأهل القوة منهم سبعمائة رجل ولكنّه لم يصلهم إلّا بعد الأصيل وحين غربت الشمس ، فنزلوا للصلاة ،

٥١٨

وشدّ الخوارج عليهم بعد الصلاة ، فشدّ عليهم معقل بمن معه حتّى اضطروهم إلى بيوت قرية المذار.

وجاءهم محرز بن شهاب التميمي بمن معه ، فصف معقل أصحابه فجعل أبا الرّواغ على الميمنة ومحرز بن بجير على الميسرة ومسكين بن عامر على الخيل ، وقال لهم : على مصافّكم حتّى نصبح.

ومرّ بعض أهل الطريق في طريقه من البصرة بجيش شريك الأعور إلى الخوارج فأخبرهم بإقباله إليهم ، فقال المستورد لأصحابه : نرجع إلى الوجه الذي جئنا منه ، فإن أهل البصرة لا يتّبعونا إلى أراضي الكوفة ، وقتال أهل مصر واحد أهون علينا من قتالهم جميعا ، فادخلوا في القرية ثمّ اخرجوا من ورائها ثمّ نعود إلى الطريق. ففعلوا ذلك وأقبلوا حتّى نزلوا جرجرايا.

فدعا معقل أبا الرّواغ وقال له : اتبعه بأصحابك حتّى تحبسه وحتّى ألحقك ، وكان معه ثلاثمائة فطلب الضّعف فضاعفه إلى ستّمائة ، فاتّبعوهم إلى جرجرايا ، فتقاتلوا ساعة ثمّ مضى الخوارج حتّى عبروا دجلة إلى أرض بهرسير ، واتّبعهم أبو الرّواغ بجمعه ، فانصرف الخوارج حتّى نزلوا ساباط المدائن ، وتبعهم أبو الرّواغ إليه. وعلم الخوارج بوصول معقل إلى قرية ديلمايا (ديالى؟) في استان (محافظة) بهرسير إلى جانب دجلة على ثلاثة فراسخ (١٥ كم) من محلّ الخوارج ، فخرجوا إلى معقل في ديلمايا حتّى أطلّوا عليه في مائتين من بقايا أصحابه وهم غارّون لا يشعرون ، فحمل الخوارج عليهم حتّى لحقهم أبو الرّواغ بجمعه ، فحملوا عليهم فتقاتلوا حتّى أفنوهم.

وقدم أبو الرّواغ ومسكين بن عامر على المغيرة مبشّرين ، فأخبروا أن المستورد بعد قتال شديد طويل نادى : يا معقل ابرز إليّ ، فمشى إليه بالسيف

٥١٩

وخرج المستورد برمحه فطعن معقل حتّى خرج السنان من ظهره ، وضربه معقل بسيفه في دماغه فقتلا ، فأخذ الراية عمرو بن محرز وهو فتى حدث فأمرهم أن يشدّوا وشدّ هو فما لبثوا أن قتلوهم (١).

وهكذا تخلّص معاوية بشيعة الكوفة من خوارجها عليه في شهر شعبان (٤٣ ه‍).

فاستلحق زيادا ليولّيه البصرة :

نقل المعتزلي عن المدائني البصري : أن معاوية كان قد استقدم أبا مريم السلولي واستلّ منه أن زيادا من زنا أبي سفيان بسميّة ، واستقدم زيادا واستلّ منه أنّه لا يكره ذلك بل يرغب فيه! فجمع الناس وفيهم السلولي وصعد المنبر وأجلس زيادا دونه بمرقاة ، ثمّ حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم :

أيّها الناس ، إني قد عرفت نسبنا أهل البيت في زياد ، فمن كانت عنده شهادة فليقم بها! فعلم أنه قد أعدّ لذلك أناسا منهم أبو مريم السلولي فقام وقال :

يا أمير المؤمنين! أشهد أنّ أباك أبا سفيان قدم علينا بالطائف فاشتريت له طعاما لحما وخمرا ، ثمّ قال لي : يا أبا مريم أصب لي بغيّا! فخرجت إلى سميّة وهي تحت عبيد وكان راعيا غائبا فقلت لها : إن أبا سفيان قد أمرني أن أصيب له بغيّا فهل لك في ذلك؟ فقالت : الآن يجيء عبيد بغنمه! فإذا تعشّى ونام جئتك! فرجعت إلى أبيك أبي سفيان وأخبرته ، فلم نلبث حتّى جاءت تجرّ ذيلها فأدخلتها إليه فكانت عنده حتّى الصباح ثمّ انصرفت عنّا. وقام ناس فشهدوا أنّهم سمعوا أبا سفيان قبل موته أقرّ بزياد.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٨١ ـ ٢٠٩ مختصرا. وفي الاشتقاق لابن دريد : ١٨٦ : أن قطاما قاتلة عليّ عليه‌السلام كانت اخت المستورد الخارجي وأخوه هلال كان قاتل رستم في القادسية.

٥٢٠