موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

أمن من نقضه له ، حمل الكتاب ـ وكأنّه هو صاحب الأمر والقرار فيه ـ وأخذ يمرّ به على صفوف الشام وراياتهم ، وذلك ليطمئنهم به ، عرضه عليهم وقرأه حتّى رضوا به.

ثم عاد يمرّ به على صفوف أهل العراق وراياتهم يعرضه عليهم ، حتى مرّ برايات عنزة وهم أربعة آلاف ، فقرأه عليهم ، فخرج منهم أخوان هما جعد ومعدان وقالا : لا حكم إلّا لله ، ثمّ حملا على أهل الشام بسيفيهما حتّى بلغا رواق معاوية فقتلا على باب رواقه!

ثمّ مرّ به على مراد فقال أحد رؤسائهم صالح بن شقيق : لا حكم إلّا لله ولو كره المشركون!

ثمّ مرّ على رايات بني راسب فقرأها عليهم ، فقال قائلون منهم : لا حكم إلّا لله ولا نحكم الرجال في دين الله!

ثمّ مرّ على رايات بني تميم فقرأها عليهم فقال قائل منهم : لا حكم إلّا لله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين.

وخرج منهم عروة بن ادية فقال للأشعث : فأين قتلانا؟ ثمّ شدّ بسيفه ليضربه فانصرف الأشعث فأصابت ضربته عجز دابّته ضربة غير شديدة فاندفعت به الدابة ، وصاح به قومه فأمسك.

ورجع الأشعث إلى قومه كندة وأهل اليمن فاجتمعوا عليه ، وخاف الفتنة رجال من بني تميم : الأحنف بن قيس ومعقل بن قيس ومسعر بن فدكي فاجتمعوا ومشوا إلى الأشعث واعتذروا إليه وتنصّلوا ، فقبل منهم.

ولكنّه انطلق إلى علي عليه‌السلام فقال له : يا أمير المؤمنين ، قد عرضت الحكومة على أهل الشام والعراق فرضوا بها ، حتّى مررت برايات بني راسب ونبذ من الناس سواهم فقالوا : لا حكم إلّا لله لا نرضى! فلنحمل بأهل العراق ـ وأهل الشام ـ عليهم فنقاتلهم فنقتلهم!

٢٠١

فقال الإمام عليه‌السلام : هل هي غير راية أو رايتين ونبذ من الناس؟ قال : بلى. قال : دعهم.

ثمّ قال لهم : ويحكم! أبعد الرضا والعهد نرجع؟! أو ليس قال الله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) وقال : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ)(٢) فأبى عليه‌السلام أن يرجع ، وأبى أولئك الخوارج إلّا تضليل التحكيم والطعن فيه والبراءة منه (٣).

مصير أسرى صفين :

من أسرى العراقيين في الشاميين رجل يقال له : عمرو بن أوس الأودي ، قاتل مع علي يوم صفّين وأسرته قوات معاوية ، مع أسرى آخرين كثيرين. وكان من مشورة ابن العاص لمعاوية أن يقتلهم ، وأبى معاوية. ولما سمع هذا الأودي بذلك قال لمعاوية : إنك خالي فلا تقتلني! ولمّا كان من أود قال له : من أين أنا خالك؟ فما بيننا وبين أود مصاهرة! فقال : فإذا أخبرتك فعرفت فهو أماني عندك؟ قال : نعم. قال : ألست تعلم أن أمّ حبيبة اختك زوجة النبيّ هي أمّ المؤمنين؟ قال : بلى ، قال : فأنا ابنها وأنت أخوها فأنت خالي! فقال معاوية : ما كان في هؤلاء الأسرى أحد يفطن لها غيره! وخلّى سبيله.

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) النحل : ٩١.

(٣) وقعة صفين : ٥١٢ ـ ٥١٤ وكأنّ الأشعث يتشبث بكلّ شيء لإثارة نار الفتنة. ومختصر الخبر في أنساب الأشراف ٢ : ٣٣٦ وقال في عروة : هو عروة بن جدير ، وأديّة أمّه نسب إليها.

٢٠٢

ثمّ ما شعروا بشيء دون أن خلّى علي عليه‌السلام سبيل أسرى الشاميين في العراقيين ، فأتوا معاوية ... فأمر بتخلية من في يديه من أسرى العراقيين ، وقال لعمرو : يا عمرو ، لو أطعناك في هؤلاء الأسرى لوقعنا في قبيح من الأمر! ألا تراه كيف خلّى سبيل أسرانا (١)!

ولما دفن الناس قتلاهم أمر الإمام الحارث الأعور فنادى فيهم بالرحيل (٢)

الإمام عليه‌السلام إلى الكوفة :

ورحل الإمام عليه‌السلام إلى الكوفة من غير الطريق الذي أقبل منه ، على برّ شاطئ الفرات ، حتّى انتهى إلى هيت ثمّ صندوداء فبات بها (٣).

فروى الطبري عن أبي مخنف : أن الإمام عليه‌السلام حين انصرف عائدا من صفّين ردّ الأشتر على عمله بالجزيرة (الموصل) (٤) فيبدو أن ذلك كان هنا ، ولذا لا يأتي ذكره في أخبار رجوعه عليه‌السلام.

ثم أغذّ في السير حتّى تجاوز النخيلة فمرّ بشيخ مريض فسلّم عليه ثمّ قال له : أرى وجهك متغيرا أمن مرض؟ قال : نعم. قال : أليس تحتسب الخير فيما أصابك؟ قال : بلى ، قال : فأبشر برحمة ربك وغفران ذنبك. فإذا هو صالح بن سليم الطائي يجاور بني سليم. ثمّ سأله الإمام قال : أخبرني ما يقول الناس فيما كان بيننا وبين أهل الشام؟ قال : منهم المسرور مما كان بينك وبينهم واولئك أغشّاء الناس ، ومنهم المكبوت الآسف لما كان من ذلك واولئك نصحاء الناس لك. فقال له : صدقت ،

__________________

(١) وقعة صفين : ٥١٨.

(٢) الطبري ٥ : ٥٩.

(٣) وقعة صفين : ٥٢٨.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ٩٥.

٢٠٣

جعل الله ما كان من شكواك حطّا لسيئاتك ، فإنّ المرض لا أجر فيه ولكن لا يدع للعبد ذنبا إلّا حطّه! وإنما الأجر في القول باللسان والعمل باليد والرجل ، ويدخل الله بصدق النية والسريرة الصالحة عالما جمّا من عباده الجنة!

ثمّ مضى غير بعيد فلقيه عبد الله بن وديعة الأنصاري فدنا منه وسأله قال : ما سمعت الناس يقولون في أمرنا هذا؟ قال : منهم المعجب به ومنهم الكاره له ، فهم كما قال الله تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ)(١) فقال : فما قول ذوي الرأي؟ قال : يقولون : إنّ عليّا كان له جمع عظيم ففرّقه وحصن حصين فهدمه! فحتّى متى يبني مثل ما هدم؟ وحتّى متى يجمع مثل ما فرّق؟

فقال علي عليه‌السلام : أنا هدمت أم هم هدموا؟ أم أنا فرّقت أم هم فرّقوا (٢)؟

ثمّ مضى أمير المؤمنين حتّى تجاوز دور بني عوف فإذا بقبور سبعة أو ثمانية ، فسأل عنها ، فتقدّم إليه من الكوفة قدامة بن عجلان الأزدي وقال له : يا أمير المؤمنين ، إنّ خبّاب بن الأرت توفى بعد مخرجك (٣) وقد أوصى أن يدفن في ظهر الكوفة المرتفع (جانب النجف) فدفن الناس إلى جانبه بعد أن كانوا يدفنون بفناء دورهم.

__________________

(١) هود : ١١٨.

(٢) وهنا تتمة غير تمام ، إذ فيها : أنه لم يكن له أيّ مانع من أن يصرّ على الحرب حتّى يظفر أو يهلك! وإنّما منعه أنّ الحسنين يقتلان فينقطع نسل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله! وهذا لا يتم ؛ لأنّهما كانا قد أولدا قبلا ، وقد مرّ أن اخترنا مولد الإمام السجاد عليه‌السلام في المدينة فيكون قبل خروجهم منها إلى الجمل بالبصرة.

(٣) كذا هنا ، وقد عدّه المنقري في شهود كتاب التحكيم : ٥٠٦ ، فيعلم أنه كان معه في صفين ولكنه لعلّه سبق الإمام في الوصول إلى الكوفة فمات بعد وصوله بقليل قبيل وصول الإمام عليه‌السلام.

٢٠٤

فقال علي عليه‌السلام : رحم الله خبّابا ، قد أسلم راغبا ، وهاجر طائعا ، وعاش مجاهدا ، وابتلي في جسده أحوالا ، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا ، ثمّ وقف عليهم وزار زيارة أهل القبور المروية عنه عليه‌السلام وقال في آخرها : طوبى لمن ذكر المعاد وعمل للحساب وقنع بالكفاف ورضي عن الله بذلك.

ثمّ أقبل حتّى دخل سكّة الثوريين من همدان ، فسمع بكاءهم على قتلاهم بصفين فقال : أما إني أشهد لمن قتل منهم صابرا محتسبا بالشهادة.

ثمّ مرّ بالفائشيّين من همدان فسمع مثل ذلك فقال مثل ذلك.

ثمّ مرّ بالشباميين من همدان فسمع صوتا مرتفعا عاليا ورنة شديدة ، وخرج إليه منهم حرب بن شرحبيل فقال له الإمام عليه‌السلام : أيغلبكم نساؤكم؟! ألا تنهونهنّ عن هذا الصياح والرّنين؟!

فقال : يا أمير المؤمنين ، لو كانت دارا أو دارين أو ثلاثا قدرنا على ذلك ، ولكن قد قتل من هذا الحيّ مائة وثمانون قتيلا! فليس من دار إلّا وفيها بكاء (النساء) أمّا نحن الرجال فلا نبكي ولكن نفرح لهم بالشهادة فقال عليه‌السلام : رحم الله قتلاكم وموتاكم. ثمّ مشى ، وأقبل الشبامي يمشي معه فوقف وقال له : ارجع ، فإنّ مشي مثلك مذلّة للمؤمن وفتنة للوالي. ارجع ، فرجع.

ثمّ مضى حتّى مرّ بالناعطيّين من همدان ـ وكان جلّهم عثمانية ـ فسمع رجلا منهم يقول لآخر : والله ما صنع علي شيئا ذهب ثمّ انصرف في غير شيء! وفوجئوا بعلي عليه‌السلام فأسقط في أيديهم. فقال الإمام : «وجوه قوم ما رأوا الشام العام! فالذين فارقناهم (قبلهم) خير من هؤلاء» ولم يكن فيهم شهداء ولا بكاء نساء ، وأنشد :

أخوك الذي إن أحرجتك ملمّة

من الدهر ، لم يبرح لشكواك فاهما

وليس أخوك بالذي إن تمنّعت

عليك أمور ظلّ يلحاك لائما

٢٠٥

ثمّ أخذ يكرّر ذكر الله حتّى دخل الكوفة (١) في العشرين من شهر ربيع الأول (٢).

خطبته عليه‌السلام لدى الوصول :

فلما دخلها قدم (ودخل الجامع وصلّى وصعد المنبر) وقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم :

«أيها الناس إن أوّل وقوع الفتن (كهذه الحرب) أهواء تتبّع وأحكام تبتدع (كما في عهد عثمان) يعظّم فيها رجال (مثل معاوية) رجالا (مثل عثمان) يخالف فيها حكم الله! ولو أن الحقّ أخلص فعمل به لم يخف على ذي حجى ، ولكن يؤخذ ضغث من هذا وضغث من ذا فيخلط فيعمل به ، فعند ذلك يستولى الشيطان على أوليائه! وينجو الذين سبقت لهم منّا الحسنى» (٣).

وتوقف المتوقّفون في حروراء :

روى أبو مخنف قال : ما برح العراقيون من معسكرهم بصفين راجعين حتى

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٢٨ ـ ٥٣٢ بتصرف واختصار ، وفي الطبري ٥ : ٦٣ دخل القصر ، تحريفا والخبر عن أبي مخنف.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٣٤٦ مسندا عن المدائني عن ابن السائب الكلبي.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٩١. وبلا تاريخ في المحاسن للبرقي ١ : ٣٣٠ ، الحديث ٧٤ و ٣٤٣ ، الحديث ١١٣ عن الباقر عليه‌السلام. وفي أصول الكافي ١ : ٥٤ ، الحديث الأول ، وأطول بكثير في روضة الكافي : ٥٠ ـ ٥٢ ، الحديث ٢١ مسندا عن سليم الهلالي في كتاب سليم ٢ : ٧٢٠ ، الحديث ١٨ وتخريجه عن الكافي والخصال والتهذيب في ٣ : ٩٨١ ـ ٩٨٣.

٢٠٦

فشت فيهم كلمة التحكيم : «لا حكم إلّا لله» فأقبلوا وهم يتدافعون في الطريق كله ويتضاربون بالسياط ويتشاتمون يقولون للثابتين : يا أعداء الله! أدهنتم في أمر الله وحكّمتم الرّجال في كتاب الله! ويقول هؤلاء لهم : فارقتم إمامنا وفرّقتم جماعتنا. فما وصلوا قرية حروراء ـ بنصف فرسخ قبل الكوفة ـ حتّى توافق اثنا عشر ألف فرد منهم أن يتخلّفوا عن علي عليه‌السلام وتوقّفوا هناك ، وقدّموا عبد الله بن الكوّاء البكري اليشكري الهمداني للصلاة بهم ، وتوافقوا على شبث بن ربعي التميمي لقيادة القتال ، ونادى مناديهم بأن البيعة لله وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأنهم بعد الفتح (!) سيجعلون الأمر شورى (١).

وأقبل علي عليه‌السلام إليهم على بغلة رسول الله الشهباء حتّى وقف بينهم بحيث يسمعونه ويسمعهم ، فخطبهم فقال : «الحمد لله الذي دنا في علوّه فحال دون القلوب ، و (علا في دنوّه) فلا تدركه الأبصار ، الأول والآخر والظاهر والباطن ، الذي اطّلع على الغيوب وعفا عن الذنوب ، يطاع بإذنه فيشكر ، ويعصى بعلمه فيغفر ويستر ، لا يعجزه شيء طلبه ولا يمتنع منه أحد أراده ، قدر فحلم وعاقب فلم يظلم ، وابتلى من يحب ومن يبغض. ثمّ قال فيما أنزل على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ)(٢)».

ثمّ أنتم أيها القوم قد علمتم أني كنت للتحكيم كارها حتّى غلبتموني والله شهيد بيني وبينكم (٣).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣٤٢ ، وتاريخ الطبري ٥ : ٦٣ عن أبي مخنف.

(٢) آل عمران : ١٤١.

(٣) شرح الأخبار ٢ : ٣٧ ـ ٣٨ ، الحديث ٤٠٧.

٢٠٧

ابن عباس مبعوثا إليهم :

مرّ الخبر آنفا أن أوائل الخوارج في حروراء الكوفة قدّموا عبد الله بن الكوّاء اليشكريّ ليصلّي بهم.

ولذا جاء في الخبر عن الصادق عليه‌السلام قال : بعث أمير المؤمنين عليه‌السلام عبد الله بن العباس إلى ابن الكوّاء وأصحابه ، وعليه قميص رقيق وحلّة ، فلما نظروا إليه قالوا له : يا ابن عباس : أنت خيرنا في أنفسنا وأنت تلبس هذا اللباس؟!

فقال لهم : هذا أول ما أخاصمكم فيه : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ)(١) وقال الله عزوجل : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)(٢)(٣).

وفي خبر آخر عنه عليه‌السلام قال : لبس أفضل ثيابه وتطيّب بأطيب طيبه وركب أفضل مراكبه ثمّ خرج إليهم يواقفهم ، فقالوا له : أتيتنا في لباس الجبابرة ومراكبهم! فتلا الآية ثمّ قال : فالبس وتجمّل فإن الله جميل يحبّ الجمال ، وليكن من حلال (٤).

وذلك لأنه رأى عليهم قمصانا رخيصة قصيرة مشمّرة ، وأيديهم كثفنات الإبل وجباها مقرّحة لطول السجود!

فقالوا له : ما جاء بك يا أبا العباس! قال : جئتكم من عند صهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وابن عمّه ، وأعلمنا بربه وبسنّة نبيّه ، ومن عند المهاجرين والأنصار.

قالوا : إنّا أتينا عظيما حين حكّمنا الرجال في دين الله ، فإن تاب كما تبنا ونهض لمجاهدة عدوّنا رجعنا!

__________________

(١) الأعراف : ٣٢.

(٢) الأعراف : ٣١.

(٣) فروع الكافي ٦ : ٤٤١ ك ٢٦ ، الباب ٢ ، الحديث ٦.

(٤) فروع الكافي ٦ : ٤٥١ ك ٢٦ ، الباب ٩ الحديث ٥.

٢٠٨

فقال ابن عباس : نشدتكم الله إلّا ما صدقتم أنفسكم أما علمتم أن الله أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم ، وفي شقاق رجل وامرأته؟ فقالوا : اللهم نعم.

فقال : أنشدكم الله! هل تعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمسك عن القتال للهدنة بينه وبين أهل الحديبية؟ قالوا : نعم ، ولكن عليا محا نفسه من إمارة المسلمين.

فقال ابن عباس : ليس ذلك بمزيلها عنه وقد محا رسول الله اسمه من النبوّة ، و (هذا) قد أخذ على الحكمين أن يحورا ولا يجورا ، فعليّ أولى من معاوية وغيره.

قالوا : فمعاوية يدّعي مثلها. قال : فولّوا أولاهما! قالوا : صدقت (١).

وروى البغدادي الخطيب الخبر عنه قال : دخلت عليهم وهم قائلون (في الضحى) لسهرهم في الليل لتهجدهم ، وقد أثر السجود في جباههم كأنها وأيديهم ثفنات الإبل ، وعليهم قمصان رخيصة ، ولذا قالوا : ما جاء بك يا ابن عباس وما هذه الحلّة عليك؟!

فقلت لهم : وما تعيبون منّي؟ فلقد رأيت على رسول الله أحسن ما يكون من الثياب اليمنية ، ثمّ قرأت الآية. فقالوا : ما جاء بك؟

فقلت : جئتكم من عند ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن عند أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس أحد منهم فيكم ، وقد نزل القرآن عليهم فهم أعلم بتأويله منكم ، جئت لابلغكم عنهم وابلغهم عنكم. فقال بعضهم : لا تخاصموا قريشا فإن الله يقول : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) وقال بعضهم : بل نكلّمه. فقلت : فما نقمتم على عليّ؟ قالوا : ثلاثا. قلت : ما هنّ؟ قالوا :

حكّم الرجال في أمر الله وقال الله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) فقلت : فهذه واحدة فما ذا أيضا؟

__________________

(١) الكامل للمبرّد ٢ : ١٣٤ ، وعنه في مواقف الشيعة ١ : ١٧٢ ـ ١٧٣.

٢٠٩

قالوا : فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم! فلئن كانوا مؤمنين ما حلّ قتالهم ، ولئن كانوا كافرين فقد حلّ قتالهم وسبيهم. فقلت : وما ذا أيضا؟

قالوا : ومحا نفسه من أمير المؤمنين ، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.

فقلت لهم : فإن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله ما ينقض قولكم هذا أفترجعون؟ قالوا : نعم.

فقلت : أما حكم الرجال في أمر الله فإن الله قال في كتابه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ)(١) وقال في المرأة وزوجها : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها)(٢) فصيّر الله ذلك إلى حكم الرجال. فنشدتكم الله! أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وإصلاح ذات بينهم أفضل أو في حكم أرنب بثمن ربع درهم! وفي بضع امرأة؟ قالوا : بلى هذا أفضل ، فقلت : أخرجت من هذه؟ قالوا : نعم.

فقلت : وأما قولكم قاتل فلم يسب ولم يغنم؟ أفتسبون أمكم عائشة (٣)؟

وأما قولكم : محا نفسه من إمرة المؤمنين ، فأنا آتيكم بما ترضون ، فقصّ عليهم خبر صلح الحديبية (٤).

وافتتح «كتاب الفتوح» احتجاجه بقوله لهم : إني لا أستطيع أن أكلّم كلّكم ولكن انظروا أيّكم أعلم بما يأتي ويذر فليخرج إليّ لاكلّمه ، فأخرجوا له

__________________

(١) المائدة : ٩٥.

(٢) النساء : ٣٥.

(٣) كذا هنا ، وقد مرّ بذلك عن الإمام عليه‌السلام في حرب الجمل.

(٤) جامع بيان العلم وفضله : ١٢٦ ، وعنه في مواقف الشيعة ١ : ١٧٦ ـ ١٧٨.

٢١٠

عتّاب بن الأعور التغلبي أو الثعلبي فوقف قبالته وجعل يتكلم ويقول ويحتجّ بما يريد وكأن القرآن ممثّل بين عينيه ، وسكت ابن عباس حتّى فرغ من كلامه ، فأقبل عليه وقال له : إني اريد أن أضرب لك مثلا فافهم : خبّرني عن دار الإسلام هذه هل تعلم من بناها؟

قال عتّاب : بناها الله على أيدي أنبيائه وأهل طاعته ، ثمّ أمر من بعثه إليها من الأنبياء أن يأمروا الأمم : أن لا تعبدوا إلّا إياه ، فآمن قوم وكفر قوم. وآخر من بعثه إليها من الأنبياء محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال ابن عباس : فخبّرني عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حين بعث فبنى دار الإسلام كما بناها غيره من الأنبياء ، هل أحكم عمارتها وبيّن حدودها ، وأوقف الأمة على سبلها وعملها وشرايع أحكامها ومعالم دينها؟ قال عتّاب : نعم ، قد فعل محمد ذلك.

قال ابن عباس : فهل بقي محمد فيها أو رحل عنها؟ قال : بل رحل عنها.

قال ابن عباس : رحل عنها وهي كاملة العمارة بيّنة الحدود؟ أم رحل عنها وهي خربة؟

قال عتّاب : بل رحل عنها وهي كاملة العمارة قائمة المنار بيّنة الحدود.

قال ابن عباس : فهل أبقى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أحدا يقوم من بعده بعمارة هذه الدار؟ أم لا؟

قال عتّاب : بلى قد كان له وصيّ وذريّة وصحابة يقومون بعده بعمارة هذه الدار.

قال ابن عباس : فهل فعلوا ذلك أم لم يفعلوا؟ قال عتاب : بلى قد فعلوا وعمّروا هذه الدار.

قال ابن عباس : فهل هي اليوم على ما تركها محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من كمال عمارتها وقوام حدودها؟ أم هي اليوم عاطلة الحدود؟ فقال عتّاب : بل هي اليوم خراب عاطلة الحدود!

٢١١

قال ابن عباس : فمن ولي هذا الخراب أمّته أم ذريّته؟ قال : بل أمته.

قال ابن عباس : أفأنت من الأمة أو من الذريّة؟ قال : بل من الأمة!

قال ابن عباس : يا عتّاب! فكيف ترجو النجاة من النار وأنت من امة أخربت دار الله ورسوله وعطّلت حدودها؟

فاسترجع عتّاب وقال : ويحك يا ابن عباس ، احتلت حتّى أوقعتني في أمر عظيم وجعلتني ممن أخرّب دار الله! ويحك يا ابن عباس فكيف الحيلة للتخلّص مما أنا فيه؟

قال ابن عباس : الحيلة في ذلك أن تسعى في عمارة ما أخربته الأمة من دار الإسلام ... وإن أول ما يجب عليك في ذلك : أن تعرف من سعى في خراب هذه الدار فتعاديه ، وتعرف من يريد عمارتها فتواليه.

فقال عتّاب : صدقت يا ابن عباس ، وما أعرف ـ والله ـ أحدا في هذا الوقت يحبّ عمارة دار الإسلام غير ابن عمّك علي بن أبي طالب ، ولكنّه حكّم عبد الله بن قيس (الأشعري) في حقّ هوله!

قال ابن عباس : ويحك يا عتّاب ، إنا وجدنا الحكومة في كتاب الله عزوجل ، إذ قال تعالى : (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما)(١) وقال : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ)(٢).

فتنادوا وصاحوا وقالوا : أفعمرو بن العاص عندك من العدول؟ وأنت تعلم أنه كان في الجاهلية رأسا وفي الإسلام ذنبا ، وهو الأبتر بن الأبتر ، وممن قاتل محمّدا وفتن أمته من بعده!

__________________

(١) النساء : ٣٥.

(٢) المائدة : ٩٥.

٢١٢

فناداهم ابن عباس : إنه ليس حكما لنا وإنما هو حكم لمعاوية أفتحتجون به علينا؟! وقد أراد أمير المؤمنين أن يبعثني فأكون له حكما فأبيتم عليه وقلتم : قد رضينا بأبي موسى الأشعري .. فاتّقوا ربكم وارجعوا إلى ما كنتم عليه من طاعة أمير المؤمنين ، فإنّه إن كان قاعدا عن طلب حقّه فإنما ينتظر انقضاء المدّة ثمّ يعود لمحاربة القوم ، وليس علي ممن يقعد عن حقّ جعله الله له (١)!

فصاحوا وقالوا : هيهات يا ابن عباس ، نحن لا نتولّى عليا بعد اليوم أبدا! فارجع إليه وقل له : فليخرج إلينا بنفسه حتّى نحتجّ عليه ونسمع كلامه (٢).

فخرج إليهم الإمام عليه‌السلام :

عاد ابن عباس بكلام القوم إلى الإمام عليه‌السلام ، فخرج إليهم على البغلة الشهباء

__________________

(١) هنا تخلّل الخبر ما ينافي صدره وذيله قال : وقد كان أبو موسى لعمري رضا في نفسه وصحبته وإسلامه وسابقته! غير أنه خدع فقال ما قال ، وليس يلزمنا من خديعة عمرو لأبي موسى.

(٢) كتاب الفتوح لابن الأعثم ٤ : ٨٩ ـ ٩٥ ولعلّ اعتماد هذا الخبر عن ابن عباس على الاحتجاج بكلامه لا بكلام الله في العمدة ، حمل بعض من سبق الرضيّ أن ينسب إلى عليّ عليه‌السلام أن قال لابن عباس : لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمّال ذو وجوه ، تقول ويقولون ؛ ولكن حاججهم بالسنّة ، فإنهم لم يجدوا عنها محيصا! وارتضاه الرضيّ في نهج البلاغة ك ٧٨. وهو كما ترى لا يتّسق مع ما سبق من احتجاجاته حتى الخبر الأخير ، فلا نرتضيه ، كما لا نرتضي اتهام المعتزلي الشافعي لابن عباس بأنّه لم يحاجهم حسب وصية الإمام عليه‌السلام! وهو كثيرا ما يذكر مصدر خبر الخطب أو الكتب ولم يذكر لهذا الخبر أيّ مصدر سابق. شرح النهج ١٨ : ٧١ ـ ٧٣. والمحقق الأحمدي ذكر كثيرا من أخبار احتجاج ابن عباس ولم يذكر هذه الوصية إليه في كتابه : مواقف الشيعة ج ١ و ٢.

٢١٣

لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى وقف بينهم بحيث يسمعونه ويسمعهم ، فخطبهم فقال : «الحمد لله الذي دنا في علوّه فحال دون القلوب ، و (علا في دنوّه) فلا تدركه الأبصار ، الأوّل والآخر والظاهر والباطن ، الذي اطّلع على الغيوب ، وعفا عن الذنوب ، يطاع بإذنه فيشكر ، ويعصى بعلمه فيغفر ويستر ، لا يعجزه شيء طلبه ، ولا يمتنع منه أحد أراده ، قدر فحلم وعاقب فلم يظلم ، وابتلى من يحبّ ومن يبغض ، ثمّ قال فيما أنزل على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ)(١).

ثمّ أنتم ـ أيّها القوم ـ قد علمتم أني كنت للتحكيم كارها حتّى غلبتموني ، والله شهيد بيني وبينكم (٢).

اللهمّ هذا مقام من فلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة ، ومن نطف فيه (تلوّث بلوثة) أو غلّ (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(٣) نشدتكم الله : أتعلمون أنّهم حين رفعوا المصاحف فقلتم : نجيبهم إلى كتاب الله ، قلت لكم : «إنّي أعلم بالقوم منكم ، إنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن! إني صحبتهم وعرفتهم أطفالا ورجالا فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال ، امضوا على حقكم وصدقكم ، إنّما رفع القوم لكم هذه المصاحف خديعة ومكيدة وو هنا» فرددتم عليّ رأيي وقلتم : لا ، بل نقبل منهم. فقلت لكم : اذكروا قولي لكم ومعصيتكم إيّاي.

فلما أبيتم إلّا الكتاب ، اشترطت على الحكمين : أن يحييا ما أحياه القرآن وأن يميتا ما أماته القرآن. فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكم من حكم بما في الكتاب ، وإن أبيا فنحن من حكمهما برءاء».

فسأله بعضهم : أتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء؟

__________________

(١) آل عمران : ١٤١.

(٢) شرح الأخبار ٢٣ : ٣٧ ـ ٣٨ ، الحديث ٤٠٧.

(٣) الإسراء : ٧٢.

٢١٤

فقال عليه‌السلام : إنّا لم نحكّم الرجال ، إنما حكّمنا القرآن (ولكنّه) إنّما هو خطّ مسطور بين دفّتين لا ينطق وإنما يتكلّم به الرجال.

فسألوه : فخبّرنا عن الأجل (إلى شهر رمضان) لم جعلته فيما بينك وبينهم؟

فقال عليه‌السلام : ليتعلم الجاهل ويتثبّت العالم (من حكم الكتاب) ولعلّ الله أن يصلح هذه الأمة في هذه الهدنة. فسكتوا فقال لهم : ادخلوا مصركم رحمكم الله.

فقبلوا ودخلوا الكوفة كلّهم (١) هذا ما نقله الطبري عن أبي مخنف بسنده ، ونقله القاضي النعمان المصري بطريق آخر وبعدد مضاعف إلى أربعة وعشرين ألفا (٢)! ووافق المفيد نقل الطبري مرسلا (٣) ورواه البلاذري بطريق آخر مختصرا قال : ناشدهم علي عليه‌السلام وقال لهم : «اصبروا على هذه القضية (التحكيم) فإن رأيتموني قابل الدنيّة فعند ذلك فارقوني» فرجع من رجع منهم إلى الكوفة. وقالت فرقة منهم : لا نعجل حتى ننظر إلى ما يصير شأنه! بلا ذكر عددهم ولا معسكرهم (٤) وفي خبر المصري : وقال ألف منهم : هذا مكاننا حتّى يرجع إمامنا إلى قتال أهل الشام! وخرجوا إلى النخيلة (٥) وقال المسعودي : فخرج إليهم علي عليه‌السلام وكانت له معهم مناظرات حتّى دخلوا الكوفة جميعا (٦) فقد اعتمد خبر أبي مخنف بلا استثناء. وهؤلاء هم الحروريّة من الخوارج.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٦٥.

(٢) شرح الأخبار ٢ : ٣٧ ـ ٣٨ ، الحديث ٤٠٧.

(٣) الإرشاد للمفيد ١ : ٢٧٠ ـ ٢٧١.

(٤) أنساب الأشراف ٢ : ٣٤٢ ، الحديث ٤١٤.

(٥) شرح الأخبار ٢ : ٣٨ آخر الخبر : ٤٠٧.

(٦) مروج الذهب ٢ : ٣٩٥.

٢١٥

وكتب إلى الأمصار :

ثمّ كتب الإمام عليه‌السلام كتابا إلى الأمصار يقصّ فيه عليهم ما جرى بينه وبين أهل الشام فقال فيه : وكان بدء أمرنا : أنّا التقينا القوم من أهل الشام ، والظاهر أن ربّنا واحد ونبيّنا واحد ودعوتنا في الإسلام واحدة ، لا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله ولا يستزيدوننا ، إلّا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء. فقلنا : تعالوا نداوي ما لا يدرك (بعد) اليوم بإطفاء النائرة وتسكين العامّة حتّى يشتدّ الأمر ويستجمع ، فنقوى على وضع الحقّ في مواضعه ، فقالوا : بل نداويه بالمكابرة! فأبوا حتّى جنحت الحرب وركدت ، ووقدت نيرانها وخمدت ، فلمّا ضرّستنا وإيّاهم ووضعت مخالبها فينا وفيهم ، فعند ذلك أجابوا إلى الذي دعوناهم إليه فأجبناهم إلى ما دعوا وسارعناهم إلى ما طلبوا ، حتّى تنقطع منهم المعذرة وتستبين عليهم الحجّة.

فمن تمّ منهم على ذلك فهو الذي أنقذه الله من الهلكة ، ومن لجّ وتمادى فهو الراكس الذي ران الله على قلبه ، ودارت دائرة السوء على رأسه ... (١).

وضبط فارس بزياد :

كان ابن عباس عامل الإمام عليه‌السلام على البصرة وتوابعها من كور الأهواز وفارس شيراز وحتى كرمان (٢) فلما استقدمه الإمام إلى الشام استخلف على خراج البصرة كاتبه زياد بن عبيد الثقفي (٣). وعاد الإمام من الشام فعاد ابن عباس إلى البصرة.

__________________

(١) نهج البلاغة ك ٥٨ وانفرد به.

(٢) نهج البلاغة ك ٢٠.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٢٩٣.

٢١٦

وكأنّه بلغ الإمام أن أهل فارس اغتنموا فرصة الحرب وغياب ابن عباس فاختلّوا ، فلما عاد إلى الكوفة أرسل إليهم سهل بن حنيف الأنصاري وولّاه على فارس ، فأخرجوه! وكأنّه عليه‌السلام بلغه عن زياد زيادة في ضبط الأمور فوجّه به إليهم فاستصلحهم فصالحوه وأدّوا إليه خراجهم وأرضوه (١).

ثمّ وجّه الإمام عليه‌السلام إلى زياد رسولا ليحمل إليه ما اجتمع عنده من المال ، وكان فيه كسر من الخراج الموضوع عليهم فقال للرسول : إن الأكراد (العجم) قد كسروا من الخراج ، وأنا أداريهم (حتّى استخرج ذلك منهم) فلا تعلم بذلك أمير المؤمنين فيرى أنه اعتلال منّي!

فلما قدم الرسول أخبر الإمام بالكلام ، وعلم الإمام أن زيادا إنما أخبره بذلك ليبلّغه الإمام ، فكتب إليه : «أما بعد ، فقد بلّغني رسولي عنك ما أخبرته به عن الأكراد (العجم) واستكتامك إياه ذلك ، وقد علمت أنك لم تلق ذلك إليه إلّا لتبلّغني إيّاه! وإنّي اقسم بالله عزوجل قسما صادقا : لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا ، لأشدنّ عليك شدّة يدعك قليل الوفر ثقيل الظهر. والسلام» هذا ما رواه الرضيّ والبلاذري (٢).

ونقل اليعقوبي : «أما بعد ، فإن رسولي أخبرني بعجب : زعم أنّك قلت له فيما بينك وبينه : إنّ الأكراد (العجم) هاجت بك فكسرت عليك كثيرا من الخراج!

__________________

(١) تاريخ خليفة : ١١٥ وعن الاستيعاب في قاموس الرجال ٥ : ٣٥٦ برقم ٣٤٨١ وفيه : أنّ سهلا مات بعدها بأقل من سنة : (٣٨ ه‍) وكان من أحبّ أصحابه إليه فقال فيه : لو أحبّني جبل لتهافت ، كما في نهج البلاغة خ ١١١. وصلّى عليه وشيّعه فكلّما أدركه ناس وقالوا : لم ندرك الصلاة عليه وضعه وأعاد الصلاة عليه حتّى صلّى عليه خمس مرات ، كما فعل رسول الله بعمّه حمزة رضى الله عنه. وتأمّلوا في الفرق بين ابن حنيف وبين عبد ثقيف!

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ١٦٣ ، وقارن بنهج البلاغة ك ٢٠.

٢١٧

وقلت له : لا تعلم بذلك أمير المؤمنين! يا زياد! واقسم بالله إنك لكاذب! ولئن لم تبعث بخراجك لأشدنّ عليك شدّة تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر ، إلّا أن تكون لما كسرت من الخراج محتملا» (١) وهذا أقرب وأنسب.

وقال ابن الأثير : استعمل علي عليه‌السلام زيادا على فارس فحمى قلاعها وضبطها ، واتصل الخبر بمعاوية فساءه ذلك ، فكتب إلى زياد يعرّض له بأنه ابن أبيه أبي سفيان ويتهدده (٢) فقال زياد :

«ويلي على معاوية ابن أكّالة الأكباد وكهف المنافقين وبقية الأحزاب! يتهدّدني ويوعدني ، وبيني وبينه ابن عمّ محمّد ومعه سبعون ألفا طوائع (٣) سيوفهم عند أذقانهم ، لا يلتفت رجل منهم وراءه حتّى يموت! أما والله لئن خلّص الأمر إليّ ليجدني أحمر ضرابا بالسيف» والأحمر يعني : أنه مولى (٤).

ابن قرّة بدل ابن هبيرة :

مرّ عن اليعقوبي : أن الإمام عليه‌السلام بعد الجمل وجّه جعدة بن هبيرة المخزومي إلى مرو خراسان. ويبدو أنّه عليه‌السلام لما عزم على المسير إلى الشام واستدعى عددا من عمّاله ليكونوا معه ، استدعى جعدة فشهد معه صفّين. فروى الطبري أنّه عليه‌السلام بعد ما عاد من صفّين بعث بجعدة إلى خراسان ، فانتهى إلى أبر شهر فامتنعوا عليه ، فعاد

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٠٤.

(٢) الكامل في التاريخ ٣ : ٤٤١ ضمن حوادث سنة (٤٤ ه‍).

(٣) جعله جمعا لطائع ، وهذا من عجمته!

(٤) وقعة صفين : ٣٦٦ ـ ٣٦٧ عن الأعمش ، وتمامه : فلما ادّعاه معاوية صار عربيا منافيا أي من عبد مناف!

٢١٨

جعدة إلى البلاد (كما كان مع ابن حنيف في فارس ، مغتنمين فرصة الحرب) فبعث عليهم خليد بن قرّة اليربوعي التميمي ، فصالحه أهل مرو (١) ولما دنا من بلد نيشابور بلغه أن عمّال كسرى مع بعض بناته قد تراجعوا من كابل إلى نيشابور ، فمال أهلها معهم وخلعوا الطاعة ، فقاتلهم خليد فهزمهم وحاصرهم حتّى نزل ابنتا كسرى على الأمان ، فبعث بهما مع السبي إلى الإمام عليه‌السلام (٢).

فعرض الإمام عليهما الإسلام وأن يزوّجهما ، فأسلمتا (٣) فقال لهما : أزوجكنّ؟ قلن : لا ، إلّا أن تزوّجنا ابنيك (الحسنين) فإنا لا نرى كفوا لنا غيرهما! فأبى وقال لهما : اذهبا حيث شئتما! فتقدّم دهقان من أهل السواد يسمّى نرسا بأخذهن عنده فأذن له فأخذهن إليه وجعل يطعمهنّ ويسقيهنّ في الذهب والفضة ، ويكسوهنّ كسوة الملوك ويبسط لهنّ الديباج (٤) ثمّ عادتا إلى خراسان (٥) ولعلهما أخبرتا بموت اختيهما في نفاسهما بولديهما بالمدينة قبل انتقالهم إلى الكوفة.

والأشتر لثغر الشام :

مرّ الخبر عن سماك بن مخرمة الأسدي أنه كان من زعماء بني أسد بالكوفة وفارق عليا عليه‌السلام مع مائة من قومه بني أسد كانت أهواؤهم مع معاوية ففرّوا برأيهم

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٦٤ و ٩٢ عن المدائني عن الشعبي. وقد مرّ بعد الجمل أن الإمام بعث ربعي بن كأس على سجستان ، فهو ربعي بن قرّة أخو خليد هذا ، وكأس أمهما.

(٢) الأخبار الطوال : ١٥٤ ، وانظر قاموس الرجال ٤ : ٢٠٠ برقم ٢٦٦٩.

(٣) الطبري ٥ : ٦٤.

(٤) وقعة صفين : ١٣ عن عمر بن سعد الأسدي البصري.

(٥) تاريخ الطبري ٥ : ٦٤.

٢١٩

وأهوائهم من الكوفة إلى معاوية حتّى أتوا الرقة ، وكان جلّ أهلها عثمانية فنزلوا فيهم ، وأبدى أميرهم سماك بن مخرمة الطاعة لمعاوية ، ثمّ أخذ يكاتب قومه حتّى لحق به منهم سبعمائة رجل! فلما وصل الإمام عليه‌السلام إليهم في طريقه إلى صفين تحصنوا بها وغلّقوا دونه أبوابها (١)!

فلما عاد الإمام عليه‌السلام من صفّين ردّ الأشتر عاملا على نصيبين والموصل وتكريت وهيت والعانات وسنجار وآمد ودارا (٢) أما حران والرقة والرّها وقرقيسا فكانت عثمانية تابعة لمعاوية فبعث عليها بعد صفّين الضحّاك بن قيس الفهري إلى حرّان.

وبلغ الأشتر ذلك فخرج بجنده إلى حرّان يريد الضحّاك ، وبلغ ذلك الضحاك فاستمد من أهل الرقة فأمّر أهل الرقة عليهم سماك بن مخرمة وجاءوا معه إلى حرّان مددا للضحاك ، وخرج الضحّاك بجمعه من حرّان فالتقوا في مرج مرّينا بين البلدين.

وأقبل الأشتر إليهم فاقتتلوا قتالا شديدا وكثرت الجراحات في بني أسد حتّى حجز بينهم الليل ، فعاد الضحّاك ليلا إلى حرّان ، وأصبح الأشتر فتبعهم وحاصرهم ، فاستصرخ الضحاك بمعاوية ، فدعا بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد وأمره بالمسير إليهم ، وبلغ ذلك الأشتر فعبّأ خيله وجنوده وكتّب كتائبهم ، ثمّ مضى حتّى مرّ بالرقة فتحصّنوا منه ، ثمّ مضى حتّى مرّ على قرقيسا فتحصّنوا منه ، وبلغ ذلك عبد الرحمن المخزومي فأقام حيث بلغه ذلك (٣).

__________________

(١) وقعة صفين : ١٤٦ عن حبّة العرني.

(٢) وقعة صفين : ١٢ وخلط الخبر بما بعد الجمل خطأ.

(٣) الغارات ١ : ٣٢٢ ـ ٣٢٥ ، ووقعة صفين : ١٢ ـ ١٣ ، ولكنه خلط الخبر بما بعد الجمل خطأ.

٢٢٠