موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

وجواب معاوية :

وكتب معاوية في جوابه : «أما بعد ، فدع الحسد! فإنك طالما لم تنتفع به! ولا تفسد سابقة قدمك بشره نخوتك ، فإن «الأعمال بخواتيمها» ولا تمحق سابقتك في حقّ من لا حقّ لك في حقّه! فإنّك إن تفعل لا تضرّ بذلك إلّا نفسك ولا تمحق إلّا عملك ولا تبطل إلّا حجتك! ولعمري ما مضى لك من السابقات لشبيه أن يكون ممحوقا لما اجترأت عليه من سفك الدماء! وخلاف أهل الحق!

فاقرأ سورة الفلق وتعوّذ بالله من شرّ نفسك فإنك الحاسد إذا حسد» (١).

واستشار الإمام أصحابه :

لما استدعى معاوية عليا عليه‌السلام إلى القتال ، دعا جمعا ممّن معه من الصحابة من المهاجرين والأنصار : عمّار بن ياسر وهاشم المرقال الزهري ، ومن الأنصار سهل بن حنيف وقيس بن سعد الخزرجي (٢) ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم :

أما بعد ؛ فإنكم ميامين الرأي ، مراجيح الحلم (العقل) مقاويل بالحقّ ، مباركو الفعل والأمر ، وقد أردنا المسير إلى عدوّنا وعدوّكم فأشيروا علينا برأيكم.

__________________

(١) وقعة صفين : ١١٠.

(٢) ومن حضور سهل وقيس يفهم أن المشورة لعلّها كانت بعد منتصف شهر رمضان سنة (٣٦ ه‍).

٦١

فقام عمار بن ياسر فحمد الله وذكره بما هو أهله ثمّ قال : يا أمير المؤمنين ؛ إن استطعت أن لا تقيم يوما واحدا فافعل واشخص بنا قبل استعار نار الفجرة ، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة ، فادعهم إلى رشدهم وحظّهم ، فإن قبلوا سعدوا ، وإن أبوا إلّا حربنا فو الله إنّ سفك دمائهم والجدّ في جهادهم لقربة عند الله وكرامة منه!

وقام هاشم المرقال الزهري فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثمّ قال : أما بعد ـ يا أمير المؤمنين ـ فأنا بالقوم جدّ خبير : هم لك ولأشياعك أعداء ، ولمن يطلب حرث الدنيا أولياء! وهم مقاتلوك ومجاهدوك لا يبقون جهدا ؛ مشاحّة على الدنيا وضنّا بما في أيديهم منها ، وليس لهم إربة غيرها إلّا ما يخدعون به الجهّال من الطلب بدم عثمان بن عفّان ، كذبوا ليس بدمه يثأرون ولكنّ الدنيا يطلبون.

فسر بنا إليهم ، فإن أجابوا إلى الحق (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ)(١) وإن أبوا إلّا الشقاق فذلك الظنّ بهم ، والله ما أراهم يبايعون وفيهم أحد يسمع إذا أمر أو يطاع إذا نهى!

ثمّ قام قيس بن سعد ـ وكان جسيما خفيف اللحية ـ فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

يا أمير المؤمنين ؛ انكمش بنا إلى عدوّنا ولا تعرّج ، فو الله لجهادهم أحبّ إليّ من جهاد الترك والروم! لإدهانهم في دين الله واستذلالهم أولياء الله من أصحاب محمد من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان. إذا غضبوا على رجل حبسوه أو ضربوه أو حرموه أو سيّروه! وفيئنا لهم حلال في أنفسهم ونحن لهم فيما يزعمون قطين (عبيد).

__________________

(١) يونس : ٣٢.

٦٢

وكان أبو أيّوب الأنصاري وذو الشهادتين خزيمة بن ثابت من شيوخ الأنصار حضورا فقالوا لسهل بن حنيف : قم يا سهل فأجب أمير المؤمنين عن جماعتنا ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال له :

يا أمير المؤمنين ، نحن سلم لمن سالمت وحرب لمن حاربت ورأينا رأيك ، ونحن كفّ يمينك! وقد رأينا أن تقوم بهذا الأمر في أهل الكوفة فتخبرهم بما صنع الله لهم من الفضل في ذلك ؛ وتأمرهم بالشخوص ، فإنهم هم أهل البلد وهم الناس ، فإن استقاموا لك استقام لك الذي تريد وتطلب. وأما نحن فليس منّا خلاف عليك ، متى دعوتنا أجبناك ، ومتى أمرتنا أطعناك (١).

إعلان العزم على الجهاد :

ثمّ إنّ عليا عليه‌السلام صعد المنبر ، فبدأ بالحمد له والثناء عليه ثمّ قال : إن الله قد أكرمكم بدينه ، وخلقكم لعبادته ، فانصبوا أنفسكم في أداء حقّه فتنجّزوا موعوده ، واعلموا أن الله جعل أمراس دينه متينة ، وعراه وثيقة ، ثمّ جعل الطاعة حظّ الأنفس برضاه وغنيمة الأكياس عند تفريط الفجرة.

وقد حمّلت أمر أسودها وأحمرها ولا قوة إلّا بالله.

ونحن سائرون ـ إن شاء الله ـ إلى من سفه نفسه وتناول ما ليس له ولا يدركه : معاوية وجنده الفئة الباغية ، يقودهم ابليس ويبرق لهم ببارق تسويفه ويدلّهم بغروره.

__________________

(١) وقعة صفين : ٩٢ ـ ٩٤ ، وكأنّ سهلا يخاف عليه ما كان من أهل البصرة على أخيه قبل هذا!

٦٣

وأنتم أعلم الناس بحلاله وحرامه ، فاستغنوا بما علّمتم ، واحذروا ما حذّركم الله من الشيطان ، وارغبوا فيما أنا لكم من الأجر والكرامة ، واعلموا أن المسلوب من سلب دينه وأمانته ، والمغرور من آثر الضلالة على الهدى ، فلا أعرف أحدا تقاعس عنّي وقال : في غيري كفاية! «فمن لا يذد عن حوضه يتهدم».

ثمّ إني آمركم بالشدّة في الأمر والجهاد في سبيل الله ... وانتظروا النصر العاجل من الله ، إن شاء الله (١).

«عباد الله ، اتّقوا الله وأطيعوه ، وأطيعوا إمامكم ، فإن الرعية الصالحة تنجو بالإمام العادل ، ألا وإن الرعية الفاجرة تهلك بالإمام الفاجر!

وقد أصبح معاوية غاصبا لما في يديه من حقّي ناكثا لبيعتي ، طاعنا في دين الله عزوجل.

أيها المسلمون ؛ وقد علمتم ما فعل الناس بالأمس : جئتموني راغبين إليّ في أمركم حتى استخرجتموني من منزلي لتبايعوني ، فالتويت عليكم لأبلو ما عندكم! فراددتموني القول مرارا وراددتكموه ، وتكأكأتم عليّ تكأكؤ الإبل على حياضها ، حرصا على بيعتي ، حتّى خفت أن يقتل بعضكم بعضا! فلما رأيت ذلك منكم تروّيت في أمري وأمركم فقلت : إن أنا لم اجبهم في القيام بأمرهم ، لم يصيبوا أحدا منهم يقوم فيهم مقامي ويعدل فيهم عدلي. وقلت : لألينّهم وهم يعرفون حقّي وفضلي أحبّ إليّ من أن يلوني وهم لا يعرفون حقّي وفضلي ، فبسطت لكم يدي فبايعتموني ... وفيكم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان ، وأخذت عليكم عهد بيعتي وواجب صفقتي عهد الله وميثاقه ، وأشدّ ما اخذ على النبيين من عهد وميثاق : لتفنّ لي ولتسمعنّ لأمري ولتطيعوني وتناصحوني وتقاتلون معي كلّ باغ عليّ أو مارق. فأنعمتم لي

__________________

(١) وقعة صفين : ١١٢ و ١١٣.

٦٤

بذلك جميعا ، وأخذت عهد الله وميثاقه وذمّة الله وذمّة رسوله فأجبتموني إلى ذلك وأشهدت الله عليكم وأشهدت بعضكم على بعض ، فقمت فيكم بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فالعجب من معاوية بن أبي سفيان! ينازعني الخلافة ويجحدني الإمامة ، ويزعم أنّه أحقّ بها منّي! جرأة منه على الله وعلى رسوله بغير حقّ له فيها ولا حجّة ، لم يتابعه عليها المهاجرون ولا سلّم له الأنصار والمسلمون.

يا معشر المهاجرين والأنصار وجماعة من سمع كلامي ، أما أوجبتم لي على أنفسكم الطاعة؟ أما بايعتموني على الرغبة ، أما أخذت عليكم العهد بالقبول لقولي؟ أما كانت بيعتي لكم يومئذ أوكد من بيعة أبي بكر وعمرو؟ فما بال من خالفني لم ينقض عليهما حتى مضيا ونقض عليّ ولم يف لي؟! أما يجب عليكم نصحي ويلزمكم أمري؟! أما تعلمون أن بيعتي تلزم الشاهد منكم والغائب؟ فما بال معاوية وأصحابه طاعنين في بيعتي؟ ولم لم يفوا بها لي وأنا في قرابتي وسابقتي وصهري أولى بالأمر ممّن تقدّمني؟ أما سمعتم قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الغدير في ولايتي وموالاتي؟ فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ وتحاثّوا على جهاد معاوية «القاسط» الناكث وأصحابه «القاسطين».

فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وتحاثّوا على الجهاد مع إمامكم ، فلو كان لي منكم عصابة بعدد أهل بدر إذا أمرتهم أطاعوني وإذا استنهضتهم نهضوا معي لاستغنيت بهم عن كثير منكم وأسرعت بهم إلى حرب معاوية وأصحابه فإنّه الجهاد المفروض» (١).

ثمّ قام الحسن بن علي على المنبر خطيبا فقال : «الحمد لله لا إله غيره ، وحده لا شريك له» وأثنى عليه بما هو أهله ثمّ قال : إنّ ما عظّم الله عليكم من حقّه ،

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٢٦٠ ـ ٢٦٣ وحذفنا آيات من سورتي البقرة والمائدة.

٦٥

وأسبغ عليكم من نعمه : ما لا يحصى ذكره ولا يؤدّى شكره ، ولا يبلغه قول ولا صفة ... وإنّه منّ علينا بما هو أهله أن نشكر فيه آلاءه ونعماءه وبلاءه ، قولا يصعد إلى الله فيه الرضا ، وتنتشر فيه عارفة الصدق ، يصدّق الله فيه قولنا فنستوجب المزيد من ربّنا ، قولا يزيد ولا يبيد.

ونحن إنما غضبنا لله (ثم) لكم ... وإنه لم يجتمع قوم قطّ على أمر واحد إلّا اشتدّ أمرهم واستحكمت عقدتهم ، فاحتشدوا في قتال عدوّكم : معاوية وجنوده فإنّه قد حضر ، ولا تخاذلوا فإنّ الخذلان يقطّع نياط القلوب ، وإنّ الإقدام على الأسنّة نجدة وعصمة ، فإنّه لم يمتنع قوم قطّ إلّا دفع الله عنهم العلّة ، وكفاهم جوانح الذلّة ، وهداهم إلى معالم الملّة.

ثمّ قام الحسين بن علي على المنبر خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثمّ قال : يا أهل الكوفة! أنتم الأحبّة الكرماء ، والشعار دون الدّثار. جدّوا في إحياء ما دثر بينكم وإسهال ما توعّر عليكم.

ألا إنّ الحرب شرّها ذريع ، وطعمها فضيع ، وهي جرع متحسّاة ، فمن أخذ لها أهبتها واستعدّ لها عدّتها ، ولم يألم كلومها عند حلولها ، فذاك صاحبها ، ومن عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها ، فذاك قمن أن لا ينفع قومه ويهلك نفسه! نسأل الله بعونه أن يدعمكم بألفته. ثمّ نزل (١).

بعض ردود الفعل :

وقام الإمام عليه‌السلام فنادى : سيروا إلى أعداء السنن والقرآن ، سيروا إلى بقية الأحزاب : قتلة المهاجرين والأنصار!

__________________

(١) وقعة صفين : ١١٢ ـ ١١٥.

٦٦

فقام أربد بن ربيعة الفزاري فقال : أتريد أن تسيّرنا إلى إخواننا من أهل الشام فنقتلهم لك؟! كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة فقتلناهم؟ كلّا ها الله ، إذا لا نفعل ذلك!

فقام الأشتر وقال للناس : أيها الناس من لهذا؟ فهرب الرجل واشتدّ الناس من همدان خلفه (١) وقال الأشتر لعلي عليه‌السلام :

يا أمير المؤمنين ؛ لا يهدّنك ما رأيت ، ولا يؤيسنّك من نصرنا ما سمعت من مقالة هذا الشقي الخائن. (فإنّ) جميع من ترى من الناس شيعتك ، وليسوا يرغبون بأنفسهم عن نفسك ، ولا يحبّون بقاء بعدك.

فإن شئت فسر بنا إلى عدوك.

والله ما ينجو من الموت من خافه ، ولا يعطى البقاء من أحبّه ، وما يعيش بالآمال إلّا شقي ، وإنّا لعلى بيّنة من ربّنا أن لن تموت نفس إلّا بأجلها.

فكيف لا نقاتل قوما هم كما وصف أمير المؤمنين؟ وقد وثبت عصابة منهم (بالأمس) على طائفة من المسلمين فأسخطوا الله فيهم ، وأظلمت الأرض بأعمالهم ، وباعوا خلاقهم بعرض من الدنيا يسير (٢).

وكأن عديّ بن حاتم لم يعلم بكتب الإمام ورسله إلى الشام فقام وقال :

يا أمير المؤمنين ؛ ما قلت إلّا بعلم ، ولا دعوت إلّا إلى حقّ ، ولا أمرت إلّا برشد.

__________________

(١) حتّى لحقوه في سوق بيع البراذين والدوابّ ، فضربوه بنعال سيوفهم وأيديهم فوقع فوطئوه بأرجلهم فمات. وقعة صفين : ٩٤ ، وأنساب الأشراف ٢ : ٢٩٣.

(٢) وقعة صفين : ٩٥ وكأنّ عليا عليه‌السلام والأشتر يعنيان البصرة ويرون من ورائها معاوية ، وهو الحقّ. وفي الخبر : قيل له عليه‌السلام : قتل الرجل (الفزاري) قال : ومن قتله؟ قالوا : همدان ومعهم غيرهم ، فقال : قتيل عميّة لا يدرى من قتله ، فديته على بيت مال المسلمين. فودّاه لهم.

٦٧

(ولكن) إن رأيت أن تستأني هؤلاء القوم وتستدعيهم حتّى تأتيهم كتبك ، ويقدم عليهم رسلك فعلت! فإن يقبلوا يصيبوا ويرشدوا ، والعافية أوسع لنا ولهم ، وإن يتمادوا في الشقاق ولا ينزعوا عن الغيّ فسر إليهم وقد قدّمنا إليهم العذر ، ودعوناهم إلى ما في أيدينا من الحقّ ، فو الله لهم من الله أبعد وعلى الله أهون من قوم قاتلناهم أمس بناحية البصرة ، لمّا أجهد لهم الحقّ فتركوه. فناوشناهم القتال حتّى بلغنا منهم ما نحبّ ، وبلغ الله منهم رضاه.

وكان رجل من قومه من طيّئ من المتهجّدين أصحاب البرانس (١) يدعى زيد بن الحصين حاضرا فقام وقال : الحمد لله حتّى يرضى ، ولا إله إلّا الله ربّنا ، ومحمّد رسول الله نبيّنا. أما بعد ؛ فو الله لئن كنّا في شكّ من قتال من خالفنا لا تصلح لنا النيّة في قتالهم حتّى نستأنيهم ، فما الأعمال إلّا في تباب ، ولا السعي إلّا في ضلال! والله يقول : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(٢) فإنّا ـ والله ـ ما ارتبنا طرفة عين في من يبتغون دمه (عثمان) فكيف بأتباعه : القاسية قلوبهم ، القليل في الإسلام حظّهم ، أعوان الظّلم ومسدّدي أساس الجور والعدوان ، ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار ولا التابعين لهم بإحسان.

ورأى ذلك بعض الطائيين تهجينا لكلام سيدهم عديّ فقام رجل منهم وقال لزيد :

يا زيد بن حصين! أكلام سيّدنا عديّ بن حاتم تهجّن؟! فقال زيد :

ما أنتم بأعرف بحقّ عديّ منّي ، ولكنّي لا أدع القول بالحقّ وإن سخط الناس (٣).

__________________

(١) ثوب في رأسه منه قلنسوة طويلة ، كان يلبسها العبّاد ، ولبسها المسلمون.

(٢) آخر آية في سورة الضحى ، وكأنّه يعرّض بعدي أنه ليس مثله في بصيرته.

(٣) وقعة صفين : ٩٨ ـ ١٠٠.

٦٨

فقال علي عليه‌السلام : الطريق مشترك ، والناس في الحقّ سواء ، ومن اجتهد رأيه في نصيحة العامة فله ما نوى وقد قضى ما عليه (١).

وبدأ امتراء القرّاء :

وأجاب عليا عليه‌السلام إلى السير للجهاد جلّ الناس ، إلّا أصحاب عبد الله بن مسعود من القرّاء ، فإنهم افترقوا فرقتين :

فقد أتاه جمع منهم مع ربيع بن خثيم الثوري ، وهم يومئذ أربع مائة رجل ، فقالوا :

يا أمير المؤمنين ؛ إنّا على معرفتنا بفضلك قد شككنا في هذا القتال ، ولا غنى بنا ولا بك ولا بالمسلمين عن من يقاتل عدوّهم (المشركين) فولّنا بعض الثغور نكون به ونقاتل عن أهله.

فعقد له عليهم أوّل لواء عقده ، ووجّههم إلى ثغر الرّي (٢) وقزوين (٣).

وأتاه جمع آخر منهم مع عبيد السلماني المرادي فقالوا له : إنا نخرج معكم (ولكنّا) نعسكر على حدة ، لننظر في أمركم وأمر أهل الشام! فمن رأيناه بدا منه بغي! أو أراد ما لا يحلّ له كنا عليه!

__________________

(١) وقعة صفين : ٩٥ عن علي عليه‌السلام ، وهنا : ١٠٠ عن عديّ مثله ، ورجّحنا الأول هنا أيضا.

(٢) وقعة صفين : ١١٥.

(٣) الأخبار الطوال للدينوري : ١٦٥. وهو من ثور بن عبد مناة ومنهم سفيان الثوري وحرّف هذا خبره فقال : أغزى علي عليه‌السلام الربيع بن خثيم الثوري الديلم! وعقد له على أربعة آلاف وله بقزوين مسجد معروف كما في فتوح البلدان للبلاذري : ٣١٨ ، وانظر ترجمته في قاموس الرجال ٤ : ٣٣٣ ـ ٣٤١.

٦٩

فقال لهم الإمام عليه‌السلام : أهلا ومرحبا! هذا هو الفقه في الدين والعلم بالسنّة! من لم يرض بهذا فهو جائر خائن (١)!

وكان من الصحابة في الكوفة حنظلة بن الربيع التميمي الكاتب ، كتب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّة فسمّي الكاتب ، وكان يكاتب معاوية من الكوفة ، فاجتمع هو وعبد الله بن المعتّم العبسي (الغطفاني) مع جمع كثير من غطفان وبني تميم فدخلوا على علي عليه‌السلام ، فوقف التميميّ وقال :

يا أمير المؤمنين ؛ إنا رأينا رأيا فلا تردّه علينا ، ومشينا إليك بنصيحة فاقبلها منّا! فإنّا نظرنا لك ولمن معك! لا تعجل إلى قتال أهل الشام ؛ فإني ـ والله ـ ما أدري ولا تدري إذا التقيتم لمن تكون الغلبة وعلى من تكون الدّبرة! فأقم وكاتب هذا الرجل.

ثمّ قام ابن المعتّم فتكلّم بمثله. فحمد الإمام الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم :

أما بعد ؛ فإن الله وارث العباد والبلاد ، وربّ السماوات السبع والأرضين السبع وإليه ترجعون ، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممّن يشاء ويعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء! أما الدّبرة فإنها على العاصين ظفروا أو ظفر بهم! وايم الله إني لأسمع كلام قوم ما أراهم يريدون أن يعرفوا معروفا ولا ينكروا منكرا!

وكان مالك بن حبيب التميمي اليربوعي صاحب شرطة الإمام حاضرا فقال له :

يا أمير المؤمنين ؛ لقد بلغني أن حنظلة هذا يكاتب معاوية! فادفعه إلينا نحبسه حتّى تنقضي غزاتك وتنصرف؟!

فأخذا يقولان : هذا جزاء من نظر لكم وأشار عليكم بالرأي فيما بينكم وبين عدوّكم!

__________________

(١) وقعة صفين : ١١٥ ، فهذه هي البوادر الأولى لنشأة الخوارج عليه فيما بعد.

٧٠

فقال لهما علي عليه‌السلام : الله بيني وبينكم وإليه أكلكم وبه استظهر عليكم ، اذهبوا حيث شئتم!

وقال لحنظلة : يا حنظلة ؛ أعليّ (أنت) أم لي؟ قال : لا لك ولا عليك! قال : فما تريد أن تفعل؟ قال : أشخص إلى الرّها (١) أصمد حتّى ينقضي هذا الأمر!

فقال له خيار قومه : لئن أردت ذلك لنقتلنّك! فاختلف قومه حتّى اخترطوا سيوفهم!

فقال لهم : أجّلوني أنظر في أمري! فأجّلوه ، فلما أمسى خرج بثلاثة وعشرين رجلا من قومه إلى الرّها ، ثمّ لحق به ابن المعتّم مع أحد عشر رجلا من قومه عبس.

وكان عريف بني تميم : بكر بن تميم فأمره علي عليه‌السلام بهدم دار حنظلة فهدمها ومعه شبث بن ربعي اليربوعي (٢).

ومن الأزديّين دخل أبو زبيب بن عوف على علي عليه‌السلام فقال له : يا أمير المؤمنين ؛ أمرتنا بالمسير إلى هذا العدوّ ، وقطعنا ما بيننا وبينهم من الولاية وأظهرنا لهم العداوة ، نريد بذلك ما يعلم الله ، وفي أنفسنا من ذلك ما فيها! أفهذا الذي نحن عليه الحقّ المبين ، والذي عليه عدوّنا الحوب الكبير؟!

فأجابه الإمام عليه‌السلام : أبا زبيب ، أبشر ؛ إنك إن قطعت منهم الولاية وأظهرت لهم العداوة كما زعمت ، ومضيت معنا ناصرا لدعوتنا صحيح النيّة في نصرتنا ؛ فإنّك وليّ الله تسيح في رضوانه وتركض في طاعته ، فأبشر أبا زبيب.

وكان عمّار حاضرا فقال له : أبا زبيب ، اثبت ، ولا تشكّ في الأحزاب أعداء الله ورسوله! فرضي أبو زبيب بشهادتهما (٣).

__________________

(١) الرّها : على حدود الموصل والشام.

(٢) وقعة صفين : ٩٥ ، ٩٦.

(٣) وقعة صفين : ١٠٠ ، ١٠١.

٧١

واستقدم مخنف بن سليم الأزدي :

وكتب الإمام عليه‌السلام إلى بعض عمّاله ليلحقوا به في مسيره إلى الشام ، فكتب إلى مخنف بن سليم : سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد ، فإن جهاد من صدف عن الحقّ رغبة عنه ، وهبّ في نعاس العمى والضلال اختيارا له ، فريضة على العارفين. إنّ الله يرضى عمّن أرضاه ويسخط على من عصاه.

وإنّا قد هممنا بالمسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله ، استأثروا بالفيء ، وعطّلوا الحدود ، وأماتوا الحقّ وأظهروا في الأرض الفساد ، واتّخذوا الفاسقين وليجة من دون المؤمنين ، فإذا وليّ لله أعظم أحداثهم أبغضوه وأقصوه وحرموه. وإذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبّوه وأدنوه وبرّوا به! فقد أصرّوا على الظلم وأجمعوا على الخلاف ، وقديما ما صدّوا عن الحقّ وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين.

فإذا أتاك كتابي هذا فاستخلف على عملك أوثق أصحابك في نفسك ، وأقبل إلينا لعلّك تلقى هذا العدوّ المحلّ فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتجامع الحقّ وتباين الباطل ، فإنّه لا غناء بنا ولا بك عن أجر الجهاد.

وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم. وكتب عبد الله بن أبي رافع (١).

فاستعمل مخنف على أصفهان : الحارث بن الربيع الأزدي ، وعلى همدان : سعيد بن وهب الأزدي ، وقدم إلى الكوفة.

__________________

(١) وقعة صفين : ١٠٤ ، ١٠٥ وتاريخه : سنة سبع وثلاثين! في حين أن هذا كان سنة (٣٦ ه‍).

٧٢

واستقدم ابن عباس من البصرة :

وكتب الإمام عليه‌السلام إلى ابن عباس على البصرة : أما بعد ؛ فاشخص إلى من قبلك من المسلمين والمؤمنين ، وذكّرهم بلائي عندهم واستبقائي لهم وعفوي عنهم ، ورغّبهم في الجهاد وأعلمهم الذي لهم من الفضل في ذلك.

فقام فيهم ابن عباس وقرأ عليهم كتاب الإمام ثمّ قال لهم :

أيّها الناس ؛ استعدّوا للمسير إلى إمامكم وانفروا في سبيل الله خفافا وثقالا ، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ، فإنّكم تقاتلون المحلّين القاسطين (١) الذين لا يقرءون القرآن ولا يعرفون حكم الكتاب ولا يدينون دين الحقّ ، مع أمير المؤمنين وابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، والصادع بالحقّ والقيّم بالهدى ، والحاكم بحكم الكتاب ، الذي لا يرتشي في الحكم ، ولا يداهن الفجّار ، ولا تأخذه في الله لومة لائم!

فقام الأحنف بن قيس التميمي فقال : والله لنجيبنّك ولنخرجنّ معك على العسر واليسر والرضا والكره ، نحتسب في ذلك الخير ، ونأمل من الله العظيم من الأجر.

وقام إليه خالد بن المعمّر السدوسي الصحابي فقال : سمعنا وأطعنا ، فمتى استنفرتنا نفرنا ، ومتى دعوتنا أجبنا. وكان هذا رأس بكر بن وائل.

وقام إليه عمرو بن مرجوم العبدي رئيس عبد القيس فقال : وفّق الله أمير المؤمنين وجمع له أمر المسلمين ، ولعن المحلّين القاسطين الذين لا يقرءون القرآن ، نحن والله عليهم حنقون ولهم في الله مفارقون ، فمتى أردتنا صحبك خيلنا ورجلنا (٢).

__________________

(١) لعلّ هذا كان من علم ابن عباس بإطلاق القاسطين عليهم في حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) وقعة صفين : ١١٦ ، ١١٧.

٧٣

وكان لابن عباس في البصرة كاتبان : أبو الأسود الدؤلي وزياد بن عبيد الثقفي فاستخلف زيادا على الخراج وأبا الأسود على الصلاة (١) وحمل معه رؤساء أخماس البصرة : الأحنف بن قيس على تميم والرّباب وبني ضبّة ، وخالد السّدوسي على بكر بن وائل ، وابن مرجوم العبدي على عبد قيس ، وشريك بن الأعور الحارثي الهمداني على أهل العالية من همدان وغيرهم ، وصبرة بن شيمان الأزدي على أزد البصرة ، وخرج بهم إلى الكوفة (٢).

وخرجوا إلى معسكر النخيلة :

ودخل يزيد بن قيس الأرحبي الهمداني على عليّ عليه‌السلام فقال له : يا أمير المؤمنين ، نحن على جهاز وعدّة ، وأكثر الناس أهل قوة ، فمر مناديك فليناد الناس ليخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة ، فإنّ أخا الحرب ليس بالسئوم ولا النئوم ، ولا من إذا أمكنته الفرص أجّلها واستشار فيها ، ولا من يؤخّر الحرب إلى غد وبعد غد!

فقال زياد بن النضر الحارثي الهمداني : يا أمير المؤمنين ، لقد نصح لك يزيد بن قيس وقال ما يعرف ، فثق به وتوكّل على الله ، وأشخص بنا إلى هذا العدوّ راشدا معافا ، فإن يرد الله بهم خيرا لا يدعوك رغبة عنك إلى من ليس مثلك في السابقة مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والقدم في الإسلام ، والقرابة من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وإن لم ينيبوا ويقبلوا ، ويأبوا إلّا حربنا ، نجد حربهم هيّنا علينا ، ونرجوا أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم بالأمس.

ثمّ قام عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّ القوم

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٢٩٣.

(٢) وقعة صفين : ١١٧ وفيه : أنهم لحقوا به بالنخيلة.

٧٤

لو كانوا يريدون الله أو يعملون له ما خالفونا ، ولكن القوم إنّما يقاتلوننا فرارا من الأسوة (التسوية في العطاء) وحبّا للأثرة (التفضيل فيه) وضنّا (وبخلا) بسلطانهم ، وكرها لفراق دنياهم التي في أيديهم ، وعلى إحن (وحقد) في أنفسهم ، وعداوة يجدونها في صدورهم ، لوقائع قديمة أوقعتها بهم قتلت فيها آباءهم وإخوانهم.

ثمّ التفت إلى الناس وقال لهم : فكيف يبايع معاوية عليا وقد قتل أخاه حنظلة وخاله الوليد وجدّه عتبة في موقف واحد؟! والله ... لن يستقيموا لكم دون أن تكسّر فيهم الرماح ، وتقطّع السيوف على هاماتهم ، وتنتثر بعمد الحديد حواجبهم ، وتكون بين الفريقين امور جمّة (١).

فقال له زياد بن النضر الحارثي الهمداني : إنّ يومنا ويومهم ليوم عصيب! ما يصبر عليه إلّا كل رابط الجأش الشجاع صادق النية! وما أظن أن يبقى ذلك اليوم منهم ومنّا إلّا الأراذل! فصدّقه ابن بديل الخزاعي!

فقال لهما الإمام عليه‌السلام : ليكن هذا الكلام مخزونا في صدوركما لا تظهراه ولا يسمعه منكما سامع! إنّ الله كتب القتل على قوم والموت على آخرين ، وكلّ آتيه منيّته كما كتب الله له ، فطوبى للمجاهدين في سبيل الله المقتولين في طاعته!

فلما سمع هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري المرقال ما قال ، قال : يا أمير المؤمنين ، سر بنا إلى هؤلاء القوم القاسية قلوبهم ، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وعملوا في عباد الله بغير رضا الله ، فأحلّوا حرامه وحرّموا حلاله ، واستهواهم الشيطان ووعدهم الأباطيل ومنّاهم الأماني ، حتّى أزاغهم عن الهدى وقصد بهم قصد الردّي ، وحبّب إليهم الدنيا ، فهم يقاتلون على دنياهم رغبة فيها ، كرغبتنا في الآخرة لإنجاز موعود ربّنا.

__________________

(١) وقعة صفين : ١٠١ ، ١٠٢.

٧٥

يا أمير المؤمنين ، وأنت أقرب الناس من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رحما ، وأفضلهم سابقة وقدما ، وهم منك على مثل الذي علمناه ، ولكن كتب عليهم الشقاء ومالت بهم الأهواء وكانوا ظالمين.

فأيدينا مبسوطة لك بالسمع والطاعة ، وقلوبنا منشرحة لك ببذل النصيحة ، وأنفسنا تنصرك على من خالفك وتولّى الأمر دونك.

والله ما احبّ أنّ لي ما في الأرض مما أقلّت ، وما تحت السماء ممّا أظلّت وأني واليت عدوّا لك أو عاديت وليا لك!

فكأن الإمام عليه‌السلام علم منه حبّ الشهادة فقال : اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك! والمرافقة لنبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

ثمّ إنه عليه‌السلام أمر رؤساء أسباع الكوفة ، فجعل :

حجر بن عدي الكندي على كندة ومهرة وقضاعة وحضر موت.

وزياد بن النضر الحارثي الهمداني على مذحج والأشعريّين.

وسعد بن مسعود الثقفي على قيس وعبد القيس.

وسعيد بن قيس الهمداني على همدان وحمير.

وعديّ بن حاتم الطائي على قومه من طيّئ.

ومخنف بن سليم الأزدي على الأزد وبجيلة وخثعم وخزاعة ومعهم الأنصار بالكوفة.

ومعقل بن قيس اليربوعي التميمي على تميم والرباب وأسد وضبّة ومعهم قريش وكنانة (٢).

__________________

(١) وقعة صفين : ١١١ ، ١١٢.

(٢) وقعة صفين : ١١٧.

٧٦

وكانت رئاسة كندة ومعها ربيعة للأشعث بن قيس الكندي ، فلمّا عزله الإمام عليه‌السلام عن ولاية آذربايجان ورجع إلى الكوفة دعا علي عليه‌السلام حسّان بن مخدوج الذّهلي فجعل رئاسة الأشعث له.

فاجتمع الأشتر وعديّ الطائي وهانئ بن عروة وزحر بن قيس وقالوا لعلي عليه‌السلام : إنّ رئاسة الأشعث لا تصلح إلّا له ، وما حسّان بن مخدوج مثله.

وقال حسّان للأشعث : لك راية كندة ولي راية ربيعة. فلم يقبل الأشعث. فمشى حسّان برايته إلى الأشعث حتّى ركزها في داره. وعرض عليه علي عليه‌السلام أن يعيدها عليه فقال : يا أمير المؤمنين ، إن يكن أوّلها شرفا فإنّه ليس آخرها بعار! وأبى ذلك! فوعده الإمام بخير ، ثمّ ولّاه ميمنته (١).

شهود الولاية من الصحابة :

سنرى في شهداء الصحابة مع الإمام عليه‌السلام أسماء أعلام شهدوا للإمام بحديث الولاية ، فيعلم أنّ ذلك كان قبل خروجهم إلى صفّين.

فيما روى الكشي من طريق العامّة إلى زرّ بن حبيش الأسدي : أنّ ركبانا معمّمين متقلّدين سيوفهم استقبلوا الإمام عليه‌السلام فقالوا له : السلام عليك يا مولانا يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.

وكان حول الإمام عليه‌السلام جمع من الأنام من الصحابة ، وغيرهم ممّن هو حديث عهد بوصف «مولانا» له فأراد إعلامهم بسابقة هذا من النبيّ بشأنه فقال : من هاهنا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! فقام أبو أيّوب الأنصاري خالد بن يزيد ، وذو الشهادتين خزيمة بن ثابت ، وقيس بن سعد ، وعبد الله بن بديل (وأخوه حبيب) بن ورقاء الخزاعيّ (وهاشم بن عتبة الزهريّ المرقال)

__________________

(١) وقعة صفين : ١٣٧ ـ ١٤٠.

٧٧

فاستشهدهم أنّهم سمعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول يوم غدير خمّ : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» فشهدوا جميعا بذلك.

وكان أنس بن مالك والبراء بن عازب الأنصاريّين حاضرين ولم يشهدا فقال لهما : ما منعكما أن تقوما فتشهدا؟! فقد سمعتما كما سمع القوم! ثمّ دعا عليهما فقال : اللهمّ إن كانا كتماها معاندة فابتلهما! فبرصت قدما أنس بن مالك ، وأمّا البراء بن عازب فقد عمي! فكان يسأل الناس عن منزله فيرشد إليه فيقول : كيف يرشد من أصابته الدعوة؟! وكان أنس يقول : حلفت أن لا أكتم لعليّ بن أبي طالب فضلا ولا منقبة أبدا (١)! ولعلّهما أصابهما ذلك ليس فورا بل تدريجا متراخيا (٢) وذكره ابن مزاحم في من حضر صفّين (٣).

وأمر عليّ عليه‌السلام الحارث الأعور الهمداني أن ينادي في الناس : أن اخرجوا إلى معسكركم بالنخيلة. وأمر صاحب شرطته مالك بن حبيب اليربوعيّ التميميّ أن يحشر الناس إلى المعسكر.

وكان في الكوفة من البدريين من أصحاب بيعة العقبة السبعين أصغرهم : عقبة بن عمرو الأنصاريّ ، فدعاه الإمام عليه‌السلام واستخلفه على الكوفة ، ثمّ خرج وخرج معه الناس (٤) وأجاب الناس إلى المسير ونشطوا وخفّوا (٥).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٤٥ الحديث ٩٥ في البراء بن عازب ، وأسنده في «اسد الغابة» عن الأسدي زرّ بن جيش مصحفا بذرّ بن جيش! ويعرف هذا الحديث باستشهاد الرحبة وهو حديث معروف مستفيض.

(٢) انظر ترجمة البراء بن عازب في قاموس الرجال ٢ : ٢٦١ برقم ١٠٥٩.

(٣) وقعة صفين : ٤٤٧.

(٤) وقعة صفين : ١٢١.

(٥) وقعة صفين : ١١٧.

٧٨

ولا تكونوا شتّامين لعّانين :

ولحق عمرو بن الحمق الخزاعي بحجر بن عديّ الكندي وخرجا يجاهران بلعن أهل الشام ، وبلغ ذلك الإمام ، فأرسل إليهما : أن كفّا عمّا يبلغني عنكما!

فأتياه فقالا : يا أمير المؤمنين ، ألسنا محقّين؟! فلم منعتنا من شتمهم؟!

فقال عليه‌السلام لهما : كرهت لكم أن تكونوا شتّامين تشتمون وتتبرءون ، ولكن لو وصفتم مساوي أعمالهم فقلتم : من سيرتهم كذا وكذا ومن عملهم كذا وكذا ، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر. ولو قلتم ـ مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم ـ : اللهم احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم ، حتى يعرف الحقّ منهم من جهله ، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به. كان هذا أحبّ إليّ وخيرا لكم (١).

فقالا : يا أمير المؤمنين ، نقبل عظتك ونتأدّب بأدبك.

ثمّ قال عمرو بن الحمق : إني والله يا أمير المؤمنين ما أجبتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك ، ولا إرادة مال تؤتينيه ، ولا التماس سلطان يرفع ذكري به ، ولكن أجبتك لخمس خصال :

__________________

(١) وقعة صفين : ١٠٣ ، وفي نهج البلاغة خ ٢٠٦ ، ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٩١. واختزل الخبر القاضي النعمان المصري المغربي في شرح الأخبار ٢ : ١٦٥ فقال : سمعه يلعن أهل الشام فقال له : لا تلعنهم والعن معاوية وعمرو بن العاص وشيعتهما ، وهو كان يلعنهم في قنوته ، وكذلك لعن رسول الله رءوس المشركين وأتباعهم يوم احد ومنهم أبو سفيان ومعاوية. هذا ، ولكن سيأتي أنّ هذا إنما كان بعد حكم الحكمين بالباطل ، والتبس الأمر هنا على القاضي النعمان.

٧٩

أنك ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وأوّل من آمن به. وزوج سيّدة نساء الأمة فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وأبو الذرية التي بقيت فينا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وأعظم رجل من المهاجرين سهما في الجهاد.

فلو أنّي كلّفت نقل الجبال الرواسي ، ونزح البحور الطّوامي ، حتى يأتي عليّ يومي في أمر اقوّي به وليك وأوهن به عدوّك ما رأيت أنّي قد أدّيت فيه كلّ الذي يحقّ عليّ من حقّك!

فقال أمير المؤمنين : اللهم نوّر قلبه بالتّقى ، واهده إلى صراط مستقيم ، ليت أنّ في جندي مائة مثلك.

فقال حجر : إذا والله يا أمير المؤمنين صحّ جندك وقلّ فيهم من يغشك. ثمّ قال : نحن بنو الحرب وأهلها الذين نلقحها وننتجها قد ضارستنا وضارسناها ، ولنا أعوان ذوو صلاح ، وعشيرة ذات عدد ورأي مجرّب وبأس محمود ، وأزمّتنا منقادة لك بالسمع والطاعة ، فإن شرّقت شرّقنا ، وإن غرّبت غرّبنا ، وما أمرتنا به فعلناه!

فقال علي عليه‌السلام : أكلّ قومك يرى مثل رأيك؟

قال : ما رأيت منهم إلّا حسنا ، وهذه يدي عنهم بالسمع والطاعة وبحسن الإجابة.

فقال له الإمام خيرا (١).

وإلى أمراء الجنود :

إنه عليه‌السلام كتب إلى أمراء جنوده بعد البسملة : «من عبد الله علي أمير المؤمنين ،

__________________

(١) وقعة صفين : ١٠٣ ، ١٠٤.

٨٠