موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

أنج سعد فقد هلك سعيد! أو تستقيم لي قناتكم! إياي ودلج الليل فإني لا اوتي بمدلج إلّا سفكت دمه ، وقد أجّلتكم في ذلك بقدر ما يصل الخبر الكوفة ويرجع إليّ! وإياي ودعوى الجاهلية! فإني لا أجد أحدا دعا بها إلّا قطعت لسانه! فمن غرّق قوما غرّقته! ومن حرّق على قوم حرّقناه! ومن نقب بيتا نقّبت عن قلبه! ومن نبش قبرا دفنته فيه حيّا! فكفّوا عنّي أيديكم وألسنتكم اكفف يدي وأذاي! لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامّتكم إلّا ضربت عنقه! وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كلّ امرئ منكم أن يكون من صرعاي! ولست محتجبا عن طالب حاجة منكم ولو أتاني بليل.

فقام الصحابي أبو بلال مرداس بن ادية وقال له : قال الله : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى)(١) فأنبأنا الله بغير ما قلت وأوعدنا خيرا مما واعدت يا زياد!

فقال زياد : انا لا نجد إلى ما تريد أنت وأصحابك سبيلا حتّى نخوض إليكم الباطل خوضا (٢).

واستعمل زياد على شرطته عبد الله بن حصن العبيدي (أو اليربوعي) وجعلهم أربعة آلاف. وقيل له : إن السبل مخوفة! فقال : لا أعاني شيئا الآن وراء هذا المصر حتّى أغلب على المصر وأصلحه. وكان يؤخّر صلاة العشاء حتّى يكون آخر من يصلّي ، ثمّ يأمر رجلا يرتل سورة البقرة ، ثمّ يمهل بقدر ما يبلغ شخص محلة الخريبة بالبصرة القديمة ، ثم يأمر صاحب شرطته بالخروج فلا يرى أحدا إلّا قتله!

__________________

(١) النجم : ٣٨ ـ ٣٩.

(٢) البيان والتبيين للجاحظ البصري ٢ : ٦١ ـ ٦٦ ، والأخبار الموفقيات : ٣٠٤ بمختلف الروايات ، والطبري ٥ : ٢١٨ ـ ٢٢١.

٥٤١

وقدم البصرة أعرابي ببقرة له حلوب وغشيه الليل فأقام بموضع ليصبح ، ولا علم له بنداء زياد ، فأخذوه إليه فسأله عن ندائه فقال : لا والله لا علم لي بما كان من الأمير! قال : أظنك صادقا ولكن في قتلك صلاح هذه الأمة! فضرب عنقه.

فجرّد السيف وأخذ بالظنّة وعاقب على الشبهة ، فخافه الناس خوفا شديدا حتّى أمن بعضهم بعضا ، وحتّى كانت المرأة تبيت فلا تغلق عليها بابها! وحتّى كان يسقط شيء من أحد فلا يعرض له أحد حتى يأتيه صاحبه فيأخذه! وحتى كان يقول : لو ضاع بيني وبين خراسان حبل لعلمت من أخذه! فكان أول من أكّد الملك لمعاوية وألزم الناس طاعته وشدّ من أمر السلطان ، وهابه الناس هيبة لم يهابوها أحدا قبله.

وبنى مدينة الرزق (وكانت من مسالح الفرس بالبصرة) فكانت بيت المال ، وأدرّ العطاء عليهم ، وكتب خمسمائة من مشايخ أهل البصرة في صحابته ما بين الثلاثمائة إلى الخمسمائة (درهم أو دينار) (١)!

واستعان بعدة من الصحابة فاستقضى عمران بن حصين الخزاعي ، ثمّ سمرة بن جندب الأنصاري ، ثمّ أنس بن مالك ، ثمّ عبد الله بن فضالة الليثي ثمّ أخاه عاصم بن فضالة ثمّ زرارة بن أوفى الحريثي وقد تزوّج زياد اخته.

واتّخذ خمسمائة من شرطته حرّاسا مرابطين لا يبرحون المسجد (والقصر) عليهم شيبان السعدي التميمي ، ومشوا بين يديه بالحراب والعمد!

وجعل خراسان أربعة أقسام : فجعل على مرو أمير بن أحمر اليشكري

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢٢٢ ـ ٢٢٣ عن النميري البصري عن المدائني البصري وغيره ، وعنه قبله في الموفقيات : ٣٠٧ وفيه : أنه صحّ أوّل يوم بسبعمائة رأس بباب القصر : وفي الآتية بخمسين رأسا! وفي الثالثة برأس واحد! ولعلّه هو الأعرابي التالي خبره.

٥٤٢

الهمداني ، وعلى أبر شهر خليد بن عبد الله الحنفي ، وعلى مروالرود والفارياب والطالقان قيس بن الهيثم ، وعلى هراة وبادغيس وقادس وبوشنج نافع بن خالد الطاحي (١).

وحمل الدؤلي على تنقيط المصحف :

مرّ الخبر أن عليّا عليه‌السلام بعد الجمل بالبصرة علّم أبا الأسود الدؤلي النحو. وكان زياد بن أبيه يومئذ مع الإمام عليه‌السلام وعلم بذلك.

فنقل ابن النديم ، عن أبي عبيد البصري قال : بعث زياد إلى أبي الأسود وأمره أن يعمل شيئا يعرف به (حركات) كتاب الله ، فاستعفاه من ذلك. ثمّ سمع قارئا يقرأ : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) بسكر اللام! فقال : ما ظننت أنه قد آل أمر الناس إلى هذا! فرجع إلى زياد وقال له : أفعل ما أمر به الأمير! فليبغني كتابا لقنا يفعل ما أقول. فاتي بكاتب من عبد القيس فلم يرضه ، فأتي بآخر (منهم) فقال له أبو الأسود : إذا رأيتني فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه ، وإن ضممت فمي فانقط نقطة بين يديه ، وإن كسرت فاجعل النقطة من تحت الحرف (٢).

وأخذ يقرأ القرآن بالتأنّي والكاتب يضع النقط ، وكلّما أتمّ الكاتب صحيفة أعاد أبو الأسود نظره عليها ، واستمر على ذلك ، حتّى أعرب المصحف كلّه ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢٢٤ عن النميري البصري عن المدائني البصري وغيره.

(٢) الشيعة وفنون الإسلام : ١٦٣ عن الفن الأول من المقالة الثانية من الفهرست ، وعنه في التمهيد ١ : ٣١٠ ـ ٣١١ ولكنه قال : كان واليا على الكوفة ، والصحيح : كان ذلك بالبصرة حيث أبو الأسود البصري ، وانظر تاريخ القرآن للزنجاني : ٩٦.

٥٤٣

فجرى الناس على طريقته. ثمّ زاد أتباعه علامات اخرى للسكون ولألف الوصل ، ووضع أهل المدينة علامة للحرف المشدّد (١).

أراد يزيد ورشّحوا غيره فقتله :

ومنذ سنة (٤٥) بدأ أبو يزيد بالتمهيد لترشيحه لولاية عهده من بعده ، فاختار قائدا سابقا من قوّاد غاراته : سفيان بن عوف الغامدي ووجّهه لغزو ثغر الروم إلى قرية انطوانة ، وأرفق معه ابنه يزيد ومعه زوجته أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر ، فتقدموا حتى بلغوا الفرقدونة وأصاب طاعون كثيرا منهم ، ويزيد متخلّف عنهم بدير مرّان ، وبلغه ذلك وهو مع ندمائه على شرابه مع أم كلثوم فقال :

أهون عليّ بما لاقت جموعهم

يوم الطّوانة (أو : بالقدقدونة) من حمّى ومن موم!

إذا اتّكأت على الأنماط مرتفقا

بدير مرّان ، عندي أمّ كلثوم!

وبلغ ذلك معاوية وكان على خلاف مرامه منه فقال : والله ليغزونّ! وأردف معهم أبا أيوب الأنصاري ، فبلغوا إلى أبواب القسطنطينية ومات أبو أيوب فدفن هناك (٢).

__________________

(١) انظر تاريخ القرآن للزنجاني : ٩٦.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٤ وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٢٩ ، وفي رجال الكشّي : ٣٨ ، الحديث ٧٧ : سئل الفضل بن شاذان عن قتال أبي أيوب مع معاوية فقال : كان ذلك منه أنّه ظنّ ظنّا أنّه إنّما يعمل عملا يقوي به الإسلام ويوهن به الشرك وأنّه ليس عليه من معاوية شيء كان معه ولم يكن وكان ذلك منه غفلة وقلّة فقه!

٥٤٤

وفي شتاء سنة (٤٦ ه‍) أغزى معاوية عبد الرحمن بن خالد بن الوليد من عمله على حمص ثغور الروم ، فغزاهم وعاد ، وكان قد عظم شأنه بالشام ومال أهلها إليه لغنائه بأرض الروم وبأسه (١).

وبدأ معاوية يبدي قوله بكبر سنّه ودنوّ أجله ، يريد التمهيد ليزيد ، فخطبهم وقال : يا أهل الشام ، إنه قد كبرت سنّي وقرب أجلي ، وقد أردت أن أعقد لرجل يكون نظاما لكم ، وإنما أنا رجل منكم فرأوا رأيكم! فقالوا : قد رضينا بعبد الرحمن ابن خالد بن الوليد! فشق ذلك على معاوية وأسرّها في نفسه ، وكان له طبيب نصراني أو يهودي مكين عنده يقال له : ابن أثال ، ومرض عبد الرحمن ، فأمر معاوية طبيبه أن يذهب إليه فيسقيه ما يقتله به! فأتاه وسقاه فانخرق بطنه ومات بحمص ، فولّاه معاوية خراجها ووضع عنه خراجه (٢).

__________________

(١) الطبري ٥ : ٢٢٧ ونحوه في اليعقوبي ٢ : ٢٢٣.

(٢) انظر الغدير ١٠ : ٢٣٣ عن ترجمة عبد الرحمن في الاستيعاب ؛ لأنه كان قد أدرك النبيّ فعدّه في الأصحاب. وقال : ثمّ دخل أخوه المهاجر بن خالد دمشق مستخفيا ، وكان ابن أثال يسمر عند معاوية فخرجوا من عنده ومعه قوم ، فهجم المهاجر وغلامه عليهم فهرب القوم وقتل ابن أثال. ونقل عن الأغاني قال : قتله خالد بن المهاجر ، وأخذ إلى معاوية فقال له : لا جزاك الله من زائر خيرا! قتلت طبيبي؟! فقال : قتلت المأمور وبقي الآمر! وقال أبو عمر : وهي قصة مشهورة في أهل العلم بالآثار والأخبار ، ومنهم النميري البصري في أخبار المدينة. يعني تاريخ المدينة المحقق والمنشور ولكن ليس هذا فيه! وفي اليعقوبي ٢ : ٢٢٣ : قتله خالد بن عبد الرحمن بإثارة المنذر بن الزبير بن العوّام! فحبسه معاوية أياما حتى أدّى ديته فأطلقه ، وانظر الطبري ٥ : ٢٢٤ عن النميري البصري ، عن المدائني البصري.

٥٤٥

المغيرة الثقفي وحجر الكندي :

مرّ الخبر عن وصية معاوية الأكيدة الشديدة على المغيرة عند توليته الكوفة بعدم الكفّ عن الكفر بسبّ إمام الإيمان أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكيفية مقالة المغيرة في ذلك.

فروى الطبري ، عن الكلبي ، عن أبي مخنف ، عن الشعبي ـ وهو يمدح المغيرة ـ أنّ حجر بن عدي الكندي لما سمع المغيرة قال ذلك قام فقال : إنّ الله عزوجل يقول : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ)(١) فأنا أشهد أنّ من تذمّون وتعيّرون لأحقّ بالفضل ، وأن من تزكّون وتطرون أولى بالذم!

فقال له المغيرة : يا حجر! ويحك! اتّق السلطان ، اتّق غضبه وسطوته ، فإنّ غضبة السلطان أحيانا مما يهلك كثيرا أمثالك! ثمّ يصفح عنه.

ودعا المغيرة يوما على قتلة عثمان ، وقد بلغ الكبر ، فقام حجر عليه ونعر نعرة أي صيحة شديدة قال له : أيها الإنسان ، إنك لا تدري بمن تولع من هرمك! أصبحت مولعا بذمّ أمير المؤمنين وتقريظ المجرمين! وقد حبست عنّا أرزاقنا وليس ذلك لك ، ولم يكن يطمع في ذلك من كان قبلك فأمر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا. فقام معه أكثر من ثلثي الناس يتنادون : برّ والله حجر وصدق ، مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا ، فانا لا ننتفع بقولك هذا ولا يجدي علينا شيئا! فسكت المغيرة ونزل ودخل.

فدخل عليه قومه فكان أشدّهم عليه عبد الله بن أبي عقيل الثقفي عظّموا عليه أمر حجر وقوله وجرأته عليه وسخط معاوية عليه إذا بلغه ذلك ووهن سلطانه.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥ ، والآية ١٣٥ من سورة النساء.

٥٤٦

فقال لهم : إنه قد اقترب أجلي وضعف عملي ، ولا احبّ أن ابتدئ أهل هذا المصر بقتل خيارهم! وسفك دمائهم! فيسعدوا بذلك وأشقى! ويعزّ في الدنيا معاوية ويذل يوم القيامة المغيرة! وسيذكروني لو قد جرّبوا العمّال بعدي ، إنه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيفعل شبيها بما ترونه يصنع بي فيأخذه عند أول وهلة فيقتله شرّ قتلة (١)!

وكتب معاوية إلى المغيرة أن يمدّه بمال ، فجهّز له المغيرة قافلة ، فلما فصلت القافلة جاء حجر بجمع من أصحابه فحبس القافلة وقال حجر : والله لا تذهب حتّى يعطى كل ذي حقّ حقّه (المتأخر) وقال شباب ثقيف للمغيرة : ائذن لنا نقتله! فقال : ما اقتل حجرا أبدا! فبلغ ذلك معاوية فأراد عزله (٢).

وبلغ ذلك المغيرة فأراد أن يدرك ذلك فيستدركه ، فقدم عليه وشكا إليه ضعفه واستعفاه. وكان مع المغيرة كاتبه ابن خنيس فأحسّ أن معاوية يريد أن يولي الكوفة سعيد بن العاص الأموي وانتهى الخبر إلى المغيرة ، فدخل على يزيد بن معاوية ، وهو يومئذ ابن خمس وعشرين سنة فعرّض بالبيعة له بالكوفة بولايته العهد (٣)! ولعلّه لعلمه بتمهيد معاوية له.

المغيرة وولاية العهد ليزيد :

دخل المغيرة على يزيد وقال له : إنه قد ذهب أعيان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكبراء قريش وذوو أسنانهم ، وإنّما بقي أبناؤهم ، وأنت من أفضلهم! وأحسنهم

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

(٢) تاريخ الشام لابن عساكر ٤ : ٨٤ ، وعنه في تعاليق الغارات ٢ : ٨١٥.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٣٠١ ـ ٣٠٢ عن المدائني ، عن الشعبي. وفي الإمامة والسياسة : ١٦٥ : أنه فاتح معاوية بذلك رأسا.

٥٤٧

رأيا! وأعلمهم بالسنّة والسياسة! ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين! أن يعقد لك البيعة! فقال يزيد : أو ترى يتمّ ذلك؟ قال : نعم! فدخل يزيد على أبيه وأخبره بما قال المغيرة.

فأحضر معاوية المغيرة وسأله : ما يقول يزيد؟ قال : يا أمير المؤمنين! قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان! وفي يزيد منك خلف! فاعقد له ، فإن حدث بك حادث كان للناس كهفا ومنك خلفا ، ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة!

فقال معاوية : ومن لي بهذا؟ قال : أنا أكفيك أهل الكوفة ، وزياد يكفيك أهل البصرة ، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك! قال : فارجع إلى عملك وتحدّث مع من تثق إليه في ذلك ، وترى ونرى. فودّعه وعاد إلى أصحابه فقال لهم : لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمّة محمّد (كذا) وفتقت عليهم فتقا لا يرتق أبدا (١)!

المغيرة يكفّر معاوية :

قضي مرام المغيرة من سفرته هذه ، وحيث تزلّف فيها إلى معاوية ، وتحدّث معه عن كبر سنّه ورغّبه في تولية عهده ليزيد ، كأنّه طمع فيه أن يبسط عدلا ويظهر خيرا ، ويصل أرحام بني هاشم ، وكان يذهب إليه في الليالي يتحدّث معه ، فخلا به ليلة فقال له :

يا أمير المؤمنين! إنك قد بلغت سنّا وقد كبرت ، فلو أظهرت عدلا وبسطت خيرا ، ونظرت إلى إخوتك من بني هاشم! فوصلت أرحامهم ، فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه ، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه!

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ٣ : ٢١٤ ، وانظر الغدير ١٠ : ٢٢٩.

٥٤٨

فقال له : هيهات هيهات! أيّ ذكر أرجو بقاءه! ملك أخو تيم (أبو بكر) فعدل وفعل ما فعل ، فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكره ، إلّا أن يقول قائل : أبو بكر! ثمّ ملك أخو عدي (عمر) فاجتهد وشمّر عشر سنين ، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره ، إلّا أن يقول قائل : عمر! ثمّ ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه ، فعمل ما عمل وعمل به ، فو الله ما عدا أن هلك فهلك ذكره وذكر ما فعل به! وإن أخا هاشم ـ أو : ابن أبي كبشة ـ يصرخ به في كل يوم خمس مرّات : «أشهد أن محمّدا رسول الله» فأيّ عمل يبقى مع هذا؟ لا أمّ لك؟! لا والله إلّا دفنا دفنا!

نقل الخبر الزبير بن بكار ، عن المدائني ، عن مطرّف بن المغيرة قال : كان أبي يذهب كلّ ليلة فيتحدّث مع معاوية ثمّ ينصرف إليّ فيذكر من عقله ويعجب برأيه! وعاد ذات ليلة مغتما وأمسك عن العشاء فانتظرته ساعة ثمّ قلت له : ما لك أراك مغتما؟ فقال لي : يا بنيّ! جئتك من عند أخبث الناس وأكفرهم! قلت : وما ذاك؟ قال : فحدّث بذلك الحديث (١)!

وفد العراق لولاية عهد يزيد :

أجل ، أجّل المغيرة عشاءه مع ابنه المطرّف مغتما مما هاله من اكتشاف أشدّ الخبث والكفر والنفاق في صاحبه وأميره معاوية ، وإلّا فإنّ هذا لم يحرّك فيه الغيرة ليغيّر على معاوية ما وعده به من كفايته أمر أهل الكوفة لحملهم على الإذعان بولاية يزيد لعهد أبيه معاوية ، بل عاد إلى الكوفة وأخذ يذاكر من عرفه بتشيّعه

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٥٤ عن الموفّقيات للزبير بن بكار ، والاربلي في كشف الغمة ٢ : ٤٢ عنه كذلك ، وشرح النهج للمعتزلي ٥ : ١٢٠ كذلك ، ونقله المسعودي عن نديم المأمون للمأمون أيضا.

٥٤٩

لمعاوية وبني أمية في أمر يزيد ، فأجابه جماعة منهم إلى ذلك ، فأوفد منهم وفدا : عشرة مع ابنه الآخر موسى ، وأعطاهم ثلاثين ألف درهم لكلّ واحد منهم ثلاثة آلاف! أو أربعين رجلا مع ابنه الآخر عروة بأربعمائة دينار لكلّ واحد منهم عشرة دنانير!

فلما دخلوا على معاوية قالوا له : إنهم إنما شخصوا إليه للنظر في أمر أمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله! ثمّ قالوا له :

يا أمير المؤمنين! لقد كبر عمرك وخفنا انتشار الحبل ، فانصب لنا علما وحدّ لنا حدّا ننتهي إليه!

فقال لهم : أشيروا علي! فقالوا : نشير عليك بابنك يزيد! فقال لهم : أو قد رضيتموه! قالوا : نعم! قال : وهذا رأيكم؟ قالوا : نعم ومن معنا من ورائنا! فقال لهم : ننظر ما قدمتم له ويقضي الله ما أراد! والأناة خير من العجلة! فكونوا على رأيكم ولكن لا تعجلوا بإظهاره!

ثم سأل موسى سرّا : بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال : بثلاثين ألف درهم! أو قال ذلك لعروة فقال : بأربعمائة دينار! فقال : لقد هان عليهم دينهم! أو : لقد وجد دينهم رخيصا عندهم (١)!

وإنّ رخص دين هؤلاء العراقيين الكوفيّين الأمويين وهوان دينهم عليهم وإذعانهم لولاية عهد يزيد ، أطمع معاوية في البصريّين العثمانيين ولعلهم كانوا أولى بذلك ، والمغيرة كان قد أغرى معاوية في ذلك بزياد وهو أولى بذلك إذ أصبح عمّ يزيد! ومع ذلك اكتفى معاوية في كتابه إلى زياد باستشارته في ذلك! بدون أن يخبره بما فعل المغيرة ووفده ، فكتب زياد إليه يشير عليه بالتوئدة وأن لا يعجل في ذلك ، وقبل منه معاوية فكفّ عنه بعض الشيء.

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ٣ : ٢١٤ ـ ٢١٥ ، وانظر الغدير ١٠ : ٢٢٩ ـ ٢٣٠. ولم يذكره الطبري.

٥٥٠

وعمد زياد إلى عبيد بن كعب النميري البصري وقال له : إن أمير المؤمنين! كتب إليّ يستشيرني في عزمه على بيعة ابنه يزيد! وهو يتخوّف نفرة الناس من ذلك! ذلك أنّ يزيد صاحب رسلة وتهاون ، مع ما قد أولع به من الصيد! فما تقول؟

فقال : أنا ألقى عنك يزيد سرّا عن أبيه معاوية فأخبره عنك أن أباه معاوية كتب إليك يستشيرك في بيعته ، وأنك تخاف خلاف الناس ، لهنات ينقمونها عليه ، وأنك ترى له ترك ما ينقم عليه ، فتستحكم له الحجة على الناس ، ثمّ شخص وفعل ما قاله (١).

موت المغيرة وزياد على العراقين :

لعلّه لم يمرّ على عودة وفد المغيرة عهد بعيد حتّى لحقهم الطاعون بالكوفة ، فهرب المغيرة من الطاعون وخفّ الطاعون فعاد إليها فاصيب بها ومات في سنة تسع وأربعين (٢) في شهر شعبان (٣) وكان رجلا طوالا أعور أصيبت عينه في اليرموك ، مات وهو ابن سبعين سنة. فكتب معاوية إلى زياد بعهده على الكوفة مع البصرة ، وكان سمرة بن جندب الأنصاري بعد زيارته معاوية وتأويله له الآيتين من سورة البقرة بشأن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وقاتله ابن ملجم بالتحريف ، كان قد قدم البصرة ، فاستخلفه زياد عليها وشخص بأهله إلى الكوفة ، فأقام بها إلى آخر تلك السنة ستة أشهر ، ثمّ أخذ يختلف بينها وبين البصرة كل ستة أشهر (٤).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢٠٢ عن المدائني البصري باختصار.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٢٣٣ ، ومروج الذهب ٣ : ٢٤ ، وهذا التاريخ أوفق مع سائر الحوادث التالية.

(٣) تاريخ خليفة : ١٢٨ ، والطبري ٥ : ٢٣٤.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ٢٣٤ ـ ٢٣٥.

٥٥١

زياد أميرا على الكوفة :

دخل زياد الكوفة وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : إنّ هذا الأمر أتاني وأنا بالبصرة ، فأردت أن أشخص إليكم في ألفين من شرطة البصرة (كذا) ثمّ ذكرت أنكم أهل حقّ! فأتيتكم في أهلي ... فحصبوه حتّى أمسكوا! فدعا خاصّته ، وأمر فوضع له كرسيّ على باب المسجد (وسدّ سائر الأبواب) ثمّ أمر أن يخرجوا أربعة أربعة! فيحلفون له أنهم لم يحصبوه ، فمن لم يحلف منهم عزله وحبسه ، فكانوا ثمانين أو ثلاثين رجلا! فأمر بهم فقطعوا أيديهم في المكان! ثمّ أمر فبنوا له المقصورة للمحراب كما فعل معاوية.

وأتاه عمارة بن عقبة بن معيط الأموي الذي كان قد بقي بالكوفة جاسوسا لمعاوية ، ومعه يزيد بن رويم الشيباني وعمرو بن حريث المخزومي ، فأخبره الأوّلان : أن «شيعة أبي تراب» يجتمعون إلى عمرو بن الحمق الخزاعي! فقال الثالث المخزومي : ما يدعوك إلى رفع تقرير فيما لا تتيقّنه ولا تدري عاقبته! بل ما كان (عمرو بن الحمق) أكثر إقبالا على ما ينفعه منه اليوم! فأمرهم زياد أن يقوموا إليه ويقولوا له عنه : ما هذه الزرافات التي تجتمع عندك؟! من أرادك أو أردت كلامه ففي المسجد. ثمّ قال : ولو علمت أن مخّ ساقه يسيل من بغضي فلا اهيجه حتّى يخرج عليّ (١).

وكان من بقايا خوارج النهروان بالبصرة : زحّاف الطائي وقريب الايادي وكانا ابني خالة ، وكأنّهم تجرّءوا بعد خروج زياد منها إلى الكوفة أن يخرجوا بها في شهر رمضان سنة (٤٩ ه‍) ومعهم سبعون رجلا من بني يشكر من همدان ، فأمر زياد خليفته سمرة بالاشتداد عليهم ، واشتد سمرة بالبصرة حتّى أنّه لما

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

٥٥٢

عاد زياد إليها في أول سنة الخمسين كان سمرة قد استعرض أهل البصرة فقتل منهم ثمانية آلاف! فقال له زياد : هل تخاف أن تكون قتلت بريئا أحدا! قال : لو كنت قتلت معهم مثلهم ما خشيت من ذلك! وكان منهم سبعة وأربعون من بني عديّ من قرّاء القرآن وحفّاظه (١).

كان يؤتى بالرجل فيقول له : ما دينك؟ فيشهد الشهادتين ويتبرّأ من الخوارج ، ومع ذلك يقتله (٢).

فعزله معاوية ، فكان يقول : لعن الله معاوية! والله لو أطعت الله كما أطعته ما عذّبني أبدا (٣)!

وتعقّب المولى سعيد بن سرح :

مرّ في أخبار صلح الإمام عليه‌السلام أخذه الأمان لعامّة أصحابه ولخاصّة منهم ، ولم يذكر فيهم سعيد بن سرح ، ولكن ابن خلّكان قال : لما استلحق معاوية زيادا

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٢٩٢.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٢٩١. وفي تهذيب ابن حجر ٤ : ٢٣٧ : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد قال له ولأبي هريرة وأبي محذورة : آخركم موتا في النار! فمات أبو هريرة في المدينة سنة (٥٩) وبقي هو بالبصرة وأبو محذورة بمكة فكان كلّ منهما يسأل المسافرين عن الآخر حتى مات أبو محذورة قبل سمرة كما في أنساب الأشراف ١ : ٥٢٧ فأخذت سمرة الزمهريرة وكزاز شديد فكان يتعالج بالقعود على قدر مملوءة ماء حارّا فسقط فيها فمات آخر تسع وخمسين ، كما في أسد الغابة ٢ : ٣٥٥ أو بالكوفة بعد قتل الحسين عليه‌السلام وعقبه بها كما في المعارف لابن قتيبة : ٣٠٥ وقال : قال النبي ذلك لعشرة من أصحابه! وفي البلاذري قال : آخر أصحابي موتا وهما تحريف.

٥٥٣

وقرّبه وأحسن إليه وولّاه ، صار من أكبر الأعوان على بني علي رضى الله عنه حتّى قيل : إنّ زيادا لما كان أمير العراقين طلب رجلا من أصحاب الحسن رضى الله عنه يعرف بابن سرح ، وكان في الأمان الذي كتبه لأصحابه رضى الله عنه فكتب الحسن إلى زياد : «من الحسن إلى زياد ، أما بعد ، فقد علمت ما كنّا أخذنا لأصحابنا من الأمان ، وقد ذكر لي ابن سرح أنك عرضت له ، فأحبّ أن لا تعرض له إلّا بخير ، والسلام» (١).

وروى المعتزلي ، عن الشرقي بن القطامي قال : كان سعيد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس «شيعة» لعلي عليه‌السلام ، فلما قدم زياد الكوفة طلبه ، فخافه فأتى الحسن عليه‌السلام مستجيرا به ، فوثب زياد على أهله وأولاده وأخيه فحبسهم! وصادر أمواله ونقض داره! فكتب الحسن عليه‌السلام إلى زياد :

«من الحسن إلى زياد ، أما بعد ، فإنك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم ، فهدمت داره وأخذت ماله وحبست أهله وعياله! فإن أتاك كتابي هذا فابن له داره واردد عليه عياله وماله ، وشفّعني فيه ، فقد أجرته ، والسلام».

فكتب إليه زياد : من زياد بن أبي سفيان! إلى الحسن بن فاطمة ، أما بعد ، فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي! وأنت طالب حاجة ، وأنا سلطان وأنت سوقة! وتأمرني فيه بأمر المطاع المسلّط على رعيّته! كتبت إليّ في فاسق آويته إقامة منك على سوء الرأي! ورضا منك بذلك وايم الله لا تسبقني به ولو كان بين جلدك ولحمك وإن نلت بعضك! غير رفيق بك ولا مرع عليك! فإنّ أحبّ لحم عليّ أن آكله للّحم الذي أنت منه! فسلّمه بجريرته (؟) إلى من هو أولى به منك! فإن عفوت عنه لم أكن شفّعتك فيه؟ وإن قتلته فلا أقتله إلّا لحبّه أباك الفاسق! والسلام.

__________________

(١) وفيات الأعيان ٢ : ٣٨٨ ط بولاق ، في ترجمة يزيد بن المفرّغ الحميري. ونقل مثله المعتزلي في شرح النهج ١٦ : ١٨ عن المدائني البصري وهو الأصل في الخبر. وانظر مسند الإمام المجتبى للعطاردي : ب ٥٧.

٥٥٤

فلما ورد الكتاب على الحسن عليه‌السلام قرأه وتبسّم ، وكأنّه عليه‌السلام علم أنّه إنما غضب لعدم نسبته في كتابه إلى أبي سفيان! فكتب في جواب كتابه : «من الحسن بن فاطمة إلى زياد بن سمية! أما بعد ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «الولد للفراش ، وللعاهر الحجر» والسلام. وكتب بذلك إلى معاوية وضمّ إليه كتاب زياد.

فلما قرأ معاوية كتاب زياد إلى الحسن ضاقت به الشام! وكتب إلى زياد : أما بعد فإنّ الحسن بن علي بعث إليّ بكتابك إليه جوابا عن كتاب كتبه إليك في ابن سرح ، فأكثرت العجب منك! وعلمت أن لك رأيين : أحدهما من أبي سفيان والآخر من سمية! فأمّا الذي من أبي سفيان فحلم وحزم! وأما الذي من سميّة فما يكون من رأي مثلها! ومن ذلك كتابك إلى الحسن تشتم أباه وتعرّض له بالفسق ، ولعمري إنك الأولى بالفسق من أبيه! فأمّا أن الحسن بدأ بنفسه ارتفاعا عليك فإنّ ذلك لو عقلت لا يضعك! وأما تسلّطه بالأمر فحقّ لمثل الحسن أن يتسلّط! وأمّا تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك فحظّ دفعته عن نفسك إلى من هو أولى به منك ، فإذا ورد عليك كتابي فخلّ ما في يديك من سعيد بن سرح وابن له داره واردد عليه ماله ولا تعرض له ، وقد كتبت إلى الحسن أن يخيّره : إن شاء أقام عنده وإن شاء رجع إلى بلده ، فلا سلطان لك عليه بيد أو لسان!

وأما كتابك إلى الحسن باسمه واسم أمّه ولا تنسبه إلى أبيه ، فويحك إن الحسن من لا يرمى به في رجوان (الآبار) وإلى أيّ أمّ وكلته ـ لا أمّ لك ـ أما علمت أنّها فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بلا آله) فذلك ـ إن كنت تعلمه وتعقله ـ أفخر له (١).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٩٤ ـ ١٩٥. ومختصر الخبر في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٧.

٥٥٥

وكان ذلك من الإمام عليه‌السلام إنكارا لمنكر معاوية في استلحاقه زيادا ، ومن زياد زيادة في قيادة الشرّ والضرّ ، ومن معاوية محاولة لتلميع صورته وتخفيض صوت الإمام بإنكار منكرات معاوية ، ولا نملك دليلا على أن لا يكون من بعض التأثر بشيء من نصيحة المغيرة له ، وليمهّد لعهد يزيد.

مصاهرة معاوية لبني هاشم :

لم يطمع معاوية في مصاهرة الحسنين عليهما‌السلام ولكنّه طمع في مصاهرة عبد الله بن جعفر وزينب ابنة علي والزهراء عليهما‌السلام ، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم ، فكتب إليه أن يخطب ليزيد ابنة عبد الله بن جعفر من زينب : أمّ كلثوم (١) لصلح الحيّين بني اميّة وبني هاشم ، وعلى قضاء ديون ابن جعفر وحكمه لصداق ابنته. فبعث مروان إلى ابن جعفر يخطب إليه ، فقال عبد الله : إن أمر نسائنا إلى الحسن بن علي فاخطب إليه. فأتى مروان الحسن عليه‌السلام خاطبا ، فقال له الحسن عليه‌السلام : اجمع من أردت ، فأرسل مروان فجمع الحيّين بني أمية وبني هاشم.

وتكلم مروان فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد ، فإن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن أخطب (أم كلثوم) (٢) بنت عبد الله بن جعفر ليزيد بن معاوية على صلح الحيّين بني أمية وبني هاشم ، وعلى حكم أبيها في الصداق وقضاء دينه بالغا ما بلغ! ويزيد بن معاوية كفؤ من لا كفؤ له! ولعمري لمن يغبطكم بيزيد أكثر ممّن يغبط يزيد بكم! فيزيد ممّن يستسقى بوجهه الغمام! وسكت.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٤ ، وانظر المعارف لابن قتيبة : ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

(٢) في مقتل الخوارزمي ١ : ١٢٤ : زينب ، خطأ.

٥٥٦

فتكلم الحسن عليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما ما ذكرت من حكم أبيها في الصّداق ؛ فإنا لم نكن لنرغب عن سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أهله وبناته! وأما قضاء دين أبيها ؛ فمتى قضت نساؤنا بمهورهن ديون آبائهن؟! وأما صلح الحيّين ؛ فنحن عاديناكم لله وفي الله ، فلا نصالحكم للدنيا! وأمّا قولك : يزيد كفؤ من لا كفؤ له ؛ فأكفاؤه اليوم أكفاؤه بالأمس لم يزده سلطانه! وأما قولك : من يغبطنا بيزيد أكثر ممن يغبطه بنا ؛ فإن كانت الخلافة قادت النبوّة فنحن المغبوطون ، وإن كانت النبوّة قادت الخلافة فهو المغبوط بنا ، وأما قولك : إن الغمام يستسقى بوجه يزيد ، فإن ذلك لم يكن إلّا لآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ قال : فاشهدوا جميعا : أني قد زوّجت أمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر من ابن عمها القاسم بن محمد بن جعفر على أربعمائة وثمانين درهما ، وقد انحلتهما ضيعتي بأرض العقيق ، وإن نحلتها في السنة ثمانية آلاف دينار ، ففيها لهما غنى إن شاء الله.

فقال مروان : أغدرا يا بني هاشم! فقال الحسن عليه‌السلام : واحدة بواحدة.

وكتب مروان بذلك إلى معاوية (١).

وفود البصرة في عهد سمرة :

غيّر موت المغيرة الوضع في العراقين لصالح أمير الفاسقين معاوية ، فقد خفّف المغيرة في آخر عمره في الكوفة ، وأبى زياد العمل لعهد يزيد بالبصرة ، فأرسله معاوية إلى الكوفة ليتشدّد له عليهم ، وتخلو البصرة منه فيستوفد منها لعهد يزيد ، وهكذا فعل.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٤ ـ ٤٥ ثمّ نقل أبياتا ، وفي مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي ١ : ١٢٤ ، وأبو القاسم : محمد بن جعفر كان في فتح تستر فقتل شهيدا ، وله مقبرة عامرة خارج بلدة دزفول. فلم يكن يومئذ حاضرا ، كما في المعارف أيضا.

٥٥٧

وأطول ما بأيدينا من الأخبار عن أقوال الرجال بمحضر وفد البصرة كتاب «تاريخ الخلفاء» للدينوري المعروف بالإمامة والسياسة ، فيما فيها من التصريح بكونها على عهد الحسن عليه‌السلام أي في عام (٤٩ ه‍) ، واختصر أخباره المسعودي في «مروج الذهب» وأرّخ الوفد بسنة (٥٩ ه‍) وحذف منها التصريح بكونها في عهد الحسن عليه‌السلام ، والراجح هو الأول ، ونختار اختصار المسعودي ، قال :

وفي سنة تسع [وأربعين] وفد على معاوية وفد الأمصار من العراق وغيرها ، ومنهم الأحنف بن قيس التميمي السعدي في آخرين من وجوه الناس.

وكان الضحاك بن قيس الفهري القرشي أمير شرطة معاوية ، ففاتحه معاوية بتوليته عهده ليزيد وقال له : إني جالس من غد للناس فأتكلم بما شاء الله! فإذا فرغت من كلامي فقم وقل في يزيد ما يحقّ له عليك! وادع الناس إلى بيعته ، وقد أمرت عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ، وعبد الله بن عضاة الأشعري ، وثور بن معن السلمي : أن يصدّقوك في كلامك! وأن يجيبوك إلى دعوتك!

ولما كان الغد قعد معاوية وأدخلوا عليه ، فخطبهم فأعلمهم بما رأى من حسن رعاية ابنه يزيد وهديه! وأن ذلك دعاه إلى أن يولّيه عهده! فقام الضحاك فأجابه إلى ذلك وحضّ الناس على البيعة ليزيد وقال لمعاوية : اعزم على ما أردت! فقام عبد الرحمن الثقفي ثمّ عبد الله بن عضاة الأشعري ثمّ ثور بن معن السلمي فصدّقوهما ، والأحنف ووفده حضور سكوت ، فقال معاوية : أين الأحنف بن قيس؟ فقام الأحنف فقال : إنّ الناس قد أمسوا في منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان يؤتنف ، ويزيد حبيب قريب ، فإن تولّه عهدك فعن غير كبر مفن ، أو مرض مضن ، وقد حلبت الدهور وجرّبت الأمور ، فاعرف من تسند إليه عهدك ومن تولّيه الأمر بعدك ، واعص رأي من يأمرك ولا يقدّر لك ، ويشير عليك ولا ينظر لك (١)

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٧ ـ ٢٨.

٥٥٨

وأنت أنظر للجماعة وأعلم باستقامة الطاعة! مع أنّ أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن عليه‌السلام حيّا (١).

فقام الضحاك الفهري مغضبا فذكر أهل العراق بالشقاق والنفاق وقال لمعاوية : اردد رأيهم في نحورهم! وقام عبد الرحمن الثقفي فتكلم بمثله ، ثمّ قام رجل من الأزد فأشار إلى معاوية وقال له : أنت أمير المؤمنين فإذا متّ فأمير المؤمنين يزيد ، ومن أبى فهذا وسلّ سيفه! فقال له معاوية : اقعد فأنت من أخطب الناس! فكان معاوية أول من بايع ليزيد ابنه بولاية العهد ، وفي ذلك قال ابن همّام السلولي :

فإن تأتوا برملة أو بهند

نبايعها أميرة مؤمنينا

إذا ما مات كسرى قام كسرى

نعدّ ثلاثة متنا سقينا

فيا لهفا لو أنّ لنا أنوفا

ولكن لا نعود كما عنينا

إذا لضربتم حتّى تعودوا

بمكة تلعقون بها السّخينا

حسينا الغيظ حتّى لو شربنا

دماء بني امية ما روينا

لقد ضاعت رعيتكم وأنتم

تصيدون الأرانب غافلينا

وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم ، فكتب إليه يعلمه باختياره ليزيد ومبايعته إياه بولاية عهده ويأمره بمبايعته وأخذ البيعة له على من قبله! فلما قرأ مروان ذلك خرج مغضبا في أهل بيته وأخواله من بني كنانة حتّى أتوا إلى دمشق ، ودخل على معاوية يمشي بين السماطين حتّى إذا دنا منه بقدر ما يسمعه صوته سلّم تكلّم بكلام كثير يوبّخ به معاوية ومنه قوله له : أقم الأمور يا ابن أبي سفيان (كذا) واعدل عن تأميرك الصبيان! واعلم أن لك من قومك نظراء! وأن لهم على مناوأتك وزراء!

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٦٩ وحذفه المسعودي.

٥٥٩

فقال له معاوية يسالمه ويستلينه : أنت نظير! أمير المؤمنين! وعدّته في كلّ شديدة وعضده «والثاني بعد وليّ عهده» فجعله وليّ عهد يزيد وردّه إلى المدينة عزله عنها وولّاها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان (١).

كان هذا اختصار المسعودي لهذه الأخبار ، واختزل في تلخيصه خطبة الأحنف الثانية ردّا على الفهري.

وذكرها الدينوري قال : فقام الأحنف بن قيس فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لمعاوية :

يا أمير المؤمنين! إنا قد فرزنا عنك قريشا فوجدناك أكرمها زندا وأشدها عقدا وأوفاها عهدا! وقد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة ولم تظهر عليها قعصا! ولكنّك أعطيت «الحسن بن عليّ» من عهود الله ما قد علمت : ليكون له الأمر من بعدك ، فإن تف فأنت أهل الوفاء! وإن تغدر تعلم ـ والله ـ إنّ وراء الحسن عليه‌السلام خيولا جيادا وأذرعا شدادا وسيوفا حدادا! إن تدن له شبرا من غدر تجد وراءه باعا من نصر! وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك! ولا أبغضوا عليّا وحسنا منذ أحبّوهما! وما نزل عليهم في ذلك خبر من السماء! وإن السيوف التي شهروها عليك مع عليّ يوم صفين لعلى عواتقهم ، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم! وايم الله إن «الحسن» لأحبّ إلى أهل العراق من «عليّ» (٢).

ثمّ خطب عبد الرحمن الثقفي في ردّ الأحنف التميمي ، ثمّ خطب معاوية فعوى وأنذر وأوعد وهدّد ، فهنا قام الأزدي الشامي وهدّد بسيفه!

فقام الأحنف أخيرا وقال لمعاوية : يا أمير المؤمنين! أنت أعلم بليل يزيد ونهاره وبسرّه وعلانيته ، فإن كنت تعلم أنه خير لك فولّه واستخلفه! وإن كنت

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٨ وفي غيره : ولّاها سعيد بن العاص الأشدق.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ١٧٠.

٥٦٠