موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

ثمّ قام زياد فحمد الله وأثنى عليه! ثمّ قال لهم : أيها الناس ، إنّ معاوية والشهود قد قالوا ما سمعتم ، ولست أدري حقّ هذا من باطله! وهو والشهود أعلم بما قالوا! وإنّما عبيد أب مبرور ووال (لا والد) مشكور! وسكت ونزل (١).

وزوّج معاوية إحدى بناته لمحمد بن زياد ليؤكّد بذلك صحّة الاستلحاق! وبلغ ذلك أخاه نفيعا أبا بكرة الصحابي ، فكره ذلك وأنكره وقال فيه : إنّه انتفى من أبيه وزنى أمه ، لا والله ما علمت سميّة رأت أبا سفيان! يا ويله (٢)! فقيل له : يزعم الناس أنك تجد على معاوية وزياد في أمر الدنيا! فقال : لا والله ، ولكن القوم كفروا صراحية (٣).

وقال اليعقوبي : إنّ زيادا أحضر لذلك شهودا أربعة شهد أحدهم أنه سمع عليّا عليه‌السلام قال : كنا جلوسا عند عمر بن الخطاب حين أتاه زياد برسالة أبي موسى الأشعري ، فتكلّم زياد بكلام أعجبه ، فقال له : أتقول هذا للناس على المنبر؟ قال : هم أهون عليّ منك! فقال أبو سفيان : والله لهو ابني ولأنا وضعته في رحم أمّه! فقلت له : فما يمنعك من ادّعائه؟ قال : مخافة هذا العير الناهق (٤)!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٨٧ عن المدائني البصري. وانظر مروج الذهب ٣ : ٦ ـ ٨.

(٢) انظر ترجمة زياد في الاستيعاب.

(٣) أنساب الأشراف ١ : ٤٩٤.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٨ وقارنه بما عن البلاذري والواقدي والكلبي في شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٨٠ ـ ١٨١ ، وخبره في باب الأدعياء من الجاهلية من كتاب مثالب العرب : ١٣٠. وانظر الغدير ١٠ : ٢١٦ ـ ٢٢٧ ، واكتفى ابن الخياط بقوله : وفي (٤٤ ه‍) كان من أمر معاوية وزياد الذي كان ١ : ١٢٦.

٥٢١

معاوية وابن عباس وابن العاص :

يظهر من خبر نقله الصدوق بسنده عن عبد الملك بن مروان : كأنه قد بلغ معاوية أنه لما بلغ عبد الله بن عباس استلحاق معاوية لزياد ، كان ممّن نفا زيادا عن ابن حرب ، ووفد ابن عباس على معاوية وعنده ابن العاص ، فقال له معاوية : يا بني هاشم ؛ بم تفخرون علينا أليس الأب والأم واحدا والدار والمولد واحدا؟!

فقال ابن عباس : نفخر عليكم بما أصبحت تفخر به على سائر قريش ، وتفخر قريش به على الأنصار ، وتفخر به الأنصار على سائر العرب ، وتفخر به العرب على العجم : برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبما لا تستطيع له إنكارا ولا منه فرارا!

فقال له معاوية : يا ابن عباس! لقد اعطيت لسانا ذلقا تكاد تغلب بباطلك حقّ سواك!

فقال ابن عباس : مه! فإنّ الباطل لا يغلب الحقّ ، ودع عنك الحسد فلبئس الشعار الحسد!

فصدّقه معاوية وقال له : أما والله إني لأحبّك لخصال أربع مع مغفرتي لك خصالا أربعا! فأمّا ما أحبّك له : فإنّك رجل من أسرتي وأهل بيتي ومن مصاص (خالص) عبد مناف ، والثانية : كان أبي خلًّا لأبيك! والثالثة : لقرابتك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! والرابعة : أنك لسان قريش وزعيمها وفقيهها! والأربع التي غفرت لك : فإساءتك في خذلان عثمان فيمن أساء! ثمّ سعيك فيمن سعى على عائشة أم المؤمنين! ثمّ عدوك عليّ فيمن عدا بصفّين! ثمّ نفيك عنّي زيادا فيمن نفى! واستخرجت عذرك من كتاب الله عزوجل قوله : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً)(١) وقال أخو بني ذبيان :

ولست بمستبق أخا لا تلمّه

على شعث ، أيّ الرجال المهذّب؟

__________________

(١) التوبة : ١٠٢.

٥٢٢

وقد قبلت فيك الأربع الأولى ، وغفرت لك الأربع الأخرى فكنت كما قال الأول :

سأقبل ممن قد أحبّ جميله

وأغفر ما قد كان من غير ذلكا

فحمد الله ابن عباس ثمّ قال : أما ما ذكرت أنك تحبّني لقرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فذلك الواجب عليك وعلى كل مسلم آمن بالله ورسوله ؛ لأنّه الأجر الذي سألكم رسول الله على ما آتاكم به من الضياء والبرهان المبين فقال عزوجل : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)(١) فمن لم يحب رسول الله إلى ما سأله خاب وخزي وكبا في جهنّم! وأما صداقة أبيك لأبي فقد سبق فيه قول الأول :

سأحفظ من آخى أبي في حياته

وأحفظه من بعده في الأقارب

ولست لمن لا يحفظ العهد وامقا

ولا هو عند النائبات بصاحب

وأما أني رجل من اسرتك وأهل بيتك فذلك كذلك ... وأما أني لسان قريش وفقيهها وزعيمها فإنك قد اوتيتها (٢)!

وأما خذلان عثمان ، فقد خذله من كان أمسّ رحما به منّي (يعني معاوية) ولي في الأقربين والأبعدين أسوة ، وإني لم أعد عليه فيمن عدا بل كففت عنه كما كفّ أهل الحجى والمروّات!

وأما سعيي على عائشة ؛ فإنّ الله تعالى كان قد أمرها أن تقرّ في بيتها وتحتجب بسترها! فلمّا خالفت نبيّها وكشفت جلباب الحياء وسعنا ما كان إليها منّا!

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

(٢) يستبعد أن يقرّ له ابن عباس بالفقه في الدين ، ولا يخفى أن الراوي عبد الملك الأموي.

٥٢٣

وأما عدوي عليك بصفّين ؛ فو الله لو لم أفعل لكنت من ألأم العالمين! أفكانت نفسك ـ يا معاوية ـ (كذا بلا لقب) تحدّثك أني أخذل ابن عمي أمير المؤمنين وسيد المسلمين ، وقد حشّد له المهاجرون والأنصار والمصطفون الأخيار؟! ولم ـ يا معاوية ـ الشكّ في ديني؟ أم لحيرة في سجيّتي؟ أم ضنّا (بخلا) بنفسي؟!

وأما ما ذكرت من نفي زياد ؛ فإني لم أنفه بل نفاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال :«الولد للفراش وللعاهر الحجر» ولكنّي بعد هذا لأحبّ ما سرّك في جميع امورك!

فقال ابن العاص : يا أمير المؤمنين! والله ما أحبّك ساعة قط! غير أنّه قد أعطي لسانا ذربا يقلّبه كيف يشاء! فقال ابن عباس : إن عمرا دخل بين العصا واللحاء ، وبين العظم واللحم! وقد تكلم فليستمع :

أما والله يا عمرو ؛ إني لأبغضك في الله وما أعتذر منه (١) قد قال الله تبارك وتعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ)(٢) وقد حاددت الله ورسوله قديما وحديثا ، ولقد جهدت على رسول الله جهدك ، وأجلبت عليه بخيلك ورجلك ، حتّى إذا غلبك الله على أمرك ، وردّ كيدك في نحرك ، وأوهن قوتك وأكذب أحدوثتك ، نزعت وأنت حسير! ثمّ كدت بجهدك لعداوة أهل بيت نبيّه من بعده ، ليس ذلك من حبّ لمعاوية ولا آل معاوية ، ولكن عداوة لله ولرسوله ، مع بغضك وحسدك القديم لأبناء عبد مناف!

فبدأ عمرو يتكلم فقال له معاوية : أما والله يا عمرو ما أنت من رجاله! فإن شئت فقل وإن شئت فدع!

__________________

(١) هنا نسب الراوي إليه أنه نسب نزول سورة الكوثر بشأن ابن العاص ، والصحيح إلى العاص.

(٢) المجادلة : ٢٢.

٥٢٤

فقال ابن عباس : دعه ـ يا معاوية ـ فو الله لأسمنّه بميسم يبقى عليه عاره وشناره إلى يوم القيامة ، تتحدث به الإماء والعبيد ويتغنّى به في المجالس ويتحدث به في المحافل! والتفت إليه وقال له : يا عمرو! اخسأ أيها العبد وأنت مذموم! فمدّ معاوية يده فوضعها على فم ابن عباس وقال له : أقسمت عليك يا ابن عباس إلّا أمسكت! فأمسك ، وافترقوا (١).

وعاد عمرو فهلك :

اضطرّنا مضمون الخبر السابق أن يسبق هلاك ابن العاص بعد استلحاق معاوية لزياد ، وكأنّ ابن العاص عاد إلى مصر فلما تصرّمت ليالي رمضان تصرّمت ليالي عمر عمرو!

قال اليعقوبي : وليلة عيد الفطر سنة (٤٣) توفي عمرو ... ولما حضرته الوفاة قال لابنه : إني قد دخلت في أمور لا أدري ما عذري عند ربّي! ثمّ نظر إلى ماله كثيرا فقال : يا ليته كان بعرا! يا ليتني متّ قبل هذا اليوم بثلاثين سنة (أي قبل خلافة الخلفاء) أصلحت لمعاوية دنياه وأفسدت ديني! وآثرت دنياي وتركت آخرتي! عمّى عليّ رشدي حتّى حضرني أجلي! كأني بمعاوية قد حوى مالي وأساء خلافتي فيكم! فكان كذلك ، فقد أقرّ معاوية عبد الله بن عمرو على مصر ولكنّه استصفى شطر ماله وحواه وقال : هي سنة عمر! ثمّ شاطر سائر عمّاله. وكانت مصر والمغرب طعمة لعمرو شرطها على معاوية شرطا يوم بايعه .. فكان عمرو يفرّق العطاء في جيشه ثمّ يأخذ ما زاد لنفسه ولا يحمل منه إلى معاوية شيئا حتى مات

__________________

(١) الخصال ١ : ٢١١ ـ ٢١٥.

٥٢٥

عن تسع وتسعين عاما (١) بل تسعين عاما ، وبدأ ابنه بالصلاة عليه ثمّ صلّى العيد. وخلّف عمرو من الذهب : ثلاثمائة ألف دينار ، ومن الفضة ألف درهم ، ومن الغلّات مائتي ألف دينار ، وضيعته المعروفة بالوهط وقيمتها عشرة آلاف ألف درهم (٢).

وضعف الفهري في إدارة البصرة :

كان معاوية يستوفد من عمّاله الوفود ، فأوفد المغيرة الثقفي من الكوفة وفدا فيهم عبد الله بن الكوّاء اليشكري الهمداني فكان خطيبهم. وأوفد ابن عامر الفهري من البصرة وكان قد انتشر عن البصرة انتشار الأمور أو انتثارها. واجتمع الوفدان عند معاوية فكان من سياسته أن سأل معاوية ابن الكوّاء عن الكوفة والبصرة ، فقال له ابن الكوّاء : يا أمير المؤمنين! إن أهل البصرة ضعف عنهم سلطانهم فأكلهم سفهاؤهم! هذا وأهل البصرة حضور. فلما انصرف وفد البصرة بلّغوا ابن عامر بذلك (٣).

وكان لا يعاقب في سلطانه حتّى اللصوص لا يقطعهم! فقيل له في ذلك فقال : كيف أنظر إلى رجل قد قطعت أخاه أو أباه! وأنا أتألّف الناس! وكأنه استحضر لذلك زيادا من الكوفة فشكا إليه ظهور خبث وفساد في الناس. فقال زياد : جرّد سيفك فيهم! قال : أكره أن أصلحهم بفساد نفسي! فبسبب ذلك فسدت البصرة عليه يومئذ (٤).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٣.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٢١٣.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ٢١٢.

٥٢٦

ووفد زياد بذلك على معاوية مع رجل من عبد قيس البصرة ، فقبّح لمعاوية آثار ابن عامر وعرّض بأعماله وعمّاله (١)! وقد روى الطبري أن زيادا كان قد طلب من أهل الكوفة أن يلحقوا نسبه بمعاوية! فقالوا : أبشهادة الزور؟! فلا (٢) بلا تاريخ للخبر هل كان هذا قبل استلحاق معاوية أو بعده؟ فإن كان هذا قبله فلعلّه بلغ هذا معاوية أو أبلغه المغيرة الثقفي ، وأبلغه أن خمّار الطائف أبا مريم السلولي يقول به ، فاستقدمهما معاوية ، واستشهد له أبا مريم.

وعزل ابن عامر عن البصرة :

وكان معاوية قد كتب إلى ابن عامر يطلب منه أن يزوره ، وذلك في سنة (٤٤ ه‍) ، فاستخلف على البصرة قيس بن الهيثم وقدم على معاوية (٣).

فاستأذن العبديّ البصريّ الذي كان مع زياد ، استأذنه أن يزور ابن عامر ، فاشترط عليه زياد أن يخبره بما يجري بينهما! وكان ابن عامر قد علم بأن زيادا قبّح لمعاوية آثار ابن عامر وعرّض بعمّاله ، فلما أتاه العبدي قال له : هيه هيه! أصبح ابن سمية يقبّح آثاري ويعرّض بعمالي! لقد هممت أن آتي بقسامة من قريش يحلفون أنّ أبا سفيان لم ير سميّة!

فأخبر العبديّ زيادا بذلك ، فأخبر زياد بذلك معاوية ، فحجبه فشكا ابن عامر ذلك إلى يزيد بن معاوية فأدخله معه ، فقال له : يا ابن عامر! أنت القائل في زياد ما قلت! أما والله لقد علمت العرب أني لم أتكّثر بزياد من قلة ولم أتعزّز به

__________________

(١) الطبري ٥ : ٢١٤.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٢١٥.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٢١٣ عن المدائني.

٥٢٧

من ذلّة! ولكن عرفت له حقا! فوضعته موضعه! فقال : يا أمير المؤمنين! نرجع إلى ما يحبّ زياد! ثمّ خرج إليه فترضّاه (١)!

ثم قال له معاوية : اختر بين أن احاسبك فيما صار إليك وأتتبّع أثرك وأردّك إلى عملك ، وبين أن اسوّغك ما أصبت وتعتزل! فاختار أن يسوّغه ويعتزل ثمّ قال له : وتنكحني ابنتك هندا! قال : قد فعلت (٢)! ثمّ زوّج ابنته أم كلثوم ليزيد ، كما يأتي.

وكان معاوية عزل ابن عامر ليولّي زيادا ، ولكنّه حلّل بينهما بالحارث بن عمرو الأزدي من أهل الشام بأربعة أشهر! وأعاد زيادا إلى الكوفة فنزل على سلمان بن ربيعة الباهلي ، ينتظر أمر معاوية ، وبلغ المغيرة أن زيادا ينتظر أن تجيء إمارته على الكوفة! فاستخلف عتيبة بن النّهاس العجلي على الكوفة وخرج إلى معاوية وسأله أن يعزله فردّه إلى عمله ، فدعا معبد بن خالد الجدلي وقال له : اذهب إلى ابن سميّة! فرحّله عن البلد إلى ما وراء الجسر قبل أن يصبح فلا يصبح إلّا فيما وراءه! وقدم رسول معاوية على زياد : أن سر إلى البصرة ، فرحل إليها (٣) وتملّك قصرا فأقام فيه واتّخذ له حاجبا.

وكأنه بلغه عزم معاوية على الحجّ ، فكتب إليه يستأذنه في الحجّ ، فكتب إليه يولّيه أمر الموسم ويجيزه بألف ألف (مليون) درهم! فأخذ يتجهّز للحجّ لسنة (٤٤ ه‍) ، وبلغ ذلك أخاه نفيعا أبا بكرة ، فأقبل أبو بكرة يريده وبصر به حاجبه وعلم قصده فأسرع إلى زياد وقال له : هذا أخوك أبو بكرة يريد قصرك!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢١٤ ـ ٢١٥ عن النميري البصري.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٢١٤ عن المدائني.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٢١٦ عن المدائني وغيره.

٥٢٨

قال له : ويحك أنت رأيته؟ قال : ها هو ذا طلع! وكان زياد قاعدا وفي حجره صبيّ يلاعبه ، فجاء أبو بكرة حتّى وقف عليه بلا سلام والتفت إلى الغلام وقال له : يا غلام كيف أنت؟ قال له : إن أباك ركب في الإسلام عظيما! زنّى أمّه وانتفى من أبيه ، ولا والله ما علمت سميّة رأت أبا سفيان قط! ثمّ هو يريد أن يركب ما هو أعظم من ذلك : يوافي الموسم غدا ويوافي أمّ حبيبة بنت أبي سفيان ـ وهي من أمهات المؤمنين ـ فإن استأذن عليها فأذنت له فأعظم بها فرية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومصيبة! وإن هي منعته فأعظم بها على أبيك فضيحة! ثمّ انصرف.

فقال زياد له : جزاك الله يا أخي عن النصيحة خيرا! ساخطا كنت أو راضيا!

ثم كتب إلى معاوية : إني قد اعتللت عن الموسم! فليوجّه أمير المؤمنين إليه من أحبّ فوجّه إليه أخاه عتبة بن أبي سفيان (١).

وكان زياد في شبابه سابقا قد وقع في بني قيس بن ثعلبة على أمة لهم فحملت منه وجاءت بذكر امتلكوه واسموه عبّادا وكان في البصرة خرّازا يخرز القرب ، وكان قد سمع من أمّه ومنهم أنه لزياد بن سميّة ، فلما بدأ زياد يتجهّز جاء أصحاب القرب يعرضون عليه قربهم ، وتقدم فيهم عبّاد فصار يعرض عليه ويحاوره ، وكأن زيادا لمح فيه ملامحه فسأله : ويحك من أنت؟ قال : أنا ابنك! ثمّ قصّ عليه قصّته ، فصدّقه واشتراه منهم وادّعاه وألحقه ، وتزوّج له الستيرة ابنة أنيف بن زياد الكلبي سيدهم على عهده ، وعظم أمره (٢).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٨٨ عن الجاحظ.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٩٣ عن الكلبي النسابة ، وليس في المنشور من كتابه مثالب العرب.

٥٢٩

وحجّ معاوية لسنة (٤٤ ه‍):

فقدم المدينة ، فكان من استقبله من قريش أكثر من الأنصار ، وكان فيهم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري وكان سيّدهم فسأله معاوية : يا معشر الأنصار! ما لكم لا تستقبلوني مع إخوانكم من قريش؟ فقال قيس : أقعدنا ـ يا أمير المؤمنين! ـ أن لم تكن لنا دوابّ. فقال معاوية : فأين النواضح (نواقل الماء) يعيّرهم بها! فقال قيس : يا معاوية! تعيّرنا بنواضحنا! والله لقد لقيناكم عليها يوم بدر وأنتم جاهدون على إطفاء نور الله وأن تكون كلمة الشيطان هي العليا ، ثمّ دخلت أنت وأبوك في الإسلام كرها حين ضربناكم عليه! أما إن رسول الله قال : «إنكم سترون بعدي أثرة» فقال معاوية : فما أمركم؟ قال : أمرنا أن نصبر حتّى نلقاه! فقال : فاصبروا حتّى تلقوه! ثمّ قال له : كأنك تمنّ علينا بنصرتك إيانا! والله لقريش بذلك المنّ والطّول إذ جعلكم الله أنصارنا وأتباعنا فهداكم بنا!

فقال له قيس : إن الله عزوجل بعث محمّدا رحمة للعالمين ، فبعثه إلى الناس كافة إلى الجن والإنس والأسود والأبيض والأحمر ، واختاره لنبوّته واختصّه برسالته ، فكان أوّل من صدّقه وآمن به ابن عمّه علي بن أبي طالب ، وكان أبو طالب عمه يذبّ عنه ويمنع منه ويحول بين كفار قريش وبينه أن يروّعوه أو يؤذوه ، ويأمره بتبليغ رسالات ربّه ، فلم يزل ممنوعا من الضيم والأذى حتّى مات عمه أبو طالب وأمر ابنه عليّا بمؤازرته ونصرته ، فوازره عليّ ونصره وجعل نفسه دونه في كلّ شديدة وكلّ ضيق وكلّ خوف ، واختصّ الله بذلك عليّا من بين قريش وأكرمه من بين جميع العرب والعجم ... فلم يدع قيس شيئا من مناقبه إلّا ذكره واحتجّ به قال : ومن أهل هذا البيت حمزة سيد الشهداء ، وجعفر بن أبي طالب الطيار في الجنة بجناحين اختصّه الله بذلك من بين الناس ، ومنهم فاطمة سيدة نساء العالمين ، فإذا وضعت من قريش رسول الله و «أهل بيته» وعترته الطيبين فنحن والله خير

٥٣٠

ـ يا معشر قريش ـ وأحبّ إلى الله ورسوله وإلى «أهل بيته» منكم! ثمّ لم يدع آية نزلت في عليّ عليه‌السلام إلّا ذكرها.

فعند ذلك غضب معاوية وأمر فكتب كاتبه نسخة إلى عمّاله : ألا برئت الذمّة ممّن روى حديثا في مناقب علي بن أبي طالب أو فضائل أهل بيته! وأمر فنادى مناديه بها في المدينة ، وقام الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ المنابر بلعن عليّ عليه‌السلام والبراءة منه والوقيعة فيه وفي أهل بيته واللعنة لهم (١).

وزاره أبو قتادة الأنصاري الذي كان واليا لعليّ عليه‌السلام على مكة ، فقال له معاوية : يا أبا قتادة ، تلقّاني الناس كلّهم غيركم يا معشر الأنصار ، فما منعكم؟ قال : لم يكن معنا دواب! قال معاوية : فأين النوق النواضح؟ يعيّرهم بحملهم المياه! فأجابه أبو قتادة : عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر! فقال معاوية : نعم يا أبا قتادة (ثمّ ما ذا؟) فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لنا : «ستلقون بعدي أثرة» فقال معاوية : فما أمركم به عند ذلك؟ قال : أمرنا بالصبر. قال : فاصبروا حتّى تلقوه! وكان حسّان بن ثابت قد مات فلما بلغ هذا إلى ابنه عبد الرحمن قال :

ألا أبلغ معاوية بن صخر

أمير المؤمنين نبا كلامي

فإنا صابرون ومنظروكم

إلى يوم التغابن والخصام (٢)

ثمّ جمع النعمان بن بشير بشرا من الأنصار وصار بهم إلى هاوية معاوية فأقرّوا له بفقرهم! واستعطفوه بذكر الحديث النبويّ لهم : «ستلقون بعدي أثرة» وقالوا : لقد لقيناها! فقال لهم معاوية : فما قال لكم؟ قالوا : قال لنا :

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٧٧٧ ـ ٧٨٠ ، الحديث ٢٦. وانظر مروج الذهب ٣ : ١٧ ، وخبرا عن الرضا عليه‌السلام بشأن قيس بن سعد وعبادته وشجاعته. وتخريجه في ٣ : ٩٨٨.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٤١ ، وانظر الغدير ١٠ : ٢٨٢ عن الاستيعاب وابن عساكر.

٥٣١

«فاصبروا حتّى تردوا عليّ الحوض» قال : فافعلوا ما أمركم به عساكم تلاقونه غدا عند الحوض كما أخبركم! ولم يعطهم شيئا!

نقله المعتزلي في شرحه وعلّق عليه يقول : وهذا الخبر هو الذي يكفّر به كثير من أصحابنا (المعتزلة) معاوية بالاستهزاء به (١).

وكما دخل عليه والي عليّ عليه‌السلام على مكة ، دخل عليه والي علي على المدينة أبو أيوب الأنصاري ، وشكا إليه دينا عليه ، فلم يرفع رأسه إليه وجفاه! فقال أبو أيوب : صدق رسول الله : إنكم سترون بعدي أثرة فعليكم بالصبر! فقال معاوية : فأنا أوّل من أصدّقه : صدق رسول الله! فقال أبو أيوب : أجرأة على الله ورسوله؟! فو الله لا أسألك شيئا أبدا ولا اكلمك أبدا ولا يأويني وإياك سقف بيت أبدا (٢) ولعلّه كان أوّل من دخل ونقل له ذلك فكان أوّل من صدّقه في ذلك!

معاوية وسعد في المدينة :

وكان سعد بن أبي وقاص الزهري قد اعتزل القتال ، ونرى أوّل لقاء له بمعاوية هذه السنة في المدينة : دخل عليه فسأله معاوية : ما لك لم تقاتل عليّا؟! قال : مرّت بي ريح مظلمة فأنخت راحلتي حتّى انجلت عنّي فعرفت الطريق فسرت!

فقال معاوية : ولكن في كتاب الله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ)(٣) فو الله ما كنت مع الباغية على العادلة ولا مع العادلة على الباغية!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٣٢.

(٢) الغدير ١٠ : ٢٨٣ عن ابن عساكر.

(٣) الحجرات : ٩.

٥٣٢

فقال سعد : ما كنت لأقاتل رجلا قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي» فكأنّ معاوية أنكر ذلك فسأله : من سمع هذا معك؟ قال : فلان وفلان وأمّ سلمة. فطلب إليه معاوية أن يقوما معا إلى أم سلمة فقاما إليها فسألاها فحدثتهما بما حدّث به سعد. فلما سمع ذلك معاوية قال جدلا : لو سمعت هذا قبل اليوم لكنت خادما لعليّ! حتّى يموت أو أموت (١)!

وروى المفيد الخبر بسنده عن ابن عباس قال : نزل معاوية في حجه المدينة فاستؤذن لسعد بن أبي وقاص عليه ، فقال لجلسائه : إذا أذنت لسعد وجلس فخذوا في عليّ بن أبي طالب! ثمّ أذن له فلما دخل أجلسه معه على سريره!

ثمّ سمعهم سعد يشتمون عليّا عليه‌السلام فاستعبر سعد ، ورآه معاوية فقال له : يا سعد! أتبكي أن يشتم قاتل أخيك عثمان!

فقال سعد : والله ما ملكت بكائي! ثمّ قال : خرجنا من مكة مهاجرين حتّى نزلنا هذا المسجد فكان فيه مبيتنا ومقيلنا ، حتّى أخرجنا منه رسول الله وترك عليّا ، فاشتدّ علينا ذلك ولكنّا هبنا نبيّ الله أن نذكر له ذلك! فقلنا لعائشة : إنّ لنا صحبة مثل صحبة عليّ وهجرة مثل هجرته ، وأخرجنا من المسجد وتركه فيه! فلا ندري أمن سخط الله أو من غضب رسوله! وإنّا نهى به فاذكري له ذلك! فذكرت ذلك له فقال لها : يا عائشة ، لا والله ما أنا أخرجتهم ولا أنا أسكنته ، بل الله أخرجهم وأسكنه!

وغزونا خيبر فانهزم من انهزم فقال نبي الله : «لاعطين الراية اليوم رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله» فدعاه وكان أرمد فتفل في عينه وأعطاه رايته ففتح الله له!

__________________

(١) البداية والنهاية لابن كثير الشامي ٨ : ٧٧ ، وعنه في الغدير ١٠ : ٢٥٨ ، وانظر تعليق الأميني عليه. ونقله في علل الشرائع ١ : ٢٦٠ الباب ١٦٠ في رسالة الشيباني في صلح الحسن عليه‌السلام وذكر استحالته وكذبه.

٥٣٣

وغزونا تبوك مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فودّع عليّ النبي على ثنيّة الوداع وبكى ، فقال له النبي : ما يبكيك؟ فقال : كيف لا أبكي ولم أتخلّف عنك في غزاة منذ بعثك الله تعالى ، فما بالك تخلفني في هذه الغزاة؟

فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنه لا نبيّ بعدي؟

فقال علي : بلى قد رضيت (١).

وابن عباس ومعاوية :

قال اليعقوبي : وزاره عبد الله بن العباس في جماعة من بني هاشم ، وكلّموه في أمورهم ، فقال لهم :

أما ترضون ـ يا بني هاشم ـ أن نقرّ عليكم دماءكم وقد قتلتم عثمان حتّى تقولوا ما تقولون؟! فو الله لأنتم أحلّ دما من فلان وفلان وأعظم لهم في القول!

فقال له ابن عباس : كلّ ما قلت لنا ـ يا معاوية ـ من شرّ بين دفّتيك! وأنت والله أولى بذلك منّا : أنت قتلت عثمان ثمّ قمت تغمص على الناس أنك تطلب بدمه! فانكسر معاوية! فقال ابن عباس : والله ما رأيتك صدقت إلّا فزعت وانكسرت! فضحك معاوية ... ولم يقض لهم حاجة (٢).

وكان ابن عباس يجلس بعلمه للناس ، وقد اجتمع حوله حلقة من قريش ، ومرّ عليهم معاوية فقاموا له إلّا ابن عباس ، فتوقّف وقال له : يا ابن عباس ؛ ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلّا موجدة عليّ بقتالي إياكم في صفّين! يا ابن عباس إن ابن عمي عثمان قتل مظلوما! وكأنه يستثيره بها!

__________________

(١) أمالي الطوسي : ١٧٠ م ٦ ، الحديث ٣٩ عن المفيد وليس في أماليه.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٢٣.

٥٣٤

فقال ابن عباس : فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوما! أفسلمتم الأمر إلى ولده؟! فقال معاوية : إن عمر قتله مشرك. فقال ابن عباس : فمن قتل عثمان؟ قال : المسلمون! قال : فذلك أدحض لحجّتك أن كان المسلمون خذلوه وقتلوه! فبهت معاوية فصرف القول وقال :

يا ابن عباس ، فإنا قد كتبنا إلى الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ وأهل بيته! فكفّ لسانك وأربع على نفسك! فقال ابن عباس : أفتنهانا عن قراءة القرآن؟ قال : لا ، قال : أفتنهانا عن تأويله (أي تفسيره وتطبيقه) قال : نعم! قال : فنقرأه ولا نسأل عن ما عنى به الله؟ قال : نعم! قال : فأيهما أوجب علينا : قراءته أو العمل به؟ قال : العمل به! قال : فكيف نعمل به حتّى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟ قال : سل عن ذلك من يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك! قال : فإنّما أنزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان؟! أو أسأل عنه آل أبي معيط؟ أو اليهود والنصارى؟! قال معاوية : فقد عدلتنا بهم وصيّرتنا منهم! قال : لعمري ما أعدلك بهم ، ولكنّك نهيتنا أن نعبد الله بالقرآن وبما فيه من أمر ونهي أو حلال أو حرام أو ناسخ أو منسوخ أو عام أو خاص أو محكم أو متشابه! وإن لم تسأل الأمة عن ذلك اختلفوا وتاهوا وهلكوا! قال معاوية : فاقرءوا القرآن ولا ترووا شيئا فيما أنزل الله فيكم وما قاله رسول الله فيكم (منع التحديث بالحديث) وارووا ما سوى ذلك! فتلا ابن عباس قوله سبحانه : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(١).

فقال معاوية : يا ابن عباس اكفني نفسك وكفّ عني لسانك! فإن كنت فاعلا فليكن ذلك سرّا ولا يسمعه أحد منك علانية! ثمّ بعث إليه بخمسين ألف درهم (٢)!

__________________

(١) التوبة : ٣٢. وللتفصيل في منع الحديث انظر : تاريخ تدوين الحديث حتّى عهد معاوية.

(٢) سليم بن قيس ٢ : ٧٨٢ ـ ٧٨٤ ، الحديث ٢٦. وتخريجه في ٣ : ٩٨٨.

٥٣٥

أسامة بن زيد وعمرو بن عثمان :

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل حائطا من حوائطه في المدينة لمولاه زيد بن حارثة الكلبي أو بعده لابنه أسامة ، وكأنّ عثمان بن عفان كان قد تصرّف فيه ، فلما قدم معاوية المدينة خاصمه عمرو بن عثمان على ذلك الحائط إلى معاوية بمجمع من الأمويين والهاشميين ، وارتفع الكلام بينهما فقال عمرو لأسامة : تلاحيني (تخاصمني) وأنت مولاي! فغضب أسامة وقال : والله ما أنا بمولاك ولا يسرّني أن أكون في نسبك! مولاي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال عمرو : ألا تسمعون بما يقابلني به هذا العبد؟! يا ابن السوداء ما أطغاك! فقال أسامة : أنت أطغى مني وألأم ، تعيّرني بأمّي! وامي والله خير من امك (المجنونة) هي أمّ أيمن مولاة رسول الله وقد بشّرها رسول الله في غير مرّة بالجنة ، وأبي خير من أبيك صاحب رسول الله وحبّه ومولاه وقتل شهيدا بمؤتة على طاعة الله ورسوله ، وقبض رسول الله وأنا أمير على أبيك وأبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسروات المهاجرين والأنصار (كذا) فأنّى تفاخرني يا ابن عثمان! فقال عمرو : يا قوم أما تسمعون بما يجبهني هذا العبد؟!

فقام مروان فجلس إلى عمرو يدعمه ، فقام الحسن عليه‌السلام فجلس إلى أسامة ، فقام عتبة أخو معاوية فجلس إلى عمرو ، فقام عبد الله بن عباس فجلس إلى اسامة ، فقام سعيد بن العاص فجلس إلى بني أمية ، فقام عبد الله بن جعفر فجلس إلى بني هاشم. فخشى معاوية من تفاقم الأمر فقال : أقول فيه بعلمي؟ قالوا : قل فقد رضينا. فقال : أشهد أن رسول الله جعله لأسامة ، فقم فاقبض حائطك هنيئا مريئا! فقام الهاشميون وانصرفوا.

فأقبل عمرو على معاوية وقال له : لا جزاك الله عن الرحم خيرا! ما زدت على أن كذبت قولنا وفسخت حجّتنا وشمتّ بنا عدونا! فقال معاوية : ويحك يا عمرو! إني لما رأيت هؤلاء من بني هاشم قد اعتزلوا ذكرت أعينهم تزورّ

٥٣٦

من تحت المغافر بصفين ، نازعوني مهجة نفسي حتّى نجوت منهم بعد نبأ عظيم وخطب جسيم ، وما يؤمّنني منهم يا ابن عثمان وقد أحلّوا بأبيك ما أحلّوا! فانصرف فنحن مخلفون لك خيرا من حائطك إن شاء الله (١)!

ولم يذكر خبر عن لقائه بعائشة ، ولعلّها لم تأذن له لقتله أخاها ابن أبي بكر بمصر فكانت تقنت عليه كما مرّ ، وكأنّه بلغه عنها أنها لا تراه أهلا للخلافة ، ودخل عليه الحسن عليه‌السلام ومعاوية في صدر مجلس ضيق ولم يوسع للامام فاضطره للجلوس عند رجليه! ثمّ شكا إليه معاوية مقالة عائشة متعجبا منها ، فقال له الإمام : وأعجب من ذلك جلوسك في صدر المجلس وأنا عند رجليك! فضحك وجلس وقال : يا ابن أخي! بلغني أن عليك دينا؟ كم هو؟ قال : مائة ألف! فأمر له بثلاثمائة ألف! وكان يزيد مع أبيه فتعجّب من ذلك فقال له أبوه : يا بني ، إنّ الحقّ حقّهم ، فمن جاءك منهم فاحث له (٢)!

سعد ومعاوية في الطريق وفي مكة :

وكأنّ ابن أبي وقاص تنقّص معاوية في دينه من كلامه ، فعزم على أن لا يكلّمه بل لا يردّ سلامه.

فقد نقل الجهشياري : أن سعدا تقدم معاوية إلى مكة فلحقه معاوية في الطريق بين الطلوعين ومعه أهل الشام ، فوقف وسلّم عليه ، فلم يردّ عليه سعد سلامه! فقال معاوية لمن معه من أهل الشام : أتدرون من هذا؟ هذا سعد صاحب رسول الله ، لا يتكلم حتى تطلع الشمس! فبلغ ذلك سعدا فقال : بل كرهت أن أكلّمه (٣)!

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٢١٢ ـ ٢١٤ م ٨ ، الحديث ٢٠ / ٣٧٠ عن المفيد وليس في أماليه.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٢ عن أمالي محمد بن حبيب.

(٣) الوزراء والكتّاب : ٤٣.

٥٣٧

وكأنّ معاوية لم يترك سعدا بل حاول أن يسعد حظّا بمساعدة سعد له ، والتقى به في طوافه ، فاصطحبه معه إلى «دار الندوة» ولعلّه إحياء لمجد الجاهلية! وكان قد أعدّ فيه لنفسه سريرا ، فأجلس سعدا معه على سريره ثمّ شرع بالوقوع في عليّ عليه‌السلام وسبّه! فزحف عنه سعد وقال له : أجلستني معك على سريرك ثمّ شرعت في سبّ علي! والله لئن يكون لي خصلة واحدة من خصال كانت لعليّ. فذلك أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس! أو حمر النعم! ثمّ ذكر حديث الراية في خيبر ، والمنزلة في تبوك ، والمباهلة في العاشرة ، ثمّ قال : فايم الله لا دخلت لك دارا ما بقيت! ثمّ نهض ليقوم فضرط له معاوية وقال له : اقعد حتّى تسمع جواب ما قلت : ما كنت عندي قط ألأم منك الآن ، فهلّا نصرته؟ ولم قعدت عن بيعته؟ وكرّر هنا دعواه : إني لو سمعت من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل الذي سمعت فيه لكنت خادما لعليّ ما عشت!

وأعرض سعد عن جواب هذا الخطاب ، ولكنّه ضربه في الصميم فقال له : والله إني لأحقّ منك بموضعك! وكان سعد من بني زهرة ولكنّه كان ينسب لبني عذرة! فقال له معاوية : يأبى عليك بنو عذرة (١).

وكان قد قدم معه من الشام بمنبر وضعه عند باب البيت الحرام فكان أوّل من وضعه (٢).

وكان قد حجّ معه عبد الله بن الزبير ومعه ابنه عبّاد ، فروى أحمد والطبراني عنه قال : لما قدمنا مكّة ظهرا صلّى بنا الظهر ركعتين ثمّ انصرف إلى دار الندوة فقام إليه عمرو بن عثمان مع مروان بن الحكم فقالا له : ألم تعلم أن ابن عمّك عثمان قد أتمّ الصلاة

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٤ ـ ١٥ عن الطبري والنوفلي.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٢٢.

٥٣٨

بمكّة! قال : ويحكما قد صلّيتهما مع رسول الله وأبي بكر وعمر ركعتين! قالا : فإنّ ابن عمّك قد أتمها وإن خلافك إياه عيب عليه! فوعدهما بذلك وصلّى العصر أربعا (١)!

ولمّا حجّ لم يلبّ في عرفات والمشعر الحرام ومنى قبل الرمي (٢) ولما كان العيد أمر مؤذنه أن يؤذن لصلاة العيد خلافا للسنة الجارية المعمولة بالنداء بالصلاة فقط (٣) ثمّ قدّم الخطبتين قبل الصلاة (٤).

وذلك أن الناس كانوا إذا صلوا انصرفوا لئلّا يسمعوا لعن عليّ عليه‌السلام فقدّم الخطبة ليسمعهم ذلك (٥).

ثمّ وصل معاوية من حجّه إلى الشام ، ووصل الأزديّ الشامي إلى البصرة أميرا عليها لأول محرم سنة (٤٥ ه‍).

هذا وقد مرّ عن البصرة في أواخر عهد ابن عامر أنّها كانت قد انتشر أمرها وضعفت إدارتها ، ولم يتغيّر حالها ووضعها عما كانت عليه في الأشهر الأربعة من حكم الأزدي الشامي ، فاستبد له بزياد.

إمرة زياد على البصرة :

بدأ حكم زياد على البصرة في آخر شهر ربيع الآخر أو أول جمادى الأولى ، هذا والفسق بها ظاهر فاش (٦).

__________________

(١) الغدير ١٠ : ١٩٠ ـ ١٩١.

(٢) الغدير ١٠ : ٢٠٥ ـ ٢١١.

(٣) الغدير ١٠ : ١٩١ ـ ١٩٥.

(٤) الغدير ١٠ : ٢١١ ـ ٢١٣.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٢٣.

(٦) تاريخ الطبري ٥ : ٢١٦ ـ ٢١٧.

٥٣٩

وقد روى عن الوصيّ عن النبيّ قال : «كل أمر ذي بال لم يبدأ ببسم الله فهو أبتر» (١) ولذا نقل الجاحظ : أن خطباء السلف الطيّب ما زالوا يسمّون الخطبة ـ التي لم تبتدأ (بالتسمية) والتحميد والتمجيد ـ بالبتراء ، والتي لم تزيّن بالصلاة على النبيّ بالشوهاء. ثمّ روى بسنده : أن زيادا في بدء أمره بالبصرة خطب خطبة بتراء لم يحمد الله فيها أو لم يسمّ وحمد فقال :

الحمد لله على إفضاله وإحسانه ، ونسأله المزيد من نعمه ، اللهمّ كما رزقتنا نعما فألهمنا شكرا على نعمتك علينا. أما بعد : فإن الجاهلية الجهلاء والضلالة العمياء والغيّ المدني بأهله على النار الباقي عليهم سعيرها : ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم ، من الأمور العظام ، ينبت فيها الصغير ولا يتحاشاها الكبير ، كأن لم تسمعوا بآي الله ولم تقرءوا كتاب الله ، ولم تسمعوا ما أعدّ الله من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمد الذي لا يزول. أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا وسدّت مسامعه الشهوات ، واختار الفانية على الباقية ، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله! وهذه المواخير المنصوبة! ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار! قربتم القرابة وباعدتم الدين! تعتذرون بغير العذر ، وتغضّون على المختلس ، كل امرئ منكم يذبّ عن سفيهه ، ضيّع من لا يخاف عقابا ولا يرجو معادا! ما أنتم بالحلماء وقد اتّبعتم السفهاء! ولم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام! حرام عليّ الطعام والشراب حتّى اسوّيها بالأرض إحراقا وهدما! وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالوليّ والمقيم بالطاعن والمقبل بالمدبر والصحيح بالسقيم حتّى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول له :

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٦ : ٣٠٤ عن تفسير الإمام.

٥٤٠