موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

رجال لم ينتهوا إليكم إلّا لاغبين وأنتم رادّون حامون (١) ووقف الإمام عليه‌السلام في مضر في القلب (٢).

وتوجّه الإمام إلى أصحابه وناداهم : لو لا أنّني أخاف أن تتكلوا وتتركوا العمل لأخبرتكم بما قضاه الله على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيمن قاتل هؤلاء القوم مستبصرا بضلالهم ، وأنّ «فيهم رجلا مودون (ناقص) اليد ، له كثدي المرأة ، هم شرّ الخلق والخليقة وقاتلهم أقرب الخلق إلى الله وسيلة» (٣).

ونقل الواقدي عنه قال : سمعت رسول الله يقول : يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، قولهم من خير أقوال البريّة ، صلاتهم أكثر من صلاتكم ، وقراءتهم أكثر من قراءتكم ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم أو تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، فاقتلوهم فإنّ قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة (٤).

ثمّ تنادى الخوارج : الرّواح الرّواح إلى الجنة ثمّ شدّوا على الخيل ، وذلك مع زوال الشمس (٥) فلشدّة شدّتهم فتفترق خيل الإمام فرقتين يمينا وشمالا فاستقبل الرماة وجوههم بالنبل والسهام ، وعطف الخيل عليهم يمينا وشمالا فأحاطوا بهم. فلما رأى ذلك صاحب خيلهم حمزة الأسدي نادى في أصحابه أن يقتحموا عليهم ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٨٥ ـ ٨٦ وأنساب الأشراف ٢ : ٢٧٨ ط ٢ خ ٤٦١.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ١٤٩.

(٣) الإرشاد ١ : ٣١٧ وبهامشه عن مسند أبي يعلى ، وفي مسند أحمد ، وسيأتي تطبيقه. وانظر شرح الأخبار ٢ : ٥٤ الحديث ٤١٥ و ٥٩ الحديث ٤١٩.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٢ : ٢٦٧ عن كتاب صفين للواقدي.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٩٣.

٢٦١

فذهبوا ليقتحموا فحمل عليهم الأسود بن قيس المرادي في خيل علي عليه‌السلام ونهض إليهم الإمام من القلب (١) وحمل بذي الفقار حملة منكرة ثلاث مرات ، يضرب به حتّى يعوجّ متنه فيخرج ويسوّيه بركبتيه ثمّ يحمل (٢).

وبرز إليه قائد رجّالتهم حرقوص السعدي ذو الثدية ومعه ابن عمّه الوضّاح بن الوضّاح كلّ من جانب ، فقتل الإمام الوضّاح والتفت إلى حرقوص فضربه ضربة على رأسه فقطع مغفره ورأسه وأصاب سيفه ظهر الفرس فشرد ورجلا حرقوص في الركاب فذهب به حتّى أوقعه في دولاب خراب على النهر ، فصار الخوارج كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف.

وقتل من أصحاب الإمام تسعة : حبيب بن عاصم والفيّاض بن خليل الأزديان ، ورؤبة بن وبر البجلي ، ورفاعة بن وائل الأرحبي الهمداني ، وكيسوم بن سلمة الجهني (٣) وعبيد بن عبيد الخولاني ، وجميع بن جشم الكندي ، وسعد بن خالد السبيعي الهمداني ، وعبد الله بن حماد الحميري (٤).

وكان قائد خيل الخوارج زيد بن حصين الطائي ، وقائد خيل الإمام أبو أيوب الأنصاري فتبارزا فقتل أبو أيوب زيدا وأتى عليا عليه‌السلام فقال له : يا أمير المؤمنين قتلت زيد بن حصين. قال : فما قلت له وما قال لك؟ قال : طعنته بالرمح في صدره وقلت له : أبشر يا عدوّ الله بالنار! فقال : ستعلم أيّنا أولى بها صليّا ، ونجم الرمح من ظهره! فقال علي عليه‌السلام : هو أولى بها صليّا.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٨٦ عن أبي مخنف ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٢٧٩ ط ٢.

(٢) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٢ : ٢٨٢ عن أبي عبيدة معمر بن المثنى.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٢٢٠.

(٤) الفتوح لابن الأعثم ٤ : ١٢٧ ، وانظر حاشية أنساب الأشراف ٢ : ٢٨٢ ط ٢.

٢٦٢

وجاءه زياد بن خصفة التميمي وهانئ بن خطّاب الأرحبي الهمداني كلّ يقول : أنا قتلت عبد الله بن وهب الراسبي ، فقال لهما : كيف صنعتما؟ فقال كلّ منهما :

يا أمير المؤمنين لما رأيته عرفته فابتدرته فطعنته برمحي. فقال لهما : لا تختلفا كلاكما قاتل (١).

بل قيل : تقدّم عبد الله الراسبي إلى أمير المؤمنين وناداه : يا ابن أبي طالب ، والله لا نبرح من هذه المعركة أو تأتي على أنفسنا أو نأتي على نفسك! فابرز إليّ وأبرز إليك وذر الناس جانبا!

فلمّا سمع الإمام عليه‌السلام كلامه تبسّم وقال : قاتله الله من رجل ما أقلّ حياءه! أمّا إنّه ليعلم أنّي حليف السيف وخدين الرمح ، ولكنّه قد يئس من الحياة ، أو إنّه ليطمع كاذبا!

ثمّ حمل الراسبيّ على عليّ عليه‌السلام فضربه الإمام فقتله وألحقه بأصحابه ، واختلطوا فلم يكن إلّا ساعة حتّى قتلوا بأجمعهم.

وأفلت منهم تسعة نفر : رجلان هربا إلى أرض سجستان (وبهما نسلهما) ورجلان صارا إلى بلاد عمان (وبها نسلهما) ورجلان صارا إلى اليمن (وبها نسلهما وهم الأباضية) ورجلان صارا إلى بلاد الجزيرة إلى موضع يعرف بالبوازيج ، وصار آخر إلى تل موزن (٢).

فقيل للإمام : يا أمير المؤمنين ، هلك القوم بأجمعهم (٣) وكان الحسنان حاضرين فقال أحدهما : الحمد لله الذي أراح أمّة محمّد من هذه العصابة!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٨٧ عن أبي مخنف ، ومختصره في أنساب الأشراف ٢ : ٢٧٩ ط ٢.

(٢) كشف الغمة ١ : ٢٦٧.

(٣) نهج البلاغة خ ٦٠.

٢٦٣

فقال الإمام عليه‌السلام : لو لم يبق من أمّة محمّد إلّا ثلاثة لكان أحدهم على رأي هؤلاء ، إنّهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء (١) كلّما نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم لصوصا سلّابين (٢) ولا يزالون يخرجون ، حتّى تخرج طائفة منهم بين النهرين الفرات ودجلة ، فيخرج إليهم رجل من ولدي فيقتلهم فلا تخرج بعدها خارجة إلى يوم القيامة (٣).

الغنائم والجرحى وذو الثدية :

قال اليعقوبي : التحمت الحرب بينهم مع زوال الشمس فأقامت بقدر ساعتين من النهار (٤) وكانت غزاتهم في البرد الشديد وكثرت الجراحات في الناس (٥).

وقال الإمام عليه‌السلام في جرحى الخوارج : احملوهم معكم فداووهم. فطلبوهم فوجدوهم أربعمائة رجل ، دفعوا إلى عشائرهم مع ما لهم من عبيد وإماء ومتاع ، وما شهدوا به وعليه الحرب من السلاح والدوابّ قسّمه بين المقاتلين ، واشتغل ناس بدفن قتلاهم (٦).

وقال لهم : اطلبوا في القتلى رجلا أخدج إحدى يديه (قاصرة ناقصة) ليست

__________________

(١) موسوعة الإمام علي ٦ : ٣٨٣.

(٢) نهج البلاغة خ ٦٠ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٢.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٤٠٧ ، وشرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي المصري ٢ : ٦٢ ، الحديث ٤٢٦.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٩٣.

(٥) الغارات ١ : ٢٧ ـ ٢٨.

(٦) تاريخ الطبري ٥ : ٨٨.

٢٦٤

له ذراع ولا كف ، على موضع عضده مثل ثدي المرأة في طرفه حلمة كحلمة الثدي ، عليها سبع شعرات طوال ، فالتمسوه فلم يجدوه فأخبروه فما اشتدّ عليه شيء كما اشتدّ عليه ذلك وقال : اطلبوه فو الله ما كذبت ولا كذبت ، وإنّه لفيهم (١).

ولمّا عيل صبره عليه‌السلام في طلب المخدج ذي الثدية قال لأصحابه : ايتوني ببغلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّها هادية! فاتي بها فركبها وسار وتبعه ناس منهم ، فأخذ ينظر في القتلى ويقول لهم : اقلبوا هذا ، فيقلبون قتيلا عن قتيل حتّى وقفت البغلة به على المخدج ذي الثدية تحت قتلى كثيرين في الماء ... وللماء خرير بهم في موضع دالية خربة متروكة ، وجرّ برجل آخرهم حتّى صار في التراب ، فإذا هو المخدج ذو الثدية ، فرفع علي عليه‌السلام صوته بالتكبير فكبّر الناس معه (٢) ثمّ ثنى رجله من ركاب البغلة الشهباء فنزل وخرّ ساجدا شكرا لله (٣).

وشقّ قميصه فكان على كتفه غدّة كبيرة كثدي المرأة عليها شعرات ، إذا جدبت انجذب كتفه معها ، وإذا تركت رجع كتفه إلى موضعه ، فكبّر عليه‌السلام وقال : إنّ في هذا لعبرة لمن استبصر (٤)!

__________________

(١) شرح الأخبار للمصري ٢ : ٦١ ـ ٦٢ ، الحديث ٤٢٣.

(٢) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٢ : ٢٧٦ عن كتاب صفين لابن ديزيل وغيره.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٤٠٦.

(٤) الإرشاد ١ : ٣١٧ وكأنّ هذه الآية في ذي الثدية والحديث النبوي فيه كانت بلغت النابغة عمرو بن العاص ، وكأنّه التقى بعدها بعائشة فسألته عن ذلك فادّعى لها أنه قتله هو على نيل مصر! وكان ممّن شهد النهروان مع الإمام عليه‌السلام مسروق بن الأجدع الوداعي الهمداني ، وكانت النهروان في التاسع من شهر صفر (٣٨ ه‍) وخرج الرجل بعدها من الكوفة يريد الحجّ قال : فمررت بعائشة فدخلت عليها فسألتني ممّن الرجل؟ فقلت : من العراق ، قالت : إنّي أسألك عن أمر لا تقل فيه : بلغني ولا قيل لي ، فإنّ ذلك قد يشوبه الكذب ،

٢٦٥

ثمّ قال عليه‌السلام : اقطعوا يده المخدجة (الناقصة) وأتوني بها ، فقطعوها وأتوه بها

__________________

ـ فلا تخبرني إلّا عمّا رأته عيناك وسمعته اذناك! قلت : سلي عمّا شئت يا أمّ المؤمنين ، فإنّي لا اخبرك إلّا بما رأيت وسمعت. قالت : شهدت حروب عليّ؟ قلت : شهدت جميعها. قالت : فصف لي الموضع الذي اصيب فيه الخوارج. فقلت : أصبناهم بين أخافيق وأودية بقرب بناء لبوران بنت كسرى بجانب نهر يقال لأسفله النهروان ولأعلاه تامرّا ، قالت : فأصبتم فيهم ذا الثدية؟ قلت : نعم أصبناه رجلا أسود له يد كثدي المرأة إذا مدّت امتدّت وإذا تركت تقلّصت (شرح الأخبار ٢ : ٦٤ الحديث ٤٢٨) فقالت : إذا أتيت الكوفة فاكتب لي بأسماء من شهد ذلك ممّن يعرف من أهل البلد. قال : فلمّا رجعت إلى الكوفة كتبت من كل سبع منهم عشرة ممّن شهد ذلك ممّن نعرفه ، ثمّ أتيتها بشهادتهم ـ ولعلّه كان في الحجّ سنة (٣٩ ه‍) ـ فلمّا رأت الشهادات قالت : لعن الله عمرو بن العاص ، فإنّه زعم أنّه هو قتله على نيل مصر (شرح الأخبار ٢ : ٦٠ الحديث ٤٢١) قلت : يا أمّاه! وما أردت بسؤالك عن ذلك؟ قالت : لخير! قلت : فإنّي أسألك بحقّ رسول الله ألا أخبرتني به! قالت : سبحان الله ، سمعت رسول الله يقول : هم شرّ الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة وأقربهم عند الله وسيلة يوم القيامة (شرح الأخبار ٢ : ٦٥ ، الحديث ٤٢٨) ثمّ قالت : أفترى قوله في ذي الثدية : اطلبوه فو الله ما كذبت ولا كذبت؟ قلت : إي والله! قالت : وترى قول علي : «والله ما عبروا النهر ولا يعبرونه» حقّا؟ قلت : إي والله حقّ! قالت : والله إني لأعلم أنّ الحقّ مع علي! ولكنّي كنت امرأة من الأحماء! (شرح الأخبار ٢ : ٦٣ ـ ٦٤ ، الحديث ٤٢٧) وخبره في مسند أحمد قال : قالت : ابغني على ذلك بيّنة فأقمت رجالا شهدوا عندها بذلك. فقلت لها : أسألك بصاحب القبر ما سمعت من رسول الله فيهم؟ قالت : نعم ، سمعته يقول : إنّهم شرّ الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة وأقربهم عند الله وسيلة. وعن كتاب صفين للمدائني عنه قال : ثمّ قالت : لعن الله عمرو بن العاص! فإنّه كتب إليّ يخبرني أنّه قتله بالاسكندرية! ألا إنّه ليس يمنعني ما في نفسي أن أقول ما سمعته من رسول الله يقول : يقتله خير أمّتي من بعدي! شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٢ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

٢٦٦

فأخذها ورفعها وقال : ما كذبت ولا كذبت (١) ثمّ رفع بعضهم هذه اليد المخدجة ونصبها على رمح ليراها الناس. وبعد أن صلّوا العصر جعل الإمام عليه‌السلام يكثر من قول : صدق الله وبلّغ رسوله ، وجعل أصحابه يردّدون ذلك معه حتى قرب الغروب (٢).

وقال عليه‌السلام وهو ينظر قتلى الخوارج : بؤسا لكم! لقد ضرّكم من غرّكم!

فقيل : يا أمير المؤمنين ، ومن غرّهم؟ قال : الشيطان المضلّ ، والأنفس الأمّارة بالسوء. غرّتهم بالأماني وفسحت لهم بالمعاصي ، ووعدتهم الإظهار فاقتحمت بهم في النار (٣)!

ثمّ أراد المسير إلى الشام :

روى الثقفي قال : لمّا فرغ الإمام عليه‌السلام من قتال الخوارج في النهروان قام في أصحابه خطيبا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثمّ قال : «أمّا بعد ، فإنّ الله قد أحسن إليكم فأعزّ نصركم ، فتوجّهوا من فوركم هذا إلى عدوّكم من أهل الشام (٤) إلى معاوية وأشياعه القاسطين ، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا ، فبئسما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون» (٥).

وكانت الغزوة في البرد الشديد ... وكان أهل النهروان قد أكثروا الجراحات في الناس (٦).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٩٢.

(٢) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٢ : ٢٧٦ عن كتاب صفين لابن ديزيل.

(٣) نهج البلاغة خ ٣٢٣ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٤٠٧ ، الحكمة : ١٨٥.

(٤) الغارات ١ : ٢٣ ـ ٢٤.

(٥) الامامة والسياسة ١ : ١٤٩.

(٦) الغارات ١ : ٢٧ ـ ٢٨.

٢٦٧

وكان الأشعث الكندي جهير الصوت (١) فرفع صوته وقال : يا أمير المؤمنين نفدت نبالنا ، وكلّت سيوفنا ، ونصلت أسنّة رماحنا (خرجت منها) وتكسّر أكثرها! فارجع بنا إلى مصرنا نستعدّ بأحسن عدّتنا ، ولعلّ أمير المؤمنين يزيد في عدّتنا ... فإنّه أقوى لنا على عدوّنا ....

فقال عليه‌السلام : يا معشر المهاجرين! ادخلوا الأرض المقدّسة التي كتب الله لكم ، ولا ترتدّوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين! فقالوا : يا أمير المؤمنين ، البرد شديد! فقال : إن القوم يجدون البرد كما تجدون ... فأبوا وشكوا البرد والجراحات ، فقال عليه‌السلام : إنّ عدوّكم يألمون كما تألمون ويجدون البرد كما تجدون. فأبوا!

فلمّا رأى كراهيتهم قال : افّ لكم! إنّها سنّة جرت عليكم. ورجع إلى نخيلة الكوفة (٢).

وتمرّدت غنىّ وباهلة فأجلاهما :

روى الثقفي قال : كان الإمام عليه‌السلام حين سار من الكوفة استخلف عليها هانئ بن هوذة النخعي ، وكان ممّن تخلّف عنه عن صفين واليوم رجال من غنى وباهلة ، فبلغ هانئا أنّهم يدعون على علي عليه‌السلام أن يظفر به عدوّه! فكتب بذلك إلى الإمام عليه‌السلام فكتب إليه : أن ينفيهم من الكوفة ويؤجّلهم لذلك ثلاثة أيّام! ولكنّه كأنّه لم يمكنه ذلك حتّى عاد الإمام عليه‌السلام فقال : ادعوا لي غنيّا وباهلة و... فليأخذوا أعطياتهم! فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ما لهم في الإسلام نصيب ، وإنّي لشاهد عليهم في منزلي عند الحوض والمقام المحمود : أنّهم أعدائي ، في الدنيا والآخرة! ولئن ثبتت

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٢٨٧.

(٢) الغارات ١ : ٢٤ ـ ٢٩.

٢٦٨

قدماي لابهرجنّ ستين قبيلة ما لهم في الإسلام نصيب! فلمّا رآهم قال لهم : يا باهلة! خذوا حقّكم مع الناس ، والله يشهد أنّكم تبغضوني وأنّي ابغضكم (١)!

في نخيلة الكوفة :

روى الثقفي قال : أقبل الإمام عليه‌السلام حتى نزل النخيلة فأمرهم أن يعسكروا بها وأن يلزموا معسكرهم ويوطّنوا أنفسهم على الجهاد ، وأن يقنعوا من زيارة نسائهم وأبنائهم بالقليل حتّى يسيروا إلى عدوّهم. فأقاموا معه أيّاما ثمّ أخذوا يتسلّلون ويدخلون الكوفة ولا يعودون إليه (٢).

ودخل الكوفة وخطبهم :

روى الثقفي قال : من دخل الكوفة لم يخرج إليه ، ومن أقام معه لم يصبر ، فلمّا رأى تفرّق الناس عنه دخل الكوفة ليستنفرهم لجهاد عدوّهم ، فكان أوّل كلام له أن قال :

يا أيّها الناس ، استعدّوا إلى عدوّ في جهادهم القربة من الله وطلب الوسيلة إليه ، حيارى عن الحقّ لا يبصرونه ، وموزّعين بالكفر والجور لا يعدلون به ، جفاة عن الكتاب ، نكب عن الدين ، يعمهون في الطغيان ، ويتسكّعون في غمرة الضلال ، فاعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ، وتوكّلوا على الله وكفى بالله وكيلا وكفى بالله نصيرا.

__________________

(١) الغارات ١ : ١٧ ـ ٢٢ هذا ، وقد مرّ خبر عن «وقعة صفين» حين خروج الإمام إليها وكان فيه : «فخذوا عطاءكم واخرجوا إلى الديلم. وكانوا كرهوا أن يخرجوا معه إلى صفين» فلعلّ الصحيح : الخروج إلى الشام للمرّة الثانية ، وهي هذه المرّة ، وهذا أقرب وأنسب.

(٢) الغارات ١ : ٢٩ ـ ٣١.

٢٦٩

ثمّ تركهم أيّاما ثمّ دعا رءوسهم ووجوههم فسألهم : ما الذي يثبّطهم؟ فمنهم المعتلّ ومنهم المنكر ، وأقلّهم النشيط ، فقام فيهم ثانية وقال لهم :

عباد الله ، ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ)(١) ثوابا ، وبالذلّ والهوان من العزّ خلفا؟ أو كلّما ناديتكم إلى الجهاد دارت أعينكم ، كأنّكم من الموت في سكرة! يرتج عليكم فتبكمون ، فكأنّ قلوبكم مألوسة فأنتم لا تعقلون! وكأنّ أبصاركم كمه فأنتم لا تبصرون! لله أنتم! ما أنتم إلّا اسود الشرى في الدّعة ، وثعالب روّاغة حين تدعون ، ما أنتم بركن يصال به ، ولا زوافر عزّ يعتصم بها. لعمرو الله ، لبئس حشّاش نار الحرب أنتم ، إنّكم تكادون ولا تكيدون ، وتنتقص أطرافكم ولا تتحاشون (٢) ولا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون.

إنّ أخا الحرب اليقظان ، أودى من غفل ، ويأتي الذلّ من وادع ، غلب المتخاذلون ، والمغلوب مقهور ومسلوب.

أمّا بعد ، فإنّ لي عليكم حقّا ولكم عليّ حقّ ، فأمّا حقّي عليكم : فالوفاء بالبيعة ، والنصح لي في المشهد والمغيب ، والإجابة حين أدعوكم ، والطاعة حين آمركم.

وإنّ حقّكم عليّ : النصيحة لكم ما صحبتكم ، والتوفير عليكم ، وتعليمكم كيلا تجهلوا ، وتأديبكم كي تعلموا ، فإن يرد الله بكم خيرا وتنزعوا عمّا أكره وترجعوا إلى ما احبّ ، تنالوا ما تحبّون وتدركوا ما تؤمّلون (٣).

__________________

(١) سورة التوبة : ٣٨.

(٢) القدر المتيقن يومئذ من انتقاص أطرافهم انتقاص بلاد الشام بمعاوية قبل غاراته.

(٣) الغارات ١ : ٣٣ ـ ٣٨ وذكر المحقّق مصادر اخرى ، وفي نهج البلاغة خ ٣٤ ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٧٩ ولو لا نصّ المصادر أنّها أوّل خطبة في الكوفة بعد النهروان لقلنا إنّها كانت في خضمّ الغارات.

٢٧٠

وخطبة اخرى له عليه‌السلام :

كان ذلك أوّل كلام للإمام عليه‌السلام على نصّ خبر الثقفي وغيره.

وقال اليعقوبي : لما قدم عليّ الكوفة قام خطيبا ، فبعد حمد الله والثناء عليه والتذكير لنعمه والصلاة على محمد ، وذكره بما فضّله الله به قال : أمّا بعد ، أيّها الناس ، فأنا فقأت عين الفتنة ، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري ، ولو لم أكن فيكم ما قوتل الناكثون ولا القاسطون ولا المارقون.

ثمّ قال : سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنّي عمّا قليل مقتول ، فما يحبس أشقاها أن يخضبها بدم أعلاها ، فوالذي فلق البحر (والحبّة) وبرأ النسمة لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ، ولا عن فتنة تضلّ مائة أو تهدي مائة إلّا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها إلى يوم القيامة.

إنّ القرآن لا يعلم علمه إلّا من ذاق طعمه ، وعلم بالعلم جهله ، وأبصر عمله ، واستمع صممه وأدرك به مأواه ، وحيي به إن مات ، فأدرك به الرضا من الله.

فاطلبوا ذلك عند أهله فإنّهم في بيت الحياة ومستقرّ القرآن ومنزل الملائكة ، وأهل العلم الذين يخبركم عملهم عن علمهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، هم الذين لا يخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه ، قد مضى فيه من الله حكم صادق وفي (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ)(١).

أمّا إنّكم ستلقون بعدي ذلّا شاملا ، وسيفا قاتلا ، وأثرة قبيحة ، يتّخذها الظالمون عليكم سنّة تفرّق جموعكم ، وتبكّي عيونكم ، وتدخل الفقر في بيوتكم ، وستذكرون عن قليل ما أقول لكم ، ولا يبعد الله إلّا من ظلم (٢)!

__________________

(١) هود : ١١٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٩٣.

٢٧١

أنا يعسوب المؤمنين ، وأول السابقين ، وأوّل المتّقين ، وخاتم الوصيّين ، ووارث النبيّين ، وخليفة ربّ العالمين. أنا ديّان الناس يوم القيامة ، وقسيم الله بين أهل الجنّة والنار ، وأنا الصدّيق الأكبر ، والفاروق (الأعظم) الذي يفرّق به بين الحقّ والباطل. وإن عندي علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب. وما من آية إلّا وقد علمت فيم نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت!

فقام إليه رجل وقال له : يا أمير المؤمنين ، أخبرنا عن البلايا.

فقال عليه‌السلام : إذا سأل سائل فليعقل ، وإذا سئل مسئول فليتثبّت. إنّ من ورائكم امورا متلجلجة مجلجلة ، وبلاء مكلحا مبلحا (١) والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة : لو قد فقدتموني ونزلت عزائم الامور وحقائق البلاء لأطرق كثير من السائلين واشتغل كثير من المسئولين ، وذلك إذا ظهرت حربكم وكشفت عن ناب وقامت على ساق ، وصارت الدنيا بلاء عليكم ، حتى يفتح الله لبقيّة الأبرار.

فقام إليه رجل آخر وقال له : يا أمير المؤمنين : حدّثنا عن الفتن.

فقال عليه‌السلام : إن الفتن إذا أقبلت أشبهت ، وإذا أدبرت أسفرت ، لها موج كموج البحر ، وإعصار كإعصار الريح ، تصيب بلدا وتخطى آخر ، فانتظروا أقواما كانوا أصحاب الرايات يوم بدر فانصروهم تنصروا وتؤجروا وتعذروا.

ثمّ أخذ يحذّرهم بتخويفهم من فتنة بني امية عسى أن يبعثهم على معونته عليهم فقال :

ألا إنّ أخوف الفتن عليكم من بعدي فتنة بني امية ، إنها فتنة عمياء صمّاء مطبقة مظلمة ، خصّت بليّتهما وعمّت فتنتها ... أهل باطلها ظاهرون على أهل حقّها ، يملئون الأرض بدعا وظلما وجورا ، وأوّل من يضع جبروتها ويكسر عمودها وينزع أوتادها الله رب العالمين وقاصم الجبارين. ألا وإنّكم ستجدون بني امية

__________________

(١) أي : مفزعة ومعجّزة.

٢٧٢

أرباب سوء بعدي (كالناقة) الضروس تعضّ بفيها وتخبط بيديها وتضرب برجليها وتمنع درّها. وايم الله لا تزال فتنتهم حتى لا تكون نصرة أحدكم لنفسه إلّا كنصرة العبد السوء لنفسه من سيّده غاب سبّه سبّه وإذا حضر أطاعه ، وايم الله لو شرّدوكم تحت كل كوكب لجمعكم الله لشرّ يوم لهم.

فقال الرجل : فهل من جماعة ـ يا أمير المؤمنين ـ بعد ذلك؟

فقال عليه‌السلام : إنّكم ستكونون جماعة (متشتّتين) عطاؤكم وأسفاركم (للغزو) وحجّكم واحد ، والقلوب مختلفة! فقال أحدهم : وكيف تختلف القلوب؟ فشبّك أصابعه وقال : هكذا ، يقتل هذا هذا وهذا هذا هرجا هرجا ، ويبقى طغام جاهلية ، ليس فيها منار هدى ولا علم يرى! نحن أهل البيت منها بمنجاة ، ولسنا فيها بدعاة.

فقال الرجل : فما أصنع في ذلك الزمان؟

قال عليه‌السلام : انظروا أهل بيت نبيّكم : فإن لبدوا (وأقاموا) فالبدوا ، وإن استنصروكم فانصروهم تنصروا وتعذروا ، فإنّهم لن يخرجوكم من هدى ولن يردّوكم في ردى ، ولا تسبقوهم فيصرعكم البلاء وتشمت بكم الأعداء!

قال الرجل : فما يكون بعد ذلك يا أمير المؤمنين؟

قال عليه‌السلام : يفرّج الله البلاء برجل من أهل بيتي كانفراج الأديم ، يسومهم خسفا ، ويسقيهم بكأس مصبّرة ، ولا يعطيهم ولا يقبل منهم إلّا السيف هرجا هرجا ، يحمل السيف على عاتقه ثمانية أشهر ، حتى تودّ قريش بالدنيا وما فيها أن يروني مقاما واحدا فاعطيهم وآخذ منهم بعض ما قد منعوني ، وأقبل منهم ما يردّه عليهم ، حتى يقولوا : لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا! يغريه الله ببني امية فيجعلهم تحت قدميه ويطحنهم طحن الرحى ، (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً* سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً)(١).

__________________

(١) الأحزاب : ٦١ ـ ٦٢.

٢٧٣

ألا وإنّ أبرار عترتي وأطائب أرومتي أحلم الناس صغارا وأعلمهم كبارا ، معنا راية الحقّ والهدى ، من سبقها مرق ومن خذلها محق ومن لزمها لحق. إنّا أهل بيت من علم الله علمنا ، ومن حكم الله الصادق قبلنا ، ومن قول صادق سمعنا ، فإن تتّبعونا تهتدوا ببصائرنا ، وإن تتولّوا عنّا يعذّبكم الله ، بأيدينا أو بما شاء.

فإنّ الله خلق الخلق بقدرته ، وجعل فيهم الفضائل بعلمه ، واختار منهم عبادا لنفسه ليحتجّ بهم على خلقه ، فجعل علامة من أكرم منهم طاعته ، وعلامة من أهان منهم معصيته ، وجعل ثواب أهل طاعته النضرة في وجهه في دار الأمن والخلد الذي لا يراع أهله ، وجعل عقوبة أهل معصيته نارا تتأجّج لغضبه (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(١).

يا أيها الناس ، إنّا أهل بيت بنا ميّز الله الكذب ، وبنا يفرّج الله الزمان الكلب ، وبنا ينزع الله ربق الذلّ من أعناقكم ، وبنا فتح الله وبنا يختم! فاعتبروا بنا وبعدوّنا ، وبهدانا وبهداهم ، وبسيرتنا وسيرتهم ، وميتتنا وميتتهم.

أما والله لقد علمت تبليغ الرسالات ، وتنجيز العدات ، وتمام الكلمات ، وفتّحت لي الأسباب ، وعلّمت الأنساب ، واجري لي السحاب! ونظرت في الملكوت فلم يعزب عني شيء فات ، ولم يفتني ما سبقني ، ولا يشركني أحد فيما يشهدني ربي يوم يقوم الأشهاد ، وبي يتمّ الله موعده ويكمّل كلماته ، وأنا النعمة التي أنعمها الله على خلقه ، والإسلام الذي ارتضاه لنفسه ، كلّ ذلك من منّ الله به عليّ وأذلّ به منكبي ، وليس إمام إلّا وهو عارف بأهل ولايته.

__________________

(١) النحل : ٣٣.

٢٧٤

والتفت عليه‌السلام إلى بنيه حوله فقال لهم : يا بنيّ ، ليبرّ صغاركم كباركم ، وليرحم كباركم صغاركم ، ولا تكونوا أمثال الجهّال الذين لا يطيعون الله في اليقين.

ثمّ قال : ألا ويح لفراخ آل محمّد من خليفة يستخلف عتريف مترف ، يقتل خلفي وخلف الخلف بعدي! ثمّ تلا قول سبحانه : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)(١) ثمّ نزل من المنبر (٢).

كان ذلك كلّه في شهر صفر سنة (٣٨ ه‍) وفيه كان مقتل الأشتر وابن أبي بكر وسقوط مصر (٣) ، فإلى ذلك.

[غارات معاوية]

وبدأت غارات معاوية :

لعلّ مع تولية عثمان للوليد بن عقبة على الكوفة خرج إليها مع الوليد أخوه عمارة ولكنّه لم يخرج منها معه ، بل بقي فيها حتى أمسى فيما بعد عينا لمعاوية بها على علي عليه‌السلام.

فلمّا رأى ما رأى من عودة الإمام إلى الكوفة وتشتّت شمله كتب إلى معاوية يبشّره بذلك :

أمّا بعد ، فإنّ عليّا خرج عليه علية أصحابه وقرّاؤهم ونسّاكهم فخرج إليهم فقتلهم ، وقد فسد عليه جنده ، وأهل مصره (الكوفة) ووقعت بينهم العداوة وتفرّقوا أشدّ الفرقة ، فأحببت إعلامك لتحمد الله! والسلام.

__________________

(١) الرعد : ٧.

(٢) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٧١٢ ـ ٧١٧ ، الحديث ١٧ ، وتخريجه ٣ : ٩٨١ ، ونهج البلاغة خ ٩٣ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٤ ، والغارات ١ : ٥ ـ ١٣ ، وشرح الأخبار ٢ : ٣٩ ، الحديث ٤١٠.

(٣) الطبري ٥ : ١٠٥.

٢٧٥

وكان عبد الله بن مسعدة الفزاري صبيّا من سبي بني فزارة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فوهبه لابنته فاطمة ، فكان عندها وعند علي عليهما‌السلام ، ثمّ خرج مع جنود الفتوح إلى الشام فلحق بمعاوية ، فصار من أشدّ الناس على علي عليه‌السلام! فروى الثقفي الخبر عنه قال : كنّا مع معاوية معسكرين خارج دمشق وقد بلغنا أمر الخوارج ولم يبلغنا ما بعده ، فكنّا نتخوّف أن يفرغ علي من الخوارج عليه ثمّ يقبل إلينا ، إذ جاءنا كتاب عمارة بن عقبة من الكوفة ، فقرأه معاوية عليّ وعلى أخيه عتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة أخي عمارة ، وأبي الأعور السلمي ، ثمّ نظر إلى الوليد وقال له : لقد رضي أخوك أن يكون عينا لنا! فضحك الوليد وقال : إنّ في ذلك لنفعا!

وهنا بدأ معاوية بقرار الغارات على أطراف حكومة الإمام عليه‌السلام ، فبدأها بالإغارة من معسكره يومئذ خارج دمشق ، وكان قد جعل الضحّاك بن قيس الفهري أميرا على شرطته ، فدعاه وضمّ إليه خيلا ما بين الثلاثة إلى أربعة آلاف فارس ، وقال له : سر حتى تمرّ بمرتفعات نواحي الكوفة ، فإن وجدت له مسلحة أو خيلا فأغر عليهما ، وإذا أصبحت في بلدة فأمس في اخرى ، وإذا بلغك أنّ خيلا سرّحت إليك فلا تقيمنّ لتلقاها ، ومن وجدته من الأعراب في طاعة عليّ فأغر عليه!

فخرج الضحّاك بهم ـ وهو من صغار الصحابة ـ يقتل من يلقى من الأعراب ويأخذ ماله! حتى مرّ على طريق الحجاز للعراق بين الثعلبية إلى القطقطانة ، وكان ذلك في أواخر شهر صفر عند عودة حجّاج الكوفة ، فأغار عليهم وأخذ أمتعتهم! حتّى لقي عمرو بن عميس ابن أخ عبد الله بن مسعود الذهلي الصحابي ، فقتله ومن معه من أصحابه! وعاد على أدراجه (١) فخطب الإمام ثالث خطبة.

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤١٨ ـ ٤٢٢ متنا وهامشا.

٢٧٦

وجهّز الإمام حجرا للفهري :

وبلغ ذلك الإمام عليه‌السلام فخرج حتّى رقى المنبر فقال لهم فيما قال : «يا أهل الكوفة ، اخرجوا إلى العبد الصالح عمرو بن عميس ، وإلى جيوش لكم قد اصيب طرف منها ، اخرجوا فقاتلوا عدوّكم وامنعوا حريمكم إن كنتم فاعلين». فلم يردّوا عليه ردّا جميلا فقال لهم : «والله لوددت أنّ لي بكلّ مائة منكم رجلا منهم ، ويحكم اخرجوا معي ثمّ فرّوا عنّي إن بدا لكم ، فو الله ما أكره لقاء ربي على نيّتي وبصيرتي ، وفي ذلك روح لي عظيم وفرج من مناجاتكم ومقاساتكم ومداراتكم مثل ما تدارى البكار العمدة ، والثياب المتهرّئة ، كلّما خيطت من جانب تهتّكت على صاحبها من جانب آخر» ثمّ نزل.

ثمّ دعا حجر بن عدي الكندي فعقد له راية على أربعة آلاف ، ثمّ سرّحه ، فخرج يتعقّب الضحّاك بن قيس الفهري نحو السماوة ، ولقي بها امرأ القيس بن عديّ الكلبي صهر الحسين بن علي عليهما‌السلام فدلّوه على مياه الطريق ، فلم يزل في أثر الضحّاك حتّى لقيه في بريّة الشام نحو تدمر (قبل حلب بخمسة أيام) فتواقفوا وتقاتلوا مساء حتى قتل من أصحاب الضحّاك تسعة عشر رجلا ومن أصحاب حجر رجلان وقرب المساء فحجز الليل بينهما ، فلمّا أصبح أصحاب حجر لم يجدوا لجيش الفهري أثرا (١) فعاد حجر إلى الكوفة.

كتاب عقيل وجوابه :

ويظهر أنّ الخبر عن غارة الضحّاك الفهري شاع أو أشاعه شيعة معاوية بأن أخذوا يتحدّثون للناس : أن الضحّاك أغار على الحيرة فاحتمل من أموالهم ما شاء

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٢٣ ـ ٤٢٦.

٢٧٧

ثمّ انكفأ راجعا سالما! ممّا يهوّل الخذل في أهل الكوفة ، ووصل هذا القول إلى مكة ، وسمع به عقيل بن أبي طالب ، وكان حتّى ذلك الحين بالحجاز ، فكتب إلى الإمام عليه‌السلام يقول : لعبد الله علي أمير المؤمنين من عقيل بن أبي طالب ، سلام عليك ، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ، أمّا بعد ، فإنّ الله حارسك من كل سوء وعاصمك من كل مكروه وعلى كل حال إنّي خرجت إلى مكة معتمرا ... فلمّا قدمت مكة سمعت أهلها يتحدّثون : أن الضحّاك بن قيس أغار على الحيرة فاحتمل من أموالهم ما شاء ثمّ انكفأ سالما! فافّ لحياة في دهر جرّأ عليك الضحّاك ، وما الضحّاك؟ فقع بقرقرة! وقد توهّمت حيث بلغني ذلك : أنّ شيعتك وأنصارك خذلوك! فاكتب إليّ يا ابن أمّي برأيك ، فإن كنت الموت تريد تحمّلت إليك ببني أخيك وولد أبيك فعشنا معك ما عشت ومتنا معك إذا مت! فو الله ما أحبّ أن أبقى في الدنيا بعدك فواقا (بين الحلبتين) وأقسم بالأعز الأجل إنّ عيشا نعيشه بعدك في الدنيا لغير هنيء ولا مريء ولا نجيع! والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وأرسل بالكتاب مع عبد الرحمن بن عبيد بن أبي الكنود الأزدي الكوفي.

فأجابه الإمام عليه‌السلام يقول : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عقيل بن أبي طالب ، سلام عليك ، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ، أمّا بعد ، كلأنا الله وإيّاك كلاءة من يخشاه بالغيب إنه حميد مجيد. وقد وصل إليّ كتابك مع عبد الرحمن بن عبيد الأزدي تذكر فيه : أنّك لقيت عبد الله بن سعد بن أبي سرح مقبلا من قديد في نحو من أربعين شابّا من أبناء الطلقاء متوجّهين إلى المغرب (الشام). وإنّ ابن أبي سرح طالما كاد الله ورسوله وكتابه وصدّ عن سبيله وبغاها عوجا ، فدع ابن أبي سرح ودع عنك قريشا وخلّهم وتركاضهم في الضلال ، وتجوالهم في الشقاق! ألا وإنّ العرب قد اجتمعت على حرب أخيك اليوم اجتماعها على حرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل اليوم! فأصبحوا قد جهلوا حقّه وجحدوا فضله وبادوه بالعداوة ونصبوا له الحرب

٢٧٨

وجهدوا عليه كلّ الجهد وجرّوا عليه جيش الأحزاب! اللهمّ فاجز قريشا عنّي الجوازي فقد قطعت رحمي وتظاهرت عليّ ودفعتني عن حقّي ، وسلبتني سلطان ابن أمّي ، وسلّمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي من الرسول وسابقتي في الإسلام ، إلّا أن يدّع مدّع ما لا أعرفه ، ولا أظنّ الله يعرفه ، والحمد لله على كلّ حال.

وأمّا ما ذكرت من غارة الضحّاك على أهل الحيرة ، فهو أقلّ وأذلّ من أن يلمّ بها أو يدنو منها ، ولكنّه أقبل في جريدة خيل فأخذ على السماوة حتّى مرّ بواقصة وشراف والقطقطانة فما والى ذلك الصّقع ، فوجّهت إليه جندا كثيفا من المسلمين ، فلمّا بلغه ذلك فرّ هاربا ، فلحقوه ببعض الطريق وقد أمعن ، وكان ذلك حين طفلت الشمس للإياب ، فتناوشوا القتال قليلا كلا ولا ، فلم يصبر لوقع المشرفية وولى هاربا ، وقتل من أصحابه تسعة عشر رجلا ونجا جريحا بعد ما أخذ منه بالمخنق ولم يبق منه إلّا الرمق ، فلأيا بلأي ما نجا.

وأمّا ما سألتني أن اكتب إليك برأيي فيما أنا فيه ، فإنّ رأيي جهاد المحلّين حتى ألقى الله ، لا يزيدني كثرة الناس معي عزّة ولا تفرّقهم عنّي وحشة ، لأنّي محقّ والله مع الحقّ ، والله ما كرهت الموت على الحقّ ، وما الخير كلّه بعد الموت إلّا لمن كان محقّا.

وأمّا ما عرضت به عليّ من مسيرك إليّ ببنيك وبني أبيك ، فلا حاجة لي في ذلك ، فأقم راشدا محمودا ، فو الله ما أحبّ أن تهلكوا معي إن هلكت ، ولا تحسبنّ ابن أمّك ـ ولو أسلمه الناس ـ متخشّعا ولا متضرّعا ، ولا مقرّا للضيم واهيا ، ولا سلس الزمام للقائد ، ولا وطئ الظهر للراكب المقتعد وإنّي لكما قال أخو بني سليم :

وإن تسأليني : كيف أنت؟ فإنّني

صبور على ريب الزمان ، صليب

يعزّ عليّ أن ترى بي كآبة

فيشمت عاد ، أو يساء حبيب (١)

__________________

(١) الغارات ٢ : ٤٢٨ ـ ٤٣٥ باسناده ، وغلط الدينوري فنقله قبل الجمل ، في الإمامة والسياسة ١ : ٥٥.

٢٧٩

أجل ، كانت هذه أولى غارات معاوية على أطراف حكومة الإمام عليه‌السلام وكأنّها جرّأته على التفكّر في الغارة على مصر عساه يفي بها بوعده لابن العاص ، فإلى تلك الغارة.

غارة عمرو على مصر :

كان عمرو بن العاص قد بايع معاوية لقتال الإمام عليه‌السلام على أنّ له مصر طعمة ما بقي ، فلمّا انصرف عمرو من أمر الحكمين بايع أهل الشام معاوية بالخلافة ، فما كان لمعاوية همّ إلّا مصر ، وقد بلغه خبر الخوارج.

فدعا معاوية عمرو بن العاص ، وبسر بن أبي أرطاة العامري القرشي ، وحبيب بن مسلمة والضحّاك بن قيس الفهريّين ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي من قريش ، ومن غيرهم : أبا الأعور السلمي ، وحمزة بن مالك الهمداني ، وشرحبيل بن السمط الكندي.

ثمّ حمد الله وأثنى عليه وقال : أمّا بعد ، فقد رأيتم كيف صنع الله لكم في حربكم هذه على عدوّكم ، ولقد جاءوكم وهم لا يشكّون أنّهم يستأصلون بيضتكم ويحوزون بلادكم ، وما كانوا يرون إلّا أنّكم في أيديهم ، فردّهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا «وكفى الله المؤمنين القتال» حاكمتموهم إلى الله فحكم لكم عليهم.

ثمّ جمع لنا كلمتنا وأصلح ذات بيننا ، وجعلهم أعداء متفرّقين يشهد بعضهم على بعضهم بالكفر ويسفك بعضهم دم بعض. وقد رأيت أن أحاول حرب مصر فما ذا ترون؟

فقال عمرو : أرى أنّ أمر هذه البلاد ـ لكثرة خراجها وعدد أهلها ـ قد أهمّتك ، فدعوتنا لتسألنا عن رأينا في ذلك. فإن كنت لذلك دعوتنا وله جمعتنا فاعزم واصرم ، ونعم الرأي ما رأيت ، فإنّ في افتتاحها عزّك وعزّ أصحابك وكبت عدوّك وذلّ أهل الخلاف عليك. وقد أخبرتك عمّا سألت ، وأشرت عليك بما سمعت.

٢٨٠