موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

١
٢

٣
٤

٥
٦

عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام

ومبادي حرب صفّين

٧
٨

استبدال عمّال عثمان :

مرّ في الأخبار السابقة استبقاء الإمام عليه‌السلام لحذيفة بن اليمان على المدائن ، وتوفي قبل نهاية وقعة البصرة ، وقبوله عليه‌السلام لمشورة الأشتر بإبقاء الأشعري على الكوفة ، عزله الأشتر واستبدله بقرظة بن كعب الأنصاري.

فلمّا قدم عليه‌السلام من البصرة إلى الكوفة فلا حاجة معه إلى قرظة ، وبعث إلى المدائن يزيد بن قيس الأرحبي.

وببقاء الأشعريّ بقي العمّال السابقون في توابع الكوفة يومئذ ، وكذا على فترة قرظة ، فبدأ الإمام عليه‌السلام باستبدالهم بغيرهم ، فبعث قرظة على البهقبادات (١) وعديّ بن الحارث على استان بهرسر من نواحي بغداد ، وقدامة بن مظعون على كشكر ، وأبا حسّان البكريّ على استان العالي في غربيّ بغداد وبها : بادرويا وقطربل ،

__________________

(١) من نواحي المدائن وبغداد منسوبة إلى الملك قباد الساساني أبي أنو شيروان ، كما في معجم البلدان.

٩

ومسكن ، والأنبار ، وسعد بن مسعود الثقفي على استان الزّوابي وهي نهران فوق بغداد ونهران تحتها (١) ، ثمّ خلف هذا بعد قرظة على المدائن ، وأمر على أهل السواد من الدهاقين الفرس أمراءهم (٢). وأقر على قضاء الكوفة شريح بن الحارث الكندي (٣).

وكان الأشعث بن قيس الكندي أعور قد تزوّج اختا لأبي بكر عوراء (٤) ، وزوّج ابنته لعمرو بن عثمان بن عفّان ، وحضر عمرو في الجمل بالبصرة واخذ أسيرا وبايع الإمام عليه‌السلام فعفى عنه فعاد إلى بلاده المدينة. وكان عثمان قد نصب الأشعث على آذربايجان فبقي عليها حتى انصرف الإمام إلى الكوفة ، فندب زياد بن مرحب الهمداني وكتب معه إلى الأشعث :

«... إنه كان من بيعة الناس إيّاي ما قد بلغك ، وكان طلحة والزبير ممن بايعاني ثم نقضا بيعتي على غير حدث منّي ، وأخرجا أمّ المؤمنين وسارا إلى البصرة. فسرت إليهما فالتقينا ، فدعوتهم إلى أن يرجعوا في ما خرجوا منه فأبوا ...

وإنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنه في عنقك أمانة ، وفي يديك مال من مال الله وأنت من خزّان الله عليه حتى تسلّمه إليّ ، ولعلّي أن لا أكون شرّ ولاتك لك إن استقمت ، ولا قوة إلّا بالله» (٥).

فلما قدم زياد بالكتاب على الأشعث وقرئ على الناس في جامعهم قام الأشعث فقال :

__________________

(١) وقعة صفين : ١٣.

(٢) وقعة صفّين : ١٥ وذكر قبله خبرا عن حشرهم إليه إلى الكوفة.

(٣) تاريخ خليفة : ١٢١ وإن كان هو ممّن حثّ لإغاثة عثمان ـ الطبري ٤ : ٣٥٢.

(٤) قاموس الرجال ٢ : ١٥٥.

(٥) وقعة صفّين : ٢٠ ، وفي نهج البلاغة ك ٥ ، ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٩٤.

١٠

أيها الناس ، إنّ أمير المؤمنين عثمان ولّاني آذربايجان فهلك وهي في يدي ، وقد بايع الناس عليا ، فطاعتنا له كطاعة من قبله ، وقد كان من أمره وأمر طلحة والزبير ما قد بلغكم ، وعليّ المأمون على ما غاب عنّا وعنكم من ذلك الأمر.

ولكنه لما عاد إلى أصحابه دعاهم فقال لهم : إن كتاب عليّ قد أوحشني وهو آخذي بمال آذربايجان! فأنا لاحق بمعاوية!

فقال له قومه : أتدع مصرك وجماعة قومك وتكون ذنبا لأهل الشام؟! الموت خير لك من ذلك! فاستحيا وعاد إلى بلاده الكوفة (١).

وقدّم ابنته جعدة للحسن عليه‌السلام :

مرّ الخبر عن تزويج الحسن عليه‌السلام بإحدى بنات كسرى ملك الفرس على عهد عثمان وماتت في نفاسها ، ولم يرزق منها بولد ، ومرّ الخبر عن تخلف سعيد بن قيس الهمداني عن الإمام في البصرة ، فعاتبه في الكوفة ، فوعده قيس بالخير فيما يأتي ، فكأنه عليه‌السلام أراد أن يتألّفه فكان ما نقله ابن الجوزي : أنه عليه‌السلام خطب من سعيد ابنته أمّ عمران لابنه الحسن عليه‌السلام ، فاستمهل سعيد ليستشير أمّها! وخرج من عنده.

فلقيه الأشعث وشعر بخبره فقال له : إن الحسن سيقول لها : أنا ابن رسول الله وابن أمير المؤمنين ، وهي ليس لها هذا الفضل! ولكن هل لك أن تزوّجها ابن عمّها فهي له وهو لها! قال : ومن ذلك؟ قال : محمد ابني (من أم فروة اخت أبي بكر وعمّة عائشة)؟ فقبل سعيد واستعجل فقال له : قد زوّجته من ابنتي!

واشتدّ الأشعث إلى الإمام وسأله : يا أمير المؤمنين ، خطبت امرأة للحسن؟ قال : نعم. قال : فهل لك في أشرف منها بيتا وأكرم منها حسبا وأتمّ منها جمالا

__________________

(١) وقعة صفّين : ٢١.

١١

وأكثر مالا؟ قال : ومن هي؟ قال : هي ابنتي جعدة! قال : قد قاولنا لذلك رجلا (يعني سعيدا الهمداني) قال : ليس إلى الذي قاولته من سبيل! قال : إنه فارقني ليستشير أمّها! قال : قد زوّجها لابني محمدا! قال : متى؟ قال : قبل أن آتيك! فاستشار الإمام ابنه الحسن وقبلا بابنة الأشعث (١).

ولم يسعد سعيد الهمداني بتزويج ابنته أم عمران لمحمد بن الأشعث الكندي ، لما علم بكيد الكندي الأعور عليه في ذلك ، بل اشتد في عتابه فقال له : خدعتني يا أعور؟! قال له : بل ألست أنت الأحمق إذ تستشير في ابن رسول الله؟!

ثم خاف آفة التأخير فاستعجل في استجلاب موافقة الإمام على زفاف ابنته إلى داره ، فأمر بفرش البسط من باب داره حتى دار الإمام وزفّها إليه (٢).

وخفي علينا خبر إنكار الإمام عليه هذا البذخ والترف والسرف بدعوى الشرف! وتمّ للأعور الكنديّ أن يقول : لو كانت ابنتي زوج عمرو بن عثمان الباغي على الإمام فابنتي الاخرى زوج ابن أمير المؤمنين.

وإلى عامل همدان إلى أصفهان :

وكان على همدان إلى أصفهان من قبل عثمان : جرير بن عبد الله البجلي ، فاستبدله الإمام بمخنف بن سليم الأزدي (٣) وكتب إلى البجلي مع زحر بن قيس الجعفي :

__________________

(١) تأليفا له ولقومه ، ولخطورة ردّ العرض المعروض في العرب قديما وإلى اليوم ، وذلك هو السبب في قبول المعصومين بأمثال جعدة من قبل ومن بعد.

(٢) الأذكياء لابن الجوزي : ٢٧ نقلا عن حياة الإمام الحسن عليه‌السلام للقرشي ٢ : ٤٠٩ ، ٤١١.

(٣) وقعة صفين : ١١.

١٢

«أما بعد ، ف (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)(١). وإني اخبرك عن نبأ من سرنا إليه من جموع طلحة والزبير عند نكثهم بيعتهم وما صنعوا بعاملي عثمان بن حنيف : إني هبطت من المدينة بالمهاجرين والأنصار ، حتى إذا كنت بالعذيب ، بعثت إلى أهل الكوفة بالحسن بن علي وعبد الله بن عباس ، وعمّار بن ياسر ، فاستنفروهم فأجابوا ، فسرت بهم حتى نزلت بظهر البصرة ، فأعذرت في الدعاء وأقلت العثرة ، وناشدتهم عقد بيعتهم فأبوا إلّا قتالي! فاستعنت بالله عليهم ، فقتل من قتل ، وولّوا مدبرين إلى مصرهم ، فسألوني ما كنت دعوتهم إليه قبل اللقاء فقبلت العافية ورفعت السيف. واستعملت عليهم عبد الله بن عباس وسرت إلى الكوفة ، وقد بعثت إليكم زحر بن قيس فاسأله عمّا بدا لك».

فحمل جرير الكتاب إلى جامعهم في همدان وقرأه عليهم ثمّ قال لهم : أيها الناس ، هذا كتاب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، وهو المأمون على الدّين والدنيا ، وقد كان من أمره وأمر عدوّه ما نحمد الله عليه. وقد بايعه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ، ولو جعل هذا الأمر شورى بين المسلمين كان أحقّهم بها. ألا وإن البقاء في الجماعة والفناء في الفرقة ، وعليّ حاملكم على الحق ما استقمتم ، فإن ملتم أقام ميلكم.

فتنادى الناس : سمعا وطاعة رضينا رضينا (٢).

ثم أقبل جرير سائرا من همدان حتى ورد على علي عليه‌السلام بالكوفة فبايعه (٣).

__________________

(١) الرعد : ١١.

(٢) وقعة صفين : ١٥ ، ١٦.

(٣) وقعة صفين : ٢٠ فهو لم يبايع له حتى اليوم!

١٣

وعمّال خراسان وسجستان :

مرّ في أخبار الفتوح في عهد عثمان أنه ولى سعيد بن العاص على الكوفة وعبد الله بن عامر على البصرة وجعل بينهما السباق إلى خراسان ، فسبق ابن عامر إليها ووجّه عبد الرحمن بن سبرة الصحابيّ إلى سجستان (١) وافتتح خراسان وهي واسعة فصيّرها أربعة أرباع وولى عليها أربعة من رجاله ، وصار هو إلى كرمان فحاصرها فأصابتهم مجاعة شديدة ، وأتاه الخبر بحصر عثمان فانصرف إلى البصرة ثمّ إلى مكّة (٢).

فاستعمل الإمام عليه‌السلام ربعي بن كأس التميمي (وكأس أمه) على سجستان. وبعث عمّالا على خراسان كلها.

وكتب إلى معاوية :

وكتب إلى معاوية يدعوه إلى بيعته وحقن دماء المسلمين ، وبعث به مع ضمرة ابن يزيد الضمري وعمرو بن زرارة النخعي. فرجعا وأخبرا أنّ معاوية قال لهما :

إنّ عليا شرك في دم ابن عمّي ثمّ آوى قتلته ، فإن دفع إليّ قتلة ابن عمّي وأقرّني على عملي بايعته ، وإلّا فإنّي لا أترك قتلة ابن عمّي وأكون سوقة! هذا ما لا أقارّه عليه وما لا يكون (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٦.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٧ و ١٦٨.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٢٩٣ ، الحديث ٣٦٧ عن ابن إسحاق. وبذيله عن جمهرة أمثال العرب للعسكري ٢ : ١٥٨ ، عن الطبري عن المدائني عن الزهري وقال : كان ذلك في شهر رمضان.

١٤

درع طلحة والقاضي شريح :

مرّ الخبر : أنّ درع طلحة فقدت بعد قتله ، وتبيّن بعد أن رجلا من قومه من تيم يدعى عبد الله بن قفل كان قد أخذها بلا إذن من الإمام عليه‌السلام ، وكان هذا في الكوفة ، ومرّ في مسجد الكوفة على الإمام ومعه الدرع ، فعرفها وقال له : هذه درع طلحة اخذت غلولا (خيانة) يوم البصرة! فتقاضاه الرجل إلى القاضي شريح ليقضي في ذلك! وقبل الإمام بذلك ، فطلب شريح من الإمام شهودا ، فشهد بذلك الحسن عليه‌السلام ، فقال شريح : حتى يكون معه آخر ، وكان قنبر شهدها فشهد بها ، فقال شريح : لا أقضي بشهادة المملوك!

فقال الإمام عليه‌السلام : إنّ هذا قضى بالجور ثلاث مرّات!

فتحوّل شريح عن مجلسه للقضاء وقال : لا أقضي بين اثنين حتّى تخبرني كيف قضيت بالجور ثلاث مرّات؟!

فقال الإمام عليه‌السلام : قد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «حيثما وجد غلول اخذ بغير بيّنة» وقلت : إنّما درع طلحة اخذت غلولا ، فقلت : هات بيّنة! فقلت : رجل لم يسمع الحديث.

ثمّ أتيتك بالحسن فشهد ، فقلت : هذا شاهد واحد ولا أقضي بشاهد حتى يكون معه آخر ، وقد قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بشاهد ويمين فهاتان اثنتان.

ثمّ اتيتك بقنبر فقلت : هذا مملوك! وما بشهادة المملوك بأس إذا كان عدلا ، فهذه الثالثة. يا شريح ؛ إنّ إمام المسلمين يؤتمن من امور المسلمين على ما هو أعظم من هذا! خذوا الدرع (١).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٥ ، والفقيه ٣ : ١٠٩ ، والتهذيب ٢ : ٨٧ عن الباقر عليه‌السلام وقال : كان عمر أوّل من ردّ شهادة المملوك. فلعلّه هنا قال له : والله لأنفينّك إلى بانقيا شهرين تقضى بين اليهود ، كما في شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٤ : ٩٨ فولّى القضاء بدله محمد بن زيد بن خليدة الشيباني ، ثمّ أعاد شريحا ، كما في تاريخ خليفة : ١٢١.

١٥

وعمّال أرض الجزيرة :

كانت تطلق الجزيرة على الأراضي فيما بين الرافدين : دجلة والفرات في أعاليها من الشام وشمال العراق ، فكان منها : حرّان والرّقة والرها وقرقيسيا من الشام في سلطان معاوية ، وكان قد بعث عليها الضحّاك بن قيس الفهري. وكان منها : آمد ودارا وسنجار وعانة وهيت ونصيبين والموصل خارجة عن سلطة معاوية ، فبعث الإمام عليه‌السلام عليها الأشتر ، فخرج الأشتر واتّجه إلى قتال الضحّاك في حرّان ، وبلغ الضحاك ذلك فاستمد من أهل الرقة فأمدّوه وعليهم سماك بن مخرمة ، فالتقوا في مرج مرينا بين الرقة وحرّان ، فقاتلوا حتى المساء ، ثمّ سار الضحاك بأصحابه ليلا حتى تحصنوا في حرّان صباحا ، فحاصرهم الأشتر ، وبلغ ذلك إلى معاوية فأرسل إليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد في خيل يمدّهم ، وبلغ ذلك الأشتر فمضى إلى الرقّة فتحرّزوا منه ، ثمّ مرّ إلى قرقيسيا فتحرّزوا منه (١) فانصرف الأشتر إلى الموصل وقد علم بمدى نفوذ معاوية ومن معه ، ولكنه كأنّه عاد إلى بلاده الكوفة قبل صفين.

إرسال جرير إلى معاوية :

لما نزل جرير البجلي الكوفة وأراد الإمام أن يبعث رسولا إلى معاوية وعلم جرير بذلك ، جاء إلى الإمام وقال له : ابعثني إلى معاوية ، فإنه لم يزل لي مستنصحا وودّا ، فآتيه فأدعوه على أن يسلّم لك هذا الأمر ويجامعك على الحق ـ على أن يكون أميرا من أمرائك وعاملا من عمّالك ما عمل لطاعة الله واتّبع ما في كتاب الله ـ وأدعو أهل الشام إلى طاعتك وولايتك ، وجلّهم قومي وأهل بلادي (اليمن) وقد رجوت أن لا يعصوني.

__________________

(١) وقعة صفين : ١٢ ، ١٣.

١٦

ولأنه كان لم يبايع للإمام ولم يتابعه في الجمل قال الأشتر : والله إني لأظنّ أنّ هواه هواهم ونيّته نيّتهم ، فلا تصدّقه ، ودعه ولا تبعثه.

فقال الإمام : دعه ، حتى ننظر ما يرجع به إلينا.

وقال لكاتبه ابن أبي رافع القبطي أن يكتب له : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، أما بعد ، فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ؛ لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يردّ ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإذا اجتمعوا على رجل فسمّوه إماما كان ذلك لله رضا ، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردّوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين ، وولّاه الله ما تولّى ويصليه جهنّم وساءت مصيرا (١).

وإن طلحة والزبير بايعاني ثمّ نقضا بيعتي ... فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون.

فادخل في ما دخل فيه المسلمون ، فإنّ أحبّ الأمور إليّ فيك العافية إلّا أن تتعرض للبلاء ، فإن تعرّضت له قاتلتك واستعنت بالله عليك.

وقد أكثرت في قتلة عثمان ، فادخل في ما دخل فيه المسلمون ثمّ حاكم القوم إليّ أحملك وإيّاهم على كتاب الله. فأمّا تلك التي تريدها فخدعة الصبيّ عن اللبن! ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّي أبرأ قريش من دم عثمان.

__________________

(١) هذا الكلام من الإمام لمعاوية إنما هو من باب إلزام الخصم بما التزم ، ولا يعبّر عن نظر الإمام عليه‌السلام في الإمامة بالضرورة ، فإنه كان يرى نصّ النبيّ عليه ، ولا إجماع مع النصّ ، فضلا عمّا إذا كان بخلافه ، ولكن لا احتمال لإذعان معاوية بالنصّ على علي عليه‌السلام فلم يحتجّ به عليه.

١٧

واعلم أنك من الطلقاء الذين لا تحلّ لهم الخلافة ولا تعرض فيهم الشورى.

وقد أرسلت إليك والي من قبلك جرير بن عبد الله ، وهو من أهل الإيمان والهجرة ، فبايع ، ولا قوة إلّا بالله» (١).

وحين أراد أن يبعثه قال له : إنّ حولي من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أهل الدين والرأي من قد رأيت ، وقد اخترتك عليهم ... فأت معاوية بكتابي هذا ، فإن دخل في ما دخل فيه المسلمون ، وإلّا فانبذ إليه (الحرب) وأعلمه أني لا أرضى به أميرا! وأنّ العامّة لا ترضى به خليفة.

فروى ابن بكّار في «الموفّقيات» عن جرير البجلي قال : لمّا بعثني علي عليه‌السلام إلى معاوية خرجت وأنا لا أرى أحدا سبقني إليه ، فقدمت عليه فوجدته قد علّق قميص عثمان وهو مخضوب بالدم على رمح وعليه أصابع زوجته نائلة بنت الفرافصة مقطوعة! والناس حوله يبكون وهو يخطبهم ، فدفعت إليه كتاب علي عليه‌السلام.

فقال لي معاوية : إنّ الناس قد نفروا عند قتل عثمان قد نفروا فأقم حتّى يسكنوا. قال : فأقمت أربعة أشهر (٢).

خبر عمرو بن العاص :

وكان عمرو بن العاص معتزلا في فلسطين ، فكتب معاوية إليه : «أما بعد ، فإنه كان من أمر عليّ وطلحة والزبير ما قد بلغك ، وقد سقط إلينا مروان بن الحكم

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٩ ، ٣٠ ، وفي نهج البلاغة ك ٦ ، ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٩٤.

(٢) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ١٤ : ٣٩ وليس في الموفّقيات المنشور ، والخبر كما ترى لم يذكر هذه الشهور الأربعة ، وهو بعيد جدّا ؛ فإنّه سيأتي أنّ الإمام عليه‌السلام إنّما مكث في الكوفة ثلاثة أشهر وخرج منها في أوائل شوال ، فلا يتلاءم معه إلّا أن يكون جرير قد أقام في الشام أربعة أسابيع لا شهورا ، ولا أقلّ من أربعة أسابيع اخرى للطريق.

١٨

في رافضة أهل البصرة ، وقدم علينا جرير بن عبد الله في بيعة علي ، وقد حبست نفسي عليك حتى تأتيني ، فأقبل اذاكرك أمرا.

وكان مع عمرو ابناه محمد وعبد الله ، فلما قرئ الكتاب عليه استشار ابنيه.

فقال عبد الله : أرى أنك لست مجعولا خليفة ، ولا تريد أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليلة! أوشك أن تهلك فتشقى فيها!

وقال محمد : أرى أنك شيخ قريش وصاحب أمرها ، وإن تصرّم هذا الأمر وأنت فيه خامل الذكر تصاغر أمرك ، فالحق بجماعة أهل الشام واطلب بدم عثمان فكن يدا من أياديها.

فقال عمرو : أما أنت يا عبد الله فقد أمرتني بما هو خير لي في ديني! وأنت يا محمد فقد أمرتني بما هو خير لي في دنياي ، وأنا ناظر فيه!

واستمر نظره في أمره ، وانتشر عنه مسيره ، وأمر غلامه وردان أن يهيّئ رحله ، ثم أمره أن يحطّ ، ثمّ أمره أن يعدّ الرحل ، ثمّ أمره أن يحطّ ، فقال له وردان : أما إن شئت أنبأتك بما في نفسك. قال : هات ويحك! قال : اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك فقلت : علي مع الآخرة في غير دنيا وفي الآخرة عوض عن الدنيا ، ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة! وليس في الدنيا عوض من الآخرة! فأنت واقف بينهما.

قال عمرو : ما أخطأت فما ترى؟ قال : أرى أن تقيم في بيتك ، فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم! وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك! قال : الآن وقد شهدت العرب مسيري إلى معاوية! وارتحل.

وسار حتى قدم على معاوية وعرف حاجة معاوية إليه (١).

__________________

(١) وقعة صفّين : ٣٥ ، ٣٦.

١٩

حديث معاوية إلى عمرو :

فلما دخل عليه قال له معاوية : يا أبا عبد الله ، إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى ربّه وقتل الخليفة وأظهر الفتنة وفرّق الجماعة وقطع الرحم!

قال عمرو : من؟ قال : علي!

فقال له عمرو : يا معاوية! والله ما أنت وعليّ بعكمي بعير (عدلين) ما لك هجرته ولا سابقته ولا صحبته ولا جهاده ولا فقهه ولا علمه ... والله إنّ له مع ذلك حدّا وجدّا (جديّة) وحظّا وحظوة ، وبلاء حسنا من الله! فإن شايعتك على حربه ـ وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر ـ فما تجعل لي؟ قال : حكمك! قال : مصر طعمة! فتلكّأ معاوية ثمّ قال له : يا أبا عبد الله : إني أكره أن يتحدّث العرب عنك! أنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا! فقال عمرو : دعني عنك (١).

فقال له معاوية : أما إني لو شئت أن امنّيك وأخدعك لفعلت!

فقال عمرو : أنا أكيس من ذلك وما مثلي من يخدع!

قال معاوية : ادن منّي برأسك أسارّك! ولم يكن في البيت غيرهما! ومع ذلك أدنى عمرو برأسه إلى معاوية ليسارّه ، فعضّ معاوية على اذن عمرو ثمّ قال : هذه خدعة! هل ترى في بيتك أحدا غيري وغيرك؟!

ثم قال له : يا أبا عبد الله! ألم تعلم أن مصر مثل العراق! قال : بلى ، ولكنها إنما تكون لي إذا كانت لك ، وإنما تكون لك إذا غلبت عليا على العراق!

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٧ ، ٣٨ ، ونقله عنه المعتزلي الشافعي في شرح نهج البلاغة ٢ : ٦٥ ثمّ علّق عليه عن شيخه البلخي قال : قوله له : دعني عنك! كناية عن الإلحاد بل تصريح به ، فإنه يعني : دع هذا الكلام الذي لا أصل له! فإن اعتقاد الآخرة وأنها لا تباع بعرض الدنيا خرافة! وكان مثله معاوية وتلاعبا بالإسلام! ثمّ نقل قريبا منه عن الجاحظ البصري : ٦٦.

٢٠