موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

تعلم أنه شرّ لك فلا تزوّده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة! فإنه ليس لك من الآخرة إلّا ما طاب ، واعلم أنه لا حجّة لك عند الله إن قدّمت يزيد على «الحسن والحسين» وأنت تعلم من هما! وإلى ما هما! وإنما علينا أن نقول : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(١).

ثمّ أعرض معاوية عن ذكر البيعة ليزيد حتّى :

قدم المدينة سنة خمسين :

ولما استقر في منزله أرسل إلى العبادلة الأربعة : عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، فلما اجتمعوا منع من أن يدخل عليه أحد! ثمّ تكلم فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد ، فقد كبر سنّي ووهن عظمي وقرب أجلي ، وأوشكت أن ادعى فاجيب ، وقد رأيت أن أستخلف عليكم بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا ، وأنتم عبادلة قريش وخيارها وأبناء خيارها! ولم يمنعني أن احضر «حسنا وحسينا» إلّا أنهما أولاد أبيهما عليّ! على حسن رأيي فيهما وشديد محبّتي لهما! فردّوا على أمير المؤمنين! خيرا رحمكم الله!

فقام عبد الله بن عباس فتكلم فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيّه وآله ثمّ قال : أما بعد ، فإنك قد تكلّمت فانصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإن الله ـ جل ثناؤه وتقدست أسماؤه ـ اختار محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس من تشرّف به ، وأولاهم بالأمر أخصّهم به ، وإنّما على الأمة التسليم لنبيّها إذ اختاره الله لها ، فإنه إنما اختار محمّدا بعلمه وهو العليم الخبير ، وأستغفر الله لي ولكم.

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٧٠ ـ ١٧١ ، والآية من البقرة : ٢٨٦.

٥٦١

فقام عبد الله بن جعفر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد ، فإن هذه الخلافة إن اخذ فيها بالقرآن فاولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإن أخذ فيها بسنة رسول الله فاولوا رسول الله أولى به ، وإن أخذ فيها بسنة! الشيخين أبي بكر وعمر فأيّ الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول؟ وايم الله لو ولّوه بعد نبيّهم لوضعوا الأمر موضعه لحقّه وصدقه ، ولاطيع الرحمن وعصي الشيطان ، وما اختلف في الأمة سيفان. فاتق الله ـ يا معاوية ـ فإنك قد صرت راعيا ونحن رعيّة ، فانظر لرعيتك فإنك مسئول عنها غدا!

وأما قولك في ابني عمّي وتركك أن تحضرهما ، فو الله ما أصبت الحقّ ولا يجوز لك ذلك إلّا بهما! وإنّك لتعلم أنّهما معدن العلم والكرم! فقل أو دع ، وأستغفر الله لي ولكم.

فتكلم عبد الله بن الزبير فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة لقريش خاصة! تتناولها بمآثرها السنية وأفعالها المرضية ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء! فاتّق الله يا معاوية وأنصف من نفسك ، فإنّ هذا عبد الله بن عباس ابن عمّ رسول الله ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عمّ رسول الله ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله! وعليّ خلّف «حسنا وحسينا» وأنت تعلم من هما وما هما؟ فاتق الله يا معاوية وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك. ثمّ سكت.

فتكلم عبد الله بن عمر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد ، فإنّ هذه الخلافة ليست بهرقليّة ولا قيصرية ولا كسروية يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك لكنت القائم بها بعد أبي! فو الله ما أدخلني مع الستة من أصحاب الشورى إلّا على أن الخلافة ليست شرطا مشروطا! وإنما هي في قريش خاصة لمن كان لها أهلا ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم من كان أتقى وأرضى! فإن كنت تريد الفتيان من قريش فلعمري إن يزيد من فتيانها ولكنك تعلم أنه لا يغني عنك من الله شيئا.

٥٦٢

فتكلم معاوية فقال : قد قلت وقلتم ، وإنه ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحبّ إليّ من أبنائهم! مع أن ابني إن قاولتموه وجد مقالا! وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف ؛ لأنهم أهل رسول الله ، فلما مضى رسول الله ولى الناس أبا بكر وعمر من غير معدن الملك ولا الخلافة! غير أنهما سارا بسيرة جميلة! ثمّ رجع الملك إلى بني عبد مناف! فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة! فقد أخرجك الله منها يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر! وهذان ابنا عمي فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله! ثمّ أمر بعطياتهم وصلاتهم فلم يقطعها عنهم ، ثمّ أمر بالرحلة وانصرف راجعا إلى الشام ، وسكت عن الأمر فلم يعرض له حتّى سنة إحدى وخمسين (١).

وسمّ الإمام عليه‌السلام :

روى الحلبي عن الصادق عليه‌السلام : أنّ الحسن بن علي عليهما‌السلام قال لأهل بيته : إنّي أموت بالسمّ كما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! فسألوه : ومن يسمّك؟ قال : امرأتي أو جاريتي! فقالوا له : فأخرجها من ملكك. فقال : ولو أخرجتها ما يقتلني غيرها أمرا واجبا (ثابتا) من الله وقضاء مقضيا منيّتي على يدها ما لي منها محيص ، هيهات من إخراجها (٢).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٧٢ ـ ١٧٤ ، وجمهرة الخطب ٢ : ٢٣٣ ـ ٢٣٦ ، وانظر الغدير ١٠ : ٢٤٢ ـ ٢٤٤. ويبدو أنه حاول أن يغطّي مقصد سفرته هذه بلا حجّ ولا عمرة بحمل منبر النبي إلى الشام ، وحملوه ، فكسفت الشمس حتّى رؤيت النجوم نهارا ، فزعموها من ذلك فردّه وأمر فعمّر وزيد عليه ستّ مراقي فأصبح ذا تسع مراق ، كما في مروج الذهب ٣ : ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ١١.

٥٦٣

وقد مرّ في الخبر : أنّ معاوية دسّ لمالك بن الحارث الأشتر النخعي في طريقه إلى مصر من سمّه في شراب من عسل مسموم ، فلما بلغه خبره قال : إنّ لله جنودا من عسل! ومرّ في الخبر أيضا : أنه لما استمزج الناس بالشام لولاية عهده تنادوا باسم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فدسّ إليه طبيبه ابن أثال النصراني فسقاه شربة انخرق منها بطنه فمات!

وسيأتي في الأخبار التالية أن الحسن عليه‌السلام سقي السم مرارا ، فيبدو أن معاوية كان يسقيه السموم السابقة فلم تنجع فيه ، فروى «الاحتجاج» أنه كتب إلى ملك الروم (؟) يسأله أن يوجّه إليه من السمّ القتال شربة! فكتب إليه ملك الروم : إنه لا يصلح لنا في ديننا أن نعين على قتال من لا يقاتلنا! فكتب إليه : إنّ هذا ابن الرجل الذي خرج بأرض تهامة وقد خرج يطلب ملك أبيه ، وأنا اريد أن أدسّ إليه من يسقيه ذلك فاريح العباد والبلاد منه ، ووجّه إليه بهدايا وألطاف ، فوجّه إليه ملك الروم (؟) بشربة واشترط عليه شروطا في ذلك فدفع بالسمّ لقتل الحسن عليه‌السلام (١).

وإلى جانب الإمام الحسن عليه‌السلام كان سعد بن أبي وقّاص هو البقية الباقية من الستة نفرا أعضاء شورى عمر ، فكأن معاوية كان يراهما مانعين عن تولية العهد ليزيد : فقد روى الأصفهاني الأموي قال : لما أراد معاوية البيعة لابنه يزيد لم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسن بن عليّ وسعد بن أبي وقاص ، فدسّ إليهما سمّا ماتا منه في أيام (٢) متقاربة بعد عشر سنين من عهد معاوية.

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ١١.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٧ ـ ٤٨.

٥٦٤

وذكر البلاذري : أن معاوية دسّ إلى هند ابنة سهيل بن عمرو ، وإلى امرأة الحسن عليه‌السلام شربة بعث بها إليها على أن تسقيها للحسن ، على مائة ألف دينار! ففعلت (١) ولم يعلم ما علاقة هند بالحسن عليه‌السلام ، فلعلّها كانت امرأة سعد. ولم يعلم من الوسيط المدسوس من معاوية إلى زوج الإمام عليه‌السلام ، ولم يذكر لسعيد بن العاص دور في ذلك ، فلعلّه كان لرقيبه في الإمارة ، مروان ، ولم يذكر أيضا (٢).

واكتفت نصوص بعض المصادر كاليعقوبي بذكر السمّ عن لسان الإمام عليه‌السلام في وصيته إلى أخيه الحسين عليه‌السلام : «يا أخي إن هذه آخر ثلاث مرار سقيت فيها السمّ ولم أسقه مثل مرّتي هذه ، وأنا ميّت من يومي» (٣) بلا ذكر لمعاوية ولا مروان ولا حتّى جعدة ، وإن كانت المظنّة السياسية تعود إلى معاوية طبعا. واكتفى معاصره الدينوري بقوله : «ويقال : إن امرأته جعدة بنت الأشعث سمّته» (٤).

كذلك نقل الكليني ، بسنده عن أبي بكر الحضرمي قال : إن جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي ، سمّت الحسن بن علي ، وسمّت مولاة له ، فأمّا مولاته فقاءت السمّ ، وأما الحسن فانتقض به فمات (٥) ورواه بسنده عن الصادق عليه‌السلام : أن جعدة ابنة الأشعث سمّت الحسن عليه‌السلام (٦).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ٦٣.

(٢) أجل ، نقل ذلك في صلح الحسن عليه‌السلام : ٣٦٤ عن مروج الذهب ، وليس فيه. وكذلك في حياة الحسن عليه‌السلام للقرشي ٢ : ٤١٨.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٢٥.

(٤) المعارف : ٢١٢ وهو والبلاذري واليعقوبي أقدم النصوص.

(٥) أصول الكافي ١ : ٤٦٢.

(٦) روضة الكافي : ١٤٧ ، الحديث ١٨٧.

٥٦٥

نعم ، صرّح بذكر معاوية مع أبي الفرج الأموي معاصره المسعودي قال : كان الذي بعثها على سمّه أنّ معاوية دسّ إليها : إنك إن احتلت في قتل الحسن وجّهت إليك بمائة ألف درهم وزوّجتك من يزيد ، فذلك الذي بعثها على سمّه (١).

وزاد الطبري الإمامي قال : أرسل معاوية إلى امرأته جعدة ... وبذل لها عشرين ألف دينار ، وإقطاع عشر ضياع من شعب سواد الكوفة ، وأن يزوّجها ابنه يزيد ، فسقت الحسن برادة من الذهب في السويق المقنّد (٢).

وروى المفيد بسنده عن المغيرة (؟) قال : أرسل معاوية إلى جعدة بنت الأشعث ، وبعث إليها بمائة ألف درهم وأن يزوّجها ابنه يزيد على أن تسمّ الحسن ففعلت.

وفصّله قبله قال : لما تمّ لمعاوية عشر سنين من إمارته وعزم على البيعة لابنه يزيد ، دسّ إلى جعدة بنت الأشعث زوجة الحسن عليه‌السلام من (؟) حملها على سمّه وضمن لها أن يزوّجها بابنه يزيد ، وأرسل إليها مائة ألف درهم ، فسقته السمّ ، فبقي عليه‌السلام مريضا أربعين يوما ، ومضى لسبيله في صفر سنة خمسين من الهجرة (٣).

وروى المسعودي ، عن الصادق ، عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام : أن الحسن عليه‌السلام لما سقي السمّ دخل عليه الحسين عليه‌السلام ، فقام الحسن لحاجة الإنسان ثمّ رجع فقال : لقد سقيت السمّ عدة مرار فما سقيت مثل هذه المرّة ، لقد لفظت طائفة من كبدي (٤)

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٤٢٧.

(٢) دلائل الإمامة : ٦١ والمقنّد : المحلّى بالقند : سكر مكعّب.

(٣) الإرشاد ٢ : ١٥ ـ ١٦ والخبر هو ما في مقاتل الطالبيين : ٤٨ وعنه نقل المفيد.

(٤) يتكرر ذكر تقيؤ الإمام المجتبى عليه‌السلام قطعا من كبده ، والسمّ قد يؤدي في حالات نادرة وكعارض من عواض السمّ إلى التهاب في الكبد ولكن لا يؤدي إلى تقطّعه ولا إلى

٥٦٦

حتّى أنّي قلّبتها بعود بيدي ... ولقد حاقت شربته (؟) وبلغ امنيّته! والله لا وفى لها (؟) بما وعد ، ولا صدق فيما قال (١) بلا تصريح به ولا بها؟!

وورد ذكر الأربعين يوما فيما رواه ابن عساكر بسنده ، عن أم موسى (؟) : أنّ جعدة بنت الأشعث سقت الحسن السمّ ، فكان يوضع عنده طست وترفع اخرى نحوا من أربعين يوما (٢).

وورد التعبير الأصح بالأمعاء بدل الكبد عند ابن كثير قال : وكأنّ معاوية قد تلطّف لبعض خدمه أن يسقيه سما ... واختلف إليه الطبيب وقال : هذا رجل قد قطّع السمّ أمعاءه (٣).

مواعظه لجنادة :

جنادة بن أبي امية ، عدّته كتب تراجم الصحابة منهم (٤) ولم يرو عنه في كتبنا إلّا حديث نبوي واحد في «أمالي الطوسي» (٥) وعنه عن عبادة بن الصامت ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مما لا صراحة فيه بصحابيّته. ولم يذكر في أي خبر مع عليّ والحسن عليهما‌السلام ، ويذكر في قوّاد معاوية لغزو الروم في البحر في عام (٥٦ ه‍) و (٥٩ ه‍) ومات في (٨٠ ه‍) (٦).

__________________

ـ تداخله في المعدة والمري ، كما ينصّ عليه الطبّ العدلي بل كما هو واضح. ولكن الكلام جار على لسان العرب ، وجاء في «لسان العرب» : أن الكبد يطلق على الجهاز الخاص الصفراوي في الجانب الأيمن ، وكذلك على كلّ ما في الجوف ، وهو المقصود هنا.

(١) مروج الذهب ٢ : ٤٢٧ ، وفي مقاتل الطالبيين : ٤٨ بطريق آخر ، وعنه في الإرشاد ٢ : ١٦ ـ ١٧.

(٢) ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام من تاريخ دمشق : ٢١٠ ، الحديث ٣٤٠.

(٣) البداية والنهاية ٨ : ٤٣.

(٤) انظر قاموس الرجال ٢ : ٧٢٣ برقم ١٥٩١.

(٥) أمالي الطوسي : ٤٧٤ ، الحديث ٣ م ١٧.

(٦) انظر فهارس تاريخ الخياط.

٥٦٧

وعلى أي حال فقد نقل الخزّاز القمّي الرازي في «كفاية الأثر في النصّ على الأئمة الاثني عشر» بسنده عنه قال : دخلت على الحسن بن علي في مرضه الذي توفّي فيه وبين يديه طست يقذف فيه الدم قطعة قطعة من السمّ الذي سقاه معاوية ، فقلت له : يا مولاي ما لك لا تعالج نفسك؟ فقال : يا عبد الله بما ذا اعالج الموت؟! ثمّ التفت إليّ فقال : والله لقد عهد إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماما من ولد عليّ وفاطمة ، ما منّا إلّا مسموم أو مقتول! ثمّ رفع الطست ، وبكى ، فقلت له : عظني يا ابن رسول الله.

قال : نعم ، استعدّ لسفرك ، وحصّل زادك قبل حلول أجلك ، واعلم أنّك تطلب الدنيا والموت يطلبك ، ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه. واعلم أنّك لا تكسب من المال شيئا فوق قوتك إلّا كنت فيه خازنا لغيرك!

واعلم أن في حلالها حسابا ، وفي حرامها عقابا وفي الشبهات عتابا. فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة! خذ منها ما يكفيك ، فإن كان ذلك حلالا كنت قد زهدت فيها ، وإن كان حراما لم يكن فيه وزر إذا أخذت كما أخذت من الميتة ، وإن كان العتاب فإن العتاب يسير.

واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ، وإذا أردت عزّا بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله عزوجل.

وإذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا صحبته زانك وإذا خدمته صانك ، وإذا أردت منه معونة أعانك ، وإن قلت صدّق قولك ، وإن صلت شدّ صولتك ، وإن مددت يدك بفضل مدّها ، وإن بدت منك ثلمة سدّها ، وإن رأى منك حسنة عدّها ، وإن سألته أعطاك وإن سكتّ عنه ابتداك ، وإن نزلت بك إحدى الملمّات ساءه. من لا تأتيك منه البوائق ولا تختلف عليك منه الطرائق ، ولا يخذلك عند الحقائق ، وإن تنازعتما منقسما آثرك.

٥٦٨

ثمّ انقطع نفسه واصفرّ لونه حتى خشيت عليه. ودخل الحسين عليه‌السلام فانكبّ عليه حتى قبّل رأسه وبين عينيه ، ثمّ قعد عنده ... فأخذ الحسن يسرّ إلى الحسين بوصيّته ، وكان قد دخل مع الحسين الأسود بن أبي الأسود (؟) فقال : إنا لله! إنّ الحسن قد نعيت إليه نفسه فهو يوصي إلى الحسين (١).

وصيته إلى الحسين عليه‌السلام :

وروى المفيد ، عن المخارقي قال : لما حضرت الحسن عليه‌السلام الوفاة استدعى الحسين عليه‌السلام فقال له : يا أخي ، إنّي مفارقك ولاحق بربّي عزوجل ، وقد سقيت السمّ ورميت بكبدي في الطست ، وإني لعارف بمن سقاني السمّ ومن أين دهيت ، وأنا اخاصمه إلى الله تعالى ، فبحقّي عليك إن تكلمت في ذلك بشيء.

فإذا قضيت فغمّضني وغسّلني وكفّني ، واحملني على سريري إلى قبر جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأجدّد به عهدا ، ثمّ ردّني إلى قبر جدّتي فاطمة بنت أسد رحمة الله عليها فادفني هناك. والقوم سيظنّون بكم أنكم تريدون دفني عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيجلبون في منعكم عن ذلك ، فبالله اقسم عليك أن تهريق في أمري محجمة دم!

ثم وصّى عليه‌السلام إليه بأهله وولده وتركته وما كان وصّى به إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام حين استخلفه وأهّله لمقامه ، ونصبه علما لشيعته من بعده ودلّهم على استخلافه (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ : ١٣٨ ـ ١٤٠ عن كفاية الأثر.

(٢) الإرشاد ٢ : ١٧.

٥٦٩

تشييعه ودفنه :

قال المفيد : فلما مضى الحسن عليه‌السلام لسبيله غسّله الحسين عليه‌السلام وكفّنه وحمله على سريره ولم يشك مروان (١) ومن معه من بني أمية أنهم سيدفنونه عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

فتجمعوا له ولبسوا السلاح. فلما توجّه به الحسين عليه‌السلام إلى قبر جدّه ليجدّد به عهدا أقبلوا إليهم بجمعهم ، وخرجت إليهم عائشة على بغل وهي تقول : ما لي ولكم تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحب (٣)! وجعل مروان يقول : يا ربّ هيجا هي خير من دعة! أيدفن عثمان بأقصى المدينة (البقيع) ويدفن الحسن مع النبيّ؟! لا يكون ذلك أبدا وأنا أحمل السيف! وكاد أن تقع الفتنة!

فبادر ابن عباس (٤) إلى مروان وقال له : ارجع يا مروان من حيث جئت ، فإنّا ما نريد أن ندفن صاحبنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكنّا نريد أن نجدّد به عهدا بزيارته ثمّ نردّه إلى جدّته فاطمة فندفنه عندها بوصيّته بذلك ، ولو كان وصّى

__________________

(١) ولم يكن مروان في تلك الأوان عامل آل أبي سفيان بالمدينة ، كان قد تلكّأ في أخذ البيعة ليزيد فعزله معاوية وولّاها سعيد بن العاص ، وهو الذي صلّى على الحسن عليه‌السلام حسب السنة الجارية كما في مقاتل الطالبيين : ٥٠.

(٢) ومن هنا نسب ذلك إلى وصية الحسن عليه‌السلام ، كما في مقاتل الطالبيين مثلا : ٤٩.

(٣) خلافا لآية مودة قربى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ٢٣ الشورى ، ولذا فقد كبرت الكلمة على بعضهم فروى : أن الحسن عليه‌السلام كان قد أرسل إليها أن تأذن له أن يدفن مع جده فقالت : نعم ما بقي إلّا موضع قبر واحد! ولكن بني امية سمعوا بذلك فلبسوا السلاح وكذلك بنو هاشم! وبلغ ذلك الحسن فقال لهم : أما إذا كان هذا فلا حاجة لي فيه ، ادفنوني إلى جانب امي فاطمة ـ أي جدّته بنت أسد ـ مقاتل الطالبيين : ٤٩.

(٤) وستأتي الأخبار عن عدم حضور ابن عباس عند وفاته بالمدينة.

٥٧٠

بدفنه مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلمت أنّك أقصر باعا من ردّنا عن ذلك! لكنه كان أعلم بالله ورسوله وبحرمة قبره من أن يطرّق عليه هدما كما طرّق ذلك غيره ودخل بيته بغير إذنه!

ثمّ أقبل على عائشة فقال لها : وا سوأتاه! يوما على جمل ويوما على بغل تريدين أن تطفئي نور الله وتقاتلين أولياء الله! ارجعي فقد كفيت الذي تخافين وبلغت ما تحبّين! والله تعالى منتصر لأهل هذا البيت ولو بعد حين!

وقال الحسين عليه‌السلام : والله لو لا عهد الحسن إليّ بحقن الدماء وأن لا اهريق في أمره محجمة دم ، لعلمتم كيف كانت تأخذ سيوف الله منكم مأخذها وقد نقضتم العهد بيننا وبينكم ، وأبطلتم ما اشترطنا لأنفسنا عليكم (١)!

وعن الباقر عليه‌السلام : أنّه قال لعائشة : أنت قديما هتكت حجاب رسول الله وأدخلت بيته من لا يحبّ قربه! وإن الله سائلك عن ذلك! إن أخي أمرني أن أقرّبه من رسول الله ليجدّد به عهدا. ثمّ تكلّم محمد بن الحنفية قال لها : يا عائشة! يوما على جمل ويوما على بغل! فما تملكين نفسك عداوة لبني هاشم! فأقبلت عليه وقالت له : يا ابن الحنفية! هؤلاء بنو فاطمة يتكلمون فما كلامك؟! نحّوا ابنكم واذهبوا فإنّكم قوم خصمون (٢)!

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١٨ و ١٩ ، هذا ولم يكن مروان أمير المدينة يومئذ بل سعيد بن العاص. والطبرسى في إعلام الورى ٢ : ٤١٤ نقل قول المفيد في الإرشاد إلى قول عائشة ثم روى عن الباقر عليه‌السلام أن الحسين عليه‌السلام قال لها : أنت قديما هتكت حجاب رسول الله وأدخلت بيته من أبغضه.

(٢) أصول الكافي ١ : ٣٠٢ ، الحديث ٣ ولكن فيه عن الحسين عليه‌السلام : أنّ ضرب المعاول حول رسول الله خلاف قوله سبحانه : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) فهو حرام غير جائز! وهو وهم وتقوّل غير جائز! والخبر مكرر الخبر الأول بالباب وفيه : أن الحسين

٥٧١

أجمع الأخبار في ذلك :

الواقدي نقل أشمل النقول في ذلك بسنده عن الحسن بن محمد بن الحنفية : أنّ الحسن عليه‌السلام سقي السمّ فأمسى مريضا مبطونا أربعين يوما ، فكان بنو هاشم لا يفارقونه يبيتون عنده ، وكان على المدينة سعيد بن العاص وكان يعوده فمرة يأذن له ومرة يحجب عنه. وبعث مروان رسولا إلى معاوية يخبره بثقله.

ولما ثقل أو احتضر وعنده إخوته والحسين عهد إليه : أن يدفن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن أمكن ، وإن حيل بينه وبينه وخيف أن يهراق فيه محجمة من دم دفن عند أمه (فاطمة بنت أسد) بالبقيع ، وأخذ يؤكّد على الحسين : يا أخي إياك أن يسفك دم فإن الناس سرّاع إلى الفتنة!

ولما توفي الحسن ارتجّت المدينة صياحا فلا يلفى أحد إلّا باكيا!

وأبرد مروان إلى معاوية يخبره بموت الحسن وأنهم يريدون دفنه مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنهم لا يصلون إلى ذلك أبدا وأنا حي (١) وكذا أبرد سعيد بن العاص بدون القول الأخير (٢).

وقيل : إن الحسين عليه‌السلام أظهر هذه الوصية للحسن عليه‌السلام قبل موته فبلغ مروان ، فكتب بها إلى معاوية ، فكتب إليه معاوية : إذا مات الحسن فامنع من ذلك أشدّ المنع ، كما منعنا من دفن عثمان مع النبيّ (٣).

__________________

ـ صلّى عليه! وفي هذا : فصلّى على الحسن! وفيه : ثمّ اصرفني إلى امي فاطمة ثمّ ردّني إلى البقيع ... فمضى الحسين به إلى قبر أمه ثمّ أخرجه إلى البقيع! كأن قبرها كان معروفا معلوما! فالخبر مضطرب المتن جدا فهو غير معتبر ، وفيه بعد مستبعدات اخرى أيضا.

(١) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن ، الحديث ١٥٢.

(٢) تاريخ دمشق لابن عساكر ٢١ : ٣٨.

(٣) أنساب الأشراف ٣ : ٦٧ ، الحديث ٧٢.

٥٧٢

وبعث بنو هاشم ، صائحا يصيح في كلّ قرية من قرى الأنصار بعوالي المدينة بموت الحسن عليه‌السلام ، فنزل أهل العوالي ولم يتخلف عنه أحد منهم (١).

وحضر سعيد بن العاص وهو أمير ليصلّي عليه ، فتنادى بنو هاشم : لا يصلي عليه إلّا الحسين عليه‌السلام قال حسن بن محمد بن الحنفية : فو الله ما نازعنا في الصلاة عليه وقال : أنتم أحقّ بميّتكم ، فإن قدّمتموني تقدمت. فقال الحسين عليه‌السلام : تقدّم ، فلولا أنّ الأئمة تقدّم ما قدّمناك!

وانتهى الحسين عليه‌السلام إلى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : احفروا هاهنا ، فنكب سعيد بن العاص واعتزل ولم يحل بينه وبينه (٢).

فلما بلغ ذلك إلى مروان جاء إلى سعيد بن العاص وسأله : ما أنت صانع في أمرهم؟ فقال : لست منهم في شيء ولا أحول بينهم وبين ذلك! فقال له مروان : فخلّني وإيّاهم! فقال له : أنت وذاك! فجمع لهم مروان من كان هناك من بني امية ومواليهم وحشمهم (٣).

وصاح مروان في بني أمية ومن لفّ معهم ومعهم السلاح : لا كان هذا أبدا!

فصاح به الحسين عليه‌السلام : يا ابن الزّرقاء ما لك ولهذا؟! أوال أنت؟! قال : لا كان هذا ولا يخلص إليه وأنا حيّ! فصاح الحسين بحلف الفضول فاجتمع بنو هاشم وأسد وتيم وزهرة وجعونة ، وصارت بينهم مراماة بالنبال ، حتّى قام بينهم رجال من قريش : المسور بن مخرمة وعبد الله بن جعفر وجعل هذا يلحّ على الحسين يقول له : يا ابن العم ألم تسمع إلى عهد أخيك : إن خفت أن يهراق فيّ محجمة من دم فادفنّي مع أمّي (فاطمة بنت أسد) بالبقيع! فأذكّرك الله أن تسفك الدماء!

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٨ ، الحديث ١٦٤.

(٢) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٥٢.

(٣) تاريخ دمشق لابن عساكر ، ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام : ٢٢٠ ، الحديث ٣٥٥.

٥٧٣

وقال له المسور بن مخرمة : يا أبا عبد الله ، إني سمعت أخاك قبل أن يموت بيوم يقول لي : يا ابن مخرمة ، إني قد عهدت إلى أخي أن يدفنني مع رسول الله إن وجد إلى ذلك سبيلا ، فإن خاف أن يهراق في ذلك محجم من دم فليدفنّي مع أمي (فاطمة بنت أسد) بالبقيع! وإني أذكّرك الله في هذه الدماء ، ألا ترى ما هاهنا من السلاح والرجال! والناس سرّاع إلى الفتنة!

وسمعت أبي يقول : قلت لأخي برفق : يا أبا عبد الله ، إنا لا ندع قتال هؤلاء القوم جبنا منهم! ولكنّا إنما نتّبع وصية أبي محمد ، إنه والله لو قال : ادفنوني مع النبيّ ، لمتنا من آخرنا أو ندفنه معه! ولكنه خاف ما قد ترى فقال لنا : إن خفتم أن يهراق فيّ محجم من دم فادفنوني مع امي (بنت أسد) وإنما نتّبع عهده وننفّذ أمره (١).

وحضر أبو هريرة ومروان ينادي : والله ما كنت لأدع ابن أبي تراب أن يدفن مع رسول الله وقد دفن عثمان (في حشّ كوكب اليهودي)!

فناداه أبو هريرة : يا مروان اتق الله ولا تقل لعليّ إلّا خيرا! فأشهد سمعت رسول الله يوم خيبر يقول : «لاعطينّ الراية رجلا يحبّه الله ورسوله ليس بفرّار» وأشهد لقد سمعت رسول الله يقول في الحسن : «اللهم إني احبّه فأحبّه وأحبّ من يحبّه».

فقال له مروان : إنك والله قد أكثرت على رسول الله الحديث ؛ فلا نسمع منك ما تقول ، فهلمّ معك غيرك يعرف ما تقول! وكان أبو سعيد الخدري حاضرا وقد سمع معه ما سمع ، فأشار إليه أبو هريرة وقال : هذا أبو سعيد الخدري. فقال مروان : لقد ضاع حديث رسول الله إذ لا يرويه إلّا أنت وأبو سعيد الخدري ، والله ما أبو سعيد الخدري يوم مات رسول الله إلّا غلاما! ولقد جئت أنت من جبال دوس قبل وفاة رسول الله بيسير! فاتّق الله يا أبا هريرة! فقال : نعم ما أوصيت به! وسكت عنه (٢).

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٥٢.

(٢) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٧٨.

٥٧٤

وقال للقوم : أرأيتم لو جيء بابن موسى ليدفن مع أبيه فمنع ، أكانوا قد ظلموه؟ فقالوا : نعم! قال : فهذا ابن نبيّ الله قد جيء به ليدفن مع أبيه فمنع منه!

ثم أقبل على الحسين عليه‌السلام وقال له : أنشدك الله في وصية أخيك! فإن القوم لن يدعوك حتّى يكون بينكم دما (١)!

وحضر عبد الله بن عمر فقال للحسين عليه‌السلام : اتّق الله ولا تثر فتنة ولا تسفك الدماء! وادفن أخاك إلى جنب أمّه (فاطمة بنت أسد) فإن أخاك قد عهد بذلك إليك (٢)!

وحضر جابر بن عبد الله الأنصاري فقال للحسين عليه‌السلام : يا أبا عبد الله ، اتّق الله ، فإن أخاك كان لا يحبّ ما ترى ، فادفنه بالبقيع مع أمّه (فاطمة بنت أسد) (٣).

وكان سعد بن أبي وقاص بأرضه بضاحية المدينة فحضر وتكلّم مع الحسين عليه‌السلام ولم يزل به (٤).

وكان أبان بن عثمان حاضرا ويقول : إن هذا لهو العجيب أن يدفن ابن قاتل عثمان مع رسول الله وأبي بكر وعمر! ويدفن أمير المؤمنين الشهيد المظلوم ببقيع الغرقد (٥)!

ونادت عائشة (وهي على بغلة شهباء) : هذا الأمر لا يكون أبدا!

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٥١.

(٢) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٥٩.

(٣) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٥٧.

(٤) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٧٧.

(٥) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٧٥.

٥٧٥

يدفن (الحسن) ببقيع الغرقد ولا يكون لهم رابعا! والله إنه لبيتي أعطانيه رسول الله في حياته! وما دفن فيه عمر وهو خليفة إلّا بأمري ، وما أثر عليّ عندنا بحسن (١)! إنه بيتي ولا آذن فيه لأحد! فأتاها القاسم ابن أخيها محمد بن أبي بكر وقال لها : يا عمّة! ما غسلنا رءوسنا من يوم الجمل الأحمر! أتريدين أن يقال : يوم البغلة الشهباء! فرجعت.

ونادى خلق من الناس مع الحسين قالوا له : دعنا وآل مروان فو الله ما هم عندنا إلّا كأكلة رأس!

فقال : إن أخي أوصاني أن لا اريق فيه محجمة دم (٢) وتقدّم عبد الله بن جعفر فأخذ بمقدم السرير فدفعه وصار به إلى البقيع ، فانصرف مروان ومن معه (٣).

تأبينه والحداد عليه :

وعند قبر الحسن عليه‌السلام في البقيع قال الحسين عليه‌السلام : رحمك الله أبا محمد! إن كنت لتباصر الحقّ مظانّه ، وتؤثر الله عند مداحض الباطل في مواطن التّقية بحسن الرويّة ، وتستشفّ جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة ، وتقبض عنها يدا طاهرة ، وتردع بادرة أعدائك بأيسر المئونة عليك. وأنت ابن سلالة النبوة ، ورضيع لبان الحكمة ،

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٥٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٢٥ ونسب المنع إلى مروان وسعيد بن العاص ، ولعلّه لعدم معارضته لمروان كما مرّ الخبر عنه. وحاولوا توجيه منع عائشة فقالوا : إنها لما رأت الرجال والسلاح وخافت أن يقع الشرّ بينهم وتسفك الدماء ، قالت : البيت بيتي ... كما في أنساب الأشراف ٣ : ٦٦ ، الحديث ٧١ عن عروة بن الزبير ، عن خالته عائشة!

(٣) أنساب الأشراف ٣ : ٢٢٠ ، الحديث ٣٥٥.

٥٧٦

وقد صرت إلى روح وريحان وجنة نعيم. أعظم الله لنا ولكم الأجر عليه ، ووهب لنا ولكم السلوة وحسن الأسى عنه (١).

ولما دفن الحسن عليه‌السلام وقف أخوه محمد بن الحنفية على قبره وقال : لئن عزّت حياتك لقد هدّت وفاتك ، ولنعم الروح روح تضمّنه كفنك ، ولنعم الكفن كفن تضمّن بدنك ، وكيف لا تكون هكذا وأنت عقبة الهدى وخلف أهل التقوى ، وخامس أصحاب الكساء ، غذتك بالتقوى أكفّ الحقّ ، وأرضعتك ثدي الإيمان ، وربّيت في حجر الإسلام ، فطبت حيّا وميّتا ، وإن كانت أنفسنا غير سخية بفراقك ؛ رحمك الله يا أبا محمد ... وأنت ابن محمّد المصطفى وابن علي المرتضى وابن فاطمة الزهراء ، ثمّ أنشأ يقول :

أأدهن رأسي أم أطيب محاسني

وخدّك معفور وأنت سليب

أأشرب ماء المزن من غير مائه

وقد ضمن الأحشاء منك لهيب

سأبكيك ما ناحت حمامة أيكة

وما اخضرّ في دوح الحجاز قضيب

غريب وأطراف الديار تحوطه

ألا كلّ من تحت التراب غريب (٢)

وكان البقيع يوم دفنه لو طرحت إبرة ما وقع إلّا على رأس إنسان (٣)

__________________

(١) عيون الأخبار للدينوري ٢ : ٣١٤ مرسلا وفي تاريخ دمشق لابن عساكر ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام : ٢٣٣ ، الحديث ٣٦٩ مسندا عن غير ابن قتيبة.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٤٢٨ ـ ٤٢٩ ، وقبله في تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٢٥ ولكنه ذكره عند تكفينه. وذكره ابن عساكر الدمشقي في تاريخه : ٢٣٤ ، الحديث ٣٧٠ مسندا عن عمر بن علي عليه‌السلام.

(٣) المستدرك على الصحيحين للحاكم ٣ : ١٧٣ ، الحديث ٢٣ و ٢٤ ، وتاريخ دمشق : ٢٣٥ ، الحديث ٣٧٢.

٥٧٧

وبكى عليه الرجال والنساء والصبيان بالمدينة ومكة سبعة أيام ما تقوم الأسواق (١)! وأقام نساء بني هاشم عليه النوح شهرا (٢) وحدت عليه نساء بني هاشم سنة (٣).

نعي الإمام في الشام :

قال الدينوري : لما كانت سنة إحدى وخمسين (يعني أوائلها) مرض الحسن بن علي مرضه الذي مات فيه فكتب عامل المدينة (سعيد بن العاص ، بذلك إلى معاوية ، فكتب إليه معاوية : إن استطعت أن لا يمضي يوم يمرّ بي إلّا يأتيني فيه خبره فافعل! فلم يزل يكتب إليه بحاله حتّى توفي فكتب إليه بذلك.

فلما أتاه الخبر أظهر فرحا وسرورا حتّى أنه سجد وسجد من كان معه (٤).

وروى المسعودي ، عن الطبري ، عن ابن إسحاق ، عن الفضل بن عباس بن ربيعة قال : كنت في مسجد دمشق إذ سمع أهل المسجد التكبير من أهل القصور الخضراء لمعاوية فكبّروا بتكبيرهم ، فبلغني أن فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف كانت في إحدى تلك القصور (وهي زوجته) فلما سمعت التكبير أطلّت من خوختها على معاوية وقالت له :

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٦٨ ، والمستدرك للحاكم ٣ : ١٧٣ ، الحديث ٢١.

(٢) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٦٩ ، والمستدرك للحاكم ٣ : ١٧٣ ، الحديث ٢١.

(٣) الطبقات الكبرى ٨ : ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ، الحديث ١٧٠ و ١٧١ ، والمستدرك للحاكم ٣ : ١٧٣ ، الحديث ٢٣ و ٢٤.

(٤) الإمامة والسياسة ١ : ١٧٤ و ١٧٥.

٥٧٨

يا أمير المؤمنين : سرّك الله! فما هذا الذي بلغك فسررت به؟ قال : موت الحسن بن علي!

فقالت : إنا لله وإنا إليه راجعون وبكت وقالت : مات سيّد المسلمين وابن بنت رسول الله!

فقال معاوية متظاهرا : نعمّا فعلت إنه كان كذلك أهلا أن تبكي عليه!

وروى أبو داود وأحمد في مسنده بسنده : لما بلغ نعي الحسن عليه‌السلام إلى الشام ، وفد من قنّسرين على معاوية ثلاثة : المقدام بن معدي كرب ، وعمرو بن الأسود ومعهما رجل من بني أسد ، فقال معاوية للمقدام : أعلمت أن الحسن بن علي توفّي؟ فقال إنا لله وإنا إليه راجعون ، فقال معاوية أتراها مصيبة! فقال : ولم لا أراها مصيبة وقد (رأيت) وضعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجره فقال : هذا منّي!

فقال الأسدي : جمرة أطفأها الله عزوجل :

فقال المقدام لمعاوية : أما أنا فلا أبرح اليوم حتّى أسمعك ما تكره! ثمّ قال : يا معاوية! إن أنا صدقت فصدّقني وإن أنا كذبت فكذّبني! قال : أفعل. فقال :

فأنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ينهى عن لبس الذهب؟ قال : نعم. قال :

فأنشدك الله هل تعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن لبس الحرير؟ قال : نعم ، قال :

فأنشدك الله هل تعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن لبس جلود السباع وركوبها؟ قال : نعم.

فقال : فو الله لقد رأيت هذا كلّه في دارك وفي بيتك يا معاوية!

فقال معاوية : قد علمت أنّي لن أنجو منك يا مقدام (١)!

__________________

(١) سنن أبي داود ٢ : ١٨٦ ، ومسند أحمد ٤ : ١٣٠ ، وانظر الغدير ١٠ : ٢١٥ : لبس

٥٧٩

وكان عبد الله بن العباس قد وفد على معاوية وبلغه الخبر ، فبلغني أنه دخل على معاوية عصرا ، فقال له معاوية : يا ابن عباس ، علمت أن الحسن توفّي! قال : فكبّرت لذلك؟! قال : نعم! أما والله ما موته بالذي ينسئ في أجلك! ولا حفرته بسادّة حفرتك! ولئن اصبنا به فقد اصبنا قبله بسيد المرسلين وإمام المتقين ورسول ربّ العالمين ، ثمّ بعده بسيّد «الأوصياء» فجبر الله تلك المصيبة ، ورفع تلك العثرة (١)!

ولعلّه كان الفضل بن العباس ، وقد نقل الخوارزمي عنه مرثية للحسن عليه‌السلام قال :

أصبح اليوم ابن هند شامتا

ظاهر النخوة إذ مات الحسن

رحمة الله عليه ، إنّه

طالما أشجى ابن هند وأرنّ

استراح اليوم منه بعده

إذ ثوى رهنا لأحداث الزمن

فارتع اليوم ابن هند آمنا

انما يقمص بالعير السمن

لست بالباقي فلا تشمت به

كل حي بالمنايا مرتهن

يا ابن هند إن تذق كأس الردى

تك في الدهر كشيء لم تكن (٢)

__________________

ـ معاوية ما لا يجوز. وصدره في كفاية الطالب : ٤١٤ ، ورواه الطبراني في المعجم الكبير ، الحديث ١٠٩٩.

(١) مروج الذهب ٢ : ٤٢٩ و ٤٣٠ ، وليس في الطبري المنشور. وبعده نقل عن نسخة أخرى عن الطبري : أن ذلك التكبير كان لبشارته بانقياد الحسن للصلح! ولذكره عن النبيّ : أن ابني هذا سيد أهل الجنة! وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين! فالحمد لله الذي جعل فئتي إحدى الفئتين! وهي كما ترى محاولة فاشلة ، إذ لم يكن معاوية يومئذ في قصوره الخضراء بدمشق! ونقله المسعودي ولم يعلق عليه بشيء! ولعلّه لبداهة بلاهته وبطلانه ، والحديث كما ترى من موضوعات معاوية تضليلا.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٩ ، ومقتل الخوارزمي ١ : ١٤١.

٥٨٠