موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

عهد الإمام المجتبى عليه‌السلام

٤٤١
٤٤٢

قال المفيد : تبادروا إلى بيعة الحسن عليه‌السلام بالخلافة ، وذلك يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين للهجرة ، فأنفذ عبد الله بن العباس إلى البصرة ، ورتّب العمال وأمر الأمراء ونظر في الأمور (١).

وروى البلاذري بثلاثة طرق منها عن الكلبي ، عن أبي مخنف بإسناده قال : ثمّ مكث أكثر من خمسين ليلة ـ أي إلى نحو النصف من ذي القعدة ـ قاعدا عن تعقيب المسير إلى الشام.

فكتب إليه ابن عباس من البصرة كتابا يعلمه فيه :

«أما بعد ، فإن المسلمين ولّوك أمورهم بعد علي عليه‌السلام فشمّر للحرب وجاهد عدوّك ، وقارب أصحابك ، واشتر من الظنين دينه بما لا يثلم لك دينك ، وولّ أهل البيوتات والشرف تستصلح به عشائرهم حتّى تكون الجماعة ، فإنّ بعض ما يكره الناس (من ذلك ولكن) كانت عواقبه تؤدّي إلى ظهور العدل وعزّ الدين ،

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٩.

٤٤٣

خير من كثير مما يحبّه الناس (من التسوية) إذا كانت عواقبه تدعو إلى ظهور الجور ووهن الدين (١) وذل المؤمنين وعزّ الفاجرين. واقتد (في ذلك) بما جاء عن أئمة العدل : فقد جاء عنهم : أنه لا يصلح الكذب إلّا في إصلاح بين الناس أو حرب ، فإن الحرب خدعة ، فلك في ذلك سعة إذ كنت محاربا ، ما لم تبطل حقا ولم تتعدّ الحق.

واعلم أنّ عليّا أباك إنّما رغب الناس عنه إلى معاوية لأنّه آسى (٢) بينهم في الفيء وسوّى بينهم في العطاء فثقل عليهم.

واعلم أنك تحارب من حارب الله ورسوله في ابتداء الإسلام ، حتّى ظهر أمر الله ، فلما وحّد الربّ ومحق الشرك وعزّ الدين أظهروا الإيمان وقرءوا القرآن مستهزئين بآياته! وقاموا إلى الصلاة وهم كسالى! وأدوا الفرائض وهم لها كارهون! فلما رأوا أنه لا يعزّ في الدين إلّا الأتقياء الأبرار توسّموا بسيماء الصالحين ليظنّ المسلمون بهم خيرا! فما زالوا بذلك حتّى أشركوهم في أمانتهم وقالوا : حسابهم على الله! فإن كانوا صادقين فاخواننا في الدين ، وإن كانوا كاذبين كانوا بما اقترفوا هم الأخسرين! وقد منيت بأولئك وبأبنائهم وأشباههم ، والله ما زادهم طول العمر إلّا غيّا ، ولا زادهم ذلك لأهل الدين إلّا مقتا! فجاهدهم ولا ترض دنية ولا تقبل خسفا! فإنّ عليا عليه‌السلام لم يجب إلى الحكومة حتّى غلب على أمره فأجاب وإنّهم (كانوا) يعلمون أنه أولى بالأمر إن حكموا بالعدل ، فلما حكم بالهوى رجع إلى ما كان عليه ، حتى أتى عليه أجله.

__________________

(١) إلى هنا في عيون الأخبار للدينوري ١ : ١٤ مرسلا.

(٢) الفتوح لابن الأعثم ٤ : ١٤٨ ، ومناقب الحلبي ٤ : ٣٦ عن أبي مخنف. وفي شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢٣ : أساء! تصحيف أو تحريف.

٤٤٤

فلا تخرجنّ من حقّ أنت أولى به حتّى يحول الموت دون ذلك! والسلام» (١).

فكتب الحسن عليه‌السلام إلى معاوية يعلمه أنّ الناس قد بايعوه بعد أبيه ، ويدعوه إلى طاعته.

كتابه إلى معاوية :

«من عبد الله الحسن أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ، سلام عليك ، فإني أحمد الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد ، فإن الله عزوجل بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله رحمة للعالمين ، ومنّة على المؤمنين ، وكافّة إلى الناس أجمعين (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ)(٢).

فبلّغ رسالات الله وقام على أمر الله حتى توفاه الله غير مقصّر ولا وان ، حتى أظهر الله به الحقّ ومحق به الشرك ، ونصر به المؤمنين ، وأعزّ به العرب ، وشرّف به قريشا خاصة فقال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)(٣).

فلما توفى تنازعت العرب سلطانه : فقالت قريش : نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه ، ولا يحلّ لكم أن تنازعونا سلطان محمد في الناس وحقه. فرأت العرب : أن القول كما قالت قريش ، وأنّ الحجّة لهم في ذلك على من نازعهم أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنعمت لهم العرب ، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها : إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالانتصاف والاحتجاج ، فلما صرنا أهل بيت محمد وأولياؤه

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢٣ ـ ٢٤ عن المدائني ، وقريب منه في الفتوح لابن الأعثم ٤ : ١٤٨ ، وأشار إليه البلاذري في أنساب الأشراف ٣ : ٣٠ ـ ٣٣ ، الحديث ٤٣ وذيل ٤٤ ، والحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٦ عن أبي مخنف.

(٢) يس : ٧٠.

(٣) الزخرف : ٤٤.

٤٤٥

إلى محاجّتهم وطلب النصف منهم باعدونا ، واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا ، فالموعد الله وهو الوليّ النصير.

وقد تعجّبنا لتوثّب المتوثّبين علينا في حقنا وسلطان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام (١) فأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين : أن يجد المنافقون والأحزاب بذلك مغمزا يثلمونه به ، أو يكون لهم بذلك سبب لما أرادوا به من فساده.

فاليوم فليعجب المتعجّب من توثّبك ـ يا معاوية ـ على أمر لست من أهله لا بفضل في الدين معروف ولا أثر في الإسلام محمود! وأنت ابن حزب من الأحزاب ، وابن أعدى قريش لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن الله خيّبك ، وسترد فتعلم لمن عقبى الدار ، تالله لتلقينّ عن قليل ربّك ، ثمّ ليجزينّك بما قدّمت يداك ، وما الله بظلّام للعبيد.

إن عليّا لما مضى لسبيله ـ رحمة الله عليه يوم قبض ويوم يبعث حيا ـ ولّاني المسلمون الأمر بعده (٢) فأسأل الله أن لا يزيدنا في الدنيا الزائلة شيئا ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامته. وإنما حملني على الكتاب إليك الإعذار فيما بيني وبين الله سبحانه وتعالى في أمرك ، ولك في ذلك إن فعلت الحظّ الجسيم وللمسلمين فيه صلاح ، فدع التمادي في الباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي ، فإنك تعلم أني أحقّ بهذا الأمر منك عند الله ، وعند كل أوّاب حفيظ ومن له قلب منيب ، واتّق الله ودع البغي ، واحقن دماء المسلمين ، فو الله ما لك من خير في أن تلقى الله من

__________________

(١) هذا بالنسبة إلى المخاطب : معاوية ، ودفعا لتشبثاته ، ويدل عليه ما سيأتي فيه.

(٢) وهذا أيضا كلام بمقتضى حال مخاطبه معاوية وإلزام له بما التزم إقناعيا ، بل في الفتوح لابن الأعثم ٤ : ١٥١ ط ١ : وبعد ، فإن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام لما نزل به الموت ولّاني هذا الأمر بعده.

٤٤٦

دمائهم بأكثر ممّا أنت لاقيه به ، فادخل في السلم والطاعة ، ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحقّ به منك ، ليطفئ الله النائرة بذلك ، وتجمع الكلمة وتصلح ذات البين ، وإن أنت أبيت إلّا التمادي في غيّك ، نهدت إليك بالمسلمين فحاكمتك ، حتّى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين» وبعث بالكتاب إليه مع جندب بن عبد الله الأزدي (١) والحارث بن سويد التيمي ، فقدما على معاوية وسلّماه الكتاب ودعواه إلى بيعة الحسن عليه‌السلام فلم يجبهما ، بل كتب في جوابه (٢).

جواب معاوية :

«من عبد الله (معاوية) أمير المؤمنين (!) إلى الحسن بن علي. سلام عليك ، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد ، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الفضل ، وهو أحقّ الأولين والآخرين بالفضل كلّه قديمه وحديثه وصغيره وكبيره ، فقد والله بلّغ فأدّى ، ونصح وهدى ، حتّى أنقذ الله به من التهلكة ، وأنار به من العمى وهدى به من الضلالة ، فجزاه الله أفضل ما جزى نبيّا عن أمّته ، وصلوات الله عليه يوم ولد ويوم قبض ويوم يبعث حيا.

وذكرت وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتنازع المسلمين من بعده ، فرأيتك صرّحت بتهمة أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وأبي عبيدة الأمين وحواريّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) وصلحاء المهاجرين والأنصار! فكرهت ذلك لك! فإنك امرؤ عندنا وعند الناس غير ظنين! ولا المسيء ولا اللئيم! وأنا أحب لك القول السديد والذكر الجميل.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٤ ـ ٣٦ عن أبي مخنف عن جندب الأزدي ، وهو أكمل نقل.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢٤ ـ ٢٥ عن المدائني.

(٣) هذه من البوادر الأولى لإشهار هؤلاء الثلاثة بهذه الألقاب والتأكيد عليها.

٤٤٧

إنّ هذه الأمة لما اختلفت بعد نبيها لم تجهل فضلكم ولا سابقتكم ، ولا قرابتكم من النبي ، ولا مكانتكم في الإسلام وأهله ، فرأت الأمّة أن تخرج من هذا الأمر لقريش ، لمكانها من نبيّها ، ورأى صلحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس وعامتهم : أن يولّوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلاما (١) وأعلمها بالله! وأحبّها له! وأقواها على أمر الله! فاختاروا أبا بكر ، وكان ذلك رأي ذوي الحجى والدين والفضيلة والناظرين للامة ، فأوقع ذلك في صدوركم لهم التهمة ، ولم يكونوا بمتّهمين ولا فيما أتوا بمخطئين! ولو رأى المسلمون فيكم من يغني غناءه أو يقوم مقامه أو يذبّ عن حريم المسلمين ذبّه ؛ ما عدلوا بذلك الأمر إلى غيره رغبة عنه! ولكنّهم عملوا في ذلك بما رأوه صلاحا للإسلام وأهله! فالله يجزيهم عن الإسلام وأهله خيرا!

وقد فهمت الذي دعوتني إليه من «الصلح» فالحال بيني وبينك اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو علمت أنك أضبط منّي للرعيّة ، وأحوط عني في هذه الأمة ، وأحسن سياسة ، وأقوى على جمع الأموال! وأكيد للعدوّ ، لأجبتك إلى ما دعوتني إليه ، ورأيتك لذلك أهلا! ولكنّي قد علمت أني أطول منك ولاية ، وأقدم منك لهذه الأمة تجربة! وأكثر سياسة! وأكبر منك سنّا! فأنت أحقّ أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني! فادخل في طاعتي! ولك الأمر من بعدي! ولك ما في بيت مال العراق من مال بلغ ما بلغ! تحمله إلى حيث شئت! ولك خراج أيّ كور العراق شئت معونة لك على نفقتك ، يجبيها لك أمينك ويحملها إليك في كلّ سنة! ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ، ولا تقضى دونك الأمور ، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله عزوجل! أعاننا الله وإياك على طاعته ، إنه سميع مجيب الدعاء ، والسلام».

__________________

(١) وهذه من البوادر الأولى لادّعاء سبق إسلام أبي بكر.

٤٤٨

فروى أبو مخنف الأزدي عن جندب الأزدي قال : لما أتيت بكتاب معاوية إلى الحسن بن علي عليه‌السلام قلت له : إن الرجل سائر إليك ، فابدأ أنت بالمسير إليه حتى تقاتله في أرضه وبلاده وعمله. فقال : أفعل ، وقعد (١).

جاسوسا معاوية :

وفي أيام متقاربة اكتشف لمعاوية في العراقين الكوفة والبصرة عينان بصيران جاسوسان ، ودلّ على الذي في الكوفة وهو رجل من حمير الشام عند رجل قصّاب لبني جرير ، فأخذ الحميري وأمر الإمام الحسن عليه‌السلام بقتله ، ثمّ كتب إلى معاوية :

«أما بعد ، فإنك دسست إليّ الرجال كأنك تحبّ اللقاء! وما أشك في ذلك ، فتوقّعه إن شاء الله ، وقد بلغني أنك شمتّ بما لا يشمت به ذوو الحجى ، وإنما مثلك في ذلك كما قال الأول :

وقال للذي يبقى خلاف الذي مضى

تجهّز لأخرى مثلها ، فكأن قد

وإنا ومن قد مات منّا لكالذي

يروح ويغدو في المبيت ليغتدي»

فأجابه معاوية : أما بعد ، فقد وصل كتابك وفهمت ما ذكرت فيه ، ولقد علمت بما حدث فلم أفرح ولم أحزن ولم أشمت ولم آس! وإنّ علي بن أبي طالب كما قال أعشى بني قيس :

وأنت الجواد وأنت الذي

إذا ما القلوب ملأن الصدورا

جدير بطعنة يوم اللقا

ء ، تضرب منها النساء النحورا

وما مزبد من خليج البحا

ر يعلو الآكام ويعلو الجسورا

بأجود منه بما عنده

فيعطى الألوف ويعطى البدورا

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٦ ـ ٣٧ ، وأشار إليه المفيد في الإرشاد ٢ : ١٠ ، وذكر بعضه المرتضى في تنزيه الأنبياء : ١٧٠ ، وتلخيص الشافي ٤ : ١٧٤.

٤٤٩

ودلّ ابن عباس في البصرة على الذي فيها : رجل من بني القين في بني سليم ، فاخذ وأمر ابن عباس بقتله ، ثمّ كتب إلى معاوية : «أما بعد ، فإنك ودسّك أخا بني قين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش مثل الذي ظفرت به من يمانيّتك ، لكما قال أمية ابن الأسكر الجندعي الزبيني :

لعمرك إني والخزاعيّ طارقا

كنعجة عاد حتفها تتحفّر

أثارت عليها شفرة بكراعها

فظلت بها من آخر الليل تنحر

شمتّ بقوم من صديقك أهلكوا

أصابهم يوم من الدهر أعسر»

فأجابه معاوية : أما بعد ، فإن الحسن بن علي قد كتب إليّ بنحو مما كتبت به ، وأنبأني بما لم أجز! ظنّا وسوء رأي! وإنك لم تصب مثلكم ومثلي ، ولكن مثلنا ما قاله طارق الخزاعي يجيب امية بن الأسكر عن هذا الشعر :

فو الله ما أدري ـ وإنّي لصادق ـ

إلى أيّ من يظنّني أتعذّر؟

أعنّف أن كانت زبينة أهلكت

ونال بني لحيان شرّ فأنفروا (١)؟

وكتاب ثان :

في جواب معاوية السابق على دعوة الإمام الحسن عليه‌السلام له إلى بيعته ، قابله بدعوة الإمام إلى بيعته ووعده لذلك بوعود ، وكان ينتظر جوابه ، ولم يجبه الإمام ، فأعاد معاوية ذلك في كتاب آخر أقصر قال : «أما بعد ، فإن الله عزوجل يفعل

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٣ ـ ٣٤ وفي ط صقر : ٥٣ ـ ٥٤ وبهامشه شرح الشعرين عن الأغاني ٨ : ١٦١. وفي الإرشاد ٢ : ٩ كتاب الحسن عليه‌السلام فقط. وروى ابن طاوس عن ابن عباس قال : قال لي زياد : ان كنت تريد أن يستقيم الأمر فاقتل فلانا وفلانا وفلانا : ثلاثة من أصحابه! فقلت له : أليس قد صلوا معنا الغداة؟ قال : نعم ، فقلت : فما إلى ذلك من سبيل لا والله. كشف المحجّة : ٤٦.

٤٥٠

في عباده ما يشاء (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(١) فاحذر أن تكون منيّتك على يد رعاع من الناس! وأيأس من أن تجد فينا غميزة! وإن أنت أعرضت عمّا أنت فيه وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجزت لك ما شرطت! وأكون في ذلك كما قال أعشى بن قيس :

وإن أحد أسدى إليك أمانة

فأوف بها ، تدعى ـ إذا متّ ـ وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى

ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثمّ الخلافة لك بعدي ، فأنت أولى الناس بها! والسلام».

فأجابه الحسن عليه‌السلام : «أما بعد ، فقد وصل إليّ كتابك تذكر فيه ما ذكرت» واكتفى في جوابه بكلمة واحدة : «فاتّبع الحقّ تعلم أنّي من أهله والسلام» (٢).

ابن حرب يبدأ الحرب :

فلما وصل هذا الكتاب من الحسن عليه‌السلام إلى الشام وقرأه معاوية فهم منه أن الإمام لا يبدأه الخصام فلا بدّ أن يبدأه هو ، فكتب نسخة واحدة إلى عمّاله على النواحي :

من معاوية أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد ، فالحمد لله الذي كفاكم مئونة عدوّكم وقتلة خليفتكم! إنّ الله بلطفه وحسن صنعه أتاح لعليّ بن أبي طالب رجلا من عباده! فاغتاله فقتله ، فترك أصحابه متفرّقين مختلفين. وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم!

__________________

(١) الرعد : ٤١ ، وكأنه يزعم أن انتصاره بحكم الله القاهر جبرا.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٨ ، وفي مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٧ : فإنّك تعلم من أهله.

٤٥١

فأقبلوا إليّ حين يأتيكم كتابي هذا بجندكم وجهدكم وحسن عدّتكم ، فقد أصبتم ـ بحمد الله ـ الثأر! وبلغتم الأمل! وأهلك الله أهل البغي والعدوان! والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فاجتمعت العساكر إليه. فسار قاصدا إلى العراق حتّى بلغ منبج على الفرات (١).

خطبة الحسن عليه‌السلام للجهاد :

فلما وصل معاوية إلى جسر منبج جاء خبره الحسن عليه‌السلام فنادى مناديه : الصلاة جامعة! وقال الإمام لأصحابه : إذا رضيتم جماعة الناس فأعلموني. وأقبل الناس يجتمعون حتّى رضوا جماعتهم فتقدّم سعيد بن قيس الهمداني للإمام بالخروج إليهم ، فخرج إليهم حتّى صعد المنبر.

فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم : «أما بعد ، فإن الله كتب الجهاد على خلقه وسمّاه كرها! ثمّ قال لأهل الجهاد من المؤمنين : (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٢) فلستم ـ أيّها الناس ـ نائلين ما تحبّون إلّا بالصبر على ما تكرهون.

إنّه بلغني أن معاوية بلغه : أنّا كنّا أزمعنا على المسير فتحرك لذلك ، فاخرجوا ـ رحمكم الله ـ إلى معسكركم بالنخيلة حتى نرى وتروا وننظر وتنظرون».

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٨ ، وفي تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٤ : أن مسيره كان بعد قتل الإمام بثمانية عشر يوما! وفيه : أن ذلك كان بعد أربعة أشهر ، وهذا هو الصحيح! ومنبج في شرقي حلب إلى العراق بعشرة فراسخ (٥٥ كم) بناها كسرى لما غلب على الروم في الشام ، فهي معرّبة عن الفارسية. كما في معجم البلدان ٥ : ٢٠٥.

(٢) الأنفال : ٤٦.

٤٥٢

فسكتوا وما تكلم منهم أحد ولا أجابه أحدهم بحرف!

فلما رأى ذلك عديّ بن حاتم الطائي قام فقال : أنا ابن حاتم ، سبحان الله! ما أقبح هذا المقام! ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم! أين المسلمون؟! أين خطباء مضر؟ أين الخوّاضون من أهل المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدّعة فإن جدّ الجدّ فروّاغون كالثعالب! أما تخافون مقت الله؟! ولا عيبها وعارها!

ثمّ التفت إلى الإمام عليه‌السلام وقال له : أصاب الله بك المراشد ، وجنّبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، فقد سمعنا مقالتك ، وانتهينا إلى أمرك ، وسمعنا منك وأطعناك فيما قلت وما رأيت. ثمّ قال : وهذا وجهي إلى معسكري ، فمن أحبّ أن يوافيني فليواف ....

فقام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، ومعقل بن قيس الرياحي ، وزياد بن خصفة التيمي ، فأنّبوا الناس وحرّضوهم ، وكلّموا الإمام بمثل كلام عديّ بن حاتم بالقبول والإجابة لأمره. وقال لهم الإمام عليه‌السلام : صدقتم ـ رحمكم الله ـ ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء بالقول ، والمودّة الصحيحة ، فجزاكم الله خيرا! ثمّ نزل. وخرج عديّ من المسجد ودابّته مع غلامه بالباب ، فركبها وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلح له ، ومضى إلى النخيلة ، فكان هو أول من عسكر من الناس.

وبعث الإمام حجر بن عدي إلى عمّاله ليأمرهم والناس بالتهيّؤ للمسير للشام (١) حتّى يمرّ بهم.

وكأنّ ما كان ، قد أشغل الإمام عن أمر موسم الحجّ لتلك السنة ، وكان المغيرة بن شعبة الثقفي قد اعتزل في الطائف ، وغلب على ظنّه غلبة معاوية

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٩ ، ومختصره في أنساب الأشراف للبلاذري ٣ : ٣٥ ، وأشار إليه المفيد فى الإرشاد ٢ : ١٠ ، ومختصره في تنزيه الأنبياء : ١٧٠ ، وتلخيص الشافي ٤ : ١٧٤.

٤٥٣

على الأمر فأراد أن يتقرّب منه فافتعل كتابا عنه إليه بإمارة الموسم وإقامة الحجّ ، وتصدّى به له ، وبلغه أن معاوية ولى الموسم أخاه عتبة ، فتعجّل المغيرة حتّى عرّف يوم التروية ونحر يوم عرفة استعجالا (١) وبلا مقاومة!

مسير الإمام إلى الشام ومقدّمته :

في اليعقوبي قال : أقام الحسن عليه‌السلام بعد أبيه شهرين ، وقيل : بل أربعة أشهر (٢) يعني إلى أواخر المحرم من سنة إحدى وأربعين. وروى أبو الفرج قال :

نشط الناس للخروج فخرجوا وعسكروا ، واستخلف الحسن عليه‌السلام على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وأمره باستحثاث الناس وإشخاصهم إليه ، فجعل يستحثّهم ويخرجهم حتّى التأم عسكر عظيم وعدّة حسنة (٣).

ولكن الشيخ المفيد أفاد محلّلا : أن الحسن عليه‌السلام استنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثمّ خفّ معه أخلاط من الناس : بعضهم شيعة له ولأبيه عليهما‌السلام ، وبعضهم محكّمة (خوارج) يؤثرون قتال معاوية بكلّ حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم ، وبعضهم شكّاك ، وبعضهم أصحاب عصبية : اتّبعوا رؤساء قبائلهم ، لا يرجعون إلى دين (٤) وكانت قلوب أكثرهم دغلة نغلة غير صافية ، وقد كانوا صبوا إلى دنيا معاوية (٥).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٦٠ ، هذا وقد عاد أبو هريرة إلى المدينة يصلّي بهم مواليا لمعاوية بلا مقاومة! وعليه فالحرمان أصبحا لمعاوية بلا مقاومة!

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٤.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٤٠ ، وبعضه في أنساب الأشراف ٣ : ٣٦.

(٤) الإرشاد ٢ : ١٠ ، واقتبس منه الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٧.

(٥) تنزيه الأنبياء : ١٧٠ ، وتلخيص الشافي ٤ : ١٧٢.

٤٥٤

وروى أبو الفرج قال : سار الحسن عليه‌السلام في عسكر عظيم وعدّة حسنة حتى أتى دير عبد الرحمن ، فأقام به ثلاثا حتّى اجتمع إليه الناس.

ثمّ دعا بابن عمّه عبيد الله بن العباس ، وقيس بن سعد الأنصاري ، وسعيد بن قيس الهمداني وقال لابن عباس عبيد الله : «يا ابن عمّ ، إني باعثك ومعك اثنا عشر ألفا من فرسان العرب وقرّاء المصر (الكوفة) الرجل منهم يزين الكتيبة ، فسر بهم ، والن لهم جانبك وابسط وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وأدنهم من مجلسك ، فإنّهم بقيّة ثقة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه).

وسر بهم على شطّ الفرات حتّى تصير إلى مسكن (١) ، ثمّ امض حتى تستقبل معاوية ، فإن أنت لقيته فاحبسه حتّى آتيك فإنّي في إثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كلّ يوم ، وشاور هذين (يعني قيس بن سعد وسعيد بن قيس) فإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتّى يقاتلك ، فإن فعل فقاتل ، فإن أصبت فقيس بن سعد على الناس ، وإن اصيب قيس فسعيد بن قيس على الناس» ثمّ أمره بما أراد.

وسار عبيد الله ومعه قيس وسعيد واثنا عشر ألفا حتّى انتهى إلى شينور ، ثمّ خرج إلى شاهي ، ثمّ لزم الفرات حتّى بلغ مسكن ، فسكن (٢).

وذكر مختصر الخبر البلاذري وقال هنا : فأخذ عبيد الله على قرية شاهي ثمّ لزم الفرات حتّى مرّ بالفلّوجة ثمّ جاز الفرات إلى دممّا ثمّ أتى الأخنونية (٣) بإزاء مسكن (٤).

__________________

(١) مسكن : كانت مساكن ريفية على نهر الدجيل في شمال غربيّ بغداد بعشرة فراسخ ـ ٤٨ كم تقريبا.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٠.

(٣) أنساب الأشراف ٣ : ٣٥ ـ ٣٦ وهي قبيل تكريت.

(٤) الإرشاد ٢ : ١٣.

٤٥٥

حيث أقبل معاوية من جسر منبج إلى الاخنونية في عشرة أيام في ستين ألفا ، وقد استخلف على الشام الضحاك بن قيس الفهري. ونزل معاوية بإزاء عسكر الكوفة ، ومعه القصاص يقصّون عند وقت كلّ صلاة يحضّون أهل الشام. وقدّم معاوية بسر بن أبي أرطاة إلى أهل الكوفة فتناوشوا بلا قتال ولا جراح ثمّ تحاجزوا (١).

وروى أبو الفرج قال : وافى معاوية حتّى نزل بجوار قرية الحيوضية قرب مسكن ، فأقبل ابن العباس حتّى نزل بإزائه. فلما كان الغد وجّه معاوية بخيله إليه ، فخرج ابن العباس إليهم بمن معه ، حتّى ردّهم إلى معسكرهم (٢).

هذا كلّ ما بأيدينا عن توجيه الجنود ، وقد مرّ خبر نوف البكالي : أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان قد قدّم لمسير الشام عبيد الله بن العباس هذا بعشرة آلاف ، ولقيس بن سعد بعشرة آلاف ، ولأبي أيوب الأنصاري بعشرة آلاف ، وللحسين عليه‌السلام بعشرة آلاف ، ولم يذكروا هذه المرّة ، إلّا قيس بن سعد مع ابن العباس معاونا ومشاورا فقط!

وسار الإمام إلى المدائن :

قال المفيد : وتحرّك الحسن عليه‌السلام وسار فمرّ بحمّام عمر ثمّ دير كعب حتّى نزل ساباط (٣) المدائن دون القنطرة إليها على دجلة وبات هناك ، وبيّت عليه‌السلام أن يمتحن أصحابه ويستبرئ أحوالهم في الطاعة له ، ليتميّز بذلك أولياءه من أعدائه ، فيكون بذلك على بصيرة في لقاء أهل الشام ومعاوية. فلما أصبح أمر أن ينادى في الناس بالصلاة جامعة ، فاجتمعوا فصلّى بهم ثمّ خطبهم فقال :

__________________

(١) تاريخ بغداد ١ : ٢٠٨ ، وانظر أنساب الأشراف ٣ : ٣٦ في الحاشية.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤١ ـ ٤٢.

(٣) معرّب عن الفارسية : شاه آباد : معمورة الملك.

٤٥٦

«الحمد لله بكل ما حمده حامد ، وأشهد أن لا إله إلّا الله كلّما شهد له شاهد ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالحقّ ائتمنه على الوحي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أما بعد ، فو الله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت ـ بحمد الله ومنّه ـ وأنا أنصح خلق الله لخلقه ، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة ، ولا مريدا له بسوء ولا غائلة.

ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة! ألا وإني ناظر لكم خيرا من نظركم لأنفسكم ، فلا تخالفوا أمري ، ولا تردّوا عليّ رأيي! غفر الله لي ولكم ، وأرشدني وإياكم لما فيه المحبّة والرضا» (١) وسكت ونزل.

فنظر الناس بعضهم إلى بعض وتساءلوا فيما بينهم : ما ترونه يريد بما قال؟ وانتهى كثير منهم إلى أنه يريد أن يصالح معاوية ويسلّم الأمر إليه ، ورأوا رأي الخوارج أنها كبيرة ، وأن مرتكب الكبيرة كافر ، فهو كافر ، ولا حرمة لكافر!

وكان الإمام راجعا إلى فسطاطه جالسا على مصلّاه إذ شدّ جمع منهم على فسطاطه فانتهبوه ، وشدّ عليه منهم عبد الرحمن الأزدي فنزع مطرفه عن ظهره ، وسحبوا مصلّاه من تحته وتركوه بلا رداء! ففزع إليه طوائف من خاصته و «شيعته» فقال لهم : ادعوا لي ربيعة وهمدان ، فدعوهم له فأطافوا به ، فدعا بفرسه أو بغلته فركبها وسار إلى مظلم (مظلّة ـ سقيفة ـ إيوان) ساباط ، وكان قد كمن له هناك الجرّاح بن سنان الأسدي معدّا له مغولا (خنجرا) بيده ، فلما مرّ به الإمام قام إليه وأخذ بلجام بغلته ورفع بيده مغوله وصرخته : الله أكبر ، أشركت ـ يا حسن ـ كما أشرك أبوك من قبل! ثمّ طعنه في فخذه فشقّه حتّى بلغ العظم ، فاعتنقه الحسن عليه‌السلام وخرّا جميعا إلى الأرض ، فوثب إليه عبد الله بن خطل الطائي وانتزع المغول من يده

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١١ ، ولعلّه عن مقاتل الطالبيين : ٤٠ ـ ٤١.

٤٥٧

(وخضخض به جوفه) وأكبّ عليه ظبيان بن عمارة فقطع أنفه ، ثمّ شدخ رأسه بالآجر حتّى قتل. وحمل الحسن على سرير إلى دار والي المدائن سعد بن مسعود الثقفي ، فأقام الحسن عنده يعالج نفسه (١) وليس فيما بأيدينا تعيين تاريخ لذلك.

معاوية وابن عباس وابن سعد :

ولا تاريخ لموافقة ابن عباس لمعاوية ، وإنما روى أبو الفرج قال : لما كان مساء اليوم الأول من ذلك أرسل معاوية ليلا إلى عبيد الله بن العباس (كذبا) : «إن الحسن قد راسلني في الصلح ، وهو مسلّم الأمر إليّ! فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعا! وإلّا دخلت وأنت تابع! ولك إن جئتني الآن أن أعطيك ألف ألف (مليون) درهم! يعجّل لك في هذا الوقت النصف ، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر»!

واقتنع عبيد الله بذلك فانسلّ هو وخاصّته في الليل إلى معاوية!

وأصبح الناس فطلبوه ليخرج فيصلّي بهم فلم يجدوه! وعلى القرار السابق تقدّم قيس بن سعد الأنصاري فصلّى بهم ، وعلم بما صنع عبيد الله فخطبهم فقال لهم : أيها الناس ، لا يهولنّكم ولا يعظمنّ عليكم ما صنع هذا الرجل الورع (أي الجبان) إنّ هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط! إن أباه عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج يقاتل ببدر ، فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري فأتى به رسول الله ،

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤١ ، والإرشاد ٢ : ١٢. وأنساب الأشراف ٣ : ٣٧ ـ ٣٨ وزاد أن ابن أخي سعد : المختار بن أبي عبيد كان عنده فأشار على عمّه أن يسلّم الحسن عليه‌السلام إلى معاوية بخراج سنته! فقال له عمّه : أنا عامل أبيه وقد شرفني وائتمنني ، وهبني نسيت بلاء أبيه عليّ أأنسى رسول الله في حبيبه وابن بنته؟! قبّح الله رأيك. وانظر تعليق المحقّق المحمودي ، وانظر علل الشرائع ١ : ٢٥٩ ، الباب ١٦٠.

٤٥٨

فأخذ فداءه فقسّمه بين المسلمين (١) وإنّ هذا ولّاه عليّ على اليمن فهرب من بسر بن أبي أرطاة وترك ولده حتّى قتلوا! وصنع الآن هذا الذي صنع! فتنادى جمع من الناس : الحمد لله الذي أخرجه من بيننا!

وكتب معاوية إلى قيس بمثل ما كتب إلى عبيد الله ، فكتب قيس إليه : لا والله لا تلقاني أبدا إلّا وبيني وبينك الرمح! فكتب إليه معاوية :

«أما بعد ، فإنما أنت يهودي ابن يهودي (لأنه مدني!) تشقي نفسك وتقتلها فيما ليس لك ، فإن ظهر أحبّ الفريقين إليك (الحسن عليه‌السلام ، فهو يدلّ على عدم التسليم له) نبذك وعزلك (يشير إلى عزل علي عليه‌السلام له عن مصر) وإن ظهر أبغضهما إليك (معاوية) نكّل بك وقتلك (يهدّده) وقد كان أبوك (سعد بن عبادة) أوتر غير قوسه ورمى غير غرضه ، فأكثر الحزّ وأخطأ المفصل ، فخذله قومه (الخزرج) وأدركه يومه فمات بحوران طريدا غريبا! والسلام» كأنّه يعيّره به ويهدّده بمصيره ويبرّئ قاتليه!

فكتب إليه قيس بن سعد : «أما بعد ، فإنما أنت وثنيّ ابن وثنيّ ، من هذه الأوثان! دخلت في الإسلام كرها وأقمت عليه فرقا (خوفا) وخرجت منه طوعا ، ولم يجعل الله لك فيه نصيبا! لم يقدم إسلامك ، ولم يحدث نفاقك (فهو قديم) فلم تزل حربا لله ورسوله ، وحزبا من أحزاب المشركين! فأنت عدوّ الله ورسوله والمؤمنين من عباده!

وذكرت أبي ، ولعمري ما أوتر إلّا قوسه ولا رمى إلّا غرضه ، فشغب عليه من لا تشق غباره ولا تبلغ كعبه ، وكان أمرا مرغوبا عنه مزهودا فيه.

__________________

(١) هنا جاء ذكر عبد الله بن عباس بتهمة سرقة بيت مال البصرة ، ونحن لم نجد له مصداقا فما ذكرناه.

٤٥٩

وزعمت أنّي يهودي ابن يهودي! ولقد علمت وعلم الناس أني وأبي من أنصار الدين الذي خرجت منه وأعداء الدين الذي دخلت فيه وصرت إليه ، والسلام» (١).

غدرهم وخبرهم إلى المدائن :

قال المفيد في «الإرشاد» : وكتب جماعة من رؤساء القبائل إلى معاوية في السرّ بالطاعة ، واستحثّوه على السير نحوهم ، وضمنوا له تسليم الحسن عليه‌السلام إليه عند دنوّه من عسكرهم ، أو الفتك به (٢).

وروى البلاذري قال : وجعل وجوه أهل العراق يتسلّلون إلى معاوية فيبايعونه ، أولهم : خالد بن معمّر السدوسي من ربيعة عن ربيعة كلّها ، ثمّ عفاق بن شرحبيل التيمي (٣) عن من معه من تيم الرباب.

وروى ابن الأعثم قال : وجعل قبائل أهل العراق يتوجّهون إلى معاوية ، قبيلة بعد قبيلة حتّى خفّ عسكر ابن سعد ، فلما رأى ذلك قيس كتب إلى الحسن عليه‌السلام يخبره بما هو فيه (٤).

قال المفيد : كان (الإمام) قد أنفذ قيس بن سعد رضى الله عنه مع عبيد الله بن العباس عند مسيره من الكوفة ، وجعله أميرا على الجماعة وقال له : إن اصبت فالأمير

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤٢ ـ ٤٣ ، وقبله في أنساب الأشراف ٣ : ٣٩ ـ ٤٣ وزاد : أن الرسول إلى عبيد الله كان عبد الرحمن بن سمرة العبشمي نهارا جهارا وليلا سرّا ، وأن ذلك كان بعد جرح الحسن عليه‌السلام.

(٢) الإرشاد ٢ : ١٢.

(٣) أنساب الأشراف ٣ : ٤١.

(٤) الفتوح ٤ : ١٥٧.

٤٦٠