موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

ودخل عتبة بن أبي سفيان أخو معاوية الذي أشار عليه بمشورة عمرو بن العاص ، ورأى تلكّؤ أخيه معاوية على عمرو بمصر ، فقال له : أما ترضى أن تشتري عمرا بمصر إن صفت لك؟! فقال له معاوية : بت عندنا الليلة (١).

وبات معاوية مفكّرا في أمره حتى أصبح متأثرا بعتاب أخيه عتبة ، فأرسل إلى عمرو وأعطاه ما استعطاه من ملك الفراعنة إن صفت له بعد علي عليه‌السلام ، فاستوثقه عمرو بكتاب ، فأمر معاوية كاتبه أن يكتب له بذلك كتابا وقال له : اكتب : على أن لا ينقض شرط طاعة! أي تكون طاعة عمرو له مطلقة غير مقيّدة بشرط طعمة مصر! وانتبه عمرو لهذه المكيدة من معاوية فمنع الكاتب أن يكتب كذلك وقال : بل اكتب : على أن لا تنقض طاعة شرطا! أي لا تنقض طاعته لمعاوية ما اشترط عليه من طعمة مصر ، فمنعه من كيده له. ثمّ قال له : والله شاهد لي عليك بذلك؟! قال معاوية : نعم ، لك الله عليّ بذلك! قال عمرو : «والله على ما نقول وكيل» ثمّ خرج من عنده بالكتاب.

فتلقاه ابناه عبد الله ومحمد فسألاه ما صنع؟ قال : أعطانا مصر طعمة! فقالا : وما مصر في ملك العرب! فقال عمرو : إن لم يشبعكما مصر فلا أشبع الله بطونكما (٢)!

__________________

(١) وقعة صفّين : ٣٩ ، وضمن الخبر : أن قيصر زحف بجماعة الروم إلى الشام! فقال له عمرو : أما قيصر : فاهد له من وصفاء الروم ووصائفها وأواني الذهب والفضة واسأله الموادعة فإنه سيسرع إليها. وفيه أيضا : أن محمد بن أبي حذيفة العبشمي قد كسر سجن مصر فخرج هو وأصحابه! فقال له عمرو : ابعث عليه خيلا تأتيك به أو تقتله ، وإن فاتك فلا يضرك! وهذا واضح الفساد إذ بلاد مصر يومئذ لم تكن لمعاوية حتى يكون له بها سجن وسجناء! وفات هذا التهافت على الرواة من الغباء!

(٢) وقعة صفّين : ٤٠ وبهامشه جملة الشرط والطاعة عن الكامل للمبرّد طبعة ليبسك : ١٨٤ ، ونقل الخبر المعتزلي الشافعي في شرح الخطبة ٢٦ من شرح نهج البلاغة

٢١

وكان معهما ابن عمّ لعمرو جاءه من مصر فلما علم بذلك قال له : إنك إن لم ترد معاوية لم يردك ، ولكنّك تريد دنياه وهو يريد دينك! وبلغ ذلك معاوية فطلبه فهرب حتى لحق بعلي عليه‌السلام في الكوفة فحدّثه بأمر عمرو ومعاوية (١).

مشاورة معاوية لعمرو :

ثم قال معاوية لعمرو : ما ترى في عليّ؟

فقال عمرو : أتاك في هذه البيعة خير أهل العراق (جرير) ومن عند خير الناس في أنفس الناس (عليّ) ودعواك أهل الشام إلى ردّ هذه البيعة خطر شديد! ورأس أهل الشام شرحبيل بن السمط الكنديّ وهو عدوّ لجرير المرسل إليك! فأرسل إليه يأتيك. وأوطئ له ثقاتك ممن يرضى بهم شرحبيل فليفشوا في الناس : أن عليا قتل عثمان! (حتّى إذا جاء شرحبيل يسمعها منهم) فإنها كلمة إن تعلّقت بقلب شرحبيل لم تخرج منه أبدا! وهي جامعة لك أهل الشام على ما تحبّ!

وكان شرحبيل على حمص ، فكتب إليه معاوية : إن جرير بن عبد الله قدم علينا من عند عليّ بن أبي طالب بأمر فظيع ، فأقدم!

ثم دعا خاصّته وثقاته من رءوس قحطان واليمن من أبناء عمّ شرحبيل : بسر بن أرطاة وحابس بن سعد الطائي وحمزة بن مالك وعمرو بن سفيان ومخارق بن الحارث الزبيدي ويزيد بن أسد ، وأمرهم أن يستقبلوه ويخبروه : أن عليا قتل عثمان!

__________________

ـ ٢ : ٦٧ ـ ٦٨ وبهامشه عن الكامل أيضا (ط. المرصفى) ٣ : ٢١٠ ومصادر الخطبة في المعجم المفهرس لنهج البلاغة : ١٣٧٨.

(١) وقعة صفّين : ٤٢.

٢٢

فلما بلغه كتاب معاوية استشار اليمنيّين معه فاختلفوا عليه ... وأبى شرحبيل إلّا أن يسير إلى معاوية. فلما قدم الشام استقبله اولئك فأعظموه.

ودخل على معاوية فحمد الله معاوية وأثنى عليه ثمّ قال له : يا شرحبيل ، إن جرير بن عبد الله يدعونا إلى بيعة عليّ ، وعليّ خير الناس! لو لا أنه قتل عثمان بن عفّان! وقد حبست نفسي عليك! وإنما أنا رجل من أهل الشام أرضى ما رضوا وأكره ما كرهوا! فقال شرحبيل : أنظر.

ثم خرج ليرى ما يقول الناس فلقيه اولئك النفر وأخبروه : أن عليا قتل عثمان!

فرجع إلى معاوية وقال له : يا معاوية ؛ أبى الناس إلّا أنّ عليا قتل عثمان! فو الله لئن بايعت له لنخرجنّك من الشام أو لنقتلنّك!

قال معاوية : ما أنا إلّا رجل من أهل الشام وما كنت لا خالفكم!

قال : إذا فردّ هذا الرجل إلى صاحبه. وخرج من عنده.

ثم بدا له أن يواجه البجليّ بنفسه فذهب إلى الحصين بن نمير التميمي ـ وكان في الشام ـ فقال له : ابعث إلى جرير فليأتنا. فبعث إليه الحصين فاجتمع إليه ، فقال له شرحبيل : يا جرير ؛ أتيتنا بأمر ملفّق (يقصد ولاية علي عليه‌السلام) وأطريت قاتل عثمان!

فقال له جرير : يا شرحبيل ، أما قولك إني جئت بأمر ملفق! فكيف يكون أمرا ملفّقا وقد اجتمع عليه المهاجرون والأنصار ، وقوتل طلحة والزبير على ردّهما له؟! وأما قولك إن عليّا قتل عثمان! فو الله ما عندك إلّا القذف بالغيب من مكان بعيد ، ولكنّك ملت إلى الدنيا (١)!

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٤ ـ ٤٧ وفي أوّله : أنه بعث رجلا إلى محمد بن أبي حذيفة فأدركه فقتله! في حين أن الرجل يومئذ كان في فسطاط مصر حرّا سليما ، ولم يقل أحد بقتله في مصر ، بل قتل بعد هذا الخبر.

٢٣

وقال معاوية لجرير : اكتب إلى صاحبك أن يجعل لي الشام وجباية مصر ، ولا يلزمني ببيعة لأحد بعده ، فأكتب إليه بالخلافة واسلّم له هذا الأمر!

فقال جرير : اكتب بما أردت وأكتب معك. فكتب معاوية بذلك إلى علي عليه‌السلام.

فكتب عليّ إلى جرير : أما بعد ، فإنما أراد معاوية أن لا يكون لي بيعة في عنقه ، وأن يبقيك حتى يذوق أهل الشام ... ولا يراني الله أتّخذ المضلّين عضدا ، فإن بايعك الرجل ، وإلّا فأقبل» (١).

معاوية وشرحبيل الكندي :

ولفّف معاوية الرجال لشرحبيل يدخلون إليه ويعظّمون عنده قتل عثمان ويرمون به عليا ، ويقيمون له الشهادة الباطلة وكتبا مختلقة ، حتى شحذوا عزمه (٢).

فدخل على معاوية ـ وعنده جرير ـ فقال لمعاوية : أنت عامل أمير المؤمنين (عثمان) وابن عمّه ، فإن كنت رجلا تجاهد عليا وقتلة عثمان حتى ندرك بثأرنا أو تفنى أرواحنا استعملناك علينا ، وإلّا عزلناك واستعملنا غيرك ممّن نريد! ثمّ جاهدنا معه حتى ندرك بدم عثمان أو نهلك!

فقال له جرير : يا شرحبيل ، مهلا فإن الله قد حقن الدماء ولمّ الشعث وجمع أمر الامة ودنا من هذه الأمة سكون ؛ فإياك أن تفسد بين الناس ، وأمسك عن هذا القول قبل أن يظهر منك قول لا تستطيع ردّه. فقال : لا والله لا أسرّه أبدا (٣).

وبعث معاوية إليه : إنه كان من إجابتك الحقّ وما وقع أجرك فيه على الله! وقبله عنك صلحاء الناس ما علمت ، وإنّ هذا الأمر الذي قد عرفته لا يتمّ إلّا

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٢.

(٢) وقعة صفين : ٤٩.

(٣) وقعة صفين : ٥٢.

٢٤

برضا العامة. فسر في مدائن الشام وناد فيهم بأنّ عليا قتل عثمان ، وأنه يجب على المسلمين أن يطلبوا بدمه!

وكان متألّها ناسكا مأمونا لدى أهل الشام ، فبدأ بأهل بلده حمص قام فيهم فقال لهم :

يا أيها الناس ، إن عليا قتل عثمان بن عفّان ، وقد غضب له قوم (بالبصرة) فقتلهم وهزمهم وغلب على الأرض ولم يبق إلّا الشام ، وهو واضع سيفه على عاتقه ثمّ خائض به غمار الموت إليكم ، أو يحدث الله أمرا ، ولا نجد أحدا أقوى على قتاله من معاوية ، فجدّوا.

فقام إليه أمثاله من نسّاك حمص فقالوا له : أنت أعلم بما ترى (وأما نحن) فبيوتنا مساجدنا وقبورنا! ولكن أجابه سائر الناس!

ثمّ جعل شرحبيل لا يأتي على قوم من مدائن الشام إلّا قبلوا منه ما أتاهم به حتى استفرغها (١).

واستبطأ أمير المؤمنين عليه‌السلام جرير عند معاوية فكتب إليه : «أما بعد فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل وخذه بالأمر الجزم ، فخيّره بين حرب مجلية أو سلم محظية ، فإن اختار الحرب فانبذ له ، وإن اختار السلم فخذ بيعته» (٢).

فهل يستعدّ الإمام لحربهم؟ :

وكأنّ الإمام عليه‌السلام حيث استبطأ رجوع جرير بالجواب شاور بعض أصحابه في حرب الشام ، فأشاروا عليه بالمقام ذلك العام ، وسمع بذلك الأشتر النخعي

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٠ ـ ٥١.

(٢) وفي نهج البلاغة ك ٨ ، ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٩٤.

٢٥

وشريح بن هاني وعديّ الطائي فتوافقوا أن يكلّموا الإمام عليه‌السلام فجاءوا إليه وقالوا له : إن هؤلاء الذين أشاروا عليك بالمقام إنما خوّفوك من حرب الشام ، وليس في حربهم شيء أخوف من الموت ونحن نريده؟ فقال لهم (١) :

«إن استعدادي لحرب أهل الشام وجرير عندهم إغلاق للشام وصرف لأهله عن خير إن أرادوه! ولكن قد وقّت لجرير وقتا لا يقيم بعده إلّا مخدوعا أو عاصيا ، والرأي مع الأناة فأرودوا (ارفقوا ؛ ولكن) لا أكره لكم الإعداد».

وكأنّه عليه‌السلام أراد أن يطمئنهم أنه لا يداهن في دينه فقال لهم :

«ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه ، وقلّبت ظهره وبطنه ، فلم أر فيه إلّا القتال ، أو الكفر بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

القول الفصل :

ولمّا انتهى كتاب علي عليه‌السلام إلى جرير أتى معاوية فأقرأه الكتاب ثمّ قال له : يا معاوية ، إنه لا يطبع على قلب إلّا بذنب ، ولا يشرح إلّا بتوبة ، ولا أظنّ قلبك إلّا مطبوعا ، أراك قد وقفت بين الحقّ والباطل كأنك تنتظر شيئا في يدي غيرك!

فقال معاوية : ألقاك بالفصل في أول مجلس (بعد هذا) فلما ذاق أهل الشام وعرف بيعتهم له كتب إلى علي عليه‌السلام بالحرب (٣).

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٩٤.

(٢) نهج البلاغة خ ٤٣ ، ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٨٠. وقال المعتزلي الشافعي في شرحه ٢ : ٣٢٣ : سمّي الفسق كفرا تغليظا وتشديدا للزجر عنه.

(٣) وقعة صفين : ٥٦.

٢٦

كتاب معاوية جوابا وجوابه :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من معاوية بن صخر إلى علي بن أبي طالب. أمّا بعد فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريء من دم عثمان كنت كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين ، ولكن أغريت بعثمان المهاجرين وخذّلت عنه الأنصار ، فأطاعك الجاهل وقوى بك الضعيف ، وقد أبى أهل الشام إلّا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان ، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين. ولعمري ما حجّتك عليّ كحجّتك على طلحة والزبير ، لأنّهما بايعاك ولم أبايعك ، وما حجّتك على أهل الشام كحجّتك على أهل البصرة ؛ لأنّ أهل البصرة أطاعوك ولم يطعك أهل الشام. وأما شرفك في الإسلام وقرابتك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وموضعك من قريش فلست أدفعه» (١).

ثمّ دعا جريرا فدفع إليه الكتاب الجواب وقال له : الحق بصاحبك (٢).

فرجع جرير إلى علي عليه‌السلام ودفع إليه كتاب معاوية بالجواب (٣).

وروى ابن بكّار في «الموفّقيات» عن جرير قال : إن معاوية وصل بين طومارين أبيضين وطواهما وكتب عنوانهما : من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب. ودفعهما إليّ. ودعا رجلا من عبس ودفع إليه كتابا آخر وبعثه معي.

فخرجنا حتّى قدمنا الكوفة. واجتمع الناس في المسجد الجامع بالكوفة لا يشكّون أنها بيعة أهل الشام! (ولكن) لما فتح الطوماران لم يوجد فيهما شيء!

وقام العبسيّ ودفع إلى علي عليه‌السلام كتابه وكان فيه شعر ، منه قوله :

__________________

(١) الكامل للمبرّد : ١٧٤ ، والإمامة والسياسة : ١٠١.

(٢) وقعة صفين : ٥٦.

(٣) وقعة صفين : ٥٧.

٢٧

أتاني أمر فيه للنفس غمّة

وفيه اجتداع للأنوف أصيل

مصاب أمير المؤمنين وهدّة

تكاد لها صمّ الجبال تزول!

ثمّ نادى العبسي قومه وقال : إني أحلف بالله لقد تركت تحت قميص عثمان أكثر من خمسين ألف شيخ خاضبي لحاهم بدموع أعينهم ، متعاقدين متحالفين أن ليقتلنّ قتلته في البرّ والبحر! وإني أحلف بالله ليقتحمنّها عليكم ابن أبي سفيان بأكثر من أربعين ألفا من خصيان الخيل فما ظنّكم بالفحول (١).

جرير والأشتر عند الأمير :

وكان الأشتر عند أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له :

يا أمير المؤمنين ، أما والله لو كنت أرسلتني إلى معاوية لكنت خيرا لك من هذا الذي أرخى من خناقه ، حتّى لم يدع بابا يرجو روحه إلّا فتحه ، أو يخاف غمّه إلّا سدّه!

فقال جرير : والله لو أتيتهم لقتلوك ، وقد زعموا أنك من قتلة عثمان. وخوّفه من عمرو العاص وذي الكلاع الحميري وحوشب.

فقال الأشتر : يا جرير والله لو كنت أنا أتيته لحملت معاوية على خطّة أعجله فيها عن الفكر ، ولم يثقل عليّ عمل أولئك ولم يعيني جوابهم.

قال جرير : إذن فأتهم! قال الأشتر : الآن وقد أفسدتهم ووقع الشر بينهم!

يا أخا بجيلة ؛ إنّ عثمان اشترى منك دينك بهمدان (إذ جعله واليها) والله ما أنت بأهل أن تمشي حيّا ، إنّما أتيتهم لتتخذ عندهم يدا بمسيرك إليهم ، ثمّ رجعت إلينا من عندهم تهدّدنا بهم ، وأنت والله منهم ، ولا أرى سعيك إلّا لهم ،

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ١٤ : ٣٨ وليس في الموفّقيات المنشور.

٢٨

ولئن أطاعني فيك أمير المؤمنين ليحبسنّك وأشباهك في محبس لا تخرجون منه حتّى تستبين هذه الأمور ويهلك الله الظالمين!

يا أمير المؤمنين ؛ أليس قد نهيتك أن تبعث جريرا وأخبرتك بعداوته وغشّه!

ثم أقبل على جرير يشتمه! فقال جرير : والله وددت أنك كنت بعثت مكاني إذا والله لم ترجع! وخرج من عند أمير المؤمنين.

وكان من بني بجلة في الكوفة بطنان : بنو أحمس ، وكان منهم في الكوفة سبعمائة رجل شهدوا صفين ، وبنو قيس وهم رهط جرير ، ومن أشرافهم ثوير بن عامر ، فتوافق جرير وناس معه من قيس منهم ثوير أن يخرجوا من الكوفة إلى قرقيسيا فخرجوا إليها. فخرج علي عليه‌السلام إلى داري جرير وثوير فأحرق مجلسهما وهدم شيئا منهما (١) وكانا ابني عم (٢) ثمّ كتب جرير كتابا إلى معاوية يخبره بما جرى وما نزل به ، وأنه يحبّ أن يقيم بجواره ، فكتب معاوية إليه بالمسير إليه والقدوم عليه ، فلحق به (٣).

وطمع معاوية في قيس :

سبق أن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي لما أرسله الإمام عليه‌السلام إلى مصر ، كان من رأيه الحازم أن بعث إلى الذين اعتزلوه وفي مقدمتهم مسلمة بن مخلّد الأنصاري وكان عثمانيا : أني لا اكرهكم على البيعة بل أدعكم وأكفّ عنكم. فحيث لم ينازع أحدا لم ينازعه أحد.

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) الأخبار الطوال : ١٦١.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٣٧٣ ، وتذكرة الخواص : ٨٢ ، وتوفي في ٥٤ ه‍ في السّراة.

٢٩

ولقرب مصر وأعمالها من الشام كان معاوية يخاف أن يقبل إليه الإمام عليه‌السلام من العراق ويقبل عليه قيس بأهل مصر فيقع بينهما ، فكان من أثقل خلق الله عليه. فقبل أن يسير الإمام إليه كتب معاوية إلى قيس بعد البسملة :

من معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد. سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد ، فإنكم إن كنتم نقمتم على عثمان في أثرة رأيتموها ، أو في ضربة سوط رأيتموه ضربها ، أو في شتمة رجل أو تسييره آخر (أبا ذر وغيره) أو في استعماله الفتيان من أهله ، فإنكم قد علمتم ـ إن كنتم تعلمون ـ أن دمه لم يحل لكم ، فقد ركبتم عظيما من الأمر وجئتم شيئا إدّا!

فتب إلى ربك يا قيس إن كنت من المجلبين على عثمان ، إن كانت التوبة من قتل المؤمن تغني شيئا!

وأما صاحبك (عليّ) فإنا قد استيقنّا أنه أغرى به الناس وحملهم على قتله حتّى قتلوه! وأنّه لم يسلم من دمه عظم قومك (الأنصار) فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل وتابعنا على أمرنا هذا ، ولك سلطان العراقين إن أنا ظفرت ما بقيت ، ولمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان ، وسلني من غير هذا ما تحبّ ، فإنك لا تسألني من شيء إلّا أوتيته ، واكتب إليّ برأيك فيما كتبت إليك ، والسلام.

فلما وصل كتاب معاوية إلى قيس لم ير من الرأي أن يجاهره العداء فكتب إليه بعد البسملة :

أما بعد ، فقد وصل إليّ كتابك وفهمت ما ذكرت من قتل عثمان ، وذلك أمر لم أقاربه ، وذكرت أن صاحبي (عليا) هو الذي أغرى الناس بعثمان ودسّهم إليه حتى قتلوه ، وهذا أمر لم أطّلع عليه. وذكرت أن عظم عشيرتي لم تسلم من دم عثمان ، فلعمري إن أولى الناس كان في أمره عشيرتي.

٣٠

وأما ما سألتني من متابعتك وعرضت عليّ ما عرضت ، فقد فهمته ، وهذا أمر لي فيه نظر وفكر ، وليس هذا مما يعجل إليه. وأنا كافّ عنك ، وليس يأتيك من قبلي شيء تكرهه حتّى ترى ونرى ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته!

فلما وصله وقرأه لم يأمن من كيده ومخادعته فكتب إليه أخرى بعد البسملة :

أما بعد ، فقد قرأت كتابك ، فلم أرك تدنو فأعدّك سلما ، ولم أرك تتباعد فأعدّك حربا ، أنت هاهنا كجمل جرور (مجرور) وليس مثلي من يصانع بالخدائع ، ولا يختدع بالمكايد ، ومعه عدد الرجال وأعنّة الخيل! فإن قبلت الذي عرضت عليك فلك ما أعطيتك ، وإن لم تفعل ملأت عليك مصر خيلا ورجالا! والسلام!

فلما وصله وقرأه علم أنه لا يقبل المطاولة والمدافعة فكتب إليه ما أظهر له ما في قلبه :

«من قيس بن سعد إلى معاوية بن أبي سفيان ، أما بعد ، فالعجب من استسقاطك رأيي واغترارك بي وطمعك فيّ أن تسومني ـ لا أبا لغيرك ـ الخروج من طاعة أولى الناس بالأمر وأقولهم بالحق ، وأهداهم سبيلا وأقربهم من رسول الله وسيلة ، وتأمرني بالدخول في طاعتك : طاعة أبعد الناس من هذا الأمر ، وأقولهم بالزور وأضلّهم سبيلا ، وأبعدهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيلة ، ولديك قوم ضالون مضلون من طواغيت إبليس!

وأما قولك : تملأ عليّ مصر خيلا ورجالا! فلئن لم أشغلك عن ذلك إنك لذو جدّ (حظّ) والسلام!».

فلما وصله وقرأه افترى عليه كتابا آخر وقرأه على أهل الشام قال فيه بعد البسملة :

إلى الأمير معاوية بن أبي سفيان من قيس بن سعد ، أما بعد ، فإن قتل عثمان كان حدثا عظيما في الإسلام! وقد نظرت لنفسي وديني فلم ار يسعني مظاهرة

٣١

قوم قتلوا إمامهم مسلما محرما (كذا) برّا تقيا! ونستغفر الله لذنوبنا ، ونسأله العصمة لديننا ، ألا وإني قد ألقيت إليك بالسلام وأجبتك إلى قتال قتلة إمام الهدى المظلوم ، فعوّل عليّ فيما أحببت من الأموال والرجال أعجّله إليك إن شاء الله. والسلام عليك.

وأشاع معاوية ذلك في الشام ، فسرّحت عيون الإمام عليه‌السلام به إليه.

وأتاه كتاب من قيس بن سعد وفيه بعد البسملة :

أما بعد ، فإني أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله : أن قبلي رجالا سألوني أن أكفّ عنهم ، وأدعهم على حالهم حتى يستقيم أمر الناس ، فنرى ويرون رأيهم ، وقد رأيت أن أكفّ عنهم وأن لا أعجل ، وأن أتألّفهم فيما بين ذلك ، لعلّ الله أن يقبل بقلوبهم ، ويصرفهم عن ضلالتهم إن شاء الله ، والسلام.

ولكن كأنّ خبر الكتاب المفترى عليه في الشام سبّب أن يكتب الإمام إليه بعد البسملة :

أما بعد ، فسر إلى القوم الذين ذكرت فإن دخلوا فيما دخل فيه المسلمون ، وإلّا فناجزهم (القتال) والسلام.

فلما وصله وقرأه لم يتمالك دون أن كتب إلى الإمام عليه‌السلام بعد البسملة :

أما بعد ، يا أمير المؤمنين فالعجب منك : تأمرني بقتال قوم كافّين عنك لم يمدّوا إليك يدا للفتنة ، ولا أرصدوا لها! فأطعني يا أمير المؤمنين وكفّ عنهم ؛ فإن الرأي تركهم يا أمير المؤمنين ، والسلام.

فلما وصله وقرأه أكبره وأعظمه ، وجمع إليه ابنيه الحسنين ومحمدا وعبد الله ابن أخيه جعفر فأعلمهم بذلك وقال لهم : إني ـ والله ـ ما أصدّق بهذا (الكتاب المفترى) على قيس! فلم يعلم منهم أي رأي سوى ابن جعفر فإنه قال لعمّه :

٣٢

يا أمير المؤمنين ؛ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، اعزل قيس بن سعد عن مصر (١) وابعث محمد بن أبي بكر (أخاه من أمّه) إلى مصر يكفك أمرها ؛ فقد بلغني أن قيسا يقول : إن سلطانا لا يتم إلّا بقتل مسلمة بن مخلّد (الأنصاري) لسلطان سوء! والله ما احبّ أنّ لي سلطان الشام مع سلطان مصر وأني قتلت ابن مخلّد (٢)! يا أمير المؤمنين ؛ إنك إن أطعته في تركهم واعتزالهم ؛ استشرى الأمر وتفاقمت الفتنة وقعد عن بيعتك كثير ممّن تريده على الدخول فيها (٣)!

تأمير ابن أبي بكر على مصر :

فأمر الإمام عليه‌السلام كاتبه عبيد الله بن أبي رافع القبطي فكتب عهده عليه‌السلام لابن أبي بكر على مصر ، وفيه بعد البسملة : «هذا ما عهد عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر حين ولّاه مصر ، أمره بتقوى الله والطاعة له في السرّ والعلانية ، وخوف الله في المغيب والمشهد ، وباللين للمسلم وبالغلظة على الفاجر ، وبالعدل على أهل الذمة ، وبالإنصاف للمظلوم ، وبالشدة على الظالم ، وبالعفو عن الناس ، وبالإحسان ما استطاع ، والله يجزي المحسنين ، ويعذّب المجرمين ، وأمره أن يدعو من قبله إلى الطاعة والجماعة فإنّ لهم في ذلك من العاقبة وعظيم المثوبة ما لا يقدّرون قدره ولا يعرفون كنهه ، وأمره أن يجبى خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل ، ولا ينتقص منه ولا يبتدع فيه ، ثمّ يقسمه بين أهله ، كما كانوا يقسمونه عليه من قبل. وأمره أن يلين لهم جناحه ، وأن يساوي بينهم في وجهه ومجلسه ، وليكن القريب

__________________

(١) الغارات ١ : ٢١٣ ـ ٢١٧.

(٢) الغارات ١ : ١١٩.

(٣) الغارات ١ : ٢١٧.

٣٣

والبعيد عنده في الحقّ سواء ، وأمره أن يحكم بين الناس بالحق ، وأن يقوم بالقسط ولا يتّبع الهوى ، ولا يخاف في الله لومة لائم ، فإن الله مع من اتّقاه وآثر طاعته على ما سواه ، والسلام. وكتب عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله ، لغرة شهر رمضان (سنة ٣٦ ه‍» (١).

وقبل خروج الإمام عليه‌السلام إلى الشام ، خرج ابن أبي بكر إلى مصر ، فلما دخل على قيس بن سعد وهو زوج عمته أخت أبي بكر ، قال له : ما غيّر أمير المؤمنين عليّ أدخل أحد بيني وبينه؟! فلم يذكر له رأي أخيه عبد الله بن جعفر ، فخرج قيس إلى المدينة (٢).

وخرج ابن أبي بكر إلى الناس فقرئ عليهم عهده (٣) ثمّ قام خطيبا فقال بعد الحمد والثناء :

أما بعد ، فالحمد لله الذي هدانا وإياكم لما اختلف فيه من الحقّ ، وبصّرنا وإياكم كثيرا مما عمى عنه الجاهلون. ألا وإن أمير المؤمنين ولّاني اموركم ، وعهد إليّ بما سمعتم ولن آلوكم خيرا ما استطعت ، وما توفيقي إلّا بالله ، عليه توكّلت وإليه أنيب. فإن يكن ما ترون من آثاري وأعمالي طاعة لله وتقوى فاحمدوا الله على ما كان من ذلك ، فإنّه الهادي له ، وإن رأيتم من ذلك عملا بغير حقّ فادفعوه إليّ وعاتبوني عليه فإني بذلك أسعد ، وأنتم بذلك جديرون ، وفّقنا الله وإياكم لصالح العمل برحمته ، ثمّ نزل (٤).

ورفع إليه مسلم قد ارتد ومسلم قد فجر بنصرانية ، ومن أهل مصر من يعبد

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٢٤ ـ ٢٢٥.

(٢) الغارات ١ : ٢١٩.

(٣) الغارات ١ : ٢٢٤.

(٤) الغارات ١ : ٢٢٦.

٣٤

الشمس والقمر وغير ذلك ، وسئل عن حكم تركة العبد المكاتب وله ولد. فكتب بها إلى الإمام عليه‌السلام يسأله عنها (١) ويسأله عن جوامع من الحلال والحرام ، والسنن والأحكام قائلا : إن رأى أمير المؤمنين أن يكتب لنا كتابا فيه الفرائض وأشياء مما يبتلى به مثلي من القضاء بين الناس ، فالله يعظم لأمير المؤمنين الأجر ويحسن له الذخر. فكتب إليه الإمام عليه‌السلام بعد البسملة :

من عبد الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى محمد بن أبي بكر وأهل مصر. سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد ، فقد وصل إليّ كتابك فقرأته وفهمت ما سألتني عنه ، فأعجبني اهتمامك بما لا بدّ لك منه وما لا يصلح للمسلمين غيره ، وظننت أن الذي دعاك إليه نية صالحة ورأي غير مدخول ولا خسيس ، وقد بعثت إليك أبواب الأقضية جامعا لك فيها ، ولا قوة إلّا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وكتب إليه عمّا سأله من أحكام القضاء ، ثمّ في الأدب ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والإمامة ، والوضوء ، ومواقيت الصلاة ، والركوع والسجود ، والصوم والاعتكاف ، ثمّ الموت والحساب ثمّ صفة الجنة والنار (٢).

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٣٠.

(٢) الغارات ١ : ٢٢٧ ، ٢٢٨ فنقل الثقفي الكوفي عن المدائني : أن محمدا كان ينظر فيه ويتعلمه ويقضي به ، فلما قتله ابن العاص جمع ما وجد عنده من الكتب وبعث بها إلى معاوية وفيها هذا الكتاب ، وقرأه معاوية فاعجب به وأخذ ينظر فيه ويقول : إنا لا نقول : إن هذه من كتب علي بن أبي طالب بل نقول : إن هذه من كتب أبي بكر كانت عند ابنه محمد فنحن نفتي ونقضي بها! ثمّ بقيت في مخزون بني أميّة حتّى ولي ابن عبد العزيز فهو أظهرها للناس وأخبرهم خبرها ، الغارات ١ : ٢٥١ ، ٢٥٢ وفيها تحريف في الوضوء سنذكره في موضعه بعد مقتله.

٣٥

فلم يلبث ابن أبي بكر شهرا كاملا (إلى منتصف شوال) حتى بعث إلى أولئك المعتزلين الذين كان قيس بن سعد موادعا لهم : إما أن تدخلوا في طاعتنا ، وإما أن تخرجوا من بلادنا!

فبعثوا إليه : دعنا حتّى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس ولا تعجل حربنا (١).

وكتب ابن أبي بكر إلى معاوية :

وكأن محمد بن أبي بكر رأى أن معاوية إنما ينذر عليا عليه‌السلام بالحرب بحجّة اتّهامه له ولأمثاله بقتل عثمان ، وأنّهم اليوم تحت رعاية علي عليه‌السلام وحمايته ، فكأنه رأى من المناسب أن يكتب إليه فكتب إليه :

«من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي ابن صخر! سلام على أهل طاعة الله ممّن هو مسلّم لأهل ولاية الله! أما بعد ، فإن الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته خلق خلقا بلا عنت ولا ضعف في قوّته ، ولا حاجة به إلى خلقهم ، ولكنّه خلقهم عبيدا ، وجعل منهم شقيا وسعيدا وغويا ورشيدا.

ثم اختارهم على علمه : فاصطفى وانتخب منهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله فاختصّه برسالته ، واختاره لوحيه ، وائتمنه على أمره ، وبعثه رسولا مصدقا لما بين يديه من الكتب ، ودليلا على الشرائع ، فدعا إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة.

فكان أوّل من أجاب وأناب وصدّق ووافق وأسلم وسلّم : أخوه وابن عمّه علي بن أبي طالب. فصدّقه بالغيب المكتوم ، وآثره على كل حميم ، فوقاه كلّ هول ، وواساه بنفسه في كلّ خوف ، فحارب حربه وسالم سلمه ، ولم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الأزل (الحرج) ومقامات الروع ، حتّى برز سابقا لا نظير له في جهاده ولا مقارب له في فعله.

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٥٤.

٣٦

وقد رأيتك تساميه وأنت أنت وهو هو : المبرّز السابق في كل خير ، أوّل الناس إسلاما ، وأصدق الناس نيّة ، وأطيب الناس ذريّة ، وأفضل الناس زوجة ، وخير الناس ابن عمّ! وأنت : اللعين ابن اللعين ، لم تزل أنت وأبوك تبغيان الغوائل لدين الله ، وتجهدان على إطفاء نور الله ، وتجمّعان على ذلك الجموع ، وتبذلان فيه المال ، وتحالفان فيه القبائل ، على ذلك مات أبوك وعلى ذلك خلفته.

والشاهد عليك بذلك : من يأوي ويلجأ إليك من بقيّة الأحزاب ورءوس النفاق والشقاق لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والشاهد لعليّ مع فضله المبين وسبقه القديم : أنصاره الذين ذكروا بفضلهم في القرآن فأثنى الله عليهم من المهاجرين والأنصار ، فهم معه عصائب وحوله كتائب يجالدون بأسيافهم ويهرقون دونه دماءهم ، يرون الفضل في اتّباعه والشقاء في خلافه.

فيا لك الويل كيف تعدل نفسك بعليّ ، وهو وارث رسول الله ووصيّه وأبو ولده ، وأوّل الناس اتّباعا له وآخرهم عهدا به ، يخبره بسرّه ويشركه في أمره. وأنت عدوّه وابن عدوّه! فتمتّع بباطلك ما استطعت ، وليمدد لك ابن العاص في غوايتك ، فكأنّ أجلك قد انقضى وكيدك قد وهى ، وسوف يستبين لك لمن تكون العاقبة العليا.

واعلم أنك تكايد ربّك الذي قد أمنت كيده وأيست من روحه ، وهو لك بالمرصاد وأنت منه في غرور ، وبالله وأهل رسوله عنك الغناء ، والسلام على من اتّبع الهدى» (١).

فكتب معاوية جوابه :

فكتب معاوية جوابه يقول : «من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه : محمد بن أبي بكر ، سلام على أهل طاعة الله. أما بعد ؛ فقد أتاني كتابك

__________________

(١) وقعة صفين : ١١٨ ، ١١٩.

٣٧

تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه ، وما أصفى به نبيّه ، مع كلام ألّفته ووضعته ، لرأيك فيه تضعيف ولأبيك فيه تعنيف.

ذكرت حق ابن أبي طالب وقديم سوابقه وقرابته من نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونصرته له ومواساته إياه في كل خوف وهول ، واحتجاجك عليّ بفضل غيرك لا بفضلك! فأحمد إلها صرف الفضل عنك وجعله لغيرك.

وقد كنّا ـ وأبوك معنا ـ في حياة نبيّنا صلّى الله عليه نرى حقّ ابن أبي طالب لازما لنا وفضله مبرّزا علينا ؛ فلما اختار الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما عنده ، وأتمّ له ما وعده ، وأظهر دعوته وأفلج حجّته ، قبضه الله إليه ... فكان أبوك وفاروقه (١) أوّل من ابتزّه وخالفه ، على ذلك اتّفقا واتّسقا ، ثمّ دعواه إلى أنفسهم ، فأبطأ عنهما وتلكّأ عليهما ، فهمّا به الهموم وأرادا به العظيم ، فبايع وسلّم لهما ، لا يشركانه في أمرهما ، ولا يطلعانه على سرّهما ، حتى قبضا وانقضى أمرهما.

ثم قام بعدهما ثالثهما عثمان بن عفّان يهتدي بهديهما ويسير بسيرتهما ، فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي! وبطنتما له وأظهرتما عداوتكما وغلّكما ، حتى بلغتما منه مناكما!

فخذ حذرك يا ابن أبي بكر! فسترى وبال أمرك وقس شبرك بفترك (٢) تقصر عن أن تساوي أو توازي من يزن الجبال حلمه! ولا تلين على قسر قناته ، ولا يدرك ذو مدى أناته ، أبوك مهّد مهاده ، وبنى ملكه وشاده! فإن يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك أوّله ، وإن يك جورا فأبوك أسّسه ونحن شركاؤه ، وبهداه أخذنا وبفعله اقتدينا! ولو لا ما سبقنا إليه أبوك ما خالفنا ابن أبي طالب ، ولأسلمنا له! ولكنّا رأينا

__________________

(١) لعلها أول بادرة لإطلاق الفاروق على عمر.

(٢) الفتر : ما بين الإبهام والسبّابة ، مثل.

٣٨

أباك فعل ذلك فاحتذينا بمثاله واقتدينا بفعاله ، فعب أباك ما بدا لك أو دع ، والسلام على من أناب ورجع عن غوايته وتاب» (١) وسنذكر مصرعه في موضعه.

وأما مصير قيس :

وأما قيس بن سعد ، فإنه لما عاد إلى المدينة كأنّ العثمانيين من مروان والأسود بن أبي البختري القرشي ، أثاروا الصحابيّ الشاعر العثماني حسّان بن ثابت الأنصاري فدخل على قيس وقال كالمتألّم له : نزعك ابن أبي طالب وقد قتلت ابن عفّان! فبقى عليك الوزر ولم يحسن لك الأجر والشكر!

فغضب قيس من كلامه وقال له : يا أعمى العين والقلب! لو لا أن القي بين رهطي ورهطك حربا لضربت عنقك! أخرج عنّي (٢).

وعاد مروان والأسود وهدّدا قيسا وتوعّداه بالقتل (٣).

فلما كتب علي عليه‌السلام إلى عمّاله باستخلاف من يثقون به والقدوم عليه للخروج إلى الشام ، لم ينتظر سهل بن حنيف الأنصاري حتى يستحضره الإمام عليه‌السلام بل بادر

__________________

(١) نقلهما نصر بن مزاحم في وقعة صفين : ١١٨ ـ ١٢١ مرسلا وبدون خبر بعثه إلى مصر ، ورواهما البلاذري في أنساب الأشراف ٢ : ٣٩٣ ـ ٣٩٧ ح ٤٦٠ محوّلا على طريق الخبر السابق ٤٥٩ : ٣٨٩ وهو : عباس الكلبي عن أبيه هشام عن أبي مخنف بأسناده. وقال الطبري في ٤ : ٥٥٧ : عن هشام عن أبي مخنف : أن ابن أبي بكر لما ولى كتب إلى معاوية ، فذكر مكاتبة جرت بينهما كرهت ذكرها! لما فيه مما لا تحتمل العامة سماعها! فاعتذر عن نقل الكتاب. وذكر الكتابين المسعودي في مروج الذهب ٣ : ١١ ـ ١٣ وانظر مواقف الشيعة ١ : ٢٦٢.

(٢) الغارات ١ : ٢٢١ ، والطبري ٤ : ٥٥٥ ، عن الزهري.

(٣) تاريخ الطبري ٤ : ٥٥٥ ، عن الزهري.

٣٩

يستأذنه في ذلك ، هذا وقد بلغ الإمام أن بعض أهل المدينة خرجوا إلى معاوية فكتب إليه : أما بعد ، فإنّه بلغني أن رجالا من أهل المدينة يخرجون إلى معاوية ، فلا تأسف عليهم ، فكفى لهم غيّا ولك منهم شافيا : فرارهم من الهدى والحقّ ، وإيضاعهم (إسراعهم) إلى العمى والجهل! وإنما هم أهل دنيا مقبلون عليها ، وقد علموا أن الناس مقبلون في الحق اسوة فهربوا إلى الأثرة ، فسحقا لهم وبعدا! أما لو بعثرت القبور وحصّل ما في الصدور ، واجتمعت الخصوم وقضى الله بين العباد بالحق ؛ لقد عرف القوم ما يكسبون. ولقد بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون!

وقد أتاني كتابك تسألني الإذن لك في القدوم ، فاقدم إذا شئت عفا الله عنّا وعنك ، ولا تذر خللا إن شاء الله تعالى ، والسلام (١).

فأضاف عمله إلى عمل قثم بن العباس على مكة وأراد الخروج إلى الكوفة ، فخاف قيس على نفسه من تهديد اولئك ، فشخص مع سهل إلى الكوفة (٢) فلما قدم على علي عليه‌السلام أخبره بما كان في مصر من الخبر فصدّقه الإمام (٣) فبايعه قيس على الموت معه (٤).

أول شهر رمضان بالكوفة :

ولما حضر أول شهر رمضان بالكوفة على عهد الإمام عليه‌السلام ، وكانت صلوات نوافل رمضان (التراويح) قد ابتدعت على عهد عمر ـ كما مرّ ـ فكان الناس

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ١٥٧ ح ١٧٠ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٠٣ ، وفي نهج البلاغة ك ٧٠.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٥٥٥ ، عن الزهري.

(٣) الغارات ١ : ٢٢٢.

(٤) الغارات ١ : ٢٢٣.

٤٠