موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

وعاد عيال محمّد وفيهم ابنه القاسم إلى المدينة فضمّتهم عائشة إليها ، وأخذت تقنت على معاوية وعلى عمرو وابن حديج في دبر كل صلاة تصلّيها (١) وحلفت أن لا تأكل شواء أبدا (٢).

وكان الإمام عليه‌السلام بعد التحكيم واتهام الخوارج له بالمهادنة ، كان إذا صلّى الصبح والمغرب يقنت فيقول : اللهمّ العن معاوية وعمرا وأبا موسى وحبيب بن مسلمة ، والضحاك بن قيس ، والوليد بن عقبة ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد.

ولمّا بلغ ذلك معاوية كان يقنت فيلعن عليّا وابن عباس وقيس بن سعد والحسن والحسين (٣)!

وكانت الوقعة بين عمرو والمصريين في موضع يدعى بالمسنّاة في شهر صفر سنة (٣٨ ه‍) (٤) ، فلعلّها كانت متزامنة مع وقعة النهروان ورجوع الإمام عليه‌السلام إلى الكوفة ، فكان انتصاره على الخوارج في النهروان متزامنا مع سقوط مصر بيد عمرو لمعاوية.

وكتب عمرو إلى معاوية : أمّا بعد ، فإنّا لقينا محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر في جموع من أهل مصر ، فدعوناهم إلى الكتاب والسنّة (٥)! فغصبوا الحقّ وتهوّكوا

__________________

(١) المصدران الأسبقان واكتفى البلاذري باسم ابن حديج فقط ٢ : ٣٠٨.

(٢) الغارات ١ : ٢٨٦ عن المدائني.

(٣) وقعة صفين : ٥٥٣ عن الأسدي البصري ، وعنه في الطبري ٥ : ٧١ بتصرف.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ١٠٥ عن الواقدي.

(٥) كذا في الغارات ، وفي الطبري : إلى الهدى والسنّة وحكم الكتاب! وفي أنساب الأشراف : إلى الهدى والتنبّه! وهو أولى.

٣٠١

(تهالكوا) في الضلال! فجاهدناهم واستنصرنا الله عليهم ، فضرب الله وجوههم وأدبارهم ومنحنا أكتافهم ، فقتل محمّد بن أبي بكر وكنانة بن بشر ، والحمد لله رب العالمين ، والسلام (١).

خبر محمد في الشام والكوفة :

كان للإمام عليه‌السلام عين في الشام يدعى عبد الرحمن بن شبيب الفزاري ، وقدم المبشّرون من مصر إلى معاوية بدمشق يتبع بعضهم بعضا بفتح مصر وقتل ابن أبي بكر ، حتّى رقى معاوية المنبر وأخبر بقتله أهل الشام ففرحوا بذلك فرحا شديدا! وخرج الفزاري إلى الإمام. وكان الحجّاج بن غزية الأنصاري بعد صفّين في مصر ، فقد ما الكوفة على علي عليه‌السلام في يوم واحد فقال له الفزاري : يا أمير المؤمنين! ما رأيت يوما قط سرورا بمثل سرور رأيته بالشام حين أتاهم هلاك ابن أبي بكر!

فقال الإمام عليه‌السلام : أمّا إنّ حزننا على قتله على قدر سرورهم به! لا بل يزيد أضعافا! وحدّثه الأنصاري بما شهد وعاين من هلاك محمد ، فحزن الإمام عليه‌السلام على محمد بن أبي بكر حتّى رئي ذلك وتبيّن في وجهه ، ثمّ قام خطيبا في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

ألا وإنّ مصر قد افتتحها الفجرة أولياء الجور والظلم ، الذين صدّوا عن سبيل الله وبغوا الإسلام عوجا ، ألا وإنّ محمّد بن أبي بكر قد استشهد رحمه‌الله فعند الله نحتسبه ، أما والله لقد كان ـ ما علمت ـ ينتظر القضاء ويعمل للجزاء ، ويبغض شكل الفاجر ويحبّ هدي المؤمن.

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٨٨ ، وفي الطبري ٥ : ١٠٥ عن أبي مخنف بسنده ، وانفرد الأندلسي في العقد الفريد ١ : ١٢٣ بأن رأسه أرسل إلى معاوية فطيف به في دمشق ، فكان أوّل رأس طيف به في الإسلام.

٣٠٢

وإنّي ـ والله ـ ما ألوم نفسي على عجز ولا تقصير ، وإنّي بمقاساة الحرب لجدّ بصير ، وإنّي لأقدم على الأمر وأعرف وجه الحزم وأقوم بالرأي المصيب ، فاستصرخكم معلنا ، وأناديكم نداء المستغيث معربا ، فلا تسمعون لي قولا ولا تطيعون لي أمرا ، تصيّرون الأمور إلى عواقب المساءة! فأنتم القوم لا يدرك بكم الثار ولا تنتقض بكم الأوتار ، دعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ «بضع وخمسين يوما» فجرجرتم عليّ جرجرة الجمل الأشدق ، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من ليست له نيّة في جهاد العدو ، ولا رأي له في اكتساب الأجر ، ثمّ خرج إليّ منكم جنيد متذائب ضعيف (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ)(١) فافّ لكم. ثمّ نزل ودخل ودعا عبد الرحمن بن شريح الشبامي فسرّحه إلى مالك بن كعب في طريقه إلى مصر ليردّه فأدركه وأخبره فرجعوا.

وقيل للإمام عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين ؛ لقد جزعت على محمّد بن أبي بكر جزعا شديدا!

فقال لهم : وما يمنعني؟ إنّه كان لي ربيبا وكان لبنيّ أخا (٢) ، وكنت له والدا أعدّه ولدا! (ولكنّه) كان غلاما حدثا! أما والله لقد أردت تولية مصر هاشم بن عتبة المرقال (الزهري) ولو قد ولّيته إيّاها لما خلّى لهم العرصة ولا انهزم الفرصة ، ولما قتل إلّا وسيفه في يده ، بلا ذم لمحمد بن أبي بكر فلقد أجهد نفسه وقضى ما عليه!

__________________

(١) الأنفال : ٦.

(٢) كما في الغارات والطبري وفي البلاذري : كان لابني أخي جعفر أخا ٢ : ٣٠٩. وحرّف في المسعودي : وكان ابن أخي ٢ : ٤٠١.

٣٠٣

وكتب إلى ابن عباس بالبصرة : أمّا بعد ، فإنّ مصر قد افتتحت! وقد استشهد محمد بن أبي بكر ، فعند الله نحتسبه ، وقد كنت تقدّمت إلى الناس في بدء الأمر قبل الوقعة بإغاثته ، ودعوتهم سرا وجهرا وعودا وبدءا ، فمنهم الآتي كارها ومنهم المعتلّ كاذبا ومنهم القاعد خاذلا! فأسأل الله تعالى أن يجعل لي منهم فرجا ومخرجا ، وأن يريحني منهم عاجلا! فو الله لو لا طمعي عند لقاء عدوّي في الشهادة ، وتوطيني نفسي على المنيّة لأحببت أن لا أبقى مع هؤلاء يوما واحدا! عزم الله لنا على تقواه وهداه. إنّه على كلّ شيء قدير ، والسلام.

فأجابه ابن عباس أوّلا : سلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر فيه افتتاح مصر وهلاك محمّد بن أبي بكر ، وأنّك سألت ربّك أن يجعل لك من رعيّتك التي ابتليت بها فرجا ومخرجا! وأنا أسأل الله أن يعلي كلمتك وأن يعينك بالملائكة عاجلا. وأعلم أنّ الله صانع لك ومعزّك ومجيب دعوتك وكابت عدوّك. واخبرك يا أمير المؤمنين أنّ الناس ربما تباطئوا ثمّ نشطوا ، فارفق بهم يا أمير المؤمنين ودارهم ومنهم ، واستعن بالله عليهم ، كفاك الله المهمّ ، والسلام.

وكأنّه علم بعظم همّ الإمام عليه‌السلام وغمّه بفقد محمّد وسقوط مصر فلم ير العزاء بالكتاب كافيا حتّى رحل من البصرة إلى علي عليه‌السلام فعزّاه بمحمّد بن أبي بكر رحمه‌الله (١).

وانصرف الإمام عليه‌السلام من الصلاة فقال شعرا :

لقد عثرت عثرة لا أعتذر

سوف أكيس بعدها واستمر

 وأجمع الشمل الشتيت المنتشر

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٩٤ ـ ٣٠١ ، وفي الطبري ٥ : ١٠٨ ـ ١١٠ عن أبي مخنف بسنده ، واختصر الخبر بل اختزله البلاذري في أنساب الأشراف ٢ : ٣٠٧ ـ ٣٠٩ ، وفي نهج البلاغة ذيل خ ٣٩ ، ومصادرها في المعجم : ١٣٨٢.

٣٠٤

فقيل : وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال : لما استعملت محمّد بن أبي بكر على مصر كتب إليّ : أنّه لا علم له بالسنّة ، فكتبت إليه كتابا فيه أدب وسنّة ، فقتل وأخذ الكتاب.

أخذ كتبه جميعا ابن العاص وبعث بها إلى معاوية ، فنظر فيه فأعجبه ، فكان ينظر فيه ويعجبه ، ورأى ذلك منه الوليد بن عقبة فقال له : مر بها أن تحرق! أفمن الرأي أن يعلم الناس أنّ أحاديث أبي تراب (!) عندك تتعلّم منها وتقضى بقضائه؟!

فقال له معاوية : ويحك أتأمرني أن احرق علما مثل هذا؟! والله ما سمعت بعلم أجمع منه ولا أحكم ولا أوضح!

فقال له الوليد : إن كنت تعجب من علمه وقضائه فعلام تقاتله؟!

فقال له معاوية : لو لا أنّ أبا تراب (!) قتل عثمان لأخذنا منه فتواه! ثمّ نظر إلى جلسائه وقال : ولكنّا لا نقول : هذه كتب علي بن أبي طالب ، بل نقول : هذه كتب أبي بكر الصدّيق (!) كانت منه عند ابنه محمّد فنحن نفتي بها ونقضي (١)!

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٥١ ـ ٢٥٤ عن المدائني وتمام الخبر : فلم تزل تلك الكتب في خزائن بني اميّة حتّى ولي عمر بن عبد العزيز فأظهرها وأظهر أنّها من حديث علي عليه‌السلام. هذا وقد نقلنا سابقا صدر الخبر بطلب محمد وإجابة الإمام عليه‌السلام في أخبار توليته.

ونقل الخبر والرسالة المعتزلي الشافعي عن الغارات في شرح النهج ٢ : ٦٧ ـ ٧٢ وعلّق على ذيل الخبر : إن الأليق بهذا الخبر عن معاوية هو عهد الإمام إلى الأشتر وإنه أيضا صار إليه!

٣٠٥

حديث الشقشقيّة (١) :

يبدو أنّ ابن عباس في لقائه هذا بالإمام عليه‌السلام خرج معه يوما إلى الرّحبة (٢) ، وكان عنده إذ ذكرت الخلافة وتقدّم من تقدّم عليه فيها ، فتنفّس الصّعداء ثمّ قال :

أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة أخو تيم ، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى : ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إليّ الطير ، فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء (مقطوعة : بلا قوّة) أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه؟ فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا : أرى تراثي نهبا.

حتّى إذا مضى الأوّل لسبيله عقدها لأخي عديّ (عمر) بعده! فيا عجبا! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته «لشدّ ما تشطّرا ضرعيها» :

 «شتّان ما يومى على كورها

ويوم حيّان أخي جابر» (٣)

__________________

(١) في أقدم ما بأيدينا من مصادرنا أورد الخبر الصدوق أوّلا في ج ١ من علل الشرائع ، الباب ٢٢ : العلة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين عليه‌السلام مجاهدة أهل الخلاف الحديث ١٢ بطريقين ، عن عكرمة عن ابن عباس نفسه ثمّ في معاني الأخبار باب معاني خطبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام : ٣٦٠ بالسندين نفسهما ، فهو أوّل من سمّاها خطبة! ولم تكن خطبة عامّة! ثمّ عنونها الرضي في نهج البلاغة خ ٣ : ومن خطبة له عليه‌السلام المعروفة بالشقشقية ، ومصادرها في المعجم : ١٣٧٧. ورواها الطوسي في الأمالي : ٣٧٢ ، الحديث ١٣٢٥٤ بسندين عن الباقر عن آبائه عليهم‌السلام وعن ابن عباس بلا عكرمة.

(٢) الرحبة : قرية على مرحلة (٤ فراسخ ـ ٢٠ كم تقريبا) من الكوفة نحو القادسية. مراصد الاطلاع : ٦٠٨.

(٣) للأعشى.

٣٠٦

فصيّرها ـ والله ـ في حوزة خشناء يخشن مسّها ويغلظ كلمها ، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة : إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحّم ، فمني الناس ـ لعمرو الله ـ بخبط وشماس ، وتلوّن واعتراض ، فصبرت على طول المدّة وشدّة المحنة!

إلى أن حضرته الوفاة فجعلها شورى في جماعة زعم أنّي أحدهم! فيا لله وللشورى! متى اعترض فيّ الريب مع الأوّلين منهم حتّى صرت أقرن إلى هذه النظائر ، لكنّي أسففت إذ أسفّوا وطرت إذ طاروا. فمال رجل لضغنه ، وصغا آخر لصهره ، مع هن وهن!

إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، وأسرع معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الابل نبتة الربيع! إلى أن نزت به بطنته وأجهز عليه عمله.

فما راعني إلّا والناس إليّ ، كعرف الضّبع قد انثالوا عليّ ، من كل جانب يسألونني أن ابايعهم ، حتّى لقد وطئ الحسنان وشقّ عطفاي (معطفي).

فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، وقسطت أخرى ، ومرق آخرون ، كأنّهم لم يسمعوا الله تعالى يقول : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(١) بلى والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكن حليت دنياهم في أعينهم وراقهم زبرجها!

أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لو لا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود «الناصر» وما أخذ الله على العلماء أولياء الأمر أن لا يقرّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه عندي أزهد من عفطة عنز!

__________________

(١) القصص : ٨٣.

٣٠٧

وكان رجل من أهل السواد (العراق) ولعلّه من غير المسلمين بها ، قد حضره ومعه كتاب إليه ، وكأنّه هنا توهّم أنّه تمّ كلامه ، فقام ورفع إليه كتابه ، فتوقّف الإمام عليه‌السلام عن كلامه وتناول الكتاب وقرأه ، فلمّا فرغ منه قال له ابن عباس :

يا أمير المؤمنين ؛ لو اطّردت مقالتك (١) من حيث أقضيت! فقال عليه‌السلام :

هيهات ـ يا ابن عباس ـ تلك شقشقة هدرت ثمّ قرّت (٢).

فكان ابن عباس يقول : فما أسفت على كلام كأسفي على كلام أمير المؤمنين إذ لم يبلغ به حيث أراد (٣).

كتابه للناس فيما ضاع من حقّه :

كأنّ ما كان من كلام الإمام عليه‌السلام مع ابن عمّه ابن عباس مثيرا لجمع من أصحابه ، فاجتمع منهم الحارث الأعور الهمداني ، وحبّة العرني ، وحجر بن عدي الكندي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي (٤) واتّفقوا أن يدخلوا متّفقين على علي أمير المؤمنين عليه‌السلام فيسألونه عن رأيه وقوله في أبي بكر وعمر ، وفعلوا ذلك ،

__________________

(١) كذا في السندين في علل الشرائع ومعاني الأخبار ، وكذا في إرشاد المفيد ١ : ٢٩٠ ، وارتضى الرضيّ أن يجعلها : خطبتك ، وعاد الطوسي في الأمالي عن الباقر عليه‌السلام إلى : مقالتك.

(٢) الشقشقة : هي شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج غضبا لئلّا يعضّ الناس! فشبّه الإمام كلامه بالشقشقة التي تخرج علامة على غضب الإبل وهياجها ، فإذا فتر غضبها وهياجها قرّت ، كذلك فتر ما هاج في الإمام من الحزن والألم بفعل فاصل قراءته لكتاب السوادي العراقي ، فقرّ عن شكواه.

(٣) انظر المصادر السالفة الذكر ، وقد ذكر الصدوق معاني الكلمات في الكتابين.

(٤) هنا زاد في الغارات : عبد الله بن سبأ ، وفي الإمامة والسياسة : عبد الله بن وهب الراسبي ، وقد قتل قبل في النهروان.

٣٠٨

فقال لهم : وهل فرغتم أو فزعتم لهذا وهذه مصر قد افتتحت وشيعتي بها قد قتلت؟ فأنا مخرج لكم كتابا أخبركم فيه عمّا سألتم ، فاقرءوه على شيعتي وكونوا أعوانا على الحقّ. ثمّ أخرج لهم كتابا هذه نسخته :

بسم الله الرحمنِ الرحیم ، من عبد الله أمير المؤمنين إلى من قرأ كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين ، السلام عليكم فإنّي أحمد الله الذي لا إله إلّا هو.

أمّا بعد ، فإنّ الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله نذيرا للعالمين ، وأمينا على التنزيل وشهيدا على هذه الأمة ، وأنتم ـ يا معشر العرب ـ يومئذ على شرّ دين وفي شرّ دار ، منيخون بين حجارة خشن وحيّات صمّ ، وشوك مبثوث في البلاد ، تشربون الماء الخبيث ، وتأكلون الطعام الجشيب ، وتسفكون دماءكم وتقتلون أولادكم ، وتقطّعون أرحامكم ، وتأكلون أموالكم بالباطل ، سبلكم خائفة ، والأصنام فيكم منصوبة والآثام بكم معصوبة (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(١).

فمنّ الله عليكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فبعثه إليكم رسولا من أنفسكم ، وقال فيما أنزل من كتابه : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٢) وقال : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٣) وقال : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ)(٤) وقال : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٥).

__________________

(١) يوسف : ١٠٦.

(٢) الجمعة : ٢.

(٣) التوبة : ١٢٨.

(٤) آل عمران : ١٦٤.

(٥) الجمعة : ٤.

٣٠٩

فكان الرسول إليكم من أنفسكم بلسانكم ، وكنتم أوّل المؤمنين ، تعرفون وجهه وشعبه وعمارته ، فعلّمكم الكتاب والحكمة ، والفرائض والسنّة ، وأمركم بصلة أرحامكم وحقن دمائكم وصلاح ذات بينكم ، وأن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها ، وأن توفوا بالعهد ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ، وأمركم أن تعاطفوا وتبارّوا وتباذلوا وتراحموا ، ونهاكم عن التناهب والتظالم والتحاسد والتقاذف والتباغي ، وعن شرب الخمر وبخس المكيال ونقص الميزان ، وتقدّم إليكم فيما أنزل عليكم أن لا تزنوا ولا تربوا ولا تأكلوا أموال اليتامى ظلما ، وأن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها ولا تعثوا في الأرض مفسدين ، ولا تعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين ، وكلّ خير يدني إلى الجنة ويباعد من النار أمركم به ، وكلّ شرّ يباعد من الجنّة ويدني من النار نهاكم عنه.

فلمّا استكمل مدّته من الدنيا توفّاه الله إليه سعيدا حميدا ، فيا لها مصيبة خصّت الأقربين وعمّت جميع المسلمين. ما اصيبوا بمثلها قبلها ولن يعاينوا اختها بعدها.

فلمّا مضى لسبيله صلى‌الله‌عليه‌وآله تنازع المسلمون الأمر بعده ، فو الله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر على بالى أن العرب تعدل هذا الأمر بعد محمّد عن أهل بيته ، ولا أنّهم منحّوه عنّي من بعده! فما راعني إلّا انثيال الناس على أبي بكر وإجفالهم إليه ليبايعوه! فأمسكت يدي (عن البيعة له) وأنا أرى أنّي أحقّ بمقام رسول الله في الناس ممّن تولّى الأمر من بعده ، ولبثت بذلك (الامتناع) ما شاء الله حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محقّ دين الله وملّة محمد وإبراهيم عليهما‌السلام ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما وهدما تكون مصيبته عليّ أعظم من فوات ولاية أموركم التي هي متاع أيّام قلائل ثمّ يزول ما كان منها كما يزول السراب وكما يتقشّع السحاب ، فعند ذلك مشيت إلى أبي بكر فبايعته ، ونهضت في تلك الأحداث حتّى زاغ الباطل وزهق ، وكانت كلمة الله

٣١٠

هي العليا ولو كره الكافرون. وتولّى أبو بكر تلك الأمور : فيسّر وشدّد وقارب واقتصد ، فصحبته مناصحا وأطعته ـ فيما أطاع الله ـ جاهدا.

وما طمعت أن لو حدث به حدث ـ وأنا حيّ ـ أن يردّ إليّ الأمر الذي نازعته فيه طمع مستيقن ، ولا يئست منه يأس من لا يرجوه! ولو لا خاصّة ما كان بينه وبين عمر لظننت أنّه لا يدفعها عني!

فلمّا احتضر بعث إلى عمر فولّاه! فسمعنا وأطعنا وناصحنا.

وتولّى عمر الأمر فكان مرضيّ السيرة ميمون النقيبة (١).

حتّى إذا احتضر قلت في نفسي : لن يعدلها عنّي! فجعلني سادس ستة! ما كانوا لولاية أحد أشدّ كراهية منهم لولايتي عليهم (لأنّهم) كانوا يسمعونني أقول عند وفاة الرسول احاجّ أبا بكر : «يا معشر قريش ، إنّا ـ أهل البيت ـ أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا من يقرأ القرآن ، ويعرف السنّة ، ويدين دين الحقّ» فخشى القوم إن أنا ولّيت عليهم أن لا يكون لهم ما بقوا نصيب في الأمر! فأجمعوا إجماعا واحدا فصرفوا الولاية إلى عثمان وأخرجوني منها : رجاء أن يناولوها ويتداولوها ، إذ يئسوا أن ينالوا من قبلي! ثمّ قالوا لي : هلمّ فبايع وإلّا جاهدناك! فبايعت مستكرها ، وصبرت محتسبا.

وقال قائلهم : يا ابن أبي طالب ، إنّك على هذا الأمر لحريص! فقلت : أنتم أحرص مني وأبعد : أأنا أحرص إذ طلبت تراثي وحقّي الذي جعلني الله ورسوله أولى به؟! أم أنتم إذ تضربون وجهي دونه وتحولون بيني وبينه؟! فبهتوا (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٢).

__________________

(١) ظاهرا عند الناس نسبيّا ولا سيّما بالنسبة لمن بعده.

(٢) البقرة : ٢٥٨.

٣١١

اللهمّ إنّي استعديك على قريش ؛ فإنّهم قطعوا رحمي وأصغوا (واكفئوا) إنائي ، وصغّروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي حقّا كنت أولى به منهم فسلبونيه ثمّ قالوا لي : ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه وفي الحقّ أن تمنعه! فاصبر كمدا متوخّما أو مت حنقا متأسّفا!

فنظرت فإذا ليس معي رافد ، ولا ذاب ولا مساعد ، إلّا أهل بيتي فظننت بهم عن الهلاك والمنيّة ، فأغضيت على الأذى وتجرّعت ريقي على الشجى ، وصبرت من كظم الغيظ على شيء أمرّ من العلقم ، وآلم للقلب من حزّ الشفار!

حتّى نقمتم على عثمان وأتيتموه فقتلتموه ، ثمّ جئتموني لتبايعوني ، فأبيت عليكم وأمسكت يدي ، فنازعتموني ودافعتموني ، وبسطتم يدي فكففتها ، ومددتم يدي فقبضتها ، وازدحمتم عليّ حتّى ظننت أن بعضكم قاتل بعض أو أنكم قاتلي! فقلتم : لا نجد غيرك ولا نرضى إلّا بك ، فبايعنا لا نفترق ولا تختلف كلمتنا! فبايعتكم ، ودعوت الناس إلى بيعتي ، فمن بايع طائعا قبلتها منه ، ومن أبى تركته ولم اكرهه.

فبايعني ـ فيمن بايعني ـ طلحة والزبير ، ولو أبيا ما أكرهتهما كما لم اكره غيرهما.

فما لبثا إلّا يسيرا حتّى بلغني أنهما خرجا من مكة متوجهين إلى البصرة ، في جيش ما منهم رجل إلّا بايعني وأعطاني الطاعة.

فقدما على عاملي وخزّان بيت مالي ، وعلى أهل مصر كلهم على بيعتي وفي طاعتي ، فشتّتوا كلمتهم وأفسدوا جماعتهم ، ثمّ وثبوا على شيعتي من المسلمين فقتلوا طائفة منهم غدرا وطائفة صبرا.

وطائفة عصّبوا بأسيافهم فضاربوا بها حتّى لقوا الله صادقين (الجمل الأصغر) فو الله لو لم يصيبوا منهم إلّا رجلا واحدا متعمّدين لقتله بلا جرم جره لحلّ لي به

٣١٢

قتل ذلك الجيش كلّه ، فدع ما أنهم قد قتلوا من المسلمين أكثر من العدة التي دخلوا بها عليهم! وقد أدال الله منهم فبعدا للقوم الظالمين.

ثم إني نظرت في أهل الشام فإذا أحزاب أعراب أهل طمع ، جفاة طغام ، يجتمعون من كل أوب! ومن كان ينبغي أن يؤدّب ويدرّب ، أو يولّى عليه ويؤخذ على يديه ، ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار ولا التابعين لهم بإحسان. فسرت إليهم فدعوتهم إلى الطاعة والجماعة ، فأبوا إلّا شقاقا ونفاقا ، ونهضوا في وجوه المسلمين ينضحونهم بالنبل ويشجرونهم بالرماح. فهناك نهدت إليهم بالمسلمين (في صفين) فقاتلتهم.

فلما عضّهم السلاح ووجدوا ألم الجراح «رفعوا المصاحف» يدعونكم إلى ما فيها! فأنبأتكم أنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن! وأنهم رفعوها مكيدة وغدرا ، وخديعة وو هنا وضعفا ، فامضوا على حقكم وقتالكم! فأبيتم عليّ وقلتم : اقبل منهم ، فإن أجابوا إلى ما في الكتاب جامعونا على ما نحن عليه من الحقّ ، وإن أبوا كان أعظم لحجّتنا عليهم. فقبلت منكم وكففت عنهم إذ أبيتم وونيتم. وكان الصلح بينكم وبينهم على رجلين يحييان ما أحيا القرآن ويميتان ما أمات القرآن!

فاختلف رأيهما وتفرق حكمهما ، ونبذا ما في القرآن وخالفا ما في الكتاب ، فجنّبهما الله السداد ودلّاهما في الضلال! فنبذا حكمهما (القرآن والسنة) وكانا أهله!

واعتزلت فرقة منّا (وانقطعت عنّا) فتركناهم ما تركونا ، حتّى إذا عثوا في الأرض يقتلون ويفسدون ، فأتيناهم وقلنا لهم : ادفعوا إلينا قتلة إخواننا ثمّ كتاب الله بينكم وبيننا! فقالوا : كلّنا قتلهم وكلّنا استحلّ دماءهم ودماءكم! وشدّت علينا خيلهم ورجالهم ، فصرعهم الله مصارع الظالمين (١).

__________________

(١) إلى هنا عن المسترشد للطبريّ الإمامي ق ٤ : ٤٠٩ ـ ٤٢٧ عن الشعبي ، عن شريح بن هاني ، قال : خطب بها ثمّ قال : «وإنّي مخرج بها إليكم كتابا» بزيادات منها : النساء

٣١٣

فلمّا كان ذلك من شأنهم أمرتكم أن تمضوا من فوركم ذلك إلى عدوّكم فقلتم : كلّت سيوفنا ونفدت نبالنا ، ونصلت أسنّة رماحنا وعاد أكثرها قصدا (متكسّرة) فارجع بنا إلى مصرنا لنستعدّ بأحسن عدّتنا ، وإذا رجعت وزدت في مقاتلتنا عدّة من هلك منّا وفارقنا فإنّ ذلك أقوى لنا على عدوّنا! فأقبلت بكم ، حتّى إذا أظللتم على الكوفة بالنخيلة أمرتكم أن تنزلوا فيها وأن تلزموا معسكركم ، وأن تضمّوا قواضبكم ، وأن توطّنوا على الجهاد أنفسكم ، ولا تكثروا زيارة أبنائكم ونسائكم ، فإنّ أصحاب الحرب المصابروها وأهل التشمير فيها ، لا ينوحون من سهر ليلهم ولا ظمأ نهارهم ، ولا خمص بطونهم ولا نصب أبدانهم. فنزلت طائفة منكم معي (بالنخيلة) معذّرة ، ودخلت طائفة منكم المصر (الكوفة) عاصية! فلا من بقي منكم (بالنخيلة) ثبت وصبر! ولا من دخل المصر (الكوفة) عاد ورجع! فنظرت إلى معسكري وليس فيه خمسون رجلا!

فلمّا رأيت ما أتيتم دخلت إليكم فما قدرت على أن تخرجوا معي إلى يومنا هذا فما تنتظرون؟!

أما ترون إلى أطرافكم قد انتقصت (بالغارات) وإلى أمصاركم قد افتتحت (في مصر) وإلى شيعتي بها قد قتلت! وإلى مسالحكم تعرى ، وإلى بلادكم تغزى! وأنتم ذوو عدد كثير! وشوكة وبأس شديد! فما بالكم؟! لله أنتم؟ من أين تؤتون؟! وأنّى تؤفكون؟! وأنّى تسحرون؟! ولو أنّكم عزمتم وأجمعتم لم تراموا.

__________________

ـ نواقص العقول ... وليست في الخبر المعتبر في الغارات ولا فيما اختصره منها ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ١ : ١٥٤ ـ ١٥٩ ، وأشار إلى الخبر البلاذري في أنساب الأشراف ٢ : ٢٩٠ وقال : كان عند ابن سبأ نسخة حرّفها! فلعلّ الزيادة في النساء منها. ويبدو أنّ الرضي نقلها في نهج البلاغة عن المسترشد وفقا له.

٣١٤

ألا إنّ القوم قد اجتمعوا وتناشبوا وتناصحوا ، وأنتم قد ونيتم وتغاششتم وافترقتم!

إن أتممتم أنتم على ذي فما أنتم عندي سعداء ، فأنبهوا نائمكم واجتمعوا على حقّكم ، وتجرّدوا لحرب عدوّكم. قد بدت الرغوة عن الصريح ، وقد بيّن الصبح لذي عينين ، إنّما تقاتلون الطلقاء ، وأبناء الطلقاء ، واولي الجفاء ومن أسلم كرها ، وكان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنف الإسلام (صدره) كلّه حربا ، أعداء الله والسنّة والقرآن ، وأهل البدع والأحداث ، ومن كانت بوائقه تتّقى ، وكان على الإسلام وأهله مخوفا ، وأكلة الرشا ، وعبدة الدنيا.

ولقد أنهي إليّ أنّ ابن النابغة (ابن العاص) لم يبايع (لمعاوية) حتّى أعطاه ثمنا وشرط أن يؤتيه إتاوة هي أعظم ممّا في يده من سلطانه (وهي مصر) ألا صفرت يد هذا البائع دينه بالدنيا (ابن العاص) وخزيت أمانة هذا المشتري نصرة فاسق غادر (ابن العاص) بأموال المسلمين.

وإنّ فيهم لمن قد شرب الخمر فيكم (في الكوفة) وجلد الحدّ في الإسلام (بالمدينة) يعرف بالفساد في الدين والفعل السيّئ (الوليد بن عقبة).

وإنّ منهم لمن لم يسلم حتّى رضخ له على الإسلام رضيخة (عطيّة المؤلّفة قلوبهم) فهؤلاء قادة القوم!

ومن تركت ذكر مساويه من قادتهم مثل من ذكرت منهم ، بل هو شرّ منهم.

وهؤلاء الذين ذكرت لو ولّوا عليكم لا ظهروا فيكم الكبر والفساد والفجور ، والتسلّط بالجبريّة ، والفساد في الأرض ، واتبعوا الهوى ، وحكموا بغير الحقّ.

ولأنتم ـ على ما كان فيكم من تواكل وتخاذل ـ خير منهم وأهدى سبيلا : ففيكم العلماء والفقهاء والنجباء والحكماء ، وحملة الكتاب ، والمتهجّدون بالأسحار ،

٣١٥

وعمّار المساجد بتلاوة القرآن ، أفلا تسخطون وتهتمّون أن ينازعكم الولاية عليكم سفهاؤكم ، والأشرار الأراذل منكم؟

فاسمعوا ـ هداكم الله ـ قولي إذا قلت ، وأطيعوا أمري إذا أمرت ، فو الله لئن أطعتموني لا تغوون ، وإن عصيتموني لا ترشدون! خذوا للحرب اهبتها ، وأعدّوا لها عدّتها ، وأجمعوا لها فقد شبّت واوقدت نارها وعلا شنارها ، وتجرّد لكم فيها الفاسقون كي يعذّبوا عباد الله (بالغارات) ويطفئوا نور الله.

ألا إنّه ليس أولياء الشيطان ـ من أهل الطمع والجفاء والكبر ـ بأولى بالجدّ في غيّهم وضلالهم وباطلهم ، من أولياء الله أهل البرّ والزهادة والإخبات في حقّهم ، وطاعة ربّهم ومناصحة إمامهم. إنّي ـ والله ـ لو لقيتهم فردا وهم ملء الأرض ما باليت ولا استوحشت! وإنّي من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي نحن عليه لعلى ثقة وبيّنة ويقين وصبر! وإنّي إلى لقاء ربّي لمشتاق ولحسن ثواب ربّي لمنتظر ، ولكن أسفا يعتريني وحزنا يخامرني : من أن يلي أمر هذه الأمّة سفهاؤها وفجّارها ، فيتّخذوا مال الله دولا وعباد الله خولا (عبيدا) والصالحين حربا والفاسقين حزبا! وأيم الله لو لا ذلك لما أكثرت تأنيبكم ، وتأليبكم وتحريضكم ، ولتركتكم إذ ونيتم وأبيتم ، حتى ألقاهم بنفسي متى ما حمّ لي لقاؤهم ، فو الله إنّي لعلى الحقّ وإنّي للشهادة لمحبّ.

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١).

ولا تثّاقلوا إلى الأرض فتقرّوا بالخسف ، وتبوءوا بالذلّ والعسف ، ويكن نصيبكم الأخسر!

__________________

(١) التوبة : ٤١.

٣١٦

إنّ أخا الحرب اليقظان الأرق! ومن نام لم ينم عنه! ومن ضعف أودى (هلك) ومن ترك الجهاد كان كالمغبون المهين. اللهم اجمعنا وإيّاهم على الهدى وزهّدنا وإيّاهم في الدنيا ، واجعل الآخرة لنا ولهم خيرا من الأولى ، والسلام (١).

مقتل محمد بن أبي حذيفة :

كان محمد بن أبي حذيفة ، ابن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وأبو حذيفة بن عتبة هو أخو هند بنت عتبة أمّ معاوية ، فهو خال معاوية ، ومحمد ابن خال معاوية ، وقد مرّ خبره أنّه كان من أوائل المحرّضين على عثمان بمصر مع محمد بن أبي بكر ، ومن كبار ثوار مصر ، وهو الذي أخرج منها عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخا عثمان لامّه وعامله على مصر ، واستولى عليها ، ولكنّ الإمام عليه‌السلام لم يقرّه عليها واستبدله بقيس بن سعد الأنصاري ثمّ محمّد بن أبي بكر ، ولا نجد فيما بأيدينا أيّ خبر عن أيّ شأن له اليوم في مصر مع ابن أبي بكر إلى أن قتل هذا.

فروى الثقفي عن المدائني : أنّ ابن العاص لمّا قتل ابن أبي بكر واستولى على مصر بحث عن صاحبه السابق محمد بن أبي حذيفة حتّى أصابه فلم يقتله وإنّما بعث به إلى معاوية ، وكان يومئذ في فلسطين ، ليرى فيه رأيه بوصفه من المثيرين على عثمان ، ولم يقتله معاوية وإنّما أمر بحبسه في سجن له.

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٠٢ ـ ٣٢٢ عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه. ولعلّه عنه الكليني في رسائله كما عنه ابن طاوس في كشف المحجة لثمرة المهجة : ١٧٣ الباب ١٥٥. ونقلها الطبريّ الإمامي في المسترشد : ٤٠٩ ـ ٤٢٧ عن الشعبي وعن شريح بن هانئ بزيادات ، واختصر الخبر ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ١ : ١٥٤ ـ ١٥٩ ، وأشار إليه البلاذري في أنساب الأشراف ٢ : ٢٩٠ ، كما مرّ سابقا وفي نهج البلاغة مقاطع منه يطول تعدادها.

٣١٧

وبعد مكث غير كثير هرب من السجن ، واخبر به معاوية ، فقال لمن حضره : من يطلبه؟ وكان يحضره عبد الله بن عمرو الخثعمي فقال له : أنا أطلبه ، وخرج بخيله في طلبه إلى جهة حوارين ، فمرّ بناس في حصاد ومعهم حمير وأصابهم المطر وكان قربهم غار فدفعوا بحميرهم نحو الغار ، فلمّا دخلت الحمير الغار نفرت وتراجعت ، فذهب أصحابها لينظروا ممّ نفرت حميرهم من الغار ، وإذا بهم يرون فيه رجلا ، فخرجوا.

ووافاهم عبيد الله الخثعمي وسألهم عن رجل وصفه لهم ، فقالوا له : ها هو ذا في الغار! فاستخرجه ، وكان عثمانيّا فخاف إذا حمله إلى معاوية أن لا يقتله لقرابته فقتله (١).

وطمع في البصرة بعد مصر :

لكلّ قاعدة شواذ ، ومن شواذ بني عبد قيس العلويين بالبصرة : صحار بن عباس العبدي ، فإنّه كان ممّن يرى رأي عثمان ويخالف قومه في حبّهم عليّا عليه‌السلام ونصرتهم إيّاه. فلمّا بلغه وقعة معاوية بأهل مصر وبعد مصير ابن عباس من البصرة إلى الكوفة لتعزية الإمام عليه‌السلام في ذلك حضورا لديه ، اغتنم فرصة غيابه عن البصرة وعزم على تطميع معاوية فيها ، فكتب إليه يقول له :

أمّا بعد ، فقد بلغنا وقعتك بأهل مصر ، الذين بغوا على إمامهم وقتلوا خليفتهم بغيا وظلما! فقرّت بذلك العيون! وشفيت بذلك النفوس ، وثلجت أفئدة أقوام كانوا لقتل عثمان كارهين ولعدوّه مفارقين ولكم موالين وبك راضين! فإن رأيت أن تبعث إلينا أميرا زكيّا طيّبا ذا عفاف ودين! يدعو (وليس يغزو!) إلى الطلب بدم عثمان ، فعلت : فإنّي لا أخال الناس إلّا مجمعين عليك! فإنّ ابن عباس غائب عن الناس! والسلام.

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٢٧ ـ ٣٢٩ عن المدائني.

٣١٨

فلمّا وصل كتابه إلى معاوية وقرأه قال : لا عزمت على رأي سوى ما كتب به هذا إليّ ، وأجابه :

أمّا بعد ، فقد قرأت كتابك فعرفت نصيحتك ، وقبلت مشورتك ، فرحمك الله وسدّدك! فاثبت ـ هداك الله ـ على رأيك الرشيد هذا! فكأنّك بالرجل الذي سألت قد أتاك ، وكأنّك بالجيش قد أطلّ عليك ، فسررت وحبيت وقبلت! والسلام (١).

ورأى معاوية أن يكتب بذلك إلى ابن العاص بمصر يستطلع رأيه في ذلك ، فكتب إليه :

من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص ، سلام عليك ، أمّا بعد ، فإنّي قد رأيت رأيا وهممت بإمضائه ، ولم يخذلني عنه إلّا استطلاع رأيك ، فإن توافقني أحمد الله وامضيه! وإن تخالفني فاستخير الله وأستهديه ، إنّي نظرت أمر أهل البصرة فوجدت عظم أهلها لنا وليّا ولعليّ و «شيعته» عدوّا! فقد أوقع بهم عليّ الوقعة التي علمت (الجمل) فأحقاد تلك الدماء ثابتة في صدورهم لا تبرح ولا تريم (تزول) وقد علمت أنّ قتلنا محمّد بن أبي بكر أطفأت نيران أصحاب علي في الآفاق! ورفعت رءوس «أشياعنا» أينما كانوا من البلاد! وقد بلغ من كان بالبصرة على مثل رأينا ما بلغ الناس ، وليس أحد ممّن يرى رأينا أكثر عددا ولا أضرّ خلافا على عليّ من أولئك!

فقد رأيت أن أبعث إليهم عبد الله بن عامر الحضرمي (٢) فينزل في مضر ، ويتودّد الأزد ، ويحذر ربيعة ، وينعى دم عثمان بن عفان ، ويذكّرهم وقعة عليّ بهم ، التي أهلكت صالحي آبائهم وإخوانهم وأبنائهم! وعند ذلك أرجو أن يفسدوا على عليّ و «شيعته» ذلك الثغر من الأرض! وإذا اتوا من أمامهم وخلفهم يضل سعيهم ويبطل كيدهم!

__________________

(١) الغارات ٢ : ٣٨٥ ـ ٣٨٦ متنا وهامشا.

(٢) مشابها لاسم واليهم السابق عن عثمان ابن خالته : عبد الله بن عامر بن كريز الفهري.

٣١٩

فهذا رأيي ، فما رأيك؟ ولا تحبس رسولي إلّا قدر مضيّ الساعة التي ينتظر فيها جواب كتابي هذا! أرشدنا الله وإياك! والسلام عليك ورحمة الله وبركاته!

فأجابه ابن العاص : أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك فقرأته وفهمت رأيك الذي رأيته ، فعجبت له وقلت : إنّ الذي ألقاه في روعك وجعله في نفسك هو الثائر لابن عفّان والطالب بدمه ، وإنّه لم يك منّا ولا منك ولا رأى الناس رأيا أضرّ على عدوّك ولا أسرّ لوليّك من هذا الأمر الذي ألهمته ، منذ نهضنا في هذه الحروب ونادينا أهلها! فأمض رأيك مسدّدا ، وقد وجّهت الأريب الصليب الناصح غير الظنين ، والسلام (١).

ابن الحضرمي في البصرة :

فلمّا وصله كتاب عمرو كتب كتابا لأهل البصرة مع ابن الحضرمي ثمّ دعاه فقال له : يا ابن الحضرمي ، سر إلى البصرة ، فإنّ جلّ أهلها يرون رأينا في عثمان ويعظّمون قتله ، وقد قتلوا في الطلب بدمه فهم موتورون حنقون لما أصابهم ، ودّوا لو يجدون من يدعوهم ويجمعهم وينهض بهم في الطلب بدم عثمان! وانزل في مضر واحذر ربيعة وتودّد الأزد ، فإنّ الأزد كلّهم معك إلّا قليلا منهم ، واحذر من تقدّم عليه! وانع عثمان بن عفان وذكّرهم الوقعة التي أهلكتهم (الجمل) ومنّ لمن سمع وأطاع دنيا لا تفنى! وأثرة لا يفقدها حتّى يفقدنا أو نفقده.

فقال له ابن الحضرمي : أنا سهمك في كنانتك ، وأنا من قد جرّبت ، عدوّ أهل حربك وظهيرك على قتلة عثمان ، فوجّهني إليهم متى شئت! فقال له : اخرج غدا إن شاء الله وأعطاه كتابه إلى أهل البصرة ، ثمّ ودّعه وخرج من عنده.

__________________

(١) الغارات ٢ : ٣٧٦ ـ ٣٧٨ بسنده.

٣٢٠