موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

ودرع الإمام ثانية :

مرّ الخبر عن الغلول بدرع طلحة بعد الجمل ، على يد عبد الله بن القفل التميمي ، ورجوعها إلى الإمام. ولما انطلق الإمام بجيشه من الكوفة أو النخيلة إلى صفّين وكان على بعير أسمر إذ خرّت درع له فرفعها نصرانيّ هناك ، ورآها الإمام عليه‌السلام بيده فطالبه بها فأبى عليه ، فخاصمه إلى القاضي شريح بن هانئ ، فلما نظر شريح إلى الإمام قام ليتنحّى عن مجلسه فقال له : مكانك ، وجلس إلى جنبه وقال : أما لو كان خصمي مسلما ما جلست إلّا معه ، ولكنّه نصراني ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذ كنتم وإيّاهم في طريق فألجئوهم إلى مضايقه وصغّروا بهم كما صغّر الله بهم ، في غير أن تظلموا» ثمّ قال علي عليه‌السلام لشريح : إن هذه درعي لم أبع ولم أهب. فقال شريح للنصراني : ما يقول أمير المؤمنين؟ قال النصراني : ما الدرع إلّا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب!

فالتفت شريح إلى علي عليه‌السلام وقال : يا أمير المؤمنين ، هل من بيّنة؟ قال : لا ـ فلعلّ هذه الدرع غير السابقة. فقضى القاضي بها للنصراني ، فقام بها ومشى قليلا ثمّ عاد فقال : أما أنا فأشهد أنّ هذه أحكام النبيين ، أمير المؤمنين يمشي بي إلى قاضيه ، وقاضيه يقضى عليه! فأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله. يا أمير المؤمنين ، الدرع والله درعك خرّت من بعيرك في طريقك إلى صفّين.

فقال له الإمام : أما إذا أسلمت فهي لك! ووهبه فرسا! خرج عليه معه لقتال النهروان (١).

وكان آخر من ودّع أبا موسى : الأحنف التميمي أخذ بيده وقال له : يا أبا موسى ، اعرف خطر هذا الأمر واعلم أنّ له ما بعده ، وأنك إن أضعت العراق

__________________

(١) الغارات ١ : ١٢٤ ـ ١٢٥.

٢٢١

فلا عراق! فاتّق الله ، فإنها تجمع لك دنياك وآخرتك. وإذا لقيت غدا عمرا فلا تبدأه بالسلام ، فإنها وإن كانت سنة إلّا أنه ليس من أهلها ، ولا تعطه يدك فإنّها أمانة. وإياك أن يقعدك على صدر الفراش فإنها خدعة! ولا تلقه وحده ، واحذر أن يكلّمك في بيت فيه مخدع تخبأ فيه الرجال والشهود!

ثمّ أراد أن يختبر ويبلو ما في نفسه لعليّ عليه‌السلام فقال له : فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي! فخيّره أن يختار أهل العراق من قريش الشام من شاءوا ، فإنّهم يولّونا الخيار فنختار من نريد! وإن أبوا فليختر أهل الشام من قريش العراق من شاءوا فإن فعلوا كان الأمر فينا!

فلم يتحاشى أبو موسى ما سارّه به الأحنف التميمي وإنما قال له : قد سمعت ما قلت!

فرجع الأحنف إلى الإمام عليه‌السلام وقال له : يا أمير المؤمنين ، والله لقد أخرج أبو موسى زبدة سقائه في أول مخضة! فلا أرى أنا بعثنا إلّا رجلا لا ينكر خلعك!

وكأنّ ذلك كان عند التقائه بعمرو بن العاص وأصحابه ، وقد كان الإمام عليه‌السلام أوصى شريحا بكلمات إلى ابن العاص قال : إن لقيته فقل له : إن عليّا يقول لك : إنّ أفضل الخلق عند الله من كان العمل بالحقّ أحبّ إليه وإن نقصه! وإن أبعد الخلق من الله من كان العمل بالباطل أحبّ إليه وإن زاده! يا عمرو ، والله إنك لتعلم أين موضع الحقّ ، فلم تتجاهل؟! أبأن أوتيت طمعا أو طعما يسيرا فكنت لله ولأوليائه عدوّا فو الله كأنّ ما اوتيت قد زال عنك! فلا تكن للخائنين خصيما ولا للظالمين ظهيرا! أما إني أعلم أنّ يومك الذي أنت فيه نادم هو يوم وفاتك ، وسوف تتمنّى أنّك لم تضمر لمسلم عداوة ولم تأخذ على حكم رشوة!

فلما أبلغه ذلك في مجلس خاصّ تمعّر وجهه وتغيّر وقال : ومتى كنت أقبل من عليّ مشورة ، أو انيب إلى أمره وأعتدّ برأيه؟ فقال شريح : يا ابن النابغة :

٢٢٢

وما يمنعك أن تقبل من مولاك وسيد المسلمين بعد نبيّهم مشورته؟ لقد كان من هو خير منك أبو بكر وعمر يستشيرانه ويعملان برأيه! فقال : إن مثلي لا يكلّم مثلك! فقال شريح : بأيّ أبويك ترغب عن كلامي ، بأبيك الحليف الدخيل أم بأمّك النابغة؟! فقام وانصرف (١).

الحكمان لموعد رمضان :

مرّ خبر كتاب التحكيم وفيه «أجل القضية إلى شهر رمضان» للسنة نفسها ، فلما قرب الموعد (٢) اختار إمام الأبرار شريح بن هانئ الحارثي الهمداني ومعه أربعمائة رجل من قومه ليكونوا مع أبي موسى الأشعري ، والكوفيون وإن لم يقبلوا بابن عمّ الإمام : عبد الله بن العباس حكما عنهم ، ولكنه عليه‌السلام بعث به يلي أمورهم ويصلّي بهم وليس أبو موسى (٣)!

فجهّز شريح بن هانئ : أبا موسى جهازا حسنا ليشرّفه ويعظّم أمره في الناس وفي قومه (٤)!

فلما أراد السير قام شريح فأخذ بيد أبي موسى وقال له : يا أبا موسى ، إنّك قد نصبت لأمر عظيم لا يجبر صدعه ولا يستقال فتقه أو : ولا تستقال فلتته ،

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٤٢ ـ ٥٤٣ رواها النضر بن صالح عن شريح الحارثي في غزوة سجستان ، ولعلّه تذكّرها وذكرها لابن صالح عند هلاك ابن العاص وانتشار الخبر عن ندمه الشديد عند احتضاره كما قال الإمام عليه‌السلام.

(٢) وفي اليعقوبي ٢ : ١٩٠ : في شهر ربيع الأول سنة (٣٨ ه‍) ، وفي الطبري ٥ : ٧١ عن الواقدي : في شعبان سنة (٣٨ ه‍) وهما خلاف موعد كتاب التحكيم.

(٣) وقعة صفين : ٥٣٣.

(٤) وقعة صفين : ٥٣٥.

٢٢٣

ومهما تقل شيئا لك أو عليك يثبت حقه وير صحّته وإن كان باطلا! وإنه لا بقاء لأهل العراق إن ملكها معاوية! و (لكن) لا بأس على أهل الشام إن ملكها عليّ! وقد كانت منك تثبيطة أيام قدمت الكوفة ، فإن تشفعها بمثلها يكن الظنّ بك يقينا والرجاء منك يأسا!

فقال أبو موسى : ما ينبغي لقوم اتهموني أن يرسلوني لأدفع عنهم باطلا أو أجرّ إليهم حقا!

فقال شريح : والله لقد تعجّلت رجال مساءتنا في أبي موسى وطعنوا عليه بسوء الظن ، والله عاصم منه إن شاء الله (١).

فقال الإمام عليه‌السلام : يا أحنف ، إن الله بالغ أمره! قال : فمن ذلك نجزع يا أمير المؤمنين (٢)!

وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة رجل (٣) مع شرحبيل بن السّمط الكندي في ذلك الخيل ، فشايعه حتّى إذا أمن من خيل أهل العراق قال في وداعه : يا عمرو ، إنك رجل من قريش ، وإنّ معاوية لم يبعثك إلّا ثقة بك ، وإنك لن تؤتى من عجز ولا مكيدة! وقد عرفت أني قد وطّأت لك ولصاحبك هذا الأمر ، فكن عند ظنّنا بك! ثمّ انصرف (٤).

ولما كانوا في أذرح ، كان يجيء رسول معاوية إلى عمرو بن العاص فلا يدري في أي شيء جاء ولا بأيّ شيء ذهب ، ولا يسمعون حول صاحبهم أي كلام أو لغط.

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٣٤ ، وصدره في الإمامة والسياسة ١ : ١٣٣.

(٢) وقعة صفين : ٥٣٦ ـ ٥٣٧ ، وصدره في الإمامة والسياسة ١ : ١٣٤.

(٣) وقعة صفين : ٥٣٣.

(٤) وقعة صفين : ٥٣٦ ، وفي الإمامة والسياسة ١ : ١٣٥.

٢٢٤

أمّا إذا كتب الإمام بشيء إلى الأشعريّ أتاه أهل الكوفة فسألوه عنه فيكتمهم ، فيقولون له : كتمتنا ما كتب به إليك ، إنما كتب بكذا وكذا (١) وكتب معاوية إلى رجال من قريش : أن أقدموا علي ، فأتاه عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن صفوان الجمحي ، وأبي الجهم بن حذيفة العدوي ، وعبد الرحمن الزهري ورجال آخرين من قريش : أن قد وضعت الحرب أوزارها ، والتقى الرجلان بدومة الجندل ، فاقدموا علي.

فأتوه ومنهم المغيرة فقال له : يا مغيرة ما ذا ترى؟ قال : عليّ أن آتيك بأمر الرجلين ، ثمّ ركب إلى دومة الجندل فدخل على أبي موسى زائرا فقال له : يا أبا موسى ، ما تقول في من كره الدماء فاعتزل هذا الأمر؟ قال : اولئك خيار الناس! خفّت ظهورهم من دمائهم وخمصت بطونهم من أموالهم!

ثم زار عمرا فقال له : يا أبا عبد الله ، ما تقول في من كره الدماء فاعتزل هذا الأمر؟ قال : اولئك شرار الناس! لم يعرفوا حقا ولم ينكروا باطلا!

فرجع المغيرة إلى معاوية وقال له : قد ذقت الرجلين : أما عمرو فهو صاحبك الذي تعرف ، وقد ظن الناس أنه يرومها لنفسه وأنه لا يرى أنك أحقّ بهذا الأمر منه! وأما عبد الله بن قيس : فخالع صاحبه وجاعلها لرجل لم يشهد هذا الأمر وهواه في عبد الله بن عمر (٢) فكان رأي أبي موسى ـ كما قال المغيرة ـ في ابن عمر (صهره) وكان يقول : والله لو استطعت لاحيينّ سنة عمر (٣)!

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٣٣.

(٢) وقعة صفين : ٥٣٩ ـ ٥٤٠.

(٣) وقعة صفين : ٥٣٤.

٢٢٥

حوار الحكمين :

فأرسل معاوية القرشيين القادمين إليه أخيرا : عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن هشام ، وعبد الرحمن بن الأسود الزهري ، والمغيرة بن شعبة ، وأبا الجهم بن حذيفة العدوي ليشهدوا التحكم ، وكان عبد الله بن عمرو حاضرا مع أبيه ابن العاص. وصرّح الأشعري بشعور ضميره لصهره عبد الله بن عمر قال لعمرو : يا عمرو ، هل لك في أمر هو للأمة صلاح ، ولصلحاء الناس رضا؟ نولّي هذا الأمر عبد الله بن عمر ، الذي لم يدخل في شيء من هذه الفتنة ولا هذه الفرقة؟ فقال له عمرو : فأين أنت عن معاوية؟! ألست تعلم أن عثمان قتل مظلوما؟ قال : بلى! قال لهؤلاء الشهود : اشهدوا! ثمّ قال : فما يمنعك من معاوية وليّ عثمان؟ وبيته في قريش ما قد علمت! فإن كنت تخشى أن يقول الناس : ولى معاوية وليست له سابقة ، فإنّ لك حجّة في ذلك تقول : إني وجدته وليّ عثمان الخليفة المظلوم ، والطالب بدمه ، الحسن السياسة! الحسن التدبير! وهو أخو أمّ حبيبة أمّ المؤمنين زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (ولعلّه أخذها من الأسير العراقي الأودي) وقد صحبه فهو أحد الصحابة! ثمّ إنّ ولي هو الأمر أكرمك كرامة لم يكرمك أحد مثلها قط! (تطميع خاصّ).

فقال أبو موسى : اتّق الله يا عمرو! أما ذكرك شرف معاوية ، فإنّ هذا الأمر ليس يولّاه أهله على الشرف ، ولو كان على الشرف كان أحقّ الناس بهذا الأمر : أبرهة بن الصباح الحميري (؟!) ولو كنت أعطيه أفضل قريش شرفا لأعطيته عليّ بن أبي طالب (فلا يعطيه)! وإنما هو لأهل الفضل في الدين!

وأما قولك : إنّ معاوية وليّ عثمان فولّه هذا الأمر ، فإني لم أكن أولّيه معاوية وأدع المهاجرين الأوّلين!

وأما تعريضك لي بالولاية والسلطان : فو الله لو خرج لي معاوية من سلطانه ما ولّيته ، فإني ما كنت لأرتشي في الله! ولكنّك إن شئت أحيينا سنّة عمر بن الخطاب!

٢٢٦

فقال عمرو : إن كنت تريد أن نبايع ابن عمر ، فما يمنعك من ابني (عبد الله) وأنت تعرف صلاحه وفضله؟! هذا وعبد الله ابنه حاضر وناظر ، وبمرأى ومسمع منه.

فقال الأشعري : إن ابنك رجل صدق! ولكنّك قد غمسته في هذه الفتنة! ولكن إن شئت ولّينا هذا الأمر الطيّب ابن الطيّب عبد الله بن عمر!

فقال عمرو : إن هذا الأمر لا يصلح له إلّا رجل يأكل ويطعم وإن عبد الله ليس هناك (١).

وقال عمرو : يا أبا موسى ، إنه ليس أهل العراق بأوثق بك من أهل الشام لغضبك لعثمان وبغضك للفرقة! وقد عرفت حال معاوية في قريش وشرفه في عبد مناف! وهو ابن هند وابن أبي سفيان! فما ترى؟!

قال الأشعري : أما ثقة أهل الشام بي فكيف يكون ذلك وقد ... (٢).

وأما غضبي لعثمان : فنعم ، ولو شهدته لنصرته!

وأما بغضي للفتن : فقبّح الله الفتن ، وأما معاوية : فليس بأشرف من عليّ ، فرجع عمرو عنه مغموما.

وكان مع ابن العاص ابن عمّ له شاب فسمعه يقول شعرا :

يا عمرو إنك للأمور مجرّب

فارفق ، ولا تقذف برأيك أجمع

فاخلع معاوية بن حرب خدعة

يخلع عليّا ساعة ، وتصنّع

تلك الخديعة إن أردت خداعه

والراقصات إلى منى ، خذ أودع

فاغتنمها عمرو وأخذ يقدّم الأشعري في الكلام ويقول له : إنك قد صحبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبلي ، وأنت أكبر منّي ، فتكلّم ثمّ أتكلّم ... فعوّده أن يقدّمه

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٤٠ ـ ٥٤٢.

(٢) وقعة صفين : ٥٤٤ ـ ٥٤٥.

٢٢٧

في كلّ شيء ، وإنما اغترّه بذلك ليقدّمه فيبدأ بخلع علي. أراده عمرو لمعاوية فأبى ، فأراده على ابنه فأبى ، وأراده الأشعري لصهره عبد الله فأبى عمرو ، ثمّ قال له : أخبرني ما رأيك؟ قال : رأيي أن أخلع هذين الرجلين عليّا ومعاوية ثمّ نجعل الأمر شورى بين المسلمين يختارون من أحبّوا ومن شاءوا! فقال عمرو : الرأي ما رأيت (١)!

تحكّم الحكمين :

وألقى أبو موسى إلى الناس : إنّ رأيي ورأي عمرو قد اتّفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر هذه الأمة. وكذلك أوعز عمرو ، فاجتمع الناس.

فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون ... فقال عمرو : يا أبا موسى تكلّم. فتقدّم أبو موسى ليتكلّم ، فدعاه ابن عباس فقال له : ويحك! إني لأظنّه قد خدعك! إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدّمه قبلك فيتكلّم بذلك الأمر قبلك ثمّ تكلّم أنت بعده ، فإنّ عمرا رجل غدّار! ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه فإذا قمت به في الناس خالفك! فقال أبو موسى : إيها عنك ، إنّا قد اتّفقنا!

ثمّ تقدّم فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : يا أيّها الناس ؛ إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمّة فلم نر شيئا هو أصلح لأمرها وألمّ لشعثها من أن لا تتباين أمورها! وقد أجمع رأيي ورأي صاحبي عمرو على خلع عليّ ومعاوية! وأن نستقبل هذا الأمر فيكون شورى بين المسلمين فيولّون من أحبّوا! وإني قد خلعت عليا ومعاوية! فاستقبلوا أمركم وولّوا من رأيتم لها أهلا! ثمّ تنحّى فقعد.

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٤٤ ـ ٥٤٥.

٢٢٨

فقام عمرو بن العاص مقامه فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : إنّ هذا قال ما سمعتم وخلع صاحبه! وأنا أخلع صاحبه كما خلعه (ولكنّي) أثبت صاحبي معاوية ، فإنّه وليّ عثمان والطالب بدمه وأحقّ الناس بمقامه (١)!

فقال له أبو موسى : ما لك لا وفّقك الله قد غدرت وفجرت! وإنّما مثلك (كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ)(٢).

فقال له عمرو : وإنما مثلك (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً)(٣).

وصاح ابن عباس : قبّح الله أبا موسى ، أمرته بالرأي فما عقل!

فقال أبو موسى : قد حذّرني ابن عباس غدرة الفاسق! ولكنّي اطمأننت إليه وظننت أنه لن يؤثر شيئا على نصيحة الأمّة (٤)!

وقام سعيد بن قيس الهمداني فقال لهما : والله لو اجتمعتما على الهدى ما زدتمانا على ما نحن عليه الآن ، وما ضلالكما بلازمنا ، وما رجعتما إلّا بما بدأتما ، وإنا اليوم لعلى ما كنا عليه بالأمس (٥).

وحمل شريح بن هانئ على عمرو بسوطه فقنّعه به ، فقام ابن أبي موسى إليه فضربه بسوطه ، وقام الناس فحجزوا بينهما (٦).

__________________

(١) وفي اليعقوبي ٢ : ١٩٠ : قد ثبّت معاوية كما ثبّت خاتمي هذا في يدي. وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٥١ : وقد خلعته كما خلعت نعلي هذه! عن أبي مخنف.

(٢) الأعراف : ١٧٦.

(٣) الجمعة : ٥.

(٤) وقعة صفين : ٥٤٥ ـ ٥٤٦.

(٥) وقعة صفين : ٥٤٧.

(٦) وقعة صفين : ٥٤٦.

٢٢٩

وقال يزيد بن أسد القسري من قوّاد معاوية : يا أهل العراق! اتّقوا الله ، فإنّ أهون ما يردّنا وإياكم الحرب إليه ما كنا بالأمس عليه من الفناء! وقد أصبح كلّ امرئ يبكي على قتيل! وقد شخصت الأبصار إلى الصلح وأشرفت الأنفس على البقاء ، إنّه ليس لوحدكم الرضا ، فما لكم رضيتم بأوّل أمر صاحبكم (الأشعري) وكرهتم آخره (١)؟!

والتمس أصحاب عليّ أبا موسى فركب ناقته ولحق بمكة (٢)!

ورجع عمرو إلى منزله فجهّز راكبا إلى معاوية يخبره بالأمر (٣)!

ورجع ابن عباس وشريح بن هانئ الحارثي الهمداني إلى علي عليه‌السلام (٤).

فكان علي عليه‌السلام إذا صلّى الغداة والمغرب يقنت ويقول في قنوتهما : «اللهم العن معاوية وعمرا وأبا موسى ، وحبيب بن مسلمة ، والضحاك بن قيس ، والوليد بن عقبة ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد».

فلما بلغ ذلك معاوية كان يقنت فيلعن عليا والحسن والحسين! وابن عباس وقيس بن سعد (٥).

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٤٨.

(٢) وقعة صفين : ٥٤٦.

(٣) وقعة صفين : ٥٤٧.

(٤) وقعة صفين : ٥٤٦.

(٥) وقعة صفين : ٥٥٢ ، وأنساب الأشراف ٢ : ٣٥٠ ـ ٣٥٢ عن أبي مخنف وعوانة بن الحكم بإسنادهما. وفي الطبري ٥ : ٧٠ ـ ٧١ عن أبي مخنف.

٢٣٠

أخبار خوارج النهروان (١)

تحكيم الحكم وخروج الخوارج :

في أوّل رمضان من عهد علي عليه‌السلام بعد الجمل وقبل صفّين في سنة (٣٦ ه‍) حصل أول تمرّد على أمر أمير المؤمنين بترك الجماعة في نوافل الليالي (التراويح) وخشى أن يقول الناس : فرّق بين أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فتركهم مخافة الفرقة.

ولما أهلّ هلال شهر رمضان سنة سبع وثلاثين ، خرج معاوية من دمشق في أربعمائة من أصحابه حتّى نزل دومة الجندل ، وسرّح يزيد بن الحرّ العبسي إلى الإمام عليه‌السلام يعلمه نزوله دومة الجندل ويسأله الموافاة ... وكان أبو موسى قد قدم إلى

__________________

(١) هو نهر واسع يبدأ من الجبال المجاورة لبلدة شهر زور في شمال العراق ويقال لأسفله النهروان في لواء ديالى شرقي بغداد ، بالموضع المعروف بالرميلة مروج الذهب ٢ : ٤٠٥. ـ على أربعة فراسخ (ـ ٢٢ كم) من بغداد شرقا ـ مجمع البحرين.

٢٣١

بعض نواحي (الكوفة) فاستقدمه ، وبعث إلى ابن عباس بالبصرة فأقدمه ، ثمّ وجّه بهما في خيل (١) مع شريح بن هانئ الحارثي الهمداني.

فلما أراد أن يبعث بهم للحكومة دخل عليه حرقوص بن زهير السعدي التميمي مع زرعة بن البرج الطائي ، فقال له حرقوص : ارجع عن قضيّتك (بالتحكيم) وارجع بنا إلى عدوّنا نقاتلهم.

فقال الإمام عليه‌السلام : قد أردتكم على ذلك فعصيتموني ، وقد كتبنا بيننا وبينهم كتابا وشرطنا شروطا ، وأعطينا عليها عهودنا ومواثيقنا ، وقد قال الله عزوجل : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ)(٢).

فقال حرقوص : ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه! فتب من خطيئتك وارجع عن قضيّتك.

فقال الإمام عليه‌السلام : ما هو ذنب ، ولكنّه عجز في الرأي وضعف في العقل ، وقد تقدّمت إليكم فيما كان منه ونهيتكم عنه ... فاتّقوا الله عزوجل فإنّ الشيطان قد استهواكم ، إنّه لا خير لكم في دنيا تقاتلون عليها! فخرجا من عنده يقولان : لا حكم إلّا لله (٣)!

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣٤٦ عن المدائني ، عن التنوخي ، عن ابن مهران يحدث عمر بن عبد العزيز. وفيه : ٣٥٠ ، وفي تاريخ الطبري ٥ : ٦٦ كلاهما عن أبي مخنف : قدم عليه معن بن يزيد السلمي ، فما هنا في الأعلى.

(٢) النحل : ٩١.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٧٢ عن أبي مخنف ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٥٩ ، الحديث ٤٣١ عن الشعبي وزاد : حمزة بن سنان الأسدي ، وشريح بن أوفى العبسي ، وعبد الله بن شجرة

٢٣٢

اجتماعهم وبيعتهم :

كان ذلك ما رواه أبو مخنف ، وقال الشعبي : لما قال لهم علي عليه‌السلام : لقد فارقنا القوم على شيء فلا يجوز نقضه! انصرف القوم من فورهم إلى منزل عبد الله بن وهب الراسبي ـ وكان معهم ـ فذكروا من أصيب من أصحابهم في صفين مثل عمار بن ياسر العبسي ، وهاشم بن عتبة المرقال الزهري ، وخزيمة بن ثابت الأنصاري ، وأبي الهيثم بن التيهان وأشباههم ، وذكروا أمر الحكمين ، وكفّروا من رضي بالحكومة ، وبرئوا من علي عليه‌السلام (١).

وخطبهم الراسبي ذو الثفنات فقال : أما بعد ، فو الله ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن وينيبون إلى حكم القرآن : أن تكون هذه الدنيا التي الرّضا بها والركون إليها والإيثار إيّاها عناء وتبار ـ آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحقّ! وإن منّ وضرّ ، فإنه من يمنّ ويضرّ في هذه الدنيا فإن ثوابه يوم القيامة رضوان الله عزوجل والخلود في جناته.

فاخرجوا بنا ـ إخواننا ـ من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن ، منكرين لهذه البدع المضلّة!

ثمّ خطبهم حرقوص فقال : إنّ المتاع بهذه الدنيا قليل ، والفراق لها وشيك ، فلا تدعونّكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها ، ولا تلفتنّكم عن طلب الحقّ وإنكار الظلم ، فإن الله مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون.

فقال حمزة الأسدي : يا قوم ، إنّ الرّأي ما رأيتم ، فولّوا أمركم رجلا منكم ، فإنّه لا بدّ لكم من عماد وسناد وراية تحفّون بها وترجعون إليها.

__________________

ـ السلمي وعبد الله بن وهب الراسبي ذا الثفنات ، وفروة بن نوفل الأشجعي. وكلام الإمام شهادة فيهم أنهم كانوا يريدون الدنيا ولم يكونوا مخلصين.

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ ، الحديث ٤٣٢.

٢٣٣

فعرضوها على زيد بن حصين الطائي فأبى ، وعلى حرقوص بن زهير فأبى ، وعلى حمزة بن سنان فأبى ، وعلى شريح بن أوفى فأبى ، فعرضوها على عبد الله بن وهب فقال : هاتوها ، فبايعوه. وكان ذلك ليلة الجمعة لعشر خلون من شوال (١).

اجتماعهم وخروجهم :

ثم اجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي ، فقال لهم الراسبي : اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها لإنفاذ حكم الله!

فقال شريح العبسي : نخرج إلى المدائن فننزلها ونخرج منها سكّانها ونأخذ بأبوابها ، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيقدمون علينا!

فقال زيد الطائي : إنكم إن خرجتم مجتمعين اتّبعوكم (فمنعوكم) ولكن اخرجوا وحدانا مستخفين (وليس إلى المدائن) فإنّ بها من يمنعكم ، ولكن سيروا حتّى تنزلوا جسر (النهروان) واكتبوا إلى إخوانكم من أهل البصرة.

فتوافقوا على هذا ، وكتب عبد الله الراسبي إلى من منهم بالبصرة يعلمهم ما اجتمعوا عليه (٢).

«أما بعد فإنّ أهل دعوتنا حكّموا الرجال في أمر الله ، ورضوا بحكم القاسطين على عباده ، فخالفناهم ونابذناهم ، نريد بذلك الوسيلة إلى الله. وقد اتّعدنا بجسر النهروان ، وأحببنا إعلامكم لتأخذوا بنصيبكم من الأجر ، والسلام».

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٧٥ ـ ٧٦ ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٢ ، الحديث ٤٣٤ كلاهما عن أبي مخنف ، ولكنه قال : لعشر بقين من شوال ، وفيه : ٣٦١ عن الشعبي : خلون منه ، فهو الصحيح. وصدر الخبر وأكثره في الإمامة والسياسة ١ : ١٤١.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٣ وتاريخ الطبري ٥ : ٧٥ كلاهما عن أبي مخنف.

٢٣٤

فجاءهم جوابهم : «أما بعد ، فقد بلغنا كتابكم وفهمنا ما ذكرتم ، وقد وهبنا لكم الرأي الذي جمعكم الله عليه من الطاعة وإخلاص الحكم لله ، وإعمالكم أنفسكم فيما يجمع الله به كلمتكم! وقد أجمعنا على المسير إليكم عاجلا».

وكانوا قد اجتمعوا في منزل حرقوص ليلة الخميس (الثامن من شهر شوال) فقال بعضهم : نخرج الليلة القابلة : ليلة الجمعة ، فقال لهم حرقوص : بل أقيموا ليلة الجمعة تتعبدون لربكم وتوصون فيها بوصاياكم ، ثمّ اخرجوا ليلة السبت مثنى ووحدانا لا يشعر بكم (١).

وأرسل عديّ الطائي إلى سعد بن مسعود الثقفي عامل علي عليه‌السلام على المدائن يحذّره منهم ، فاستخلف بها ابن أخيه المختار بن أبي عبيد الثقفي وأمره بحراسة أبواب المدائن ، وسار هو في خمسمائة فارس في طلبهم ، وعلم بخبره عبد الله الراسبي فسار على بغداد ، ولحقهم سعد بن مسعود عند المساء فاقتتلوا ساعة ثمّ تمانعوا منهم ، فلما جنّ عليهم الليل عبر الراسبي دجلة إلى أرض جوخى ثمّ إلى النهروان فوصل إلى أصحابه ، وردّ أهل الكوفة جماعة منهم كرها (٢). وبعث الإمام إليهم : أن سيروا إلى حيث شئتم ولا تفسدوا في الأرض فإني غير هائجكم ما لم تحدثوا حدثا (٣).

ولحقهم خوارج البصرة :

وكأن كتاب الراسبي من الكوفة كان إلى مسعر بن فدكيّ التميمي البصري ، وجمعهم الرجل خمسمائة فارس ، وجعل لهم مقدمة جعل عليهم الأشرس بن عوف

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٧٦ عن أبي مخنف.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٧ عن أبي مجلز ، فلم يتبعهم ولم يمنعهم.

٢٣٥

الشيباني ، وخرجوا. وكان ابن عباس قد رجع إليها من الشام ، وعلم بهم فضمّ خيلا إلى أبي الأسود الدؤلي وأمره أن يتبعهم فعسى أن يردّهم أو يمنعهم ، ولحقهم عند الجسر الأكبر (؟) فتواقفوا حتى الليل ، فلما أدلج الليل أدلج مسعر بأصحابه يتعرض بمن يعترض له (١).

وكانت بلدة «بهرسير ـ بهردشير» من أهم بلدان المدائن «طيسفون» وكان عليها عديّ بن الحرث الشيباني ، وعلم باقتراب ابن عمّه أشرس بن عوف الشيباني البصري بمقدمة خوارج البصرة (٢) فخرج عديّ ليمنعهم ، فقاتله أشرس فطعنه وقال : خذها من ابن عمّ لو لا نصرة الحقّ كان بك ضنينا (٣) (بخيلا) ثمّ أدلجوا منه ليلحقوا بالنهروان.

والذين قدم منهم مع مسعر استعرضوا الناس في طريقهم (٤) فكان ممّن قتلوه سواديّ (رجل من أهل سواد العراق غير عربي) التقوا به بناحية نفّر (٥).

خوارج البصرة وتمرة وخنزيرة ودماء :

روى الطبري عن أبي مخنف ، عن ابن هلال (٦) عن رجل من عبد قيس البصرة كان قد خرج معهم ثمّ فارقهم (٧) قال : لما دنا خوارج البصرة من أصحابهم

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٧٦ ـ ٧٧ عن أبي مخنف.

(٢) لعلّهم كانوا مائتين ؛ لأنه قال : توجّه مسعر بثلاثمائة. وقد مرّ الخبر أنهم كانوا خمسمائة.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦١ عن الشعبي.

(٤) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٧.

(٥) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٨.

(٦) تاريخ الطبري ٥ : ٨١.

(٧) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٩ الحديث ٤٣٨.

٢٣٦

بالنهروان حلّوا بناحية قرية (١) ، وخرج جمع منهم فإذا هم برجل يسوق بامرأة على حمار ، ثمّ علم أنها امرأته وهي حامل مقرب ومعها أمّ سنان الصيداوية الصحابية وثلاث نسوة من طيّئ ، وكانوا في المعبر الآخر من النهر فعبر هؤلاء إليهم فأفزعوهم حتّى سقط ثوب الرجل لما أفزعوه ، وقالوا له : من أنت؟ قال : أنا عبد الله بن خبّاب بن الأرت صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (وكان أبوه خبّاب مات قريبا بالكوفة) ثمّ أهوى إلى ثوبه يتناوله من الأرض ، فقالوا له : أفزعناك؟ قال : نعم. قالوا : فلا روع عليك! فحدّثنا عن أبيك بحديث سمعه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلّ الله ينفعنا به!

فقال : نعم ، حدثني أبي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن «ستكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه ، يصبح فيها مؤمنا ويمسي كافرا ، ويمسي فيها مؤمنا ويصبح كافرا» قالوا : لهذا الحديث سألناك (٢) فما تقول في عليّ قبل التحكيم وبعده؟ قال : إنه أعلم منكم بالله وأنفد بصيرة وأشدّ توقيا على دينه! فقالوا له : إنك توالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها وتتبّع الهوى ، والله لنقتلنّك قتلة ما قتلناها أحدا! وأخذوه فكتّفوه ، ثمّ أقبلوا به وبامرأته والنسوة معها حتّى نزلوا تحت نخيل حوامل برطبها ، فسقطت رطبة منها فأخذها بعضهم وقذفها في فيه ، فقال له رجل منهم

__________________

(١) بل في قرية كسكر كورة بين البصرة وبغداد بل العمارة والكوت قرب واسط كما في أطلس تاريخ الإسلام خارطة : ٦١ و ٦٢ ، وانظر شرح النهج ٢ : ٢٧٥ عن الكامل للمبرّد وانفرد الحلبي في المناقب ٣ : ٢١٨ : أنه كان عامل الإمام على النهروان! ولا يصح.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٨١ وهنا فيه بين كماشتين سؤال عن قوله في أبي بكر وعمر وعثمان ، فيقول فيهم خيرا! ثمّ يعلق المحقق : أنها زيادة من ابن الأثير والنويري! ويخلو منها أنساب الأشراف فأكملناه منه.

٢٣٧

أبغير ثمن ولا حلّ! فألقاها الرجل! فمرّ بهم ذمي ومعه خنزيرة له فاخترط أحدهم سيفه وقتلها ، فقال له آخر : إنّ هذا لمن الفساد في الأرض! فاتّجه إلى الذمي صاحب الخنزيرة حتّى أرضاه!

فلما رأى ذلك عبد الله بن خبّاب قال لهم : لئن كنتم صادقين فيما أرى وأسمع فإني لآمن من شرّكم!

فأقاموه وذهبوا به حتّى ألقوه على الخنزير المقتول على شفير النهر فذبحوه وسال دمه في الماء!

ثمّ أقاموا امرأته ليقتلوها وهي تناديهم : أما تتقون الله؟ إنما أنا امرأة! فبقروا بطنها!

ثمّ قتلوا النسوة الثلاث اللواتي كنّ معها (١) من طيّئ ، وأمّ سنان الصيداوية الصحابية (٢).

وكتب إليهم الإمام عليه‌السلام :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من عبد الله علي أمير المؤمنين ، إلى زيد بن حصين (الطائي) وعبد الله بن وهب (الراسبي) ومن معهما من الناس ، أما بعد ، فإن هذين الرجلين الذين ارتضينا حكمهما قد خالفا كتاب الله ، واتّبعا أهواءهما بغير هدى من الله ، فلم يعملا بالسنة ، ولم ينفّذا للقرآن حكما ، فبرئ الله ورسوله منهما والمؤمنون! فإذا بلغكم كتابي هذا فأقبلوا فإنا سائرون إلى عدوّنا وعدوّكم ، ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه ، والسلام».

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٨.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٨٢ ، والإمامة والسياسة ١ : ١٤٦ ـ ١٤٧.

٢٣٨

وجاءه جوابهم : «أما بعد ، فإنك لم تغضب لربّك ؛ إنما غضبت لنفسك! فإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة ، نظرنا فيما بيننا وبينك ، وإلّا فقد نابذناك على سواء (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ)» (١).

وروى البلاذري ، عن أبي مخنف ، عن ابن هلال عن رجل من عبد قيس البصرة كان معهم ثمّ فارقهم قال : كتب الإمام عليه‌السلام إليهم : «أما بعد ، فإني اذكّركم أن تكونوا (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً)(٢) بعد أن أخذ الله ميثاقكم على الجماعة وألّف بين قلوبكم على الطاعة ، وأن تكونوا (كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ)(٣)».

فكتب إليه ابن وهب : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)(٤) إنّ الله بعث محمّدا بالحقّ وتكفّل له بالنصر ليبلّغ رسالاته ، ثمّ توفّاه الله إلى رحمته ، وقام بالأمر بعده أبو بكر بما قد شهدته وعاينته ، متمسكا بدين الله مؤثرا لرضاه حتى أتاه أمر ربّه ، فاستخلف عمر ، فكان من سيرته ما أنت عالم به ، لم تأخذه في الله لومة لائم ، وختم الله له بالشهادة. وكان من أمر عثمان ما كان حتّى سار إليه قوم فقتلوه لمّا آثر الهوى وغيّر حكم الله.

ثمّ استخلفك الله على عباده ، فبايعك المؤمنون إذ كنت عندهم أهلا لذلك ، لقرابتك من الرسول ، وقدمك في الإسلام. ووردت صفين غير وان ولا مداهن ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٧٧ ـ ٧٨ عن أبي مخنف ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٦١ عن الشعبي مختصرا.

(٢) الروم : ٣٢.

(٣) آل عمران : ١٠٥.

(٤) الرعد : ١١.

٢٣٩

مبتذلا نفسك في مرضاة ربك. فلما حميت الحرب وذهب الصالحون : عمار بن ياسر ، وأبو الهيثم ابن التيهان وأشباههم ، اشتمل عليك من لا فقه له في الدين ولا رغبة له في الجهاد مثل الأشعث بن قيس وأصحابه ، واستنزلوك حتّى ركنت إلى الدنيا حين رفعت لك المصاحف مكيدة! فتسارع إليهم الذين استنزلوك ، وكانت منّا في ذلك هفوة ، ثمّ تداركنا الله منه برحمته ، فحكّمت في كتاب الله وفي نفسك! فكنت في شكّ من دينك وضلال عدوّك وبغيه عليك!

كلّا والله يا ابن أبي طالب فكأنك (ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً)(١) وقلت : لي قرابة من الرسول وسابقة في الدين ، فلا يعدل الناس بي معاوية! فالآن فتب إلى الله وأقرّ بذنبك ، فإن تفعل (نجب دعوتك لنا و) نكن يدك على عدوّك ، وإن أبيت ذلك فالله يحكم بيننا وبينك (٢).

فلما قرأ كتابهم أيس منهم ، فرأى أن يدعهم ويمضي بالناس إلى أهل الشام فيناجزهم (٣).

وفي ذي القعدة من هذه السنة (٣٧ ه‍) بايع أهل الشام لمعاوية بالخلافة (٤)!

وكان عبيد الله بن العباس عامل الإمام عليه‌السلام على مخاليف اليمن فأمره الإمام بالحجّ بالناس. وكان عامله على مكة والطائف أخوه قثم ، وعلى المدينة أخوه تمّام (٥) ، وهو أعلن المسير إلى الشام.

__________________

(١) الفتح : ١٢.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٣٧٠ ، الحديث ٤٣٨.

(٣) الطبري ٥ : ٧٨.

(٤) تاريخ خليفة : ١١٥.

(٥) الطبري ٥ : ٩٢ ـ ٩٣.

٢٤٠