موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٢٠

١
٢

٣
٤

٥
٦

أهم حوادث

السنة السابعة للهجرة

٧
٨

أمر خيبر (١) :

مرّ في أخبار أواخر شهر رمضان سنة ست أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بلغه أن أمير خيبر الجديد اسير بن رزام يجمع الجموع من غطفان لحربه ، فأرسل إليه سريّة في شوال فقتلوه وأصحابه خارج خيبر. وعلقت عليه أنه يصلح أن يكون الباعث لحرب خيبر ، بالإضافة الى مشاركتهم من قبل في حرب الأحزاب.

كتبه إلى يهود خيبر :

وفي الفتح المعنوي والسياسي في صلح الحديبية نزلت «سورة الفتح» كما مرّ خبره ، وهي ببسملتها ثلاثون آية ، اختتمت بالتأكيد على رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومثل الذين معه في التوراة والانجيل ، فكأن ذلك اقتضى ـ لدى النبيّ ـ أن يحتجّ بها على مركز يهود الحجاز في خيبر ، فكتب إليهم :

__________________

(١) خيبر : نحو الشام على بعد مائة وعشرين كم ، كما في جزيرة العرب في القرن العشرين : ٢٤.

٩

«بسم الله الرحمنِ الرحيم. من محمد رسول الله صاحب موسى وأخيه المصدّق لما جاء به. ألا إن الله قال لكم ـ يا معشر أهل التوراة ـ وانكم لتجدون ذلك في كتابكم : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(١).

واني انشدكم بالله وبما أنزل عليكم ، وانشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المنّ والسلوى ، وانشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى انجاكم من فرعون وعمله إلّا أخبرتموني : هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمد؟!

فان كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا كره عليكم (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) فأدعوكم الى الله ونبيّه» (٢) وبقي الكتاب بلا جواب.

ورواية اخرى رواها البيهقي عن ابن عباس ، ولعلها رسالة دعوة ثانية بعد الاولى :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم. من محمد رسول الله أخي موسى وصاحبه ، بعثه الله بما بعثه به. اني انشدكم بالله وما أنزل على موسى يوم طور سيناء ، وفلق البحر لكم فانجاكم وأهلك عدوكم ، وأطعمكم المنّ والسلوى ، وظلّل عليكم الغمام هل تجدون في كتابكم : أني رسول الله إليكم والى الناس كافة؟! فان كان ذلك كذلك فاتقوا الله وأسلموا.

__________________

(١) الفتح : ٢٩.

(٢) مكاتيب الرسول ١ : ١٧٤ عن كنز العمال ٥ : ٣٨٥.

١٠

وان لم يكن عندكم فلا تباعة عليكم» (١) وبلا جواب كذلك!

ولذلك وللمرة الثالثة اتماما للحجة أنذرهم فأعذر بأنّه بحول الله وقوته سيورثه الله أرضهم لتكون لمن يشاء من عباده : «من محمد بن عبد الله ، الاميّ ، رسول الله إلى يهود خيبر :

أمّا بعد ، فإن الارض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين ، ولا حول ولا قوة الّا بالله العلي العظيم».

ورد هذا في كتاب «الاختصاص» المنسوب الى الشيخ المفيد (٢) ، مرفوعا الى ابن عباس : أن جبرئيل أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يكتب الى أهل الكتاب ـ يعني اليهود والنصارى ـ كتابا ، وأملى جبرئيل عليه‌السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كتابه ، وكاتبه يومئذ سعد بن ابي وقاص ، فكتب الى يهود خيبر بهذا الكتاب ... ووجّهه إليهم.

فلما وصل الكتاب إليهم أتوا به رئيسا لهم يقال له عبد الله بن سلام (٣).

التهيؤ للغزو :

وكأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد هذه الدعوات المكرّرة ثلاثا اتماما للحجة وإعذارا وانذارا ، وبعد أن أقام ـ كما قال الواقدي ـ لذلك بقية ذي الحجة والمحرم من سنة سبع ، أمر أصحابه بالتهيؤ للغزو ، فهم مجدّون لذلك (٤).

__________________

(١) مكاتيب الرسول ١ : ١٧٢ عن السنن الكبرى ١٠ : ١٨٠.

(٢) للتحقيق في ذلك انظر مقالات السيد محمد جواد الشبيري الزنجاني في المجلة الفارسية «نور علم» العدد ٤٠ و ٤٢.

(٣) قيل : ان اسمه كان الحصين ، وأسلم في السنة الثانية فسماه رسول الله عبد الله. وعليه فلا يصحّ هذا الخبر بطوله راجع الاختصاص : ٤٢ ـ ٥١.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٦٣٤.

١١

وكان أبو عبس بن جبر من فقراء أصحابه فقال له : ما عندنا نفقة ولا زاد ولا ثوب نخرج فيه. فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثوبا سابغا طويلا ، باعه بثمانية دراهم وابتاع بنصف ثمنه بردة ، ودرهمين تمرا ، وترك درهمين نفقة لاهله.

فرآه رسول الله ليس عليه ثوبه فسأله : أين الشقة التي كسوتك؟ فقال : بعتها بثمانية دراهم ، واشتريت بردة بأربعة دراهم ، وتزودت تمرا بدرهمين ، وتركت درهمين نفقة لأهلي. فضحك رسول الله ثم قال : يا أبا عبس ، والذي نفسي بيده لئن سلمت وأصحابك من الفقراء وعشتم قليلا ، ليكثرنّ زادكم وما تتركون لأهليكم ، وليكثرن دراهمكم وعبيدكم ، وما ذاك بخير لكم! (١)

وقد كان جماعة منهم تخلّفوا عنه في الحديبية وأرجفوا به وبالمسلمين ... وجاءوا اليوم يريدون أن يخرجوا معه رجاء الغنيمة ، فقالوا له : إن خيبر ريف الحجاز طعاما ولحما وأموالا ، فنخرج معك إليها؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تخرجوا معي الّا راغبين في الجهاد ، وأما الغنيمة فلا.

ثم بعث مناديا ينادي : لا يخرجن معنا الا راغب في الجهاد ، وأما الغنيمة فلا.

موقف يهود المدينة :

قال : وحين تجهّز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الى خيبر أصبح يهود المدينة يقولون للمسلمين : ما أمنع والله خيبر منكم! لو رأيتم خيبر وحصونها ورجالها لرجعتم قبل أن تصلوا إليهم ، هم في حصون شامخات في ذرى الجبال ، والماء فيها واتن (لا ينقطع) وان فيها لألف دارع ، وما كانت أسد وغطفان يمتنعون من العرب قاطبة الا بهم ، أفأنتم تطيقون خيبر؟! فيقول لهم الأصحاب : ان الله قد وعد نبيّه أن يغنّمه ايّاها (٢).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٣٥ ، ٦٣٦.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٣٧.

١٢

وأصبح اليهود الذين لهم حقّ على بعض المسلمين يلزمونهم باداء حقوقهم. وكان من ذلك : أن عبد الله الأسلمي كان قد أخذ لأهله شعيرا من أبي الشحم اليهودي بخمسة دراهم ، فلزمه بها ، فقال له الأسلمي : إنّ الله عزوجل قد وعد نبيّه ان يغنمه خيبر ، فأجّلني فإني ارجو أن ارجع إليك فأقضيك حقك ان شاء الله. فقال له ابو الشحم : أتحسب أنّ قتال خيبر مثل ما تلقونه من الاعراب؟! إنّ فيها عشرة آلاف مقاتل ، والتوراة! فقال الأسلمي : أي عدو الله تخوّفنا بعدوّنا وأنت في ذمّتنا وجوارنا؟! والله لأرفعنّك الى رسول الله! فترافعا إليه. فقال الأسلمي : يا رسول الله ، ألا تسمع الى ما يقول هذا اليهودي؟ وأخبره خبره. فقال اليهودي : يا ابا القاسم ، ان هذا قد أخذ طعامي وحبسني حقي وظلمني.

فقال رسول الله : يا عبد الله ، اعطه حقه. فباع عبد الله ثوبه وأعطاه حقه (١).

خروج النسوة إلى خيبر :

روى الواقدي بسنده عن اميّة بنت قيس الغفارية قالت : جئت رسول الله في نسوة من بني غفار فقلنا : يا رسول الله ، انا نريد أن نخرج معك في وجهك هذا فنداوي الجرحى ، ونعين المسلمين بما استطعنا؟

فقال رسول الله : على بركة الله ... واردفني رسول الله على حقيبة رحله (٢).

وخرج مع رسول الله من المدينة عشرون امرأة : مولاته أم أيمن ، ومولاته الاخرى سلمى امرأة مولاه ابي رافع القبطي ، وزوجته أمّ سلمة ، وعمته صفية بنت

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٣٤ ، ٦٣٥.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٥ ورواه ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٥٧ بنفس السند قال : عن امرأة من بني غفار قد سمّاها لي قالت ...

١٣

عبد المطلب (مع ابنها الزبير بن العوّام) وامرأة عاصم بن عدي مع زوجها عاصم وكانت حاملا مقربا ، وأمّ عمارة نسيبة بنت كعب الخزرجية ، وأم عامر الاشهلية ، وأمّ عطية الأنصارية ، وأم العلاء الأنصارية ، وأم الضحاك بنت مسعود الحارثية ، وأمّ سليم بنت ملحان (١) ، وأم سليط ، وأم شباث وهي أم منيع ، وهند بنت عمرو بن حزام (٢) وامرأة عبد الله بن انس وهي حبلى مقرب مع زوجها (٣) ، وأم مطاع الأسلمية ، وكعيبة بنت سعد الأسلمية (٤).

وروى بسنده عن أمّ سنان الاسلمية قالت : لما أراد رسول الله الخروج جئته فقلت : يا رسول الله اخرج معك في وجهك هذا أخرز السقاء واداوي المرضى وانظر الرحل؟ فقال : اخرجي على بركة الله ، فانّ لك صواحب قد كلّمنني واذنت لهن ، من قومك ومن غيرهم ، فان شئت فمع قومك وان شئت فمعنا؟ قلت : فمعك. قال : فكوني مع أمّ سلمة زوجتي. فكنت معها (٥).

المسير نحو خيبر :

قال : واستخلف رسول الله على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري (٦) وخرج

__________________

(١) وهي أم أنس بن مالك. ابن هشام ٣ : ٣٥٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٥.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٦.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٥.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٦ ، ٦٨٧.

(٦) مغازي الواقدي ٢ : ٦٣٦ و ٦٣٧ و ٦٨٤ وفي سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٢ : نميلة بن عبد الله الليثي.

١٤

الى خيبر في صفر سنة سبع ، ويقال : لهلال ربيع الاول (١). فسلك ثنية الوداع (٢) ثم اخذ على الزّغابة ، ثم على نقمى ، ثم سلك المستناخ ... ثم خرج على عصر (جبل) وبه مسجد (٣) ، وانتهى الى الصهباء فصلى بها العصر. ثم دعا بالاطعمة فاتي بالتمر والسويق فأكلوا. ثم قام الى المغرب من دون ان يجدد وضوءه (٤) ثم صلى العشاء.

وكان قد خرج معهم دليلان من أشجع (٥) : حسيل بن خارجة وعبد الله بن نعيم ، فدعا النبيّ بهم فقال لحسيل : امض أمامنا حتى تأخذنا في صدور الوديان حتى نأتي خيبر من بينها وبين الشام فأحول بينهم وبين الشام وبين حلفائهم من غطفان. فقال حسيل : نعم ، أنا أسلك بك الى ذلك. فسلك به حتى انتهى الى موضع مفترق طرق فقال : يا رسول الله هنا طرق كلّها يؤتى منها. فقال النبيّ : سمّها لي. فسمّى : الحزن والحاطب والشاش ، وقال النبيّ : لا تسلكها ، فقال : لم يبق لها إلّا

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٣٤ بينما قال ابن اسحاق : خرج في بقية المحرم ٣ : ٣٤٢. وقال الطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٨١ : لما قدم النبي المدينة من الحديبية مكث بها عشرين ليلة. وفي اعلام الورى ١ : ٢٠٧ : في ذي الحجة سنة ست. وكذلك في قصص الأنبياء : ٣٤٧ ويقول ابن اسحاق : وكان فتح خيبر في صفر ، ويستشهد لذلك بقول ابن لقيم العبسي في شعره في خيبر :

ولقد علمت ليغلبنّ محمد

وليثوينّ بها الى أصفار

وأصفار جمع صفر يريد بها شهر صفر ٣ : ٣٥٥ ، ٣٥٦.

(٢) لا ننسى أنها كانت نحو الشام لا مكة ، فالمشرق لا الجنوب.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٣٨. وقال ابن اسحاق : سلك رسول الله على عصر فبني له فيها مسجد ، ثم على الصهباء ... حتى نزل بالرجيع ـ سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٤.

(٤) خلافا لمن زعم ان الطعام ناقض للوضوء.

(٥) وفيهم يهود وكان منهم نعيم بن مسعود الاشجعي.

١٥

طريق واحدة اسمها مرحب ، قال النبي : نعم ، اسلكها. وذلك أنه كان يكره الطيرة والاسم القبيح ويحب الفأل والاسم الحسن (١).

موقف يهود خيبر :

قال : وحيث أحسّ يهود خيبر بمسير رسول الله ، قال لهم اليهودي ابو زينب الحارث : ابرزوا له وعسكروا خارج حصونكم ، فإني قد رأيت من سار إليه من اهل الحصون لم يكن لهم بقاء بعد أن حاصرهم حتى نزلوا على حكمه ، فمنهم من قتل صبرا ومنهم من سبي! فقالوا : ان حصوننا هذه منيعة في ذرى الجبال ، فهي ليست مثل تلك الحصون. وثبتوا في حصونهم (٢).

وقدم أعرابي من أشجع أيضا المدينة بسلعة يبيعها فيها ، فلما وجده يهود المدينة بعثوه الى كنانة بن ابي الحقيق يخبرونه بقلة المسلمين وقلة خيلهم وسلاحهم ، ويقولون لهم : اصدقوهم الحرب ، ينصرفوا عنكم ، فانه لم يلق قوما يحسنون القتال ، وقد سرت قريش والعرب بمسيره إليكم ، لما يعلمون من جودة حصونكم وكثرة عددكم وسلاحكم وموادّكم ... فان ظفر محمد فهو ذلّ الدهر!

ومع الاعرابي ابن عم له يسمع كل هذا ، فقال له كنانة : اذهب فاعترض الطريق فانهم لا يستنكرون مكانك فادن منهم واحرزهم لنا ، ثم الق إليهم كثرة عددنا ومادّتنا ، وعجل الرجعة إلينا بخبرهم (٣).

فلما سلك النبيّ طريق مرحب قدّم عباد بن بشر طليعة له ، فعثر على هذا الأعرابي من أشجع ، فسأله : من أنت؟ قال : أنا رجل من أشجع أتّبع آثار أبعرة لي

__________________

(١) اي كره أن يتطير من معه من العرب بالأسماء القبيحة ، وهو أيضا يكرهها.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٣٧.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤١ وانظر ٦٤٢.

١٦

قد ضلّت. فقال عبّاد : ألك علم بخيبر؟ قال : نعم ، أنا حديث عهد بها ، ففيم تسألني عنه؟ قال عن اليهود. قال : نعم ، انّ هوذة بن قيس وكنانة بن أبي الحقيق قد ساروا في حلفائهم من غطفان فاستنفروهم وجعلوا لهم تمر خيبر سنة ، فجاؤوا يقودهم عتبة ابن بدر معدّين مؤيدين بالسلاح والكراع ودخلوا معهم في القلاع ، وفيها عشرة آلاف مقاتل ، وهم أهل الحصون التي لا ترام ، وسلاح كثير وطعام لو حصروا سنين لكفاهم ، وماء واتن (دائم) في حصونهم ، فلا أرى لأحد طاقة بهم.

فقال له عبّاد بن بشر : ما أنت الا عين لهم ، ورفع سوطه وضربه ضربات وهو يقول : اصدقني والا ضربت عنقك! فقال الاعرابي : أفتؤمني على أن أصدقك؟ قال : نعم. فحكى له الاعرابي قصته وقال : القوم مرعوبون منكم خائفون وجلون مما صنعتم بيهود يثرب.

فأتى عباد به النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم فأخبره خبره ، فقال عمر بن الخطاب : اضرب عنقه! فقال عبّاد : قد جعلت له الأمان ، فقال رسول الله أمسكه معك. فأوثقه رباطا (١).

وقالوا : لما سار كنانة بن أبي الحقيق في غطفان حلفوا له ، وترأّسهم عيينة بن حصن ، وهم أربعة آلاف ، ودخلوا مع اليهود في حصون النطاة ، وذلك قبل قدوم رسول الله بثلاثة ايام (٢). وسار الدليل برسول الله فسلك به بين الحياض والسرير

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٠ ، ٦٤١ وتمام الخبر : فلما دخل رسول الله خيبر عرض عليه الاسلام وقال له : اني داعيك ثلاثا فان لم تسلم لم يخرج الحبل من عنقك الا صعدا! فأسلم الرجل.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٠ هذا وقد قال ابن اسحاق : بلغني أن غطفان لما سمعت بمنزل رسول الله من خيبر جمعوا له وخرجوا ليظاهروا اليهود عليه ، وساروا مرحلة فسمعوا أو أحسوا شيئا في اهليهم وأموالهم فخلّوا بين رسول الله وبين خيبر ورجعوا على أعقابهم فأقاموا في اهليهم وأموالهم. سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٤. ومثله في الخرائج والجرائح ١ : ١٦٤ ، الحديث ٢٥٣.

١٧

(أدنى وديان خيبر) ثم نهض فسلك به بين الشقّ والنطاة حتى أشرف به على خيبر ، فقال لأصحابه : قفوا. ثم قال لهم : قولوا : اللهم ربّ السموات السبع وما أظلّت ، وربّ الارضين السبع وما أقلّت ، وربّ الرياح وما ذرت ، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها (١). ثم سار حتى انتهى الى المنزلة ، فعرّس بها ساعة من الليل ... فلما نزل رسول الله بساحتهم لم يتحركوا تلك الليلة ... حتى طلعت الشمس ...

وأصبح اليهود ، ففتحوا حصونهم وخرجوا (لأعمالهم) ومعهم المساحي والمكايل والفؤوس ... فلما نظروا الى رسول الله قد نزل بساحتهم ولّوا هاربين راجعين الى حصونهم ، وجعل رسول الله يقول : الله اكبر ، خربت خيبر! انا اذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين! (٢).

بين اليهود وحلفائهم :

ولما قدم رسول الله خيبر أرسل سعد بن عبادة الى قائد غطفان في حصن ناعم ، فلما انتهى سعد الى الحصن ناداهم : إني اريد أن اكلم عيينة بن حصن. فأراد عيينة أن يدخله الحصن فقال مرحب : لا تدخله فيرى خلل حصننا ويعرف نواحيه التي يؤتى منها ، ولكن تخرج إليه. فقال عيينة : لقد أحببت أن يدخل فيرى حصانته ويرى عددا كثيرا! فأبى مرحب أن يدخله. فخرج عيينة الى باب الحصن. فقال له سعد : إنّ رسول الله أرسلني إليك يقول : إنّ الله قد وعدني خيبر ، فارجعوا

__________________

(١) رواه ابن اسحاق بسنده في السيرة ٣ : ٣٤٣. وعنه المفيد في الارشاد ١ : ١٢٤ والطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٨١ وعنه في بحار الأنوار ٢١ : ١. ونقله الحلبي في المناقب ١ : ٢٠٤ عن الواقدي.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤١ ـ ٦٤٣. وابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٤٣ ، ٣٤٤ بسندين عن أنس بن مالك.

١٨

وكفّوا : فان ظهرنا عليها فلكم تمر خيبر سنة (كما وعدهم اليهود). فقال عيينة : انا والله ما كنا لنسلم حلفاءنا لشيء ، وانا لنعلم مالك ولمن معك بما هاهنا طاقة ، هؤلاء قوم أهل حصون منيعة ، ورجال عددهم كثير ، وسلاح ، ان اقمت هلكت ومن معك ، وان أردت القتال عجّلوا عليك بالرجال والسلاح. ولا والله ، ما هؤلاء كقريش ، قوم ساروا إليك ، ان اصابوا غرة منك فذاك الذي أرادوا ، والا انصرفوا. وهؤلاء يماكرونك الحرب ويطاولونك حتى تملّهم! فقال سعد بن عبادة : اشهد ليحصرنّك في حصنك هذا حتى تطلب الذي كنا عرضنا عليك فلا نعطيك الا السيف ، وقد رأيت ـ يا عيينة ـ من قد حللنا بساحته من يهود يثرب كيف مزّقوا كل ممزّق!

ثم رجع سعد الى رسول الله فأخبره بما قال ، وقال : يا رسول الله ، ان الله منجز لك ما وعدك ، ومظهر دينه ، فلا تعط هذا الاعرابي تمرة واحدة ، يا رسول الله ، لئن أخذه السيف ليسلّمنهم وليهربنّ الى بلاده كما فعل ذلك في الخندق قبل اليوم.

ثم أمر رسول الله مناديه أن ينادي أصحابه : أن اصبحوا على راياتكم عند حصن ناعم الذي فيه غطفان. فنادى منادي رسول الله بذلك ، فرعبوا من ذلك يومهم وليلتهم.

فلما كان بعد هدأة (ثلث الليل) سمعوا صائحا يصيح (١) في تلك الليلة : يا معشر غطفان ؛ الحقوا حيّكم ، فقد خولفتم إليهم! فركبوا من ليلتهم وصاروا في الغد الى حيّهم فوجدوهم سالمين (٢). وسألوهم : هل راعكم شيء؟ قالوا : لا والله ... فقال عيينة لأصحابه! هذه من مكائد محمد وأصحابه ، خدعنا والله! ثم أقاموا في أهلهم أياما ، ثم دعا عيينة أصحابه للرجوع الى نصر يهود خيبر ، فجاءه الحارث بن

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٠.

(٢) الخرائج والجرائح ١ : ١٦٤ ح ٢٥٣.

١٩

عوف وقال له : يا عيينة ، أطعني وأقم في منزلك ودع نصر اليهود ، مع أني لا أراك ترجع الى خيبر الا وقد فتحها محمد ، ولا آمن عليك (١).

وكان كنانة بن أبي الحقيق في حصن الكتيبة فلما أصبح اخبر بانصرافهم ، فسقط في يديه وذلّ وأيقن بالهلكة وقال : كنّا من هؤلاء الأعراب في باطل ، انا سرنا فيهم فوعدونا بالنصر وغرّونا ، ولعمري لو لا ما وعدونا من نصرهم ما نابذنا محمدا بالحرب (١).

قبوله المشورة في المنزل :

فلما اصبح جاءه الحباب بن المنذر بن الجموح فقال : يا رسول الله صلى الله عليك ، انك نزلت منزلك هذا ، فإن كان عن أمر امرت به فلا نتكلم فيه ، وإن كان الرأي تكلمنا؟ فقال رسول الله : بل هو الرأي.

فقال : يا رسول الله ، دنوت من الحصن ونزلت بين ظهري النخل والنزّ ، مع أن أهل النطاة لي بهم معرفة ، ليس قوم أبعد مدى منهم ولا أغدر منهم ، وهم مرتفعون علينا ، وهو أسرع لانحطاط نبلهم ، مع أني لا آمن من بياتهم ، يدخلون في خمر (ستار) النخل. فتحول يا رسول الله الى موضع برئ من النزّ ومن الوباء ، نجعل الحرة بيننا وبينهم حتى لا ينالنا نبلهم (٣). فقال رسول الله : اذا أمسينا تحوّلنا ان شاء الله.

ثم دعا رسول الله محمد بن مسلمة وقال له : انظر لنا منزلا بعيدا من حصونهم بريئا من الوباء ، نأمن فيه بياتهم. فطاف محمد حتى انتهى الى وادي الرجيع (قرب خيبر) (٤).

__________________

(١) و (٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥١.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٣.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٤.

٢٠