موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

خطبة الإمام بالمسير إلى الشام :

«الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدث الجليل! وأشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله. أمّا بعد ، فإنّ معصية الناصح الشفيق المجرّب تورث الحسرة وتعقب الندم. وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وهذه الحكومة بأمري ، ونخلت لكم رأيي «لو كان لقصير رأي» ولكنّكم أبيتم إلّا ما أردتم ، فكنت وأنتم كما قال أخو هوازن :

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى

فلم يستبينوا الرشد إلّا ضحى الغد

ألا إن هذين الرجلين الذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم الكتاب وراء ظهورهما ، وارتأيا الرأي من قبل أنفسهما ، فأماتا ما أحيا القرآن وأحييا ما أمات القرآن ، ثمّ اختلفا في حكمهما ، فكلاهما لم يرشد ولم يسدّد ، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين.

فاستعدّوا للجهاد وتأهّبوا للمسير ، وأصبحوا في معسكركم ـ يوم الاثنين إن شاء الله (١) ـ بالنخيلة ، وإنما حكّمنا من حكّمنا ليحكما بالكتاب ، وقد علمتم أنّهما حكما بغير الكتاب وبغير السنة ، فو الله لأغزونّهم ولو لم يبق أحد غيري لجاهدتهم» وأمر بعطاء الناس (٢) وسار في المحرم لسنة ثمان وثلاثين (٣). واستعمل على الكوفة : هانئ بن هوذة النخعي (٤).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٥ ، الحديث ٤٣٦ ، وتاريخ الطبري ٥ : ٧٧ كلاهما عن أبي مخنف ، وفي نهج البلاغة خ ٣٥ ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٠.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ١٤٣.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٢.

(٤) أنساب الأشراف ٢ : ٣٧٥.

٢٤١

الإمام في معسكر النخيلة :

ولما عسكر الإمام في النخيلة كتب إلى ابن عباس بالبصرة : «أما بعد ، فإنا قد خرجنا إلى معسكرنا بالنخيلة ، وقد أجمعنا على المسير إلى عدوّنا من أهل المغرب (الشام) فاشخص بالناس حين يأتيك رسولي ، وأقم حتّى يأتيك أمري ، والسلام» وبعث به مع عتبة بن الأخنس السعدي البكري.

وخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد ، فإنه من ترك الجهاد في الله وأدهن في أمره كان على شفا هلكة ، إلّا أن يتداركه الله بنعمة. فاتقوا الله وقاتلوا من حادّ الله وحاول أن يطفئ نور الله ، قاتلوا الخاطئين الضالين «القاسطين المجرمين» الذين ليسوا بقرّاء للقرآن ولا فقهاء في الدين ، ولا علماء في التأويل ، ولا أهل سابقة في الإسلام ، والله لو ولوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل!

تيسّروا وتهيّئوا للمسير إلى عدوّكم من أهل المغرب (الشام).

وقد بعثنا إلى إخوانكم من أهل البصرة ليقدموا عليكم ، فإذا قدموا فاجتمعتم شخصنا إن شاء الله ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله (١).

ابن عباس والناس بالبصرة :

فلمّا وصله الكتاب دعا الأحنف بن قيس التميمي وأخبره وأمّره ، ثمّ قرأ الكتاب على الناس وأمرهم بالشخوص مع الأحنف ، فشخص منهم ألف وخمسمائة رجل ، فاستقلّهم ابن عباس ، فدعا جارية بن قدامة السعدي التميمي وأخبره وأمّره.

ثمّ خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم : أما بعد يا أهل البصرة ، فإنه جاءني أمر أمير المؤمنين يأمرني بإشخاصكم ، فأمرتكم بالنفير إليه مع الأحنف بن قيس ، فلم يشخص معه منكم إلّا ألف وخمسمائة ، وأنتم ستون ألفا ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٧٨ عن أبي مخنف ، وفي الإمامة والسياسة ١ : ١٤٤.

٢٤٢

سوى أبنائكم وعبدانكم ومواليكم! ألا فانفروا مع جارية بن قدامة السعدي ، ولا يجعلنّ رجل على نفسه سبيلا! فإني موقع بكلّ من وجدته متخلّفا عن مكتبه عاصيا لإمامه؟ وقد أمرت أبا الأسود الدؤلي بحشركم ، فلا يلم رجل جعل السبيل على نفسه إلّا نفسه!

فخرج جارية فعسكر ، وخرج أبو الأسود فحشر الناس ، فاجتمع إلى جارية ألف وسبعمائة.

ولم يزل الإمام بالنخيلة حتّى وافاه هذان الجيشان من البصرة ، ثلاثة آلاف ومائتا رجل (١)!

الإمام يستحث أهل الكوفة :

فجمع الإمام عليه‌السلام إليه رءوس أهل الكوفة ورءوس الأسباع ورءوس القبائل ووجوه الناس.

ثمّ حمد الله وأثنى عليه وقال : يا أهل الكوفة ، أنتم إخواني وأنصاري وأعواني على الحقّ! وصحابتي على جهاد عدوّي المحلّين ، بكم أضرب المدبر وأرجو تمام طاعة المقبل.

وقد بعثت إلى أهل البصرة فاستنفرتهم إليكم فلم يأتني منهم إلّا ثلاثة آلاف ومائتا رجل! فأعينوني بمناصحة جليّة خليّة من الغش ... فاستجمعوا بأجمعكم.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٧٨ عن أبي مخنف ، والإمامة والسياسة ١ : ١٤٤. وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٧ : وأتاه جارية بن قدامة في ثلاثة آلاف ، وقيل : خمسة آلاف وقيل أكثر من ذلك. وفي مروج الذهب ٢ : ٤٠٦ : وأتاه من البصرة : عشرة آلاف مع ابن قدامة وابن قيس. وانفرد الدينوري قال : قدم ابن عباس في سبعة آلاف من فرسان البصرة! الأخبار الطوال : ١٩١.

٢٤٣

وإني أسألكم أن يكتب لي رئيس كلّ قوم ما في عشيرته من المقاتلة ، وأبناء المقاتلة الذين أدركوا القتال ، وعبدان عشيرته ومواليهم ، ثمّ يرفع ذلك إلينا.

فقام سعيد بن قيس الهمداني فقال : يا أمير المؤمنين ، سمعا وطاعة ، وودّا ونصيحة ، أنا أوّل الناس جاء بما سألت وبما طلبت.

وقام معقل بن قيس الرياحي التميمي فقال نحوا من ذلك.

وقام عديّ بن حاتم ـ وقد فقئت إحدى عينيه في صفين ، وفرّ ابنه زيد إلى الشام ، وخرج ابن آخر له مع الخوارج ـ وزياد بن خصفة التيمي ، وحجر بن عديّ الكنديّ وأشراف القبائل فقالوا مثل ذلك. ثمّ كتبوا من فيهم ، وأمروا أبناءهم وعبيدهم ومواليهم أن يخرجوا معهم وأن لا يبقى منهم أحد ، فرفعوا إليه : أربعين ألف مقاتل ، وسبعة عشر ألفا ممن أدرك من أبنائهم! وثمانية آلاف من مواليهم وعبيدهم ، وقالوا : يا أمير المؤمنين ، أما من عندنا من المقاتلة وأبناء المقاتلة ممّن قد بلغ الحلم وأطاق القتال فقد رفعنا إليك منهم ذوي القوة والجلد ، وأمرناهم بالشخوص معنا ، ومنهم ضعفاء وهم في ضياعنا وأشياء مما يصلحنا.

فكان جميع من معه : ثمانية وستين ألفا ومائتي رجل : العرب من أهل الكوفة : سبعة وخمسين ، ومن مواليهم ومماليكهم : ثمانية آلاف فجميعهم : خمسة وستين ألفا ، ومن أهل البصرة : ثلاثة آلاف ومائتي رجل (١)!

وكان المقاتلون في المدائن في عداد مقاتلي أهل الكوفة ، وفي المرّة السابقة مرّ الإمام بالمدائن فاستتبعهم معه ، ولكنّه اليوم كتب إلى عامل المدائن سعد بن مسعود الثقفي : أما بعد ، فإني قد بعثت إليك زياد بن خصفة (التيمي) فأشخص معه من قبلك من مقاتلة أهل الكوفة ، وعجّل ذلك إن شاء الله ، ولا قوة إلّا بالله (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٨٠ و ٨٩ عن أبي مخنف ، والإمامة والسياسة ١ : ١٤٥.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٨٠ عن أبي مخنف.

٢٤٤

إلى ابن أبي سفيان أو النهروان؟ :

وبلغ الإمام عليه‌السلام أنّ الناس يقولون : لو سار بنا إلى هؤلاء الخوارج فنبدأ بهم فإذا فرغنا منهم توجّهنا لقتال المحلّين (الناقضين) فخطبهم فقال : أما بعد ، فإنه قد بلغني قولكم : لو أنّ أمير المؤمنين سار بنا إلى هذه الخارجة التي خرجت عليه فبدأنا بهم فإذا فرغنا منهم وجّهنا إلى المحلّين. ألا إن غير هذه الخارجة أهمّ إلينا منهم ، فدعوا ذكرهم ، وسيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبّارين ملوكا ، ويتّخذوا عباد الله خولا (١).

فقام إليه صيفي بن فسيل الشيباني فقال له : يا أمير المؤمنين ، نحن حزبك وأنصارك ، نعادي من عاديت ونشايع من أناب إلى طاعتك ، فسر بنا إلى عدوّك من كانوا وأينما كانوا ، فإنك لن تؤتى من قلة عدد ولا ضعف نية أتباع ، إن شاء الله.

وقام إليه محرز بن شهاب التميمي السعدي فقال له : يا أمير المؤمنين «شيعتك» كقلب رجل واحد في الإجماع على نصرتك والجدّ في جهاد عدوّك ، فأبشر بالنصر ، وسر بنا إلى أيّ الفريقين أحببت ، فإنا «شيعتك» الذين نرجو في طاعتك وجهاد من خالفك صالح الثواب ، ونخاف من خذلانك والتخلّف عنك شدّة الوبال (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٨٠ عن أبي مخنف. وفي مروج الذهب ٢ : ٤٠٤ : خطب الناس فقال : «سيروا إلى قتلة المهاجرين والأنصار ، فإنهم طالما سعوا في إطفاء نور الله وحرّضوا على قتال رسول الله ومن معه! ألا إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمرني بقتال الناكثين وهم أولاء الذين فرغنا منهم ، والمارقين ولم نلقهم بعد ، والقاسطين وهم هؤلاء الذين سرنا إليهم. فسيروا إلى القاسطين فهم أهمّ علينا من الخوارج ، سيروا إلى قوم ...».

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٨٠ ـ ٨١ عن أبي مخنف ، والإمامة والسياسة ١ : ١٤٥ ـ ١٤٦.

٢٤٥

ثمّ بايعوه على كتاب الله وسنّة رسوله والتسليم والرضا (١).

وكان من حملة راية خثعم في صفين ربيعة بن أبي شداد ، فلما تقدم ليبايعه قال له : بايع على كتاب الله وسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال ربيعة : وعلى سنّة أبي بكر وعمر! فقال له الإمام : ويلك لو أنّ أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكونا على شيء من الحقّ! فبايعه ربيعة ، إلّا أن الإمام نظر إليه مرة اخرى وقال له : والله لكأنّي بك وقد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت (معهم) وكأنّي بك وقد وطئتك الخيل بحوافرها (٢)! أو : وكأنّي بحوافر خيلي قد شدخت وجهك (٣)!

المسير والمصير والمنجّم الساحر :

قال ابن قتيبة : فأجمع علي عليه‌السلام والناس على المسير إلى صفّين (٤) وقال أبو مخنف : فأمر فنودي بالرحيل ، وخرج فعبر الجسر إلى القنطرة فصلى فيها ركعتين ، ثمّ رحل فنزل دير عبد الرحمن ، ثمّ دير أبي موسى ، ثمّ أخذ على قرية شاهي ، ثمّ على دباها (٥) من الفلوجة ، ثمّ إلى دممّا في طريق الأنبار (٦)

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٤٦ منفردا بذكر هذا الموقع المناسب.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٧٦ عن أبي مخنف ، وتمامه : فقتل يوم النهروان مع الخوارج.

(٣) الإمامة والسياسة ١ : ١٤٦ عن قبيصة وقال : فرأيته يوم النهروان قتيلا قد وطأت الخيل وجهه وشدخت رأسه ومثّلت به ، فذكرت قول علي وقلت : لله درّ أبي الحسن! ما حرّك شفتيه بشيء قط إلّا كان!

(٤) الإمامة والسياسة ١ : ١٤٦.

(٥) تاريخ الطبري ٥ : ٨٣.

(٦) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٧.

٢٤٦

على شاطئ الفرات (١) وقيل : بل نزل الأنبار (٢).

وكأنّه هنا بلغ الإمام عليه‌السلام ومن معه من المسلمين قتل الخوارج عبد الله بن خبّاب واعتراضهم الناس. فبعث إليهم الحارث بن مرة العبدي ، وكان يوم صفين على رجّالة ميسرته (٣) ليأتيهم فينظر فيما بلغه عنهم ويكتب به إليه.

فخرج حتّى انتهى إلى النهروان فخرج القوم إليه فقتلوه ، وبلغ خبره أمير المؤمنين والناس ، فقام إليه الناس وقالوا : يا أمير المؤمنين ، علام تدع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في أموالنا وعيالنا! سر بنا إلى القوم فإذا فرغنا مما بيننا وبينهم سرنا إلى عدوّنا من أهل الشام. وقام إليه الأشعث الكندي فكلّمه بمثل ذلك ، وحينئذ علم الناس أنه لا يرى رأي الخوارج كما كانوا يرونه. فأجمع الإمام عليه‌السلام على ذلك ، فأمر فنودي بالرحيل إليهم.

فقام إليه منجّم (؟) أشار إليه أن يسير في وقت خاص من النهار وقال : إن سرت في غير ذلك الوقت لقيت أنت وأصحابك ضرّا شديدا! ذلك ما رواه الطبري عن أبي مخنف (٤).

ورواه البلاذري عن أبي مجلز لاحق قال : أتاه مسافر بن عفيف الأزدي فقال له : يا أمير المؤمنين ، لا تسر في هذه الساعة! فقال له : ولم؟ أتدري ما في بطن هذه الفرس؟! قال : إذا نظرت علمت. فقال علي عليه‌السلام : إنّ من يصدقك في هذا القول

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٨٣.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٤٠٤ ، وتذكرة الخواص : ١٤٥ : عن الشعبي عن أبي أراكة : أنه انصرف من الأنبار لقتال الخوارج.

(٣) وقعة صفين : ٢٠٥ وليس هو الحرث بن مرة الذي قتل سنة (٤٢ ه‍) في قيقان من أرض السند كما في أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٨.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ٨٢ عن أبي مخنف.

٢٤٧

يكذّب بكتاب الله ، لأن الله يقول في كتابه : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)(١) فلئن بلغني أنك تنظر في النجوم لاخلّدنك الحبس ما دام لي سلطان ، فو الله ما كان محمّد منجّما ولا كاهنا. وتكلّم في ذلك بكلام كثير (٢). وهذا هو ما رواه الصدوق بسنده ، عن عبد الله بن عوف الأزدي أنه قال : يا أمير المؤمنين ، لا تسر في هذه الساعة ، وسر بعد ثلاث ساعات يمضين من النهار. فقال له أمير المؤمنين : ولم؟

قال : لأنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك أذى وضرّ شديد! وإن سرت في الساعة التي أمرتك ظفرت وظهرت وأصبت كلّ ما طلبت!

فقال أمير المؤمنين : أتدري ما في بطن هذه الدابّة أذكر أم أنثى؟! قال : إن حسبت علمت!

فقال أمير المؤمنين : من صدّقك على هذا القول فقد كذّب بالقرآن! وتلا الآية ثمّ قال : ما كان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله يدّعي ما ادّعيت ، أتزعم أنك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء ، والساعة التي من سار فيها حاق به الضرر؟ من صدّقك بهذا استغنى بقولك عن الاستعانة بالله في ذلك الوجه ، وأحوج إلى الرغبة إليك في دفع المكروه عنه ، وينبغي أن يوليك الحمد دون ربّه عزوجل! ومن آمن لك بهذا فقد اتّخذك من دون الله ضدّا وندّا!

ثمّ دعا فقال : اللهم لا طير إلّا طيرك ، ولا ضير إلّا ضيرك ، ولا خير إلّا خيرك ، ولا إله غيرك. ثمّ التفت إلى المنجّم وقال له : بل نكذّبك ونخالفك ونسير في الساعة التي نهيت عنها (٣).

__________________

(١) لقمان : ٣٤.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٣٦٨ ـ ٣٦٩.

(٣) أمالي الصدوق : ٥٠٠ ، الحديث ١٦ م ٦٤.

٢٤٨

ثمّ أقبل على الناس فقال لهم : أيها الناس ، إياكم وتعلّم النجوم إلّا ما يهتدى به في برّ أو بحر ، فإنها تدعو إلى الكهانة ، والمنجّم كالكاهن ، والكاهن كالساحر ، والساحر كالكافر ، والكافر في النار. سيروا على اسم الله (١).

فكان انصرافه إلى النهروان عن طريق الأنبار إلى الفلوجة إلى المدائن ، وقدّم قبله إليها قيس بن سعد بن عبادة ، وأمره أن يقدم المدائن فينزلها حتى يأمره بأمره ، ثمّ جاء هو مقبلا إليهم ، فاستقبله قيس مع سعد بن مسعود الثقفي عامله على المدائن (٢).

وفي طريقه لقتالهم :

وفي طريقه لقتالهم قال لأصحابه : إذا حدثتكم فيما بيننا عن نفسي فإن الحرب خدعة وإنما أنا رجل محارب ، وإذا حدثتكم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلئن أخرّ من السماء أحبّ إليّ من أن اكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، قولهم من خير أقوال البريّة ، صلاتهم أكثر من صلاتكم ، وقراءتهم أكثر من قراءتكم ، لا يجاوز إيمانهم تراقيهم ـ أو قال : حناجرهم ـ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فاقتلوهم ، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة» ولو لا أن تبطروا فتدعوا العمل

__________________

(١) نهج البلاغة خ ٧٩ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٣ ، وفي الطبري ، عن أبي مخنف قال : فلما فرغ من النهروان قال : لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها المنجم لقال الذين لا يعلمون : سار في الساعة التي أمر بها المنجم فظفر! ونقله المعتزلي الشافعي في شرح النهج ٢ : ٢٦٩ ـ ٢٧٠ عن كتاب صفّين لابن ديزيل ، وانظر تذكرة الخواص : ١٤٥.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٨٣ ، وأنساب الأشراف ٢ : ٣٦٩.

٢٤٩

لحدثتكم بما سبق على لسان رسول الله لمن قتل هؤلاء (١)! أو قال : لو لا أنّني أخاف أن تتّكلوا وتتركوا العمل لأخبرتكم بما قضاه الله على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله في من قاتل هؤلاء القوم مستبصرا بضلالتهم!

وإنّ فيهم لرجلا مودون اليد (دون اليد الطبيعيّة) له ثدي كثديّ المرأة! هم شرّ الخليقة ، وقاتلهم أقرب الخلق إلى الله وسيلة (٢)!

وبلغ معاوية فاستعدّ :

وبلغ معاوية : أن عليّا عليه‌السلام بعد تحكّم الحكمين تحمّل مقبلا إليه ، فكتب وبعث إلى كور الشام نسخة واحدة قرئت عليهم : أما بعد ، فإنا كنا قد كتبنا بيننا وبين علي كتابا وشرطنا فيه شروطا وحكّمنا رجلين ، يحكمان علينا وعليه بحكم الكتاب لا يعدوانه ، وجعلنا عهد الله وميثاقه على من نكث العهد ولم يمض الحكم. وإنّ حكمي الذي حكّمته أثبتني وإن حكمه خلعه ، وقد أقبل (اليوم) إليكم ظالما (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ)(٣). فتجهّزوا للحرب بأحسن الجهاز ، وأعدّوا لها آلة القتال ، وأقبلوا خفافا وثقالا وكسالى ونشّاطا ، يسرّنا الله وإياكم لصالح الأعمال!

فاجتمع إليه ناس فاستشارهم وقال : إن عليا قد خرج إليكم من الكوفة وعهد العاهد به أنّه فارق النخيلة ، فما ترون؟

فقال له حبيب بن مسلمة الفهري : إني أرى أن نخرج حتّى ننزل منزلنا الذي كنا فيه (من صفّين) فإنه منزل مبارك : قد متّعنا الله به وأعطانا من عدونا فيه النصف!

وكان عمرو بن العاص حاضرا فقال : أما أنا فأرى لك أن تسير بالجنود

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٢ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨ عن كتاب صفين للواقدي.

(٢) الإرشاد للمفيد ١ : ٣١٦ ـ ٣١٧.

(٣) الفتح : ١٠.

٢٥٠

حتّى توغلها في سلطانهم من أرض الجزيرة (الموصل) فإن ذلك أقوى لجندك وأذلّ لأهل حربك!

فقال معاوية : والله إني لأعرف أن الرأي هو الذي تقول ، ولكن الناس لا يطيقون ذلك! فو الله إنّ جهد الناس أن يبلغوا منزلهم الذي كانوا به ، يعني صفين.

فمكثوا في ذلك يجيلون الرأي يومين أو ثلاثة ، ثمّ قدمت عليهم عيونهم : أن عليّا اختلف عليه أصحابه ، ففرقة منهم قد أنكرت أمر الحكومة ففارقته لذلك ، وأنه عليه‌السلام قد رجع عنكم إليهم ، فألقى معاوية ذلك إلى أهل الشام فكثر سرورهم بما ألقي من الخلاف بينهم وبانصرافه عنهم.

وكان معاوية قد خرج من دمشق معسكرا خارجها ، فلم يرجع عنه ينتظر لما يكون (١).

وليس فيما بأيدينا من مصادر التاريخ تقديم مقدمة له عليه‌السلام إليهم ، وإنما جاء ذلك فيما نقله المعتزلي الشافعي عن المدائني : أنه عليه‌السلام لمّا كان خارجا إلى الخوارج جاءه رجل ممن كان مع مقدّمته إليهم يركض نحوه حتّى انتهى إليه وأنهى صوته إليه ينادي : البشرى يا أمير المؤمنين! قال : ما بشراك؟ قال : إن القوم لما بلغهم وصولك عبروا النهر ، فأبشر فقد منحك الله أكتافهم! فقال له : الله! أنت رأيتهم قد عبروا! قال : نعم ، فأحلفه ثلاث مرّات ثمّ قال : والله ما عبروه ولن يعبروه (٢) ، وإن مصارعهم لدون النطفة ، والله لا يفلت منهم عشرة ، ولا يهلك منكم عشرة (٣) لن يبلغوا الأثلاث ولا قصر بوازن حتّى يقتلهم الله ، وقد خاب من افترى!

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦١٧ ـ ٦١٨ عن جندب الأزدي عن أبيه.

(٢) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٢ : ٢٧١ ـ ٢٧٢ عن كتاب الخوارج للمدائني.

(٣) نهج البلاغة خ ٥٩ وقال : يعني بالنطفة ماء النهروان وهي كناية فصيحة ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٢.

٢٥١

ثمّ جاء فارس آخر بمثل قول الأوّل ، فلم يكترث الإمام بقوله ، ثمّ جاء فوارس آخرون بمثل ذلك. فلم يكترث بقولهم (١).

وقال المسعودي : أنه عليه‌السلام كان قد أرسل إليهم رسولا يخبره خبرهم وكان من يهود سواد العراق ، فرجع وأخبره : أن القوم قد عبروا نهر طبرستان! ثمّ قال المسعودي : كان على هذا النهر قنطرة تعرف بقنطرة طبرستان بين بغداد وحلوان من بلاد خراسان (ـ ايران) فقال علي عليه‌السلام : والله ما عبروه ولا يقطعونه حتّى نقتلهم بالرميلة دونه! ثمّ تواترت عليه الأخبار بعبورهم لهذا الجسر وهو يأبى ويحلف أنّهم ما عبروه وأنّ مصارعهم دونه وقال : «سيروا إلى القوم ، فو الله لا يفلت منهم عشرة ، ولا يقتل منكم عشرة» فكان كما قال (٢).

والمفيد في «الإرشاد» لم يرشد إلى مصدر معيّن للخبر وإنما قال : روى أصحاب السيرة عن جندب بن عبد الله الأزدي ... وهو حديث مشهور شايع بين نقلة الآثار ، وقد أخبر به الرجل عن نفسه في عهد أمير المؤمنين وبعده ... قال ـ عن مصاحبته للإمام عليه‌السلام في طريق نهروان ـ : خرجت غدوة بإداوة ماء ومعي رمحي وترسي ، حتّى برزت من الصفوف ، ثمّ ركزت رمحي وعلّقت عليه ترسي استتر به من الشمس وجلست بظلّه ، وإذا أقبل إليّ أمير المؤمنين وقال لي : يا أخا الأزد أمعك طهور؟ قلت : نعم ، ثمّ ناولته الإداوة فمضى بها حتّى لم أره ثمّ أقبل فتنحّيت له فجلس بظلّ الترس ، فإذا فارس كأنّه يسأل عنه فقال لي : أشر إليه. فأشرت إليه فجاء فقال له : يا أمير المؤمنين ؛ إنّ القوم قد عبروا النهر ، فقال : كلّا ما عبروا! قال : بلى والله لقد فعلوا! قال : كلّا ما فعلوا! إذ جاء آخر فقال : يا أمير المؤمنين ، إن القوم

__________________

(١) المصدر الأسبق للمعتزلي عن المدائني.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٤٠٥.

٢٥٢

قد عبروا! قال : كلّا ما عبروا! قال : رأيت راياتهم وأثقالهم في ذلك الجانب! قال : والله ما فعلوا! وإنّه لمصرعهم ومهراق دمائهم! ثمّ نهض.

فقلت في نفسي : الحمد لله! هذا أحد رجلين : إمّا رجل على بيّنة من ربّه وعهد من نبيّه وإمّا رجل كذّاب جريء! اللهم إني اعطيك عهدا : إن أنا وجدت القوم لم يعبروا أن اقيم وأتمّ على القتال والمناجزة ، وإن وجدت القوم قد عبروا أن أكون أول من يقاتله ويطعن بالرمح في عينه (١)!

ولعلّ هذا المحلّ هو ما ذكر ابن الأعثم الكوفي في «الفتوح» أن الإمام عليه‌السلام سار حتّى نزل على فرسخين (ـ ١١ كم) من النهروان (أي في منتصف ما بين بغداد والنهروان) ثمّ دعا بغلام له (؟) فقال له : اركب إلى هؤلاء القوم وقل لهم عنّي :

ما الذي حملكم على الخروج عليّ؟ ألم أقصد في حكمهم؟ ألم أعدل في قسمكم ، ألم أقسم فيكم فيئكم؟ ألم أرحم صغيركم؟ ألم أوقّر كبيركم؟ ألم تعلموا أني لم أتّخذكم خولا ولم أجعل ما لكم نفلا؟ وإياك أن تردّ على أحدهم شيئا وإن شتموك فاحتمل ، وانظر ما ذا يردّون عليك.

فردّوا عليه : إنا نخاف أن يردّنا بكلامه الحسن كما ردّ إخواننا بحروراء ، والله تعالى يقول (في قريش) : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)(٢) ومولاك عليّ منهم ، فارجع إليه وأخبره بأن اجتماعنا هاهنا لجهاده ومحاربته لا غير (٣).

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٣١٧ ـ ٣١٨ وتمامه : ثمّ وجدنا الأثقال والرايات كما هي وإذا به أخذ بقفاي ودفعني وقال : يا أخا الأزد أتبيّن لك الأمر؟ قلت : أجل يا أمير المؤمنين! قال : فشأنك بعدوّك. وانظر آخر الخبر في شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٢ : ٢٧٢ عن المدائني.

(٢) الزخرف : ٥٨.

(٣) الفتوح ٤ : ٢٦١.

٢٥٣

احتجاجه عليه‌السلام قبل الالتحام :

ولما استوى الصفّان في النهروان تقدم الإمام عليه‌السلام إليهم وخطبهم فقال : أما بعد ، أيتها العصابة التي أخرجتها عادة المراء والضلالة ، وصدف بها عن الحقّ الهوى والزيغ ، إنّي نذير لكم أن تصبحوا غدا صرعى بأكناف هذا النهر ... بلا بيّنة من ربكم ولا سلطان (برهان) مبين. ألم أنهكم عن هذه الحكومة واحذّركموها ، وأعلمكم أنّ طلب القوم لها دهن منهم ومكيدة؟ فخالفتم أمري وجانبتم الحزم وعصيتموني حتّى أقررت بأن حكّمت ، وأخذت على الحكمين فاستوثقت ، وأمرتهما أن يحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن ، فخالفا أمري وعملا بالهوى. فنحن على الأمر الأوّل ، فأين تذهبون وأين يتاه بكم؟!

فقال قائلهم : أمّا بعد ـ يا علي ـ فإنّا حين حكّمنا كان ذلك كفرا منّا! فإن تبت كما تبنا فنحن معك ومنك ، وإن أبيت فنحن منابذوك على سواء (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ)(١).

فقال الإمام عليه‌السلام : أصابكم حاصب ، ولا بقي منكم وابر (٢) أبعد إيماني بالله ، وهجرتي مع رسول الله وجهادي في سبيل الله أقرّ بالكفر؟ لقد ظللت إذا وما أنا من المهتدين. ولكن منيت بمعشر أخفّاء إلهام ، سفهاء الأحلام ، والله المستعان (٣).

__________________

(١) الأنفال : ٥٨.

(٢) الحاصب : العذاب بالحصباء ، وابر النخيل : ملقّحها ومصلحها.

(٣) الأخبار الموفقيات : ٣٢٥ خ ١٨١ ، ورواها الطبري ٥ : ٨٤ عن أبي مخنف ، أطول ، وفي آخر الخبر : ثمّ انصرف. ونقله الرضيّ وزاد هنا : فأوبوا شرّ مآب وارجعوا على أثر الأعقاب ، أمّا إنكم ستلقون بعدي ذلّا شاملا وسيفا قاطعا ، وأثرة يتّخذها الظالمون فيكم سنّة. نهج البلاغة خ ٥٨ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨١.

٢٥٤

يا هؤلاء ، إنّ أنفسكم قد سوّلت لكم فراق هذه الحكومة التي أنتم ابتدأتموها وسألتموها وأنا لها كاره ، وأنبأتكم أنّ القوم سألوكموها مكيدة ودهنا ، فأبيتم عليّ إباء المخالفين ، وعدلتم عنّي عدول النكراء العاصين ، حتّى صرفت رأيي إلى رأيكم ... فلم آت حراما لا أبا لكم!

والله ما ختلتكم عن أموركم ، ولا أخفيت شيئا من هذا الأمر عنكم ، ولا أوطأتكم عشوة ، ولا دنّيت لكم الضرّاء ، وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهرا ، فأجمع رأي ملئكم على أن اختاروا رجلين ، فأخذنا عليهما أن يحكما بما في القرآن ولا يعدواه ، فتاها وتركا الحقّ وهما يبصرانه ، وكان الجور هواهما ، وقد سبق استثناؤنا عليهما في الحكم بالعدل والصمد للحق من سوء رأيهما وجور حكمهما ، والثقة بأيدينا حين خالفا سبيل الحقّ وأتيا بما لا يعرف من معكوس الحكم.

فبيّنوا لنا بما ذا تستحلّون قتالنا والخروج من جماعتنا أن اختار الناس رجلين أن تضعوا أسيافكم على عواتقكم ثمّ تستعرضوا الناس تضربون رقابهم وتسفكون دماءهم! إنّ هذا لهو الخسران المبين ، والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها ، فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام (١)!

وقال لهم : أكلّكم شهد معنا صفّين؟ فقالوا : ومنّا من لم يشهد. فقال عليه‌السلام : فليكن من شهد صفّين فرقة ومن لم يشهدها فرقة ، حتّى اكلّم كلّا منكم بكلامه (فافترقوا ، فقال لمن كان معه في صفّين) : ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلة وغيلة ومكرا وخديعة : إخواننا وأهل دعوتنا استقالونا واستراحوا إلى كتاب الله

__________________

ـ وأظنّ الإضافة من موضع آخر ولغير خوارج النهروان فإنّها لا تنسجم مع ما أخبر به عنهم وتحقّق أن سوف لا يبقى منهم إلّا دون العشرة ، فهل هذا الوعيد لهم؟ ولم أجد من تنبّه له.

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٨٤ عن أبي مخنف ، ونقل شطره نهج البلاغة خ ١٧٧.

٢٥٥

سبحانه ، فالرأي القبول منهم والتنفيس عنهم؟ فقلت لكم : هذا أمر ظاهره إيمان وباطنه عدوان ، أوّله رحمة وآخره ندامة ، فأقيموا على شأنكم وألزموا طريقتكم ، وعضّوا على الجهاد بنواجذكم ، ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق إن اجيب أضلّ وإن ترك ذل (ولكني) رأيتكم أعطيتموها ، والله لئن أبيتها ما وجبت عليّ فريضتها ولا حمّلني الله ذنبها ، وو الله إذ جئتها إني للمحقّ الذي يتّبع ، وإنّ الكتاب لمعي ، ما فارقته مذ صحبته.

ولكنّا إنّما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل ، فإذا طمعنا في خصلة يلمّ الله به شعثنا ونتدانى بها إلى البقية فيما بيننا ، رغبنا فيها وأمسكنا عمّا سواها (١).

فإن أبيتم إلّا أن تزعموا أنّي أخطأت وضللت ، فلم تضلّلون عامّة أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بضلالي وتأخذونهم بخطئي وتكفّرونهم بذنوبي؟! سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم ، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب! وقد علمتم أنّ رسول الله رجم الزاني المحصن ثمّ صلّى عليه ثمّ ورّثه أهله ، وقتل القاتل وورّث ميراثه أهله ، وقطع يد السارق ، وجلد الزاني غير المحصن ثمّ قسم عليهما من الفيء ، ونكا المسلمات ، فأخذهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذنوبهم ، وأقام حقّ الله فيهم ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ، ولم يخرج أسماءهم من بين أهله.

ثمّ أنتم شرار الناس ومن رمى به الشيطان مراميه وضرب به تيهه (تخرجونهم من الإسلام)!

وسيهلك فيّ صنفان : محبّ مفرط يذهب به الحبّ إلى غير الحقّ ، ومبغض مفرّط يذهب به البغض إلى غير الحقّ ، وخير الناس فيّ حالا : النمط الأوسط

__________________

(١) نهج البلاغة خ ١٢٢.

٢٥٦

فألزموه ، وألزموا السواد الأعظم فإنّ يد الله مع الجماعة ، وإياكم والفرقة ، فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان كما أن الشاذّ من الغنم للذئب (١).

ألا من دعا إلى هذا الشعار (لا حكم إلّا لله) فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه! فإنّما حكّم الحكمان ليحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن ، وإحياؤه : الاجتماع عليه وإماتته : الافتراق عنه. فإن جرّنا القرآن إليهم اتّبعناهم وإن جرّهم إلينا اتّبعونا! وإنّما اجتمع رأي ملئكم على اختيار رجلين أخذنا عليهما أن لا يتعدّيا القرآن فتاها عنه وتركا الحقّ وهما يبصرانه ، وكان الجور هواهما فمضيا عليه. وقد سبق استثناؤنا عليهما ـ في الحكومة بالعدل والصمد للحق ـ سوء رأيهما وجور حكمهما (٢).

فما تنقمون منّي؟ وأنا أوّل من آمن بالله ورسوله.

فقالوا : كذلك كنت ولكنّك حكّمت أبا موسى في دين الله!

فقال عليه‌السلام : إنّما حكّمت القرآن ، ولو لا أنّي غلبت على أمري وخولفت في رأيي لما رضيت أن تضع الحرب أوزارها بيني وبين أهل حرب الله حتّى أعلي كلمة الله وأنصر دين الله ولو كره الكافرون والجاهلون (٣).

وخطبهم فقال عليه‌السلام : نحن أهل بيت النبوّة ، وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ، وعنصر الرحمة ، ومعدن العلم والحكمة. نحن أفق الحجاز ، بنا يلحق البطيء وإلينا يرجع التائب.

__________________

(١) إنّما عنى به هنا الخوارج فإنّهم خرجوا وشذّوا عن جماعة السواد الأعظم مع الإمام عليه‌السلام ، وليس المراد به كلّ افتراق عن كلّ سواد أعظم ، كيف وقد قال الله : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) سورة سبأ : ١٣.

(٢) نهج البلاغة خ ١٢٧ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٧ وآخرها مرّ عن الطبري ، عن أبي مخنف.

(٣) كتاب التوحيد للصدوق : ٢٢٥ الحديث ٦ بسنده عن الأصبغ بن نباتة.

٢٥٧

أيّها القوم ، إنّي نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأهضام هذا الوادي ، على غير بيّنة من ربّكم ، ولا سلطان مبين معكم ، قد طوّحت بكم الدار واحتلبكم المقدار.

وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم عليّ إباء المخالفين المنابذين ، حتّى صرفت رأيي إلى هواكم ، وأنتم معاشر أخفّاء إلهام سفهاء الأحلام ، فلم آت لا أبا لكم ، بجرا (نكرا) ولا أردت لكم ضرّا (١).

وخطب قيس وأبو أيوب :

ورأى الإمام عليه‌السلام أن يطالبهم بالقتلة منهم فإن رضوا ودفعوهم إليه يتركهم لحرب الشام ، فبعث إليهم قائد مقدّمته قيس بن سعد الأنصاري يقول لهم عنه : ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم نقتلهم بهم ، ثمّ أنا تارككم وكافّ عنكم حتّى ألقى أهل الشام ، فلعلّ الله يقلّب قلوبكم ويردّكم إلى خير ممّا أنتم عليه من أمركم. فقالوا : كلّنا قتلتهم ، وكلّنا يستحلّ دماءهم ودماءكم! فقال لهم قيس :

عباد الله أخرجوا إلينا طلبتنا منكم وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه ، وعودوا بنا إلى قتال عدوّنا وعدوّكم ، فإنّكم ركبتم عظيما من الأمر! تشهدون علينا بالشرك والشرك ظلم عظيم ، وتسفكون دماء المسلمين وتعدّونهم مشركين!

فأجابه عبد الله بن شجرة السلمي قال : لسنا نتابعكم حتّى تأتونا بمثل عمر!

__________________

(١) نقل صدرها المعتزلي الشافعي في شرح النهج ٢ : ٢٨٣ عن أمالي محمد بن حبيب ، أكمل بها الخطبة ٣٦ من نهج البلاغة ، وفيه من : نذير لكم.

٢٥٨

فقال قيس : ما نعلمه فينا غير صاحبنا ، فهل تعلمونه فيكم؟

وخطبهم أبو أيوب خالد بن يزيد الأنصاري فقال لهم : عباد الله إنّا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها (قبل التحكيم) ليست بيننا وبينكم فرقة ، فعلام تقاتلوننا؟

فأجابه بعضهم : لو بايعناكم اليوم حكّمتم غدا!

فقال لهم : انشدكم الله أن تعجّلوا الفتنة مخافة ما يأتي في قابل (١)!

ورفع راية الأمان :

وكان الإمام عليه‌السلام قد دفع راية أمان لأبي أيوب الأنصاري فنشرها ورفعها وناداهم : من جاء هذه الراية منكم ممّن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن ، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن ، وإنّه لا حاجة لنا ـ بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم ـ في سفك دمائكم.

وكان من رءوس الخوارج فروة بن نوفل الأشجعي ومعه أكثر من خمسمائة ، فلمّا سمع ورأى ذلك قال لأصحابه : والله ما أدري على أيّ شيء نقاتل عليّا؟ لا أرى إلّا أن أنصرف حتّى تنفذ لي بصيرتي في قتاله أو اتباعه! وانصرف فتبعه خمسمائة منهم.

وانصرف مائة منهم إلى علي عليه‌السلام.

وتراجع آخرون منهم إلى الكوفة. وكانوا من قبل أربعة آلاف ، فبقي منهم ألفان وثمانمائة (٢).

__________________

(١) الأخبار الطوال : ٢٠٧ ، وتاريخ الطبري ٥ : ٨٣ عن أبي مخنف.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٨٦ عن أبي مخنف.

٢٥٩

وكان من رؤسائهم من تميم البصرة مسعر بن فدكي التميمي فخرج إلى راية أبي أيوب وتبعه منهم ألف رجل.

وكان من رؤسائهم عبد الله بن الحوساء ومعه ثلاثمائة فاعتزل بهم.

وخرج إلى علي عليه‌السلام منهم ثلاثمائة.

واعتزل حوثرة بن وداع الأسدي في ثلاثمائة.

واعتزل أبو مريم السعدي التميمي في مائتين.

حتّى بقي منهم مع عبد الله بن وهب الراسبي ألف وثمانمائة فارس وألف وخمسمائة راجل (١).

فتعبّئوا فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي ، وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي ، وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدي ، وعلى الرجّالة حرقوص بن زهير السعدي التميمي ذو الثّدية (٢).

واستعدّ الإمام وبدأ القتال :

وقدم الإمام الخيل وجعل عليهم أبا أيّوب الأنصاري ، وجعل الرماة خلفهم أمام الصفّ الأول من الرجّالة وخلفهم الصف الثاني ، وجعل على الرجّالة أبا قتادة الأنصاري ، وكان معه من الأنصار وأهل المدينة سبعمائة إلى ثمانمائة فجعل عليهم قيس بن سعد الأنصاري. وجعل على ميمنته حجر بن عدي الكندي ، وعلى ميسرته رجلا من تميم معقل بن قيس الرياحي التميمي أو شبث بن ربعي التميمي ، وقال لهم : كفّوا عنهم حتّى يبدءوكم ، فإنّهم لو شدّوا عليكم وجلّهم

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٢٧٩ ط ٢ ج ٤٦١.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٨٥ عن أبي مخنف ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٢٧٩ ط ٢ خ ٤٦١.

٢٦٠