موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

فقال له معاوية : يا ابن العاص لقد أهمّك ما أهمّك! (أي أهمّه أمر مصر لما أهمّه من أمر موعده).

ثم قال معاوية للآخرين : وأنتم ما ترون؟ قالوا : نرى ما رأى عمرو!

قال معاوية : إنّ عمرا قد عزم وصرم ولم يبيّن كيف نصنع؟

فقال عمرو : فإنّي اشير عليك كيف تصنع : أرى أن تبعث جيشا كثيفا ، عليهم رجل صارم تأمنه وتثق به ، فيأتي مصر فيدخلها ، فإنّه سيأتيه من كان من أهلها على مثل رأينا ، فيظاهره على من كان بها من عدوّنا ، فإن اجتمع بها جندك ومن كان بها من شيعتك على من بها من أهل حربك ، رجوت أن يعزّ الله نصرك ويظهر فلجك!

فقال معاوية : أمّا أنا فإنّي أرى أن نكاتب من كان بها من شيعتنا ومن كان بها من عدوّنا ، فندعوهم إلى صلحنا ونمنّيهم شكرنا ونخوّفهم حربنا ، فإن صلح لنا ما قبلهم بغير حرب ولا قتال فذلك ما أحببنا ، وإلّا فحربهم بين أيدينا.

فقال له عمرو : فاعمل بما أراك الله! فو الله ما أرى أمرك وأمرهم يصير إلّا إلى الحرب العوان (١).

كتاب معاوية إلى معارضة مصر :

وكان رأس المعارضة في مصر مسلمة بن مخلّد الأنصاري ، ومعاوية بن حديج الكندي السكوني أو السكسكي ، وكانا قد ناصبا محمد بن أبي بكر الحرب وهم يهابون الإقدام عليه حتى أتى خبر الحكمين فاجترءوا عليه ونابذوه ، فبعث إليهم رجلا من بليّ فقاتلوه فقتلوه ، وآخر من كلب فقاتلوه وقتلوه (٢).

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٧٠ ـ ٢٧٤ ، وفي الطبري ٥ : ٩٧ ـ ٩٩ عن أبي مخنف بسنده.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٣٠٣ خ ٤٨٣.

٢٨١

فكتب معاوية إليهما : أمّا بعد ، فإنّ الله عزوجل قد ابتعثكما لأمر عظيم ، أعظم به أجركما ورفع به ذكركما ، وزيّنكما به في المسلمين : طلبتما بدم الخليفة المظلوم ، وغضبتما لله إذ ترك حكم الكتاب! وجاهدتما أهل الظلم والعدوان! فأبشرا برضوان الله وعاجل نصرة أولياء الله والمواساة لكما في دار الدنيا وسلطاننا ، حتى ينتهي ذلك إلى ما يرضيكما ويؤدّى به حقّكما ، فالزما أمركما وجاهدا عدوّكما ، وادعوا المدبرين عنكما إلى هداكما ، فكأنّ الجيش قد أظلّ عليكما فانقشع كلّ ما تكرهان ، ودام كل ما تهويان ، والسلام عليكما.

وبعث بالكتاب مع مولاه سبيع بن يزيد الهمداني ، فخرج الرسول بكتابه حتّى دفع الكتاب إلى مسلمة بن مخلّد الأنصاري ، فلمّا قرأه قال له : الق به معاوية بن حديج ثمّ القني به حتى اجيب عنّي وعنه.

فانطلق الرسول بكتاب معاوية إليه فأقرأه إيّاه ثمّ أبلغه مقالة مسلمة وأتى بالكتاب إلى مسلمة ، فكتب الجواب :

إلى معاوية بن أبي سفيان ، أمّا بعد ، فإنّ هذا الأمر الذي قد ندبنا له أنفسنا وابتعثنا الله به على عدوّنا أمر نرجو به ثواب ربّنا! والنصر على من خالفنا ، وتعجيل النقمة على من سعى على إمامنا ، وطأطأ الركض في جهادنا. ونحن بهذه الأرض قد نفينا من كان بها من أهل البغي ، وأنهضنا من كان بها من أهل «القسط» والعدل. وقد ذكرت مؤازرتك في سلطانك وذات يدك. وبالله! إنّه لا من أجل مال غضبنا ولا إيّاه أردنا! فإن يجمع الله لنا ما نريد ونطلب ويؤتنا ما نتمنّى! فإنّ الدنيا والآخرة لله ربّ العالمين ، وقد يؤتيهما الله عالما من خلقه كما قال في كتابه : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(١) فعجّل علينا بخيلك ورجلك! فإنّ عدونا قد كان علينا حربا وكنّا فيهم قليلا ، وقد أصبحوا لنا هائبين

__________________

(١) آل عمران : ١٤٨.

٢٨٢

وأصبحنا لهم منابذين ، فإن يأتينا مدد من قبلك يفتح الله عليك! ولا قوة إلّا به ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، والسلام عليك.

ورجع سبيع بهذا الكتاب إلى الشام ، وكان معاوية يومئذ في فلسطين فجاء به إليه.

فدعا معاوية اولئك النفر واستشارهم ما ذا يرون؟ فأثاروه لإرسال الرجال للقتال ، فأشار إلى عمرو بالإمرة وجهّز له ستة آلاف رجل ، وشايعه يودّعه ويوصيه وحمّله كتابا إلى محمد بن أبي بكر (١).

إرسال الأشتر إلى مصر :

مع انقضاء شهر رمضان انتهى تحكّم الحكمين في دومة الجندل بأذرح وعاد ابن عباس والأربعمائة من قوّات الإمام مع شريح بن هانئ الطائي إلى الكوفة ، وكان الخوارج قد أعلنوا خلافهم لتنفيذ التحكيم ، واليوم بلغ الإمام خبر هؤلاء الخوارج مع مسلمة وابن حديج بمصر ، وكان الإمام قد أرسل الأشتر إلى ولاية ثغر نصيبين ، ولكنّه كتب إليه اليوم :

أمّا بعد ، فإنّك ممّن أستظهر به على إقامة الدين ، وأقمع به نخوة الأثيم ، وأسدّ به الثغر المخوف. وقد كنت ولّيت محمد بن أبي بكر مصر ، فخرجت عليه خوارج (قبل وصول ابن العاص) وهو غلام حدث السن ، ليس بذي تجربة للحرب (عسكريا) ولا بمجرّب للأشياء (سياسيا) فاستخلف على عملك أهل الثقة والنصيحة ، وأقدم عليّ لننظر فيما ينبغي ، والسلام.

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٧٤ ـ ٢٧٦ ، وتاريخ الطبري ٥ : ٩٩ ـ ١٠٠ الخبر السابق عن أبي مخنف بسنده ، ألفان من دمشق وعليهم يزيد بن أسد البجلي ، وألفان من الأردن وعليهم أبو الأعور السلمي ، وألفان من فلسطين وعليهم شمير الخثعمي كما في اليعقوبي ٢ : ١٩٤.

٢٨٣

فاستخلف مالك لعمله شبيب بن عامر الأزدي ، وأقبل مالك إلى الإمام عليه‌السلام حتّى دخل عليه ، فحدّثه حديث مصر وأخبره خبر أهلها وقال له : فليس لها غيرك! فاخرج إليها رحمك الله ، فإنّي إن لم اوصك اكتفيت برأيك ، واستعن بالله على ما أهمّك ، اخلط الشدّة باللين ، وارفق ما كان الرفق أبلغ ، واعتزم على الشدّة حين لا يغني عنك إلّا الشدّة (١).

الإمام يشاور الأشتر :

روى المعتزلي ، عن المدائني ، عن فضيل بن الجعد قال : شكا علي عليه‌السلام إلى الأشتر تخاذل أصحابه وفرار بعضهم إلى معاوية!

فقال له الأشتر : يا أمير المؤمنين ، إنّا قاتلنا أهل البصرة بأهل البصرة وأهل الكوفة ورأي الناس واحد ، وإنّما اختلفوا بعد وتعادوا ، وضعفت النية وقلّ العدد (لأنّك) تأخذهم بالعدل وتعمل فيهم بالحقّ ، وتنصف الوضيع من الشريف ، فليس للشريف عندك فضل منزلة على الوضيع (ولذلك) ضجّت طائفة ممّن معك من الحقّ إذ عمّوا به ، واغتمّوا من العدل إذ صاروا فيه إذ تساووا فيه ، ورأوا صنائع (إحسان) معاوية عند أهل الشرف والغناء ، فتاقت أنفسهم إلى الدنيا ، وقلّ من ليس للدنيا بصاحب! وأكثرهم يبيع الحقّ ويشتري الباطل ويؤثر الدنيا.

فيا أمير المؤمنين ، إنّك إن تبذل هذا المال تميل إليك أعناق الرجال! وتصفو نصيحتهم وتستخلص ودّهم! ثمّ قال له : صنع الله لك يا أمير المؤمنين ، وكبت أعداءك وفضّ جمعهم ، وأوهن كيدهم وشتّت أمورهم ، إنّه بما يعملون خبير.

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٥٧ ـ ٢٦٤ ، وتاريخ الطبري ٥ : ٩٩ ـ ١٠٠ عن أبي مخنف بسنده.

٢٨٤

فأجابه الإمام فقال : أمّا ما ذكرت من سيرتنا بالعدل فإنّ الله عزوجل يقول : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها)(١) وأنا من أن أكون مقصّرا فيما ذكرت أخوف!

وأمّا ما ذكرت من أنّ الحقّ ثقل عليهم ففارقونا ، فقد علم الله أنّهم لم يفارقونا من جور ولا لجئوا إلى عدل إذ فارقونا ، ولم يلتمسوا إلّا دنيا زائلة عنهم كأن قد فارقوها وليسألنّ يوم القيامة : أللدنيا أرادوا أم لله عملوا؟

وأمّا ما ذكرت : من بذل الأموال واصطناع الرجال ، فإنّه لا يسعنا أن نؤتي امرأ من الفيء أكثر من حقّه (بالسواء) فإن يرد الله أن يولينا هذا الأمر يذلّل لنا أصعبه ويسهّل لنا أحزنه (٢).

ثمّ قال له : وأنت من أمن الناس عندي وأنصحهم لي وأوثقهم في نفسي إن شاء الله ، وأنا قابل من رأيك ما كان رضا لله عزوجل (٣).

ولعلّه هنا سمع بهذا بعض أصحابه فلم يروا جواب الإمام جادّا فمشوا إليه وقالوا له : يا أمير المؤمنين ، من تخاف خلافه وفراره من الناس فاستمله بالعطاء من هذه الأموال ، وفضّل فيهم قريشا والأشراف من العرب على العجم والموالي.

فقال عليه‌السلام : أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟! لا والله ما أفعل ما طلعت الشمس وما لاح في السماء نجم! والله لو كان هذا المال لي لواسيت بينهم فكيف وإنّما هي أموالهم (٤).

__________________

(١) فصلت : ٤٦.

(٢) الحزن : الصعب.

(٣) الغارات ١ : ٧١ ـ ٧٣ عن المدائني.

(٤) الغارات ١ : ٧٤ ـ ٧٧ وعنه في أمالي المفيد وعنه في أمالي الطوسي وفي نهج البلاغة خ ١٢٦ ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٧.

٢٨٥

النجاشي يسكر ويفر :

في سنة الوفود في وفود اليمن ، وفد بنو الحارث على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكانوا سودا حتّى روى عنه أنّه قال : من هؤلاء كأنّهم من الهند (١) وكان فيهم قيس بن عمرو وأمّه كانت حبشيّة (٢) فكان في لونه يشبه الحبشة ولذلك لقّب بالنجاشي وعرف بلقبه.

وكان في حرب صفين شاعر الإمام عليه‌السلام وفي ضحى أول يوم من شهر رمضان لسنة (٣٨ ه‍) خرج من داره بالكوفة على فرس له يريد الكناسة (٣) وكان شاعر حرب الردّة مع طليحة الأسدي : سمعان بن هبيرة الأسدي أبو سمّال ، صحابيّ نزل الكوفة ، وكان مضيافا لا يغلق بابه وقد ينادي مناديه : من ليست له خطّة فمنزله على أبي السمّال ، فأمر عثمان أن يمنح دارا لأضيافه (٤)! فلمّا مرّ به النجاشي قرب الزوال قال له : هل لك في رءوس حملان في كرش كانت في التنّور منذ أوّل الليل فتهرّأت! فقال له النجاشي : أفي أوّل يوم من رمضان تقول هذا؟ قال الأسدي : ما شهر رمضان وشوال إلّا واحد (٥)! فدعنا ممّا لا نعرف! فقال النجاشي : ثمّ مه؟ قال الأسدي : ثمّ أسقيك من شراب كالورس ، يطيب النفس ، ويجري في العرق ، ويزيد في الطرق ، يهضم الطعام ، ويسهّل للفدم (الثقيل) الكلام! فثنى النجاشي رجله ونزل ، فتغدّيا ثمّ شربا النبيذ! فلمّا كان آخر النهار علت أصواتهما.

__________________

(١) عن الشعر والشعراء لابن قتيبة : ٢٤٦ ـ ٢٤٧ عن الكلبي.

(٢) عن سمط اللآلي ٢ : ٨٩٠.

(٣) المصدر الأسبق.

(٤) الغارات ٢ : ٥٣٤ في الحاشية.

(٥) الشعر والشعراء : ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

٢٨٦

وكان للأسدي جار من «الشيعة» فأتى عليّا عليه‌السلام فأخبره بقصّتهما ، فأرسل إليهما قوما فأحاطوا بالدار ، فلمّا علم بذلك الأسدي شقّ خص سعف النخيل حول داره فأفلت في دور قومه ، ثمّ فرّ إلى معاوية وأخذ النجاشي فأتوا به عليّا عليه‌السلام قرب المساء فأمسى في السجن.

فلمّا أصبح الإمام عليه‌السلام في اليوم الثاني من رمضان ، أمر فأقامه في سراويله ثمّ ضربه ثمانين ثمّ زاده عشرين سوطا. فقال : يا أمير المؤمنين أمّا الحدّ فقد عرفته ، فما هذه العلاوة التي لا تعرف؟

قال عليه‌السلام : لجرأتك على ربّك وإفطارك في شهر رمضان (١).

ثمّ أقامه في سراويله فجعل الصبيان يصيحون به : خزي النجاشي! خزي النجاشي! حتّى مرّ به هند بن عاصم السلولي وكان عليه مطرف خزّ فخلعه عليه على عادة تكريم الشعراء ، فاقتدى به كثير من الناس ولعلّهم من قومه فطرحوا عليه مطارف كثيرة فمدح هند بن عاصم.

ولحدّ النجاشي الحارثي اليماني غضب من كان مع الإمام من اليمانية ، وكان من أقربهم إليه طارق بن عبد الله النهدي فدخل عليه وقال له : يا أمير المؤمنين ، ما كنّا نرى أنّ أهل الطاعة والمعصية ، وأهل الجماعة والفرقة سيّان في الجزاء عند ولاة العدل ومعادن الفضل! حتى رأينا ما كان من عملك بأخي بني الحارث ، فأوغرت صدورنا ، وشتّت أمورنا ، وحملتنا على الجادّة التي كنا نرى أن سبيل من ركبها النار!

__________________

(١) ورواه في الكافي عن أبي مريم ٧ : ٢١٦ ، الحديث ١٥ ، والفقيه ٤ : ١٣٠ ، والتهذيب ١٠ : ٩٤ ، الحديث ٣٦٢.

٢٨٧

فبدأ الإمام بتلاوة الآية : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ)(١) ثمّ قال له : يا أخا بني نهد ، وهل هو إلّا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله فأقمنا عليه حدا كان كفّارته! إنّ الله يقول : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(٢) فاقتنع طارق بقوله وخرج من عنده مدافعا عنه (٣).

النجاشي والنهدي في الشام :

ولم يكن الأشتر حاضرا يومئذ ولكنّه سمع عنه عتابه للإمام ، ويبدو أنّ ذلك كان عند استدعاء الإمام له ليرسله إلى مصر ، فلمّا لقى الأشتر طارقا قال له : يا طارق ، أنت القائل لأمير المؤمنين : إنّك أو غرت صدورنا وشتّت أمورنا؟! فقال طارق : نعم ، أنا قلتها.

فقال الأشتر : وهو من اليمانية : والله ما ذاك كما قلت ، بل إنّ صدورنا له لسامعة ، وإنّ أمورنا له لجامعة!

فغضب طارق وقال : ستعلم يا أشتر أنّه غير ما قلت! ثمّ انطلق طارق فطرق على النجاشي لمّا جنّه الليل وتهامسا وتوافقا على المروق عن الإمام واللحوق بالشام ، وكذلك فعلا (٤)!

فلمّا اعلم معاوية بذلك أذن للناس إذنا عامّا ليعلم الناس بذلك ويفخر به ، وكان النجاشي جالسا بين يديه ولكنّه كان قصيرا صغيرا فاقتحمته عينه ولم يره

__________________

(١) البقرة : ٤٥.

(٢) المائدة : ٨.

(٣) الغارات ٢ : ٥٣٣ ـ ٥٣٩.

(٤) الغارات ٢ : ٥٣٩ ، ٥٤١.

٢٨٨

وسأل عنه ، فأجابه : ها أنا ذا النجاشي بين يديك يا أمير المؤمنين! إنّ الرجال ليست بأجسامها ، وإنّما لك من الرجل أصغراه : قلبه ولسانه! (فذهب قوله مثلا) وكان من شعر النجاشي في صفين وصفه لفرار معاوية في أواخره وكان قد بلغه شعره وقد حفظه فسأله عنه فاعتذر أنّه إنّما قاله لأخيه عتبة بن أبي سفيان وليس له (١) ، فقبل عذره!

وكان معه طارق النهدي فلمّا عرفه قال له : مرحبا بالمورق غصنه المعرق أصله المسوّد غير المسود ، في ارومة لا ترام ومحلّ يقصر عنه المرام! من رجل كانت به نبوة وهفوة لاتباعه رأس الضلالة والشبهة وصاحب الفتنة ، الذي اغترز في ركاب الفتنة حتّى استوى على رحلها ، ثمّ أوجف في عشوة ظلمتها وتيه ضلالتها ، واتبعه رجرجة من الناس ، وهنون من الحثالة! أما والله ما لهم أفئدة (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)(٢).

فلم يتمالك طارق النهدي دون أن قام واتكأ على سيفه وقال : يا معاوية! إنّي متكلّم ، فلا يسخطك أوّل دون آخر! قال : إنّ المحمود على كلّ حال ربّ علا فوق عباده! فهم منه بمنظر ومسمع ، بعث فيهم رسولا منهم لم يكن يتلو من قبله كتابا ولا يخطّه بيمينه ، فعليه‌السلام من رسول كان بالمؤمنين رحيما.

أمّا بعد ، فإنّا كنّا نوضع فيما أوضعنا فيه بين يدي إمام تقيّ عادل! في رجال من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتقياء مرشدين ، ما زالوا منارا للهدى ومعلما للدين خلفا عن سلف مهتدين ، أهل دين لا دنيا ، كل الخير فيهم ، واتّبعتهم من الناس أقيال وملوك! وأهل شرف وبيوت ، ليسوا «بناكثين» ولا «قاسطين».

__________________

(١) الغارات ٢ : ٥٣٧ ـ ٥٣٩.

(٢) سورة محمّد : ٢٤.

٢٨٩

فلم تك رغبة من رغب عنهم وعن صحبتهم إلّا لمرارة الحقّ حيث جرّعوها ، ولو عورته حيث سلكوها ، وغلبت عليهم دنيا مؤثرة وهوى متّبع! وكان أمر الله «قدرا» مقدورا! وقد فارق الإسلام قبلنا جبلة بن الأيهم (الغسّاني) فرارا من الضيم وأنفا من الذلّة! يا معاوية! فلا تفخرنّ أن قد شددنا إليك الرحال وأوضعنا نحوك الركاب ، فتعلم وتنكر! أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولجميع المسلمين!

فأجابه معاوية متحلّما : يا ابن عبد الله ، ما أردنا أن نوردك مشرع ظماء ، ولا أن نصدرك عن مكرع رواء! ولكن القول قد يجري بصاحبه إلى غير الذي ينطوي عليه من الفعل. ثمّ دعاه إليه حتّى أجلسه معه على سريره! ودعا له ببرود ومقطعات أقمشة طرحها عليه وأقبل يحدثه حتّى قام!

وكان من وجوه جهينة لدى معاوية : عمرو بن صيفي وعمرو بن مرّة فخرجا معه وأقبلا عليه يلومانه لمقاله! ولعلّه كان ذلك بإيعاز من معاوية ، فأجابهما : والله ما قمت بما سمعتماه حتّى خيّل إليّ أن بطن الأرض أحبّ إليّ من ظهرها ، عند إظهاره ما أظهر من البغي والعيب والنقص لأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولمن هو خير منه في العاجلة والآجلة ، وما زهت به نفسه ، وملكه عجبه ، وعاب أصحاب رسول الله واستنقصهم! ولقد قمت عنده مقاما أوجب الله عليّ فيه أن لا أقول إلّا حقّا! وأيّ خير فيمن لا ينظر ما يصير إليه غدا؟! ثمّ تمثل شعرا.

ثمّ عمل معاوية في إطراء طارق وتعظيم أمره حتّى استلّ ما وجد في نفسه عليه.

وبلغ ما قال طارق لمعاوية إلى الإمام عليه‌السلام فقال فيه : لو (كان) يومئذ قتل أخو بني نهد لقتل شهيدا! ولعلّه بلغه كلام الإمام فيه ، فتوافق والنجاشي فعادا إلى الإمام عليه‌السلام (١).

__________________

(١) الغارات ٢ : ٥٣٩ ـ ٥٤٤.

٢٩٠

سفر الأشتر الأمير ومصيره :

لخبر لوم الأشتر لطارق النهدي في عتابه للإمام عليه‌السلام لتنفيذه الحدّ الشرعي على شاعره اليماني النجاشي الحارثي ، قدمنا خبرهما ، وها نحن نعود إلى خبر سفر الأشتر :

أدرك عيون معاوية في العراق خبر سفر الأشتر فطاروا به إليه في الشام ، فعلم بمسير الأشتر إلى مصر من الحجاز إلى بحر القلزم (البحر الأحمر) حيث كانت ترسو السفن من الحجاز إلى مصر ، فأرسل إلى رجل من جباة الخراج يدعى : الجايستار ، وأخبره : أن الأشتر قد ولي على مصر ، فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجا ما بقيت وبقيت ، فاحتل له بما تقدر عليه!

فخرج الجايستار حتّى أتى القلزم وأقام به ، فلمّا وصله الأشتر أتاه الجايستار الذي دسّه معاوية فقال للأشتر : أنا رجل من أهل الخراج ، وهذا منزل فيه طعام وعلف فانزل فيه. فنزل الأشتر بذلك المنزل ، وأتاه الجايستار بطعام وعلف ، فلمّا أكل الطعام أتاه بشراب فيه عسل مسموم ، فشربها فمات بها.

وعن الشعبي : أن ذلك كان في عقبة أفيق (من قرى حوران إلى الغور من الأردن) وطلبوا الرجل ففاتهم! وعن الضبّي : أنه كان مولى لآل عمر ، وقيل : لآل عثمان.

وعن المدائني : أنّ معاوية قال لأهل الشام : أيها الناس ، إن عليّا قد وجّه الأشتر إلى أهل مصر ، فادعوا الله أن يكفيكموه! فكانوا يدعون الله عليه في دبر كل صلاة! حتّى عاد الذي سقاه السمّ فأخبره بمقتله ، فقام معاوية خطيبا فقال لهم : أما بعد ، فإنه كان لعليّ بن أبي طالب يدان يمينان ، فقطعت إحداهما في صفين (عمّار بن ياسر) وقطعت الأخرى اليوم وهو مالك الأشتر (١) ثمّ قال مشيرا إلى سبب قتله : إن لله لجندا من عسل (٢).

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٥٧ ـ ٢٦٤ ، وتاريخ الطبري ٥ : ٩٩ ، ١٠٠ عن أبي مخنف بسنده.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٣٠٤ خ ٤٨٤ وقال : ذلك في عين شمس قبل فسطاط بثلاثة

٢٩١

شهادة الأشتر وتأبينه :

بلغ قتل الأشتر إلى الإمام عليه‌السلام فاسترجع وحمد الله وقال : اللهمّ إنّي أحتسبه عندك فإنّ موته من مصائب الدهر ، فرحم الله مالكا فقد وفى بعهده ، وقضى نحبه ولقى ربّه ، مع أنّا قد وطّنا أنفسنا على أن نصبر على كلّ مصيبة بعد مصابنا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّها أعظم المصائب.

وبلغ خبره قومه النخع فاجتمع أشياخ منهم ومضوا حتّى دخلوا على الإمام عليه‌السلام فقال لهم :

لله درّ مالك! وما مالك؟! لو كان جبلا لكان فندا! ولو كان حجرا لكان صلدا! أما والله ليهدنّ موتك عالما وليفرحنّ عالما! على مثل مالك فلتبك البواكي ، وهل موجود كمالك (١)؟!

وبلغ خبر توجيهه ومقتله إلى محمد بن أبي بكر فشقّ ذلك عليه ، وبلغت موجدته لذلك إلى الإمام فكتب إليه :

__________________

ـ فراسخ (٥ / ١٦ كم). وفي مروج الذهب ٢ : ٤١٠ وقال : كان ذلك بالعريش. وقال الحموي : كان ذلك في القلزم ، ولكن جسده نقل من قلزم إلى المدينة فدفن بها (في بقيع الغرقد) وقبره بها معروف؟! معجم البلدان ١ : ٤٥٤ في مادّة بعلبك.

وكان الفاطميون الاسماعيليون يعتنون بقبر مالك الأشتر على خبر البلاذري في عين شمس القديمة ، وفي هذه الأواخر قام الاسماعيليون البهرة بدفن شقيق شيخهم هناك وجدّدوا مرقد الأشتر ، ويقع في وسط بستان تحيط به مناطق زراعية وأخذ العمران يدنو منه ، من بلدة تسمّى : الخانگه ، بمنطقة القلج ، مشهورا بقبر العجمي ـ الشيعة في مصر : ١٠٨ ـ وهو المرقد الوحيد المنسوب إليه اليوم وليس سواه ، فهو أقرب إلى الصحّة.

(١) الغارات ١ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥ ووجدوا في ثقله رسالة الإمام مع الأشتر إلى أهل مصر : ٢٦٦ ـ ٢٦٧ ، وفي تاريخ الطبري ٥ : ٩٦ عن أبي مخنف ، عن مولى الأشتر.

٢٩٢

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر ، سلام عليك ، أمّا بعد : فقد بلغني موجدتك من تسريحي الأشتر إلى عملك ، ولم أفعل ذلك استبطاء لك في الجهاد ، ولا استزادة لك منّي في الجدّ ، ولو نزعت ما حوت يداك من سلطانك لولّيتك ما هو أيسر مئونة عليك ، وأعجب ولاية إليك ، إلّا أنّ الرجل الذي كنت ولّيته مصر (الأشتر) كان رجلا لنا مناصحا وعلى عدوّنا شديدا! فرحمة الله عليه ، وقد استكمل أيّامه ولاقى حمامه ونحن عنه راضون ، فرضي الله عنه وضاعف له الثواب وأحسن له المآب.

فاصحر لعدوّك وشمّر للحرب و (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)(١) وأكثر ذكر الله والاستعانة به والخوف منه ، يكفك ما أهمّك ويعينك على ما ولّاك ، أعاننا الله وإياك على ما لا ينال إلّا برحمته ، والسلام.

فكتب إليه محمد بن أبي بكر جوابا : لعبد الله أمير المؤمنين علي من محمد بن أبي بكر ، سلام عليك ، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد ، فقد انتهى إليّ كتاب أمير المؤمنين ، وفهمته وعرفت ما فيه ، وليس أحد من الناس أشدّ على عدوّ أمير المؤمنين ، ولا أرأف لوليّه منّي ، وقد خرجت فعسكرت وأمّنت الناس إلّا من نصب لنا حربا وأظهر لنا خلافا. وأنا متّبع أمر أمير المؤمنين وحافظه ، ولاجئ إليه وقائم به ، والله المستعان على كل حال ، والسلام (٢).

وتوجّه ابن العاص إلى مصر :

مرّ الخبر : أنّ معاوية جهّز لابن العاص لاغتصاب مصر ستّة آلاف رجل ألفين من دمشق وألفين من الأردن وألفين من فلسطين ، وشعر بالخطر

__________________

(١) النحل : ١٢٥.

(٢) الغارات ١ : ٢٦٨ ـ ٢٧٠ ، وتاريخ الطبري ٥ : ٩٦ ـ ٩٧ عن أبي مخنف.

٢٩٣

من توجّه الأشتر إلى مصر فدفعه بقتله بالسمّ ، فجزم عزمه على إعزام ابن العاص ، فكتب كتابا إلى محمد بن أبي بكر :

أمّا بعد ، فإنّ غبّ البغي والظلم عظيم الوبال ، وإنّ سفك الدم الحرام لا يسلم صاحبه من النقمة في الدنيا والتبعة الموبقة في الآخرة! وما نعلم أحدا كان أعظم بغيا على عثمان ولا أسوأ عيبا ولا أشدّ خلافا عليه منك! سعيت عليه في الساعين ، وساعدت عليه مع المساعدين ، وسفكت دمه مع السافكين! ثمّ أنت تظنّ أنّي عنك نائم! ثمّ تأتي بلدة فتأمن فيها وجلّ أهلها نصارى يرون رأيي ويرقبون قولي ويستصرخونني عليك!

وقد بعثت إليك قوما حناقا عليك يسفكون ويستسقون دمك! وهم يتقرّبون إلى الله بجهادك! قد أعطوا الله عهدا ليقتلنّك (وليمثلنّ بك) ولو لم يكن منهم إليك ما قالوا لقتلك الله ، بأيديهم أو بأيدي غيرهم من أوليائه! فأحذّرك وانذرك! وأنا أحبّ أن يقتلوك بظلمك ووقيعتك وعدوانك على عثمان يوم الدار : تطعن بمشاقصك (نصل عريض) فيما بين أحشائه (عظام الآذان) وأوداجه ، ولكن أكره أن أمثّل بقرشيّ ، ولن يسلّمك الله من القصاص أينما كنت ، والسلام. ثمّ سلّم الكتاب إلى عمرو ووجّهه إلى مصر ، فمضى حتّى نزل بأوائله ، وتسامع به العثمانيون فتوافدوا عليه ، فكتب إلى ابن أبي بكر :

أمّا بعد ، فتنحّ عنّي بدمك يا ابن أبي بكر ، فإنّي لا احبّ أن يصيبك منّي ظفر ، وإنّ الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك ورفض أمرك ، وندموا على اتّباعك! وهم مسلموك لو قد التقت حلقتا البطان (فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)(١) والسلام. وضمّه إلى كتاب معاوية إليه (٢).

__________________

(١) القصص : ٢٠.

(٢) الغارات ١ : ٢٧٧ ـ ٢٧٨ ، وتاريخ الطبري ٥ : ١٠١ عن أبي مخنف.

٢٩٤

فقام ابن أبي بكر وخطب فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وآله ، ثمّ قال :

أمّا بعد ، يا معاشر المؤمنين ، فإنّ القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة وينعشون الضلالة ، ويشبّون نار الفتنة ويستطيلون بالجبرية ، قد نصبوا لكم العداوة وساروا إليكم بالجنود ، فمن أراد الجنة والمغفرة فليخرج إلى هؤلاء القوم فليجالدهم في الله! انتدبوا إلى هؤلاء رحمكم الله مع كنانة بن بشر (التجيبي الكندي) ومن يجيب معه من كندة.

فانتدب مع كنانة ألفا رجل فخرج بهم إلى عمرو ، فاستقبله عمرو وسرّح نحوه كتيبة بعد كتيبة ، فكان يشدّ على كلّ كتيبة بمن معه فيضربها حتّى يفلّها إلى عمرو ، فلمّا رأى عمرو ذلك بعث إلى معاوية بن حديج في عدد كثير وحاصروه ، فنزل كنانة واستشهد وضاربهم حتّى قتل وفلّ من معه (١).

وإلى الإمام وجواب الإمام :

لمّا بلغ كتابا معاوية وابن العاص إلى ابن أبي بكر ، كتب إلى الإمام عليه‌السلام :

أمّا بعد ، فإنّ العاصي ابن العاصي قد نزل بأدانى مصر ، واجتمع إليه من أهل البلد كلّ من كان يرى رأيهم! وقد جاء في جيش جرّار! وقد رأيت ممّن قبلي بعض الفشل ، فإن كان لك في أرض مصر حاجة فامددني بالرجال والأموال ، والسلام. وضمّ إليه كتابهما إليه. فأجابه الإمام عليه‌السلام :

أمّا بعد ، فقد جاءني رسولك بكتابك تذكر : أن ابن العاص قد نزل أداني مصر في جيش جرّار ، وأنّ من كان على رأيه قد خرج إليه. وإنّ خروج من كان يرى رأيه إليه خير لك من إقامته عندك.

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٨١ ـ ٢٨٢ ، وفي الطبري ٥ : ١٠٣ عن أبي مخنف.

٢٩٥

وذكرت : أنّك قد رأيت ممّن قبلك فشلا ، فلا تفشل وإن فشلوا.

حصّن قريتك (الفسطاط) واضمم إليك شيعتك ، وأذك الحرس في عسكرك ، واندب إلى القوم كنانة بن بشر المعروف بالنصيحة والتجربة والبأس! وأنا نادب إليك الناس على الصعب والمذلول! فاصبر لعدوّك وامض على بصيرتك ، وقاتلهم على نيّتك ، وجاهدهم محتسبا لله وإن كانت فئتك أقلّ الفئتين ، فإنّ الله يعزّ القليل ويخذل الكثير.

وقد قرأت كتابي الفاجرين ، المتحابّين على المعصية ، والملائمين على الضلالة ، والمرتشيين الذين استمتعا بخلاقهما! فلا يهدنّك إرعادهما وإبراقهما ، وأجبهما ـ إن كنت لم تجبهما ـ بما هما أهله ، فإنّك تجد مقالا ما شئت ، والسلام. فلمّا بلغه كتابه كتب إلى معاوية :

أمّا بعد ، فقد أتاني كتابك تذكر من أمر عثمان أمرا لا أعتذر منه إليك ، وتأمرني بالتنحّي عنك كأنّك لي ناصح ، وتخوّفني بالمثلة كأنّك عليّ شفيق! وأنا أرجو أن تكون الدائرة عليكم ، وأن يهلككم الله في الوقعة وأن ينزل بكم الذلّ وأن تولّوا الدبر ، وإن يكن لكم الأمر في الدنيا فكم وكم لعمري من ظالم قد نصرتم ، وكم من مؤمن قد قتلتم ومثّلتم به ، وإلى الله المصير وإليه تردّ الأمور ، وهو أرحم الراحمين ، والله المستعان على ما تصفون. وكتب لعمرو بن العاص :

أمّا بعد ، فقد فهمت كتابك وعلمت ما ذكرت ، زعمت أنّك لا تحبّ أن يصيبني منك ظفر! فأشهد بالله إنّك لمن المبطلين ، وزعمت أنّك لي ناصح ، واقسم أنّك عندي ظنين ، وزعمت أنّ أهل البلد قد رفضوني وندموا على اتّباعي ، فاولئك حزبك وحزب الشيطان الرجيم ، وحسبنا الله ربّ العالمين ، وتوكّلت على الله العزيز الرحيم ربّ العرش العظيم (١).

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٧٨ ـ ٢٨٢ ، وفي الطبري ٥ : ١٠١ ـ ١٠٣ عن أبي مخنف بسنده.

٢٩٦

محمد يستصرخ الإمام عليه‌السلام :

وكأنّ محمدا لمّا رأى ما حلّ من القتل والفلّ برجال كنانة الكندي رأى ضرورة أن يرسل رجلا صريخا إلى الإمام عليه‌السلام ، فأرسل عبد الله بن قعين إلى أمير المؤمنين يستصرخه لمحمد بن أبي بكر ، فأمر الإمام مناديه فنادى : الصلاة جامعة! فاجتمع الناس ، ، فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال :

أمّا بعد ، فهذا صريخ محمد بن أبي بكر وإخوانكم من أهل مصر ، وقد سار إليهم ابن النابغة عدوّ الله وعدوّكم ، فلا يكوننّ أهل الضلال إلى باطلهم والركون إلى سبيل الطاغوت ، أشدّ اجتماعا على باطلهم وضلالتهم منكم على حقّكم! فكأنّكم بهم وقد بدءوكم وإخوانكم بالغزو ، فاعجلوا إليهم بالمواساة والنصر.

عباد الله! إنّ مصر أعظم من الشام خيرا ، وخير أهلا ، فلا تغلبوا على مصر ، فإنّ بقاء مصر في أيديكم عزّ لكم وكبت لعدوّكم! اخرجوا إلى الجرعة (إلى الحيرة) لنتوافى كلّنا هناك غدا إن شاء الله.

ولمّا كان الغد خرج الإمام يمشي إلى الجرعة حتى نزلها بكرة ، فأقام بها حتى انتصف النهار وإنّما وافاه منهم مائة رجل! فرجع! (كما كان أمره معهم بعد عودتهم من النهروان في الشتاء).

فلمّا كان العشيّ بعث إلى الأشراف فجمعهم في القصر فدخلوا عليه وهو كئيب حزين ، فقال لهم :

الحمد لله على ما قضى وقدّر من فعله وابتلائي بكم ، أيّتها الفرقة التي لا تطيع إذا أمرت ولا تجيب إذا دعوت! لا أبا لغيركم! ما تنتظرون بنصركم ربكم والجهاد على حقّكم؟! الموت أو الذلّ لكم في هذه الدنيا في غير الحقّ! والله لئن جاءني الموت ـ وليأتيني ـ فليفرّقنّ بيني وبينكم وإنّي لصحبتكم لقال وبكم غير ظنين ، لله أنتم! ألا دين يجمعكم! ألا حميّة تغضبكم؟! ألا تسمعون بعدوكم ينتقص بلادكم

٢٩٧

ويشنّ الغارة عليكم؟! أو ليس عجبا أنّ معاوية يدعو الجفاة الظلمة الطّغام فيتّبعونه على غير عطاء ولا معونة ، ويجيبونه في السنة المرة والمرتين والثلاث إلى أيّ وجه شاء ، ثمّ إنّي أدعوكم وأنتم أولو النهى وبقيّة الناس ، على المعونة والعطاء ، فتختلفون وتتفرّقون عنّي ، وتعصونني وتخالفون عليّ!

فقام إليه مالك بن كعب الأرحبي الهمداني والتفت إلى الناس وقال لهم : اتقوا الله وأجيبوا إمامكم وانصروا دعوته ، وقاتلوا عدوّكم ، ثمّ التفت إليه وقال : أنا أسير إليهم يا أمير المؤمنين ، فاندب الناس معي فإنّه لا عطر بعد عروس ، لمثل هذا اليوم كنت أدّخر نفسي ، وإنّ الأجر لا يأتي إلّا بالكره.

فأمر الإمام عليه‌السلام سعدا مولاه أن ينادي : ألا سيروا مع مالك بن كعب إلى مصر. وعسكر مالك بن كعب بظهر الكوفة ، وكره الناس هذا الوجه فلم يجتمع إليه في شهر إلّا نحو من ألفي رجل فقط.

وجاءهم الإمام عليه‌السلام فقال لهم : سيروا على اسم الله ، فو الله ما أخالكم تدركون القوم حتّى ينقضي أمرهم! فسار بهم مالك خمس ليال (١) فإذا قدّرنا لوصول صريخة ابن أبي بكر عشرة أيّام ، ومرّ أن فترة انتظار تجمّع الأنصار كانت شهرا وهذه خمسة أيّام فيكون المجموع ٤٥ يوما.

مقتل محمد وسقوط مصر :

ففي هذه الفترة ٤٥ يوما وبعد قتل وفلّ رجال كنانة الكندي ، اضطرّ محمد للخروج بنحو ألفين ممّن اجتمع له ، ولكنّهم تفرّقوا عنه وتركوه وحده ، حتّى لجأ إلى

__________________

(١) الغارات ١ : ٢٨٩ ـ ٢٩٤ ، وذكر صدرها في أنساب الأشراف ٢ : ٣٠٦ خ ٤٨٦ ط ٢. وفي تاريخ الطبري ٥ : ١٠٧ ـ ١٠٨ عن أبي مخنف بسنده. وفي نهج البلاغة خ ٣٩ ومصادرها في ١٣٨٠.

٢٩٨

خربة خارج فسطاط ولعلّها من خرائب القرية القديمة للفراعنة «عين شمس» قبل الفسطاط بثلاثة فراسخ (ـ ١٦ كم) حيث قتل الأشتر قبله مسموما بعسل معاوية.

وخلا الجوّ للجور فأقبل ابن العاص ومعه ابن حديج بجمعهم نحو الفسطاط حتّى دخلوها بلا معارض.

ثمّ خرج ابن حديج بجمعه في طلب محمّد ، حتّى انتهى إلى جمع من الكفار النصارى الأقباط على قارعة الطريق فسألهم : أما مرّ بكم أحد تنكرونه؟ فقال له أحدهم : رأيت في تلك الخربة رجلا جالسا بها! فانطلقوا يركضون حتّى دخلوا الخربة واستخرجوه منها وكان قد ألقى سيفه ليختلط بالناس فلا يعرف (١) فأقبلوا به إلى الفسطاط وسبقه خبره.

وكان عبد الرحمن بن أبي بكر أخو محمد مع معاوية فصار مع ابن العاص إلى الفسطاط ، فلمّا سمع بخبر أخيه محمد قام إلى ابن العاص وسأله أن يبعث إلى ابن حديج ينهاه عن قتل محمد ، فقبل ابن العاص وأرسل إلى ابن حديج : أن ائتني بمحمد. ولكن ابن حديج لمّا سمع ذلك قال للرسول : قتلتم ابن عمّي كنانة بن بشر واخلّي لكم عن محمد؟ هيهات! ثمّ تلا الآية : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ)(٢) (ولكنه اجتمع به عند ابن العاص وعصى إلّا قتله).

وكان محمّد عطشانا يكاد يموت منه فقال لهم : اسقوني ماء! فقال له معاوية : لا سقاني الله إن سقيتك قطرة أبدا! إنّكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتّى قتلتموه ظامئا محرما (كذا؟!) والله لأقتلنك يا ابن أبي بكر وأنت ظمآن فيسقيك الله من الحميم والغسلين!

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣٠٨ خ ٤٨٦ ط ٢.

(٢) القمر : ٤٣.

٢٩٩

فقال له محمّد : يا ابن اليهودية النسّاجة (إذ كان من اليمن) ليس ذلك إليك ولا إلى من ذكرت (عثمان) إنّما ذلك إلى الله يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه وهم أنت وقرناؤك ومن تولّاك وتولّيته! والله ولو كان سيفي في يدي ما بلغتم منّي ما بلغتم!

فقال له معاوية : أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك في جوف هذا الحمار الميّت ثمّ أحرقه عليك بالنار!

فقال محمد : إن فعلتم ذلك بي فطالما فعلتم (مثله) بأولياء الله ، وايم الله إنّي لأرجو أن يجعل الله هذه النار التي تخوّفني بها بردا وسلاما كما جعلها على إبراهيم خليله ، وأن يجعلها عليك وعلى أوليائك كما جعلها لنمرود وأوليائه ، وإنّي لأرجو أن يحرقك الله وإمامك وهذا (ابن العاص) بنار تلظّى عليكم (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً)(١).

فقال له معاوية : إني لا أقتلك ظلما ، إنّما اقتلك بعثمان!

فقال له محمد : وما أنت وعثمان؟ إنّ عثمان عمل بغير الحقّ وبدّل حكم القرآن وقد قال الله عزوجل : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) و (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) و (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٢) فنقمنا عليه ذلك وأردناه أن يختلع من عملنا فلم يفعل ، فقتله من قتله من الناس!

فغضب معاوية وقدّمه فضرب عنقه ، ثمّ ألقاه في جوف حمار وأحرقه بالنار (٣)!

وبلغ خبره إلى أمّه أسماء بنت عميس بالمدينة فشخب ثدياها دما حتى ماتت (٤).

__________________

(١) الإسراء : ٩٧.

(٢) المائدة : ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

(٣) الغارات ١ : ٢٨٢ ـ ٢٨٤ ، والطبري ٥ : ١٠٣ ـ ١٠٥ عن أبي مخنف بسنده.

(٤) الغارات ١ : ٢٨٧.

٣٠٠