موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

وخرج من دمشق ومن الشام إلى البصرة حتّى نزل في بني تميم ، وسمع بقدومه أهلها والعثمانيّة فيها ، واجتمع إليه رءوسهم ، فقام ابن عامر خطيبا فيهم ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد ، أيّها الناس ، فإنّ عثمان إمامكم إمام الهدى قتله عليّ بن أبي طالب ظلما ، فطلبتم بدمه وقاتلتم من قتله ، فجزاكم الله من أهل مصر خيرا ، وقد أصيب منكم الملأ الأخيار! وقد جاءكم الله بإخوان لكم لهم بأس شديد يتّقى وعدد الحصى ، فلقوا عدوّكم الذين قاتلوكم ، فبلغوا الغاية التي أرادوا صابرين ورجعوا وقد نالوا ما طلبوا! فمالئوهم وساعدوهم ، وتذكّروا ثأركم تشفوا صدوركم من عدوّكم!

وكان ممّن قدم مع ابن الحضرمي من الشام عبد الرحمن بن عمير المزني القرشي فقام وقال : عباد الله ، إنّا لم ندعكم إلى الاختلاف والفرقة! ولا نريد أن تقتتلوا ولا أن تتنابذوا ، ولكنّا إنّما ندعوكم إلى أن تجمعوا كلمتكم وتوازروا إخوانكم الذين هم على رأيكم! وأن تلمّوا شعثكم وتصلحوا ذات بينكم ، فمهلا اسمعوا لهذا الكتاب الذي يقرأ عليكم ، وأخرج كتاب معاوية وفيه :

من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين من أهل البصرة ، سلام عليكم ، أمّا بعد فإنّ سفك الدماء بغير حلّها وقتل النفس التي حرّم الله قتلها هلاك موبق وخسران مبين! لا يقبل الله ممّن سفكها صرفا ولا عدلا!

وقد رأيتم رحمكم الله آثار ابن عفان وسيرته ، وحبّه للعافية ومعدلته وسدّه للثغور ، وإعطاءه للحقوق وإنصافه للمظلوم! وحبّه للضعيف! حتّى وثب عليه الواثبون وتظاهر عليه الظالمون! فقتلوه مسلما محرما (كذا!) ظمآن صائما (!) لم يسفك منها دما ولم يقتل منهم أحدا ، ولا يطلبونه بضربة سيف ولا سوط!

٣٢١

وإنّما ندعوكم ـ أيّها المسلمون ـ إلى الطلب بدمه وقتال من قتله! فإنّا وإياكم على أمر هدى واضح وسبيل مستقيم. إنّكم إن جامعتمونا طفئت النائرة واجتمعت الكلمة! واستقام أمر هذه الأمّة ، وأقرّ الظالمون المتوثبون الذين قتلوا امامهم بغير حقّ فأخذوا بجرائرهم وما قدّمت أيديهم!

إنّ لكم عليّ أن أعمل فيكم بالكتاب وأن أعطيكم في السنّة عطاءين! ولا أحمل من فيئكم شيئا أبدا! فنازعوا إلى ما تدعون إليه رحمكم الله.

وقد بعثت إليكم رجلا من الناصحين! وكان من أمناء خليفتكم المظلوم ابن عفّان وعمّاله وأعوانه على الحقّ والهدى! جعلنا الله وإيّاكم ممّن يجيب إلى الحقّ ويعرفه وينكر الباطل ويجحده ، والسلام عليكم ورحمة الله.

فقال معظمهم : سمعنا وأطعنا ، إلّا الأحنف بن قيس التميمي السعدي فإنه قام وقال : أمّا أنا فلا ناقة لي في هذا ولا جمل ، واعتزلهم!

ولكن قام عمرو بن مرجوم العبدي (من عبد القيس) والتفت إلى الناس وقال لهم : أيها الناس ، الزموا طاعتكم ولا تنكثوا بيعتكم ، فتقع بكم واقعة وتصيبكم قارعة ، ولا تكن لكم بعدها بقيّة! ألا إنّي قد نصحت لكم ولكن لا تحبّون الناصحين.

وكانت أمّ عبد الله بن عباس من بني هلال ، وكان منهم بالبصرة الضحّاك بن عبد الله الهلالي فقام والتفت إلى الحضرمي وقال له : قبّح الله ما جئتنا به ودعوتنا إليه ، جئتنا والله بمثل ما جاء به صاحباك طلحة والزبير ، أتيانا وقد بايعنا عليّا واجتمعنا له وكلمتنا واحدة ، ونحن على سبيل مستقيم ، فدعوانا إلى الفرقة وقاما فينا بزخرف القول ، حتّى ضربا بعضنا ببعض عدوانا وظلما ، فاقتتلنا على ذلك ، وايم الله ما سلمنا من عظيم وبال ذلك.

ونحن الآن مجتمعون على بيعة هذا العبد الصالح الذي قد أقال العثرة وعفا عن المسيء ، وأخذ بيعة غائبنا وشاهدنا ، أفتأمرنا الآن أن نختلع أسيافنا من أغمادها

٣٢٢

ثمّ يضرب بعضنا بعضا ليكون معاوية أميرا وتكون له أنت وزيرا! ونعدل بهذا الأمر عن عليّ؟ والله ليوم من أيّام علي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خير من بلاء معاوية وآل معاوية لو بقوا في الدنيا ما الدنيا باقية!

فقام عبد الله بن خازم السلمي وكان رجلا أسود من غربان العرب والتفت إلى الضحّاك الهلالي وقال له :

اسكت! فلست بأهل أن تتكلّم في أمر العامّة! فأجابه الضحّاك :

يا ابن السوداء! والله لا يعزّ من نصرت ولا يذلّ من خذلت! وتشاتما (١).

وكان عباس بن صحار العبدي عثمانيّا على خلاف قومه عبد القيس ، فقام إلى ابن الحضرمي وقال له : إي والذي له أسعى وإيّاه أخشى لننصرنّك بأسيافنا وأيدينا.

وقام المثنّى بن مخرمة العبدي إليه وقال له : لا والذي لا إله إلّا هو لئن لم ترجع إلى مكانك الذي أقبلت منه لنأخذنّك بأسيافنا وأيدينا ونبالنا وأسنّة رماحنا! أنحن ندع ابن عمّ نبيّنا وسيد المسلمين ، وندخل في طاعة حزب من الأحزاب طاغ؟! والله لا يكون ذلك أبدا حتى تسير كتيبة إلى كتيبة ونفلّق إلهام بالسيوف!

ومع ذلك أقبل الناس على ابن الحضرمي وكثر أتباعه (٢).

مصير زياد بالبصرة :

كان ابن عباس قد استخلف زياد بن عبيد الثقفي (ابن أبيه) ورحل إلى علي عليه‌السلام بالكوفة ليعزّيه عن مقتل محمّد بن أبي بكر ، فلمّا أقبل الناس على

__________________

(١) الغارات ٢ : ٣٧٨ و ٣٧٤ ـ ٣٨١ و ٣٨٢ ـ ٣٨٥.

(٢) الغارات ٢ : ٣٨٧ ـ ٣٨٩.

٣٢٣

ابن الحضرمي وكثر أتباعه فزع زياد وهاله ذلك ، فبعث إلى الحضين بن منذر الرقاشي ومالك بن مسمع (؟) فدعاهما وقال لهما : إنّكم أنصار أمير المؤمنين و «شيعته» وثقته ، وقد جاءكم هذا الرجل بما قد بلغكم ، فأجيروني حتّى يأتيني أمر أمير المؤمنين ورأيه.

فقال الحضين الرقاشي : نعم ، نحن فاعلون ، ولن نخذلك ولن نسلمك!

ولكن مالكا قال : أمّا أنا فأرجع إلى من ورائي واستشيرهم في ذلك وانظر فيه ثمّ ألقاك!

فلم ير زياد منهما ما يطمئنّ إليه (١).

وكان أبو الأسود الدؤلي على بيت المال فاستشاره زياد وقال له : ألا ترى كيف صغى أهل البصرة إلى معاوية؟! وما لي مطمع في الأزد!

فقال له أبو الأسود : إن أنت تركتهم تركوك ولم ينصروك ولكنّك إن أصبحت فيهم منعوك (٢)!

فبعث زياد إلى صبرة بن شيمان الأزدي فقال له : يا ابن شيمان ، أنت سيّد قومك وأحد عظماء هذا المصر ، فإن لم يكن فيه أحد هو أعظم أهله فأنت ، أفلا تجيرني وتمنعني؟ وتمنع بيت مال المسلمين ، فإنّما أنا أمين عليه!

فأجابه صبرة : بلى إن أنت تحمّلت حتّى تنزل في داري منعتك! فوافقه على ذلك ثمّ ارتحل ليلا حتى نزل دار صبرة ، ولما أصبح كتب إلى عبد الله بن عباس :

للأمير عبد الله بن عباس ، من زياد بن عبيد (الثقفي) سلام عليك ، أمّا بعد ، فإنّ عبد الله بن عامر الحضرمي أقبل من قبل معاوية حتّى نزل في بني تميم ، ونعى ابن عفّان ودعا إلى الحرب ، فتابعه جلّ أهل البصرة! فلمّا رأيت ذلك استجرت في الأزد

__________________

(١) الغارات ٢ : ٣٨٧ و ٣٨٩.

(٢) الغارات ٢ : ٣٩١ عن الكلبي.

٣٢٤

بصبرة بن شيمان وقومه لنفسي ولبيت مال المسلمين ، فرحلت من قصر الإمارة فنزلت فيهم ، وإنّ الأزد معي ، و «شيعة» أمير المؤمنين من سائر القبائل تختلف إليّ ، وشيعة عثمان تختلف إلى ابن الحضرمي ، والقصر خال منّا ومنهم. فارفع ذلك إلى أمير المؤمنين ليرى فيه رأيه ، ويعجّل عليّ بالذي يرى أن يكون منه فيه ، والسلام.

فلمّا بلغ ذلك إلى ابن عباس رفعه إلى علي عليه‌السلام فشاع ذلك في الناس.

وكان دار صبرة الأزدي قريبا من محلّة بني حدّان من بني تميم وكان لهم مسجد هناك ولم يوافقوا سائر بني تميم مع ابن الحضرمي ، فقال صبرة لزياد : ليس حسنا أن تكون مختفيا فينا بل نمشي بك إلى مسجد الحدّان ، ووافقه زياد ، فاتّخذ صبرة له منبرا وسريرا في ذلك المسجد وجعل له شرطا ، ولمّا كان يوم الجمعة صلّى بهم الجمعة هناك ، فاجتمعت الأزد على زياد فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم :

يا معشر الأزد ، أنتم كنتم (بالأمس) أعدائي فأصبحتم اليوم أوليائي وأولى الناس بي ، وإنّي لو كنت في بني تميم وكان ابن الحضرمي نازلا فيكم لم أطمع فيه أبدا ، فلا يطمع ابن الحضرمي فيّ وأنتم دوني ، وليس «ابن آكلة الأكباد» في بقيّة الأحزاب وأولياء الشيطان بأدنى إلى الغلبة من أمير المؤمنين علي في المهاجرين والأنصار ، وقد أصبحت فيكم مضمونا وأمانة مؤدّاة ، وقد رأينا وقعتكم «يوم الجمل» فاصبروا مع الحقّ اليوم كصبركم مع الباطل بالأمس ، فإنّكم لا تحمدون إلّا على النجدة ، ولا تعذرون على الجبن! وسكت.

فقام صبرة بن شيمان فقال لهم : يا معشر الأزد ، إنّا قلنا «يوم الجمل» : نمنع مصرنا ونطيع أمّنا وننصر خليفتنا المظلوم! فأنعمنا القتال ، وأقمنا بعد انهزام الناس حتّى قتل منّا من لا خير فينا بعده! وهذا زياد جاركم اليوم ، والجار مضمون! ولسنا نخاف من علي ما نخاف من معاوية! فهبوا لنا أنفسكم ، وامنعوا جاركم ، أو فأبلغوه مأمنه!

٣٢٥

فقال الأزديّون : إنّما نحن تبع لكم ، فأجيروه. وقام شيمان بن صبرة وقال لهم :

يا معشر الأزد ، ما أبقت عواقب الجمل عليكم إلّا سوء الذكر! وقد كنتم بالأمس على عليّ فكونوا اليوم له ، واعلموا أنّ سلمكم جاركم ذلّ وخذلكم إيّاه عار! وأنتم حيّ مضماركم الصبر وعاقبتكم الوفاء ، فإن سار القوم بصاحبهم فسيروا بصاحبكم ، وإن وادعوكم فوادعوهم ، وإن استمدّوا معاوية فاستمدّوا عليّا (١).

هذا وقد كان ابن الحضرمي قد أقبل من قبل على صبرة الأزدي وقال له : يا صبرة ، أنت عظيم من عظماء العرب ورأس قومك وأحد الطالبين بدم عثمان (سابقا) رأينا رأيك ورأيك رأينا وبلاء القوم عندك في نفسك وعشيرتك ما قد ذقت ورأيت! فكن من دوني وانصرني!

وكان صبرة قد أجابه من قبل بمثل جوابه لزياد ، قال له : إن أنت أتيت فنزلت في داري نصرتك ومنعتك! فقال ابن الحضرمي : ولكن أمير المؤمنين معاوية! قد أمرني أن أنزل في قومه من مضر : فقال صبرة : فاتّبع ما أمرك به! وانصرف من عنده (٢).

وحاول الحضرمي القصر فمنع منه :

وحين خلًّا زياد القصر أمر العثمانيون من قيس وبني تميم ابن الحضرمي أن يسير إلى القصر ، ووافقهم ودعا من أجابه منهم لذلك ، وبلغ ذلك الأزد فبعثوا إلى هؤلاء : والله إنّا لا ندعكم أن تأتوا القصر فتنزلون به من لا نرضى ونحن له كارهون ، حتى يأتي رجل هو رضى لنا ولكم! وألحّ هؤلاء وأصرّ أولئك.

__________________

(١) الغارات ٢ : ٣٩٠ ـ ٣٩٣.

(٢) الغارات ٢ : ٣٨٨ ـ ٣٨٩.

٣٢٦

فتوسّط بينهم الأحنف التميمي فقال لقومه مع ابن الحضرمي : والله ما أنتم بقصر الإمارة بأحقّ من القوم ، وما لكم أن تؤمّروا عليهم من يكرهونه ، فانصرفوا عنهم.

وقال للأزد : إنّه لم يكن ما تكرهون ، ولن يؤتى إلّا ما تحبون! فانصرفوا رحمكم الله ، فانصرفوا (١).

ولمّا رأى بنو تميم أنّ الأزد قاموا هكذا دون زياد بالدفاع بعثوا إليهم : أن أخرجوا صاحبكم ونحن أيضا نخرج صاحبنا ، فإذا غلب أحدهما دخلنا في طاعته من دون أن نهلك أنفسنا!

فأجابهم شيمان بن صبرة : نعم لو كان هذا قبل أن نجيره ، أمّا الآن فقتله وإخراجه سواء ، وإنّكم لتعلمون أنّا لم نجره إلّا تكرّما ، فالهوا عن هذا (٢).

الإمام والحمية القبلية :

كان أكثر الأزد في حرب البصرة مع «الجمل» أمّا بنو تميم فقد انضمّ بعضهم إلى الإمام عليه‌السلام وبإذنه تخلّف كثير منهم مع الأحنف بن قيس. ثمّ انضمّ كثير من الأزد إلى الإمام عليه‌السلام ومنهم مخنف بن سليم الذي ولّاه الإمام على همدان وأصفهان ثمّ استقدمه لحرب صفّين ، وكان اليوم حاضرا معه في الكوفة. وكان من بني تميم في الكوفة شبث بن ربعي اليربوعي التميمي وكره لجوء زياد إلى الأزد ، فقال للإمام عليه‌السلام وبمسمع من مخنف :

يا أمير المؤمنين ، ابعث إلى هذا الحيّ من تميم (البصرة) فادعهم إلى طاعتك ولزوم بيعتك ، ولا تسلّط عليهم أزد عثمان البعداء البغضاء! فإنّ «واحدا من قومك خير لك من عشرة من غيرهم» (مثل)!

__________________

(١) الغارات ٢ : ٣٩١.

(٢) الغارات ٢ : ٣٩٤.

٣٢٧

فلمّا سمع بذلك مخنف بن سليم الأزدي أجابه : إنّ البعيد البغيض من عصى الله وخالف أمير المؤمنين ، وهم قومك! وإن الحبيب القريب من أطاع الله ونصر أمير المؤمنين وهم قومي! وأحدهم خير لأمير المؤمنين من عشرة من قومك!

فرآها الإمام عليه‌السلام حميّة شيطانيّة جاهليّة فقال لهما : مه ؛ أيها الناس ، تناهوا ، وليردعكم الإسلام ووقاره عن التباغي والتهاذي ، ولتجتمع كلمتكم ، وألزموا دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره ، وكلمة الإخلاص التي هي قوام الدين ، وحجّة الله على الكافرين. واذكروا إذ كنتم قليلا مشركين ، متفرقين متباغضين ، فألّف بينكم بالإسلام فكثرتم واجتمعتم وتحاببتم ، فلا تفرقوا بعد إذ اجتمعتم ، ولا تباغضوا بعد إذ تحاببتم ، فإذا انفصل الناس وكانت بينهم الثائرة فتداعوا إلى العشائر والقبائل ، فاقصدوا لهامهم ووجوههم بالسيوف! حتّى يفزعوا إلى كتاب الله وسنّة نبيّه .. فأمّا تلك الحمية فهي من خطوات الشيطان فانتهوا عنها لا أبا لكم تفلحوا وتنجحوا (١) ولكن ذلك لم يمنعه من العمل بمشورة ابن الربعي.

إرسال المجاشعي ومقتله :

وكان من بني تميم الكوفة بنو مجاشع ، ومنهم أعين بن ضبيعة المجاشعي ، دعاه الإمام وقال له :

يا أعين! أما بلغك أنّ قومك (بني تميم البصرة) وثبوا مع ابن الحضرمي على عاملي (زياد) يدعون إلى فراقي وشقاقي ، ويساعدون الضلال الفاسقين عليّ؟!

فقال أعين : يا أمير المؤمنين ، لا تستاء ولا يكن ما تكره! ابعثني إليهم فأنا زعيم لك بطاعتهم وتفريق جماعتهم ، ونفي ابن الحضرمي من البصرة أو قتله!

فقال الإمام له : فاخرج الساعة. فخرج إلى البصرة.

__________________

(١) الغارات ٢ : ٣٩٤ ـ ٣٩٦.

٣٢٨

وقدم البصرة فدخل على الأزد وفيهم زياد فدخل عليه وأخبره بما قال له الإمام وما ردّه عليه وما هو رأيه.

وكان الإمام عليه‌السلام قد أرفقه أو عقّبه بكتاب إلى زياد ، فبينما هما في الكلام إذ دخل البريد بكتابه وفيه :

من عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى زياد بن عبيد ؛ سلام عليك ، أما بعد ، فإنّي قد بعثت أعين بن ضبيعة ليفرّق قومه عن ابن الحضرمي ، فإن فعل وبلغ من ذلك ما يظنّ به من تفريق تلك الأوباش فهو ما نحب ، وإن ترامت الأمور بالقوم إلى الشقاق والعصيان ، فانهض بمن أطاعك إلى من عصاك فجاهدهم ، فإن ظفرت فهو ما ظننت ، وإلّا فطاولهم وماطلهم فكأن كتائب المسلمين قد أظلّت عليك ؛ فقتل الله المفسدين الظالمين ونصر المؤمنين المحقّين ، والسلام.

فقرأه زياد ثمّ أقرأه ابن ضبيعة فقال : إني لأرجو أن نكفي هذا الأمر (العسكري) إن شاء الله.

ثمّ خرج من عنده إلى رحله ودعا إليه رجالا من قومه ثمّ خطبهم فقال لهم ـ بعد حمد الله والثناء عليه ـ :

يا قوم علام تقتلون أنفسكم وتهريقون دماءكم على الباطل مع السفهاء الأشرار؟! وإنّي ما جئتكم حتّى عبّأت لكم الجنود! فإن تنيبوا إلى الحقّ يقبل منكم ويكفّ عنكم ، وإن أبيتم فهو والله بواركم واستئصالكم!

فلمّا وافقوه قال لهم : فانهضوا الآن على بركة الله معي إلى ابن الحضرمي! ثمّ نهض بهم إلى ابن الحضرمي ، فخرجوا إليه معه فصافّوه وواقفهم يناشدهم ويقول لهم : يا قوم لا تنكثوا بيعتكم ، ولا تخالفوا إمامكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا ؛ فقد رأيتم وجرّبتم كيف صنع الله بكم عند نكثكم بيعتكم وخلافكم (في الجمل).

فأخذوا ينالون منه ويشتمونه حتّى انصرف عنهم.

٣٢٩

ولكنّه تبعه عشرة من خوارج البصرة حتّى هجموا عليه وهو في فراشه فخرج عريانا فلحقوه وقتلوه!

وكأنّ بني تميم شعروا بأنّ زيادا والأزد يريدون حربهم لذلك فأرسلوا إلى الأزد يتبرءون من قتل ابن ضبيعة المجاشعي وقالوا : والله ما عرضنا لجاركم إذ أجرتموه ، فما تريدون إلى حربنا وإلى جارنا. فشعر زياد بكراهة الأزد لحرب بني تميم فتركهم ، وكتب إلى الإمام عليه‌السلام :

أما بعد ، يا أمير المؤمنين ، فإنّ أعين بن ضبيعة (المجاشعي) قدم علينا من قبلك بصدق ويقين وجدّ ومناصحة ، فجمع إليه من أطاعه من عشيرته فحثّهم على الطاعة والجماعة ، وحذّرهم الخلاف والفرقة ، ثمّ نهض بمن أقبل معه إلى المدبرين فواقفهم حتّى تصدّع عن ابن الحضرمي كثير ممّن كان يريد نصرته ، وواقفهم عامّة النهار حتّى أمسى فرجع إلى رحله ، فبيّته نفر من الخارجة المارقة فأصيب رحمه‌الله.

فأردت عند ذلك أن أناهض ابن الحضرمي (كما أمرت) وقد أمرت صاحب كتابي هذا أن يذكر لأمير المؤمنين ما حدث. وأرى أن يبعث أمير المؤمنين إليهم خارجة بن قدامة السعدي (التميمي) فإنّه نافذ البصيرة مطاع في العشيرة ، شديد على عدوّ أمير المؤمنين ، فإن يقدم يفرّق الله بينهم بإذنه ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته (١).

وقدم قدامة البصرة :

فلمّا وصل كتاب زياد وقرأه الإمام عليه‌السلام قبل مشورته فدعا بجارية بن قدامة السعدي وقال له :

__________________

(١) الغارات ٢ : ٣٩٦ ـ ٣٩٨. وقارن بما عن النميري البصري عن المدائني البصري في الطبري ٥ : ١١١ ، ١١٢.

٣٣٠

يا ابن قدامة ، تمنع الأزد عاملي (زيادا) وبيت مالي ، ومضر (ومنهم تميم) تشاقني وتنابذني؟! ـ وبنا ابتدأها الله بالكرامة وعرّفها الهدى! ـ وتدعو إلى المعشر الذين حادّوا الله ورسوله وأرادوا إطفاء نور الله ، حتّى علت كلمة الله وهلك الكافرون!

فقال له جارية : يا أمير المؤمنين ، ابعثني إليهم واستعن بالله عليهم.

فقال الإمام : قد بعثتك إليهم واستعنت بالله عليهم ، ثمّ كتب له كتابا إلى أهل البصرة وفيه : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من ساكني البصرة من المؤمنين والمسلمين ، سلام عليكم ، أما بعد ، فإنّ الله حليم ذو أناة ، لا يعجّل بالعقوبة قبل البيّنة ، ولا يأخذ المذنب عند أوّل وهلة ، ولكنّه يقبل التوبة ويستديم الأناة ويرضى بالإنابة ، ليكون أعظم للحجّة وأبلغ في المعذرة.

وقد كان من شقاق جلّكم أيها الناس ما استحققتم أن تعاقبوا عليه ، فعفوت عن مجرمكم ، ورفعت السيف عن مدبركم ، وقبلت من مقبلكم ، وأخذت بيعتكم ، فإن تفوا ببيعتي وتقبلوا نصيحتي وتستقيموا على طاعتي ، أعمل فيكم بالكتاب والسنّة وقصد الحق ، وأقم فيكم سبيل الهدى! فو الله ما أعلم أنّ واليا بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله «أعلم» بذلك منّي ولا «أعمل»! أقول قولي هذا صادقا ، غير ذام لمن مضى ولا منتقصا لأعمالهم.

فإنّ خطت بكم الأهواء المردية وسفه الرأي الجائر إلى منابذتي تريدون خلافي ، فها أنا ذا قرّبت جيادي ورحّلت ركابي ، وايم الله لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعنّ بكم وقعة لا يكون «يوم الجمل» عندها إلّا كلعقة لاعق ، وإنّي لظانّ أن لا تجعلوا على أنفسكم سبيلا إن شاء الله. وقد قدّمت هذا الكتاب حجّة عليكم ، ولن أكتب إليكم من بعده كتابا إن أنتم استغششتم نصيحتي ونابذتم رسولي ، حتّى أكون أنا الشاخص نحوكم إن شاء الله! والسلام. فدفعه إليه وقال له : اقرأه عليهم.

٣٣١

وخرج قدامة بخمسين رجلا من قومه (١) حتّى دخل البصرة وبدأ بزياد فرحّب به وأجلسه إلى جانبه وناجاه ساعة وساءله ، فكان من وصيّته له أن قال له : احذر على نفسك واتق أن تلقى ما لقي القادم قبلك! وخرج جارية من عنده وقد اجتمع الأزد فقام فيهم وقال لهم : جزاكم الله من حيّ خيرا ، ما أعظم عناءكم وأحسن بلاءكم وأطوعكم لأميركم ، وقد عرفتم الحقّ إذ ضيّعه من أنكره ، ودعوتم إلى الهدى إذ تركه من لم يعرفه. ثمّ قرأ عليهم كتاب الإمام إليهم ، وفيهم زعيمهم صاحب الدار صبرة بن شيمان فقال له :

سمعنا وأطعنا ونحن لمن حارب أمير المؤمنين حرب ولمن سالم أمير المؤمنين سلم ، إن كفيت يا جارية قومك بقومك فذاك ، وإن أحببت أن ننصرك نصرناك. وقام غيره من وجوههم فقالوا مثله (٢).

خطاب زياد في الأزد :

وقام زياد في الأزد فقال لهم : يا معشر الأزد ؛ إنّ هؤلاء (بني تميم) كانوا بالأمس سلما فاصبحوا اليوم حربا ، وإنّكم كنتم حربا فأصبحتم اليوم سلما! وإنّي ـ والله ـ ما اخترتكم إلّا على التجربة ، ولا أقمت فيكم إلّا على التأمّل ، فما رضيتم أن أجرتموني حتّى نصبتم لي منبرا وسريرا ، وجعلتم لي شرطا وأعوانا ، ومناديا وجمعة! فما فقدت بحضرتكم شيئا إلّا هذا الدرهم أن أجبيه ، فإن لم أجبه اليوم أجبه غدا إن شاء الله.

__________________

(١) كذا في الغارات والطبري ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٣٣ الحديث ٥١٠ عن أبي عبيدة القاسم بن سلّام البصري : أنّهم كانوا ألفا وخمسمائة. وهو الأقرب الأنسب.

(٢) الغارات ٢ : ٤٠١ ـ ٤٠٤.

٣٣٢

واعلموا أنّ حربكم اليوم معاوية أيسر عليكم في الدين والدنيا من حربكم أمس عليّا! وقد قدم عليكم جارية بن قدامة ، وإنما أرسله علي ليصدع أمر قومه ، والله ما هو بالأمير المطاع ولا بالمغلوب المستغيث ، ولو أدرك أمله في قومه لرجع إلى أمير المؤمنين أو كان لي تبعا. وأنتم الهامة العظمى والجمرة الحامية ، فقدّموه إلى قومه. فإن اضطر إلى نصركم فسيروا إليه إن رأيتم ذلك. وسكت.

وكان زعيمهم شيمان أبو صبرة غير حاضر يوم الجمل فقام وقال لزياد : يا زياد ، والله لو شهدت قومي يوم الجمل رجوت أن لم يكونوا يقاتلوا عليّا! وقد مضى الأمر بما فيه ، وهو يوم بيوم وأمر بأمر ، والله إلى الجزاء بالإحسان أسرع منه إلى الجزاء بالسيّئ ، والتوبة مع الحقّ والعفو مع الندم ، ولو كانت هذه فتنة لدعونا القوم إلى إبطال الدماء واستئناف الأمور ، ولكنّها جماعة دماؤها حرام وجروحها قصاص ، ونحن معك ، فقدّم هواك نحبّ ما أحببت! وسكت.

فقام ابنه صبرة وقال : إنا والله ما أصبنا بمصيبة في دين ولا دنيا كما أصبنا يوم الجمل ، وإنا لنرجوا اليوم أن نمحّص ذلك بطاعة الله وطاعة أمير المؤمنين. ثمّ التفت إلى زياد وقال له :

وأما أنت يا زياد! فو الله ما أدركت أملك فينا ولا أدركنا أملنا فيك دون ردّك إلى دارك ، ونحن رادّوك إليها غدا إن شاء الله تعالى ، فإذا فعلنا فلا يكن أحد أولى بك منّا! فإنك إن لم تفعل نأت بما لا يشبهك! وإنا ـ والله ـ نخاف من حرب علي في الآخرة ما لا نخاف من حرب معاوية في الدنيا ، فقدّم هواك وأخّر هوانا ، فنحن معك وطوعك!

وكان جيفر بن الجلندي الأزدي العماني معهم فقام وقال لزياد : أيها الأمير ، إنك لو رضيت منّا بما ترضى به من غيرنا لم نرض نحن بذلك! ولو رضينا بذلك لكنّا قد خنّاك! لأنّ لنا عقدا مقدّما وحمدا مذكورا! فسر بنا إلى القوم إن شئت ، وايم الله ما لقينا يوما قط إلّا اكتفينا بعفونا دون جهدنا إلّا ما كان أمس.

٣٣٣

ومضى جارية بمن معه إلى قومه وصاح فيهم ، فلم يخرج إليه منهم إلّا أوباش منهم شتموه وناوشوه! فأرسل إلى الأزد يأمرهم أن يسيروا إليه.

فسارت الأزد بزياد إلى دار الإمارة حتّى أدخلوه فيها ، ثمّ ساروا إلى ابن الحضرمي ، وخرج إليهم ابن الحضرمي وعلى خيله عبد الله بن خازم السلمي الأسود ، وأقبل شريك بن الأعور الحارثي الهمداني بجمع من همدان البصرة فقاتل مع جارية على ابن الحضرمي وبني تميم ، فما لبث بنو تميم أن انهزموا إلى دار ابن سنبيل السعدي التميمي ، وجاءت أم ابن خازم فأخرجته منهم وذهبت به ، وهي راعية حبشية (١).

وقال جارية لمن معه من قومه : عليّ بالنار! فانحاز الأزد من ذلك وقالوا له : هم قومك وأنت أعلم وما تفعل بهم! فأحرق جارية قصر ابن سنبيل بمن فيه وهم سبعون رجلا. وذهبت الأزد إلى زياد في القصر وقالوا له : هل بقي علينا من جوارك شيء؟ قال : لا. قالوا : فبرئنا من جوارك؟ قال : نعم. فانصرفوا عنه إلى ديارهم ، واستقامت البصرة لزياد ، واستردّ بيت المال إلى القصر (٢).

تقرير زياد إلى الإمام :

كان من بني تميم البصرة الموالين للإمام : ظبيان بن عمارة ، فدعاه زياد وأرسله بكتابه إلى الإمام وفيه :

أما بعد ، فإنّ العبد الصالح جارية بن قدامة قدم من عندك فناهض جمع

__________________

(١) هنا في أنساب الأشراف ٢ : ٣٣٦ الحديث ٥١٢ : أحاطوا به وقالوا : من خرج منه فهو آمن ، فخرج ناس منهم.

(٢) الغارات ٢ : ٤٠٤ ـ ٤٠٨.

٣٣٤

ابن الحضرمي بمن نصره وأعانه من الأزد ، ففضّه واضطرّه إلى الدار في عدد كثير من أصحابه ولم يخرج منه. فقتل ابن الحضرمي وأصحابه ، منهم من القي عليه الجدار ، ومنهم من هدم البيت عليه من أعلاه ، ومنهم من قتل بالسيف ، ومنهم من احرق بالنار! ونفر منهم تابوا وأنابوا فصفح عنهم وسلموا ، فبعدا لمن عصى وغوى ، والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.

فلمّا وصل كتاب زياد إلى الإمام عليه‌السلام سرّ بذلك وقرأه على أصحابه فسرّوا بذلك ، وأثنى على الأزد وعلى جارية (ومن معه من بني تميم) وذمّ البصرة فقال : إنها أول القرى خرابا إمّا حرقا وإمّا غرقا ، حتّى يبقى مسجدها كجؤجؤ السفينة! ثمّ التفت إلى ظبيان البصري وسأله : أين منزلك منها؟ قال : قلت : بمكان كذا ، فقال عليه‌السلام : عليك بضواحيها ، عليك بضواحيها (١).

ثمّ عاد جارية السعدي التميمي بمن معه إلى الكوفة.

زياد لفارس وكرمان :

مرّ في أخبار آثار حرب صفّين : أنّه كان من آثارها اختلال امور فارس وكرمان ، وأن ابن عباس اقترح على الإمام عليه‌السلام أن يرسل لإخضاعها زيادا وبعثه.

وكأنّ ذلك تكرّر مرة اخرى مع اختلال أمر البصرة : كما روى الطبري بسنده عن عليّ بن كثير قال : لما أقبل ابن الحضرمي إلى البصرة فاختلف الناس في عليّ عليه‌السلام ، طمع أهل فارس وكرمان في كسر الخراج ، فتغلّب أهل كل ناحية على ما يليهم فأخرجوا عمّالهم.

__________________

(١) الغارات ١ : ١٩١ و ٢ : ٤١٠ ـ ٤١٢ وقارن بما عن النميري البصري عن المدائني البصري في الطبري ٥ : ١١٢.

٣٣٥

هذا وقد عاد جارية بن قدامة إليه وابن عباس لا زال عنده فاستشار الإمام في رجل يولّيه أمر فارس.

فقال له جارية بن قدامة : يا أمير المؤمنين ؛ ألا أدلّك على رجل صليب الرأي عالم بالسياسة كاف لما ولي؟ قال عليه‌السلام : من هو؟ قال : زياد. وقال ابن عباس : أنا أكفيك فارس.

وعاد ابن عباس إلى البصرة فوجّه زيادا في أربعة آلاف فارس ، وهي تضطرم نارا ، فلم يقف وقفا للحرب ، إلّا أنّه لما قدم فارس بعث إلى رؤسائها فوعد من نصره منهم ومنّاهم ، وخوّف قوما وتوعّدهم ، حتّى دلّه بعضهم على عورة بعض ، فضرب بعضهم ببعض ، حتّى هربت طائفة وأقامت اخرى ، وقاتل بعضهم بعضا ، فصفا له أهل فارس من دون أن يلق فيها حربا ولا جمعا.

ثمّ مضى إلى كرمان وفعل فيها مثل ما فعل في فارس ، وسار في كورها ومنّاهم ، ثمّ عاد إلى فارس وقد سكن له الناس واستقامت له البلاد.

فنزل في اصطخر واختار بينها وبين بيضائها منطقة بنى بها قلعة وحصّنها ، وحمل الأموال إليها وتحصّن فيها ، وسمّيت قلعة زياد (١).

وكتب إليه معاوية يدعوه إليه ويتهدده ، فذكر بعض البصريين أن زيادا كتب إلى معاوية : أما بعد ، فقد بلغني كتابك يا ابن بقيّة الأحزاب! وابن عمود النفاق! ويا ابن آكلة الأكباد! أتهدّدني وبيني وبينك ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في سبعين ألفا ، سيوفهم قواطع ، ولئن رميت ذلك منّي لتجدنّي أحمر ضرّابا بالسيف (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٣٧ ـ ١٣٨ بأسناده.

(٢) الغارات ٢ : ٦٤٦ ـ ٦٤٨.

٣٣٦

بقايا تمرّدات الخوارج :

كانت وقعة النهروان في التاسع من شهر صفر (٣٨ ه‍) (١) ثمّ ثارت حوادث مصر ويبدو أنّها استمرّت شهرين حتى حدود العاشر من ربيع الثاني.

وفي ربيع الثاني (٣٨ ه‍) ثار من بقايا الخوارج أشرس بن عوف الشيباني ومعه مائتان من شيبان وغيرهم ، في الدسكرة ثمّ سار إلى الأنبار.

فوجّه إليه الإمام الأبرش بن حسان (البكري) مع ثلاثمائة ، فواقعه فقتل أشرس وتفرّق جمعه.

وفي جمادى الأولى ثار الأخوان هلال ومجالد ابنا علّفة في ما سبذان (في جبال إيلام) ومعه مائتان من تيم الرباب وغيرهم.

فوجّه الإمام إليه معقل بن قيس الرياحي فقاتلهم وفلّ جمعهم. فخرج إليهم الأشعث أو الأشهب البجلي ومعه مائة وثمانون رجلا من بني بجلة وغيرهم ، فصلّى على أولئك القتلى ودفنهم ، وذلك في جمادى الآخرة.

فوجّه إليه الإمام جارية بن قدامة السعدي التميمي أو حجر بن عديّ الكندي فالتقيا في جرجرايا من أرض جوخا (من توابع النهروان السفلى في نواحي بغداد إلى واسط) فقاتلهم وفلّ جمعهم.

وفي شهر رجب خرج سعيد بن قفل التيمي في البذرجين وسار إلى درزيجان (من المدائن السبع على ثلاثة فراسخ من بغداد) في حوزة أمير المدائن سعد بن مسعود الثقفي ، فخرج إليهم ففلّهم.

وفي شهر رمضان اتّفق أبو مريم السعدي التميمي مع خمسة آخرين من بني سعد من تميم وغيرهم ، وجمع حوله جمعا من الموالي مائتين إلى أربعمائة ، صعد إلى شهرزور (شرقي السليمانية في شمال العراق) ثمّ عاد إلى الكوفة حتى نزل على خمسة فراسخ منها!

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٢٨٢ ط. ٢.

٣٣٧

فبعث إليه الإمام شريح بن هانئ الهمداني في سبعمائة ، فحمل الخوارج الموالي بقيادة العرب عليهم فهزموهم إلى قرية قربهم وتراجع نصف أصحابه إلى الكوفة.

فقدّم الإمام بين يديه جارية بن قدامة السعدي التميمي فدعاهم ووعظهم فلم يجد فيهم ، ولحقهم الإمام بنفسه ودعاهم وحذّرهم فلم ينفعهم ، فقاتلهم فقتلهم وفلّ جمعهم حتّى لم يبق منهم سوى خمسين رجلا استأمنوه فآمنهم. وبقي منهم أربعون جرحى فأذن لأصحابهم الباقين المستأمنين أن يدخلوهم الكوفة ويداووهم (١).

وخرج الناجي هالكا :

مرّ الخبر عن الخرّيت بن راشد الناجي من بني ناجية ، أنّه ناجى الإمام عليه‌السلام بعزم قوم من أهل الكوفة على أن يفارقوه ، ومرّة أخرى بأنّه سمع الطائي والراسبي رأس الخوارج يذكرونه بسوء القول وأنّ الإمام ردّه ولم يسمع له.

ومقتضى هذا أنّه كان عند خروج خوارج النهروان مع الإمام عليه‌السلام لم يفارقه بعد ، ولكنّه بعد ذلك جمع جمعا من قومه بني ناجية فناجاهم بسوء القول في الإمام عليه‌السلام ثمّ خرج بهم ـ وهم ثلاثون رجلا ـ يمشي بينهم حتّى وقف بين يدي الإمام عليه‌السلام وقال له :

والله لا أطع أمرك ولا اصلّي خلفك ، وإنّي غدا لمفارقك! فقال له الإمام عليه‌السلام :

ثكلتك أمّك! إذا تنقض عهدك وتعصي ربّك ولا تضرّ إلّا نفسك ، أخبرني لم تفعل ذلك؟

قال : لأنّك حكّمت في الكتاب! وضعفت عن الحقّ إذ جدّ الجدّ! وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم ، فأنا عليك رادّ ، وعليهم ناقم ، ولكم جميعا مباين! فقال له الإمام عليه‌السلام :

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ٢٣٩ ـ ٢٤٨.

٣٣٨

ويحك! هلمّ إليّ أدارسك الكتاب وأناظرك في السنن ، وافاتحك امورا من الحقّ أنا أعلم بها منك ، فلعلّك تعرف ما أنت له الآن منكر ، وتستبصر ما أنت به الآن عنه عم وجاهل!

فقال له الخرّيت : فإنّي عائد إليك غدا ، فقال له الإمام : اغد ولا يستهوينّك الشيطان ولا يقتحمنّ بك رأي السوء ، ولا يستخفنّك الجهلاء الذين لا يعلمون ، فو الله لئن استرشدتني واستنصحتني وقبلت منّي لأهدينّك سبيل الرشاد. وخرج الخرّيت وأصحابه إلى أهاليهم.

واجتمع إليه في داره رجال من أصحابه لم يكونوا معه في دخوله على الإمام عليه‌السلام فقال لهم :

يا هؤلاء ، إنّي قد رأيت أن افارق هذا الرجل (الإمام) وإن كنت قد فارقته على أن أرجع إليه من غد ولكنّي لا أراني إلّا مفارقه! فقال أكثرهم : لا تفعل حتى تذهب إليه فإن أتاك بأمر تعرف قبلت منه وإن كانت الأخرى فما أقدرك على فراقه ، فلم يخالفهم.

وارتفع النهار ولم يأت الخرّيت ، فقال عبد الله بن فقيم أو قعين الأزدي للإمام عليه‌السلام :

يا أمير المؤمنين ، لم لا تأخذ الآن (الخرّيت بن راشد) وتستوثقه؟ فقال عليه‌السلام :

إنّا لو فعلنا هذا لكلّ من نتّهمه من الناس ملأنا السجون منهم! ولا أراني يسعني الوثوب على الناس والحبس لهم وعقوبتهم حتى يظهروا لنا الخلاف! فسكت وتنحّى وجلس مع الناس (١).

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٣٣ ـ ٣٣٥ عن عبد الله بن قعين ، وفي الطبري ٥ : ١١٣ ـ ١١٥ عن الكلبي ، عن أبي مخنف ، عن عبد الله بن فقيم الأزدي.

٣٣٩

خروج بني ناجية وتعقيبهم :

روى الثقفي ، عن المدائني ، عن عبد الله بن فقيم أو قعين : أنّه كان عند الإمام عليه‌السلام فقال له : ادن منّي ، فدنا منه فقال له سرّا : اذهب إلى منزل الرجل (الخرّيت بن راشد) فاعلم لي ما فعل؟

فذهب عبد الله إلى منزل الخرّيت وقومه فدار على دورهم فإذا ليس فيها داع ولا مجيب وليس منهم في منزله ديّار! فعاد إلى الإمام عليه‌السلام.

فلمّا رآه الإمام قال له : أأمنوا فقطنوا أم جبنوا فظعنوا؟ فقال : بل ظعنوا! قال : أبعدهم الله كما بعدت ثمود! أما والله لو قد اشرعت لهم الأسنّة وصبّت على هاماتهم السيوف فإنّهم ليندمون إنّ الشيطان قد استهواهم فأضلّهم ، وهو غدا متبرّئ منهم ومخلّ عنهم.

فقام إليه زياد بن خصفة التيمي البكري فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّه لو لم يكن من مضرّة هؤلاء إلّا فراقهم إيّانا ، لم يعظم فقدهم علينا فنأسى عليهم ، فإنّهم قلّ ما يزيدون في عددنا لو أقاموا معنا ، ولقلّ ما ينقصون من عددنا بخروجهم منّا ، ولكنّا نخاف أن يفسدوا علينا جماعة كثيرة ممّن يقدمون عليهم من أهل طاعتك ، فأذن لي في اتباعهم حتى أردّهم عليك إن شاء الله.

فقال له الإمام عليه‌السلام : اخرج في آثارهم راشدا ، ثمّ قال له : وهل تدري أين توجّه القوم؟

فقال : لا ، ولكنّي أخرج فأسأل واتّبع الأثر. فقال له : فاخرج رحمك الله حتّى تنزل دير أبي موسى (بعد النخيلة) ثمّ لا تبرحه حتّى يأتيك أمري ، فإنّهم إن كانوا قد خرجوا ظاهرين بارزين للناس في جماعة فإنّ عمّالي سيكتبون بذلك إليّ ، وإن كانوا متفرّقين مستخفين فذلك أخفى لهم ، وسأكتب إلى عمّال من حولي فيهم ، ثمّ كتب إليهم :

٣٤٠