موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

يصلونها ، فأتى جمع منهم إلى الإمام وقالوا له : اجعل لنا إماما يؤمّنا في شهر رمضان ، فنهاهم أن يجمعوا فيه بجماعة (١).

وأمر ابنه الحسن عليه‌السلام أن ينادي في الناس : أن لا صلاة في شهر رمضان في المساجد. فنادى الحسن بما أمر به أمير المؤمنين ، فلما سمع الناس مقالة الحسن عليه‌السلام صاحوا : وا عمراه! وا عمراه!

فلما رجع الحسن إلى أبيه عليهما‌السلام قال له : ما هذا الصوت؟ قال : يا أمير المؤمنين ، الناس يصيحون : وا عمراه! وا عمراه (٢)!

فروى العياشي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام قالا : إن أهل الكوفة لما أمسوا كانوا يقولون : ابكوا الصلاة في رمضان! وا رمضاناه!

وكان الحارث الأعور الهمداني ممّن يحبّ الإمام عليه‌السلام فاجتمع بجمع من الناس وأتوا إليه وقالوا له : يا أمير المؤمنين ؛ إن الناس كرهوا قولك وضجّوا! فعند ذلك قال لهم : دعوهم وما يريدون ليصلّي بهم من شاءوا! ثمّ تلا قوله سبحانه : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً)(٣).

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٢٧٥ ، والسرائر ٣ : ٦٣٨ عن ابن قولويه.

(٢) التهذيب ٣ : ٧٠ ح ٢٢٧.

(٣) النساء : ١١٥ والخبر هو السابق عن تفسير العياشي والسرائر الحاوي عن ابن قولويه ، وروى سليم بن قيس الهلالي العامري عذره عليه‌السلام عن حمل الناس على ترك هذه البدعة قال : لقد عملت الأئمة قبلي بأمور عظيمة خالفت فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين ، لو حملت الناس على تركها ... إلى ما كانت تجري عليه على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لتفرّق عنّي جندي ، حتى لا يبقى في عسكري غيري وقليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وإمامتي ... فلو أمرت الناس أن لا يجمعوا في شهر رمضان إلّا في فريضة لنادى بعض الناس من أهل العسكر وقالوا : غيّرت سنّة عمر ينهاها أن نصلي في شهر رمضان تطوّعا!

٤١

الأصبغ مبعوثا ثالثا :

وكتب الإمام عليه‌السلام إلى معاوية : «من عليّ إلى معاوية بن صخر ، أما بعد ، فقد أتاني كتاب امرئ ليس له نظر يهديه ولا قائد يرشده ، دعاه الهوى فأجابه وقاده الضلال فاتّبعه (١).

زعمت أنه أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان ، ولعمري ما كنت إلّا رجلا من المهاجرين أوردت كما أوردوا وأصدرت كما أصدروا ، وما كان الله ليجمعهم على ضلالة ولا ليضربهم بالعمى (٢) وما أمرت فتلزمني خطيئة الآمر ، ولا قتلت فيجب عليّ القصاص.

وأما قولك إن أهل الشام هم الحكّام على أهل الحجاز ، فهات رجلا من قريش الشام يقبل في الشورى أو تحل له الخلافة ، فإن زعمت ذلك كذّبك المهاجرون والأنصار ، وإلّا أتيتك به من قريش الحجاز.

وأمّا قولك : ادفع إلينا قتلة عثمان. فما أنت وعثمان؟! إنّما أنت رجل من بني أمية ، وبنو عثمان أولى بذلك منك. فإن زعمت أنك أقوى على دم أبيهم منهم ، فادخل في طاعتي ثمّ حاكم القوم إليّ أحملك وإيّاهم على المحجّة.

وأمّا تمييزك بين الشام والبصرة وبين طلحة والزبير. فلعمري ما الأمر فيما هناك إلّا واحد ؛ لأنها بيعة عامّة لا يثنّى فيها النظر ولا يستأنف فيها الخيار.

__________________

ـ حتى خفت أن يثوروا في ناحية عسكري ـ كتاب سليم بن قيس ٢ : ٧٢٠ ح ١٨ وتخريجه عن الكافي والخصال والتهذيب في ٣ : ٩٨١ ـ ٩٨٣.

(١) إلى هنا في نهج البلاغة ك ٧ ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٩٤ وفي شرح النهج للمعتزلي الشافعي ١٤ : ٤٢ : أنه كان جوابا لكتاب آخر من معاوية إليه عليه‌السلام في أواخر حرب صفين ، وذكر كتاب معاوية.

(٢) في اجتماعهم على عزل عثمان.

٤٢

وأمّا ولوعك بي في أمر عثمان : فما قلت ذلك عن حقّ العيان ، ولا يقين الخبر.

وأمّا فضلي في الإسلام وقرابتي من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وشرفي في قريش ، فلعمري لو استطعت دفع ذلك لدفعته» (١).

ثم دفع الكتاب إلى الأصبغ بن نباتة التميمي ، فسار إلى الشام.

قال : دخلت على معاوية وعن يمينه عمرو بن العاص ، وعن يساره حوشب وذو الكلاع وإلى جانبيه أخوه عتبة والوليد بن عقبة ، وعبد الله بن عامر بن كريز ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي ، وبين يديه أبو هريرة الدوسي وأبو الدرداء والنعمان بن بشير الأنصاري وأبو إمامة الباهلي وشرحبيل بن السمط ومعاوية بن خديج.

دفعت الكتاب إليه فلما قرأه قال : إنّ عليا لا يدفع إلينا قتلة عثمان!

فقلت له : يا معاوية! لا تعتلّ بقتلة عثمان ... ولو أردت نصرته حيا لفعلت ، ولكنّك تربّصت به وتقاعدت عنه لتجعل ذلك سببا إلى الدنيا ، فأنت لا تريد إلّا الملك والسلطان! فغضب معاوية.

ثم التفتّ إلى أبي هريرة وقلت له : يا أبا هريرة ؛ أنت صاحب رسول الله ، اقسم عليك بالله الذي لا إله إلّا هو ، وبحقّ رسوله ، هل سمعت رسول الله يوم غدير خم يقول في حق أمير المؤمنين : من كنت مولاه فعليّ مولاه؟ فقال : إي والله سمعته يقول ذلك!

فقلت له : فأنت يا أبا هريرة إذن واليت عدوّه وعاديت وليّه!

فتنفّس أبو هريرة وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون!

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٧ ، ٥٨.

٤٣

وتغيّر وجه معاوية وقال لي : ما هذا؟ كفّ عن كلامك؟ فلا تستطيع أن تخدع (!) أهل الشام عن الطلب بدم عثمان ، فإنه قتل مظلوما في شهر حرام في حرم رسول الله عند صاحبك ، وهو الذي أغراهم به حتى قتلوه ، وهم اليوم عنده أعوانه وأنصاره ويده ورجله! وما مثل عثمان من يهدر دمه!

فتنادى حوشب وذو الكلاع ومعاوية بن خديج قالوا له : يا معاوية ، لننصرنّك حتى يحصل مرادك أو نقتل عن آخرنا!

فقمت وقلت شعرا :

معاوي ؛ لله من خلقه

عباد قلوبهم قاسية

وقلبك من شرّ تلك القلوب

وليس المطيعة كالعاصية

دع ابن خديج ودع حوشبا

وذا كلع ، واقبل العافية

فصاح بي معاوية : أجئت رسولا أو منفرا؟!

فخرج الأصبغ وسار إلى العراق (١).

وفرّ ابن عمر إلى معاوية :

مرّ الخبر عن عبيد الله بن عمر وأنه قتل الهرمزان ، فطلب عليّ من عثمان قصاصه به ، ففرّ من المدينة إلى الكوفة ، وكفاه مئونته عثمان في الكوفة. فلما قدم الإمام إلى الكوفة فرّ منه إلى معاوية ، فلما قدم عليه قال له : يا ابن أخي ، إن لك اسم أبيك ، فانظر بملء عينيك وتكلم بكلّ فيك ، فأنت المأمون المصدّق! فاصعد المنبر واشتم عليا واشهد عليه أنه قتل عثمان!

__________________

(١) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي : ٨٣ ، ٨٤.

٤٤

فقال له ابن عمر : أيها الأمير ، أما شتمي له فإنّه عليّ بن أبي طالب وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، فما عسى أن أقول في حسبه ، وهو الشجاع المطرق وأيامه ما قد عرفت ، ولكنّي الزمه دم عثمان (١).

فكأنّه طمع في أخيه عبد الله فكتب إليه : «أما بعد فإنه مهما غابت عنّا الأمور فلن يغيب عنّا أن عليا قتل عثمان ، والدّليل على ذلك مكان قتلته منه ، وإنما نطلب بدمه حتى يدفعوا إلينا قتلته فنقتلهم بكتاب الله! فإن دفعهم عليّ إلينا كففنا عنه وجعلناها على ما جعلها عليه عمر بن الخطّاب : شورى بين المسلمين ، فلسنا نطلب الخلافة! فأعينونا على أمرنا هذا وانهضوا من ناحيتكم ، فإنه إذا اجتمعت أيدينا وأيديكم على أمر واحد هاب عليّ ما هو فيه» (٢).

وكتب إليه : «أما بعد ، فإنه لم يكن أحد من قريش أحبّ إليّ أن تجتمع عليه الامة بعد قتل عثمان منك! ولكنّي ذكرت خذلك إياه وطعنك على أنصاره فتغيّرت لك! ثمّ هوّن عليّ ذلك خلافك على عليّ فمحا عنك بعض ما كان منك! فأعنّا على حقّ هذا الخليفة المظلوم! فإني لست اريد الإمارة عليك ولكنّي اريدها لك! فإن أبيت كانت شورى بين المسلمين» يطمعه فيها بهذا.

فأجابه ابن عمر : «أما بعد ، فإن الرأي الذي أطمعك فيّ هو الذي صيّرك إلى ما صيّرك إليه : أني تركت عليا في المهاجرين والأنصار ، وطلحة والزبير وعائشة أمّ المؤمنين واتّبعتك! أما زعمك أني طعنت على عليّ ، فلعمري ما أنا كعليّ في الإيمان والهجرة ومكانه من رسول الله ونكايته في المشركين ، ولكن حدث أمر لم يكن لي فيه عهد من رسول الله ، ففزعت فيه إلى الوقوف وقلت : إن كان هدى ففضل تركته ، وإن كان ضلالة فشرّ نجوت منه ، فأغن عنّا نفسك» (٣).

__________________

(١) وقعة صفين : ٨٢ ، ٨٣.

(٢) وقعة صفين : ٦٣.

(٣) وقعة صفين : ٧٢.

٤٥

وفي خبر آخر أنه جمع في جوابه بينه وبين ابن العاص فقال لهما : «لعمري لقد أخطأتما موضع البصيرة ، وتناولتماها من مكان بعيد ، وما زاد الله من شك في هذا الأمر بكتابكما إلّا شكّا ، وما أنتما والخلافة؟! أما أنت يا معاوية فطليق ، وأما أنت يا عمرو فظنون (متّهم في دينه)» (١).

وطمع معاوية في سعد :

وطمع في سعد بن أبي الوقّاص بعد عمرو بن العاص ، فكتب إليه : «أما بعد ، فإنّ أحقّ الناس بنصر عثمان أهل الشورى الذين اختاروه ، وقد نصره طلحة والزبير وهما نظيراك في الإسلام وشريكاك في الأمر ، فلا تكرهنّ ما رضوا ولا تردنّ ما قبلوا ، فإنّا نردّها شورى بين المسلمين» يطمعه فيها بهذا. فأجابه سعد :

«أما بعد ، فإنّا عمر لم يدخل في الشورى من قريش إلّا من تحلّ له الخلافة! غير أنّ عليا قد كان فيه ما فينا ولم يك فينا ما فيه ... وطلحة والزبير لو لزما بيوتهما كان خيرا لهما» (٢).

جولان الخولاني وافتتانه :

وكأنّ نسّاك أهل حمص لم يعتزلوا دعوة شرحبيل فقط ، بل قام منهم أبو مسلم عبد الله أو عبد الرحمن أو يعقوب الخولاني الهمداني اليمني الشامي الزاهد في اناس من قرّاء أهل الشام فقدموا على معاوية وقالوا له :

__________________

(١) وقعة صفين : ٦٣.

(٢) وقعة صفين : ٧٥.

٤٦

يا معاوية ؛ علام تقاتل عليّا وليس لك مثل صحبته ولا قرابته ولا هجرته ولا سابقته؟!

فقال لهم : أنا لا أدّعي أنّ لي في الإسلام مثل صحبته ولا قرابته ولا هجرته ولا سابقته ؛ ولكن خبّروني عنكم : ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما؟! قالوا : بلى! قال : فليدفع إلينا قتلته فنقتلهم به ثمّ لا قتال بيننا وبينه!

قالوا : فاكتب إليه كتابا يأتيه به بعضنا. فكتب إلى علي عليه‌السلام هذا الكتاب :

«أما بعد ، فإن الله اصطفى محمدا بعلمه ، وجعله الأمين على وحيه والرسول إلى خلقه ، ثمّ اجتبى له أعوانا من المسلمين أيده بهم ، فكانوا في المنازل عنده على قدر فضائلهم في الإسلام.

وكان أنصحهم لله ولرسوله : خليفته! ثمّ خليفة خليفته! ثمّ الخليفة الثالث عثمان المقتول ظلما! فكلّهم حسدت وعلى كلهم بغيت! عرفنا ذلك في نظرك الشزر! وقولك الهجر! وتنفّسك الصعداء وإبطائك عن الخلفاء تقاد إلى كل منهم كما يقاد الفحل المخشوش (١)! تبايع وأنت كاره.

ثمّ لم تكن لأحد منهم بأعظم حسدا منك لابن عمّك عثمان! وكان أحقّهم أن لا تفعل به ذلك في قرابته وصهره! فقطعت رحمه ، وقبّحت حسنه ، وألّبت الناس عليه ، وبطنت وظهرت ، حتى ضربت إليه آباط الإبل ، وقيدت إليه الخيل العراب من كل افق ، وشهر عليه السلاح في حرم رسول الله ، فقتل معك في المحلة وأنت تسمع من داره الهيعة ، لا تردع الظن والتهمة عن نفسك فيه بقول ولا فعل! ولعمري يا ابن أبي طالب أقسم صادقا أن لو قمت فيما كان من أمره مقاما واحدا

__________________

(١) الفحل : الإبل الذكر ، والمخشوش : الذي ادخل في أنفه الخشاش : عود يشد به زمامه لقياده.

٤٧

تنهنه الناس عنه ، وتقبّح لهم ما انتهكوا منه ، ما عدل بك من قبلنا أحدا من الناس ، ولمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان والبغي عليه. وأخرى أنت بها عند أنصار عثمان ظنين : إيواؤك قتلته ، فهم عضدك وأنصارك ويدك وبطانتك. وقد بلغني أنك تتنصّل من دمه وتتبرأ منه ؛ فإن كنت صادقا فأمكنّا من قتلته نقتلهم به ، ثم نحن أسرع الناس إليك! وإلّا فليس بيننا وبينك إلّا السيف! وو الله الذي لا إله غيره لنطلبنّ قتلة عثمان في الجبال والرمال والبرّ والبحر حتى نقتلهم أو تلحق أرواحنا بالله ، والسلام».

ثم دفع الكتاب إلى الخولاني وأمره أن يسير به إلى علي عليه‌السلام فأوصله إليه (١) ومعه أبو هريرة (٢). وقام خطيبا فقال بعد الحمد والثناء : أما بعد ، فإنك قد قمت بأمر وتولّيته ، والله ما احبّ أنه لغيرك ، إن أعطيت الحقّ من نفسك! إنّ عثمان قتل مسلما محرما (كذا) مظلوما! فادفع إلينا قتلته ، وأنت أميرنا ، فإن خالفك أحد من الناس كانت أيدينا لك ناصرة وألسنتنا لك شاهدة ، وكنت ذا عذر وحجة! ثمّ سكت وجلس.

فقال له علي عليه‌السلام : اغد عليّ غدا فخذ جواب كتابك (٣) فكتب إليه :

«من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ؛ أما بعد ، فإنّ أخا خولان قدم عليّ بكتاب منك تذكر فيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وما أنعم الله عليه به

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٢٨٧ عن الكلبي عن أبي مخنف عن أبي روق الهمداني ، وفي وقعة صفين : ٨٦ ، ٨٧ بسند آخر عن أبي روق الهمداني : أن ابن عمر الأرحبي أخبره به وأعطاه نسخة الكتاب في إمارة الحجاج الثقفي في الكوفة.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٢٨٣.

(٣) وقعة صفين : ٨٦.

٤٨

من الهدى والوحي. فالحمد لله الذي صدقه الوعد وتمّم له النصر ، ومكّن له في البلاد ، وأظهره على أهل العداء والشنآن من قومه الذين وثبوا له وشنّعوا به ، وأظهروا له التكذيب ، وبارزوه بالعداوة ، وظاهروا على إخراجه وعلى إخراج أصحابه ، والّبوا عليه العرب وجامعوهم على حربه وجهدوا في أمره كلّ الجهد ، وقلّبوا له الأمور حتى ظهر أمر الله وهم كارهون. وكان أشدّ الناس عليه ألبة اسرته والأدنى فالأدنى من قومه إلّا من عصمه الله يا ابن هند!

لقد خبّأ لنا الدهر منك عجبا فلقد قلت فأفحشت! إذ طفقت تخبرنا عن بلاء الله تعالى في نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فينا ؛ فكنت في ذلك كجالب التمر إلى هجر ، أو كداعي مسدّده إلى النضال ، ذكرت : «أن الله اجتبى له من المسلمين أعوانا أيّده الله بهم ، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام ، فكان أفضلهم ـ زعمت ـ في الإسلام وأنصحهم لله ورسوله خليفته ، وخليفة خليفته من بعده» ولعمري إنّ مكانهما من الإسلام لعظيم! وإن المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد! رحمهما‌الله وجزاهما بأحسن الجزاء (١).

وذكرت : أن عثمان كان في الفضل ثالثا. فإن يكن عثمان محسنا فسيجزيه الله بإحسانه ، وإن يكن مسيئا فسيلقى ربّا غفورا لا يتعاظمه ذنب أن يغفره (٢).

ولعمر الله إني لأرجو ـ إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم في الإسلام ونصيحتهم لله ورسوله ـ أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر (أوفر قسم أهل بيت من المسلمين خ) فإنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله لما دعا إلى الإيمان بالله والتوحيد ، كنّا أهل البيت أول من آمن وصدّق بما جاء به ، فلبثنا أحوالا كاملة وما يعبد الله في ربع ساكن

__________________

(١) سيأتي التعليق على هذا المقطع من الكتاب عن المعتزلي الشافعي.

(٢) سيأتي التعليق عليه من المعتزلي الشافعي.

٤٩

(مسكون) من العرب غيرنا : فأراد قومنا قتل نبيّنا واجتياح أصلنا ، وهمّوا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل! فمنعونا الميرة وأمسكوا عنّا العذب وأحلسونا الخوف (١) وجعلوا علينا الأرصاد والعيون ، واضطرّونا إلى جبل وعر ، وكتبوا علينا بينهم كتابا : لا يؤاكلونا ولا يشاربونا ولا يناكحونا ولا يبايعونا ولا نأمن فيهم حتّى ندفع إليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقتلوه ويمثلوا به! فلم نكن نأمن فيهم إلّا من موسم إلى موسم.

فعزم الله لنا على منعه (حمايته) والذبّ عن حوزته ، والرمى من وراء حرمته ، والقيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف بالليل والنهار ، مؤمننا يبغي بذلك الأجر وكافرنا يحامي به عن الأصل (أو الأهل). وأما من أسلم من قريش بعد فإنهم مما نحن فيه أخلياء : فمنهم حليف ممنوع ، أو ذو عشيرة تدافع عنه فلا يبغيه أحد بمثل ما بغانا به قومنا من التلف ، فهم من القتل بمكان نجوة وأمن ، فكان ذلك ما شاء الله أن يكون ...

ثم أمر الله رسوله بالهجرة ، وأذن له بعد ذلك في قتال المشركين ، فكان إذا احمرّ البأس ودعيت نزال أقام أهل بيته فاستقدموا ، فوقى بهم أصحابه حرّ الأسنّة والسيوف ، فقتل عبيدة (بن الحارث بن المطّلب) يوم بدر ، وحمزة يوم احد ، وجعفر وزيد يوم مؤتة ، وأراد من لو شئت ذكرت اسمه (يعني نفسه) مثل الذي أرادوا من الشهادة مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله غير مرة ، إلّا أنّ آجالهم عجّلت ومنيّته اخّرت. والله مولى الإحسان إليهم والمنّان عليهم بما قد أسلفوا من الصالحات ، فما سمعت بأحد ولا رأيت فيهم من هو أنصح لله في طاعة رسوله ، ولا أطوع لرسوله في طاعة ربّه ، ولا أصبر على اللأواء والضرّاء وحين البأس ومواطن المكروه مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من هؤلاء النفر الذين سمّيت لك. وفي المهاجرين خير كثير نعرفه ، جزاهم الله بأحسن أعمالهم (٢).

__________________

(١) أي جعلوا الخوف لنا كأنه حلس وهو الجلّ للإبل فأجلسونا عليه ، تشبيها.

(٢) وقعة صفين : ٨٨ ـ ٩٠.

٥٠

فيا عجبا للدهر! إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي ولم تكن له كسابقتي التي لا يدلي أحد بمثلها ، إلّا أن يدّعي مدّع ما لا أعرفه ولا أظنّ الله يعرفه ، والحمد لله على كل حال (١).

وذكرت حسدي للخلفاء وإبطائي عنهم وبغيي عليهم! فأمّا البغي فمعاذ الله أن يكون (٢)! وأما الحسد فمعاذ الله أن أكون أسررته أو أعلنته (٣) وأما كراهتي لأمر القوم فإني لست أتبرّأ منه ولا أنكره ؛ وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبضه الله إليه ونحن أهل بيته أحقّ الناس به ، فقلنا لا يعدل الناس عنّا ولا يبخسونا حقّنا ، فما راعنا إلّا والأنصار قد صاروا إلى سقيفة بني ساعدة يطلبون هذا الأمر ، فصار أبو بكر وعمر إليهم فيمن تبعهما ، فاحتجّ أبو بكر عليهم بأن قريشا أولى بمقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم ؛ لأن رسول الله من قريش ، وبذلك توصّل إلى الأمر دون الأنصار. فإن كانت الحجة لأبي بكر بكونه من قريش فنحن أحق الناس برسول الله ممن تقدّمنا ؛ لأنّنا أقرب إليه من قريش كلها وأخصهم به ، وإن لم يكن لنا حق مع القرابة فالأنصار على دعواهم (٤).

فلا أدري أصحابي سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا؟ أو الأنصار ظلموا! بل عرفت أن حقّي هو المأخوذ وقد تركته لهم (٥).

ولقد أتاني أبوك حين قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبايع الناس أبا بكر فقال لي :

__________________

(١) نهج البلاغة ك : ٩.

(٢) وقعة صفين : ٨٨ ـ ٩٠.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٢٨١.

(٤) الفصول المختارة : ٢٨٧ من مصنّفات المفيد.

(٥) وقعة صفين : ٩١.

٥١

أنت أحقّ الناس بهذا الأمر فابسط يدك أبايعك! فكنت الذي أبيت ذلك مخافة الفرقة ؛ لقرب عهد الناس بالكفر والجاهلية ، وقد علمت ذلك من قول أبيك ، فإن تعرف من حقّي ما كان يعرفه أبوك تصب رشدك ، وإن لا تفعل فسيغني الله عنك (١).

وأما ما ذكرت من أمر عثمان وقطيعتي رحمه وتأليبي عليه! فإنّ عثمان عمل ما بلغك فصنع الناس ما قد رأيت ، وقد علمت أني كنت في عزلة عنه ، إلّا أن تتجنّ فتجنّ ما بدا لك (٢)!

وذكرت قتلته بزعمك وسألتني دفعهم إليك ؛ وما أعرف له قاتلا بعينه ، وقد ضربت هذا الأمر أنفه وعينيه فلم أر يسعني دفع من قبلي ممّن اتّهمته وأظننته إليك (٣) ولا إلى غيرك. ولعمري لئن لم تنزع عن غيّك وشقاقك لتعرفنّهم عن قليل يطلبونك ، ولا يكلّفونك أن تطلبهم في برّ ولا بحر ولا جبل ولا سهل (٤) إلّا أنه طلب يسوؤك وجدانه ، وزور لا يسرّك لقيانه! والسلام لأهله!» (٥).

تعليق رشيق :

نقل المعتزلي الشافعي عن شيخه النقيب الزيدي أنّه أملى عليه فكتب عنه تعليقا على مثل هذا الكتاب عنه عليه‌السلام ، قال : كان معاوية لا يزال يكيد عليا عليه‌السلام

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٢٨١ ووقعة صفين في آخر الرسالة.

(٢) وقعة صفين : ٩١.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٢٨٢.

(٤) وقعة صفين : ٩١ وهنا ذكر خبر أبي سفيان معه.

(٥) نهج البلاغة ك ٩ ، ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٩٤ ، وانظر تعليق المعتزلي على كيفية السلام الأخير في شرح النهج ١٤ : ٥١.

٥٢

بالكتاب يكتبه والرسالة يبعثها يطلب أن ينفث بما في صدره من حال أبي بكر وعمر إمّا مكاتبة أو مراسلة ، فيجعل ذلك حجة عند أهل الشام على الإمام ، ويضيفه إلى ما قرّره في أنفسهم من ذنوبه كما زعم ، إذ كان قد اتّهمه عندهم بأنه قتل عثمان أو مالأ على قتله! وأنه قتل طلحة والزبير وأسر عائشة وأراق دماء أهل البصرة! وبقيت خصلة واحدة وهي : أن يثبت لهم أنه يتبرّأ من أبي بكر وعمر وينسبهما إلى مخالفة الرسول في أمر الخلافة ، وأنهما وثبا عليه غلبة وغصباها منه ظلما ، وكانت هذه الطامة الكبرى غير مقتصرة على فساد أهل الشام على الإمام بل وأهل العراق ، الذين هم جنده وبطانته وأنصاره ؛ لأنهم كانوا يعتقدون إمامة الشيخين ، إلّا القليل الشاذّ من خواصّ الشيعة.

فكتب ذلك الكتاب مع أبي مسلم الخولاني يقصد أن يغضب عليا ويحرجه ويحوجه ـ إذا قرأ ذكر أبي بكر وأنّه أفضل المسلمين ـ إلى أن يخلط في جوابه بكلمة تقتضي طعنا في أبي بكر! فكان الجواب غير بيّن ليس فيه تصريح بالتظليم لهما ولا التصريح ببراءتهما ؛ فتارة يقول : أخذا حقّي وقد تركته لهما ، وتارة يترحّم عليهما (١).

تحويل الجواب للخولاني :

روى البلاذري ، عن الكلبي ، عن أبي مخنف ، عن أبي روق الهمداني : أنّ الناس اجتمعوا في المسجد فقرئ عليهم كتاب معاوية ، فقالوا : كلنا كنّا منكرين لعمل عثمان فكلّنا قتلته! وجعل الخولاني يقول : الآن طاب الضراب (٢)!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ١٥ : ١٨٤ ، ١٨٥.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٢٧٧ و ٢٧٩.

٥٣

واختلف عنه المنقري فقال : لما رجع الخولاني غدا ليأخذ الجواب وجد الناس قد بلغهم الذي جاء هو به ، فلبست الشيعة أسلحتها وغدوا فملئوا المسجد الجامع بالكوفة وأخذوا ينادون بوجهه : كلنا قتل ابن عفّان! وأذن للخولاني فدخل على علي عليه‌السلام فدفع إليه جواب كتاب معاوية ... وخرج وهو يقول : الآن طاب الضراب (١)!

طاب الضراب والحرب لإضراب الخولاني ، فطلب معاوية المزيد من ذلك فأشار عليه ابن العاص بقوله له : إنّ عليّا رجل نزق تيّاه (نعوذ بالله) وما شيء تستطعم به منه الكلام على أبي بكر وعمر بمثل تقريظهما له ، فاكتب إليه كتابا ثانيا مثل الأول لكي يحمله الغضب لنفسه أن يكتب إليك كلاما فيهما تتعلّق به لتقبيح حاله وتهجين مذهبه (٢)!

فكتب إليه مع الباهلي :

فكتب كتابا وأراد أن يبعثه إليه مع أبي الدرداء ثمّ أنفذه إليه مع أبي إمامة الباهلي :

«أما بعد ، فإن الله تعالى جدّه اصطفى محمدا عليه‌السلام لرسالته ، واختصّه بوحيه وتأدية شريعته ، فأنقذ به من العماية وهدى من الغواية ، ثمّ قبضه إليه رشيدا حميدا ، قد بلّغ الشرع ومحق الشرك وأخمد نار الإفك ، فأحسن الله جزاءه وضاعف عليه نعمه وآلاءه.

__________________

(١) وقعة صفين : ٨٦.

(٢) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٥ : ١٨٥ عن شيخه النقيب الزيدي البغدادي.

٥٤

ثمّ إنّ الله سبحانه اختصّ محمدا عليه‌السلام بأصحاب أيّدوه ، وآزروه ونصروه ، كما قال الله لهم : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)(١) فكان أفضلهم مرتبة وأعلاهم عند الله والمسلمين منزلة : الخليفة الأول ، الذي جمع الكلمة ولمّ الدّعوة وقاتل أهل الردّة. ثمّ الخليفة الثاني الذي فتح الفتوح ومصرّ الأمصار وأذلّ رقاب المشركين. ثمّ الخليفة الثالث المظلوم! الذي نشر الملّة وطبّق الآفاق بالكلمة الحنيفية.

فلما استوثق الإسلام وضرب بجرانه عدوت عليه فبغيته الغوائل ونصبت له المكايد ، وضربت له بطن الأمر وظهره ، ودسست عليه وأغريت به ، وقعدت عن نصره حيث استنصرك وسألك أن تدركه قبل أن يمزّق فما أدركته! وما يوم المسلمين منك بواحد!

لقد حسدت أبا بكر والتويت عليه ورأمت إفساد أمره ، وقعدت في بيتك ، واستغويت عصابة من الناس حتّى تأخّروا عن بيعته. ثمّ كرهت خلافة عمر وحسدته ، واستطلت مدّته ، وسررت بقتله وأظهرت الشماتة بمصابه! حتّى إنّك حاولت قتل ولده ؛ لأنّه قتل قاتل أبيه! ثمّ لم تكن أشدّ منك حسدا لابن عمّك عثمان : نشرت مقابحه ، وطويت محاسنه ، وطعنت في فقهه ثمّ في دينه ثمّ في سيرته ثمّ في عقله! وأغريت به السفهاء من أصحابك وشيعتك حتى قتلوه بمحضر منك لا تدفع عنه بلسان ولا يد! وما من هؤلاء إلّا من بغيت عليه وتلكّأت في بيعته حتّى حملت إليه قهرا تساق بخزائم الإقتار كما يساق الفحل المخشوش (٢)!

ثمّ نهضت الآن تطلب الخلافة ـ وقتلة عثمان خلصاؤك وشجراؤك والمحدقون بك ـ وتلك من أماني النفوس وضلالات الأهواء! فدع اللجاج والعبث جانبا وادفع

__________________

(١) الفتح : ٢٩.

(٢) الفحل : الإبل الذكر ، والمخشوش : الذي ادخل عود في خشمه لقيادته.

٥٥

إلينا قتلة عثمان ، وأعد الأمر شورى بين المسلمين ليتّفقوا على من هو لله رضا! فلا بيعة لك في أعناقنا ولا طاعة لك علينا ، ولا عتبى لك عندنا! وليس لك ولا لأصحابك عندي إلّا السيف! وو الذي لا إله إلّا هو لأطلبنّ قتلة عثمان أين كانوا وحيث كانوا حتى أقتلهم أو تلتحق روحي بالله!

فأمّا ما لا تزال تمنّ به من سابقتك وجهادك ؛ فإني وجدت الله سبحانه يقول : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١) ولو نظرت في حال نفسك لوجدتها أشدّ الأنفس امتنانا على الله بعملها! وإذا كان الامتنان على السائل يبطل أجر الصدقة فالامتنان على الله يبطل أجر الجهاد ويجعله : (كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)» (٢).

فلما وصل هذا الكتاب إلى علي عليه‌السلام مع أبي إمامة الباهلي ، كلّم أبا إمامة بنحو ما كلّم به الخولاني قبله ، ثمّ كتب لمعاوية هذا الجواب :

وجوابه مع الباهلي :

«أما بعد ، فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله لدينه ، وتأييده إيّاه بمن أيّده به من أصحابه! فقد خبّأ لنا الدهر منك عجبا إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله تعالى عندنا ونعمته علينا في نبيّنا! فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر ، أو كداعي مسدّده إلى النّضال!

__________________

(١) الحجرات : ١٧.

(٢) البقرة : ٢٦٤.

٥٦

وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان ، فذكرت أمرا إن تمّ اعتزلك كلّه وإن نقص لم يلحقك ثلمه! وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس! وما للطّلقاء وأبناء الطّلقاء والتمييز بين المهاجرين الأوّلين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم! هيهات لقد حنّ قدح ليس منها وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها! ألا تربع ـ أيها الانسان ـ على ظلعك ، وتعرف قصور ذرعك ، وتتأخّر حيث أخّرك القدر؟! فما عليك غلبة المغلوب ولا ظفر الظافر؟! وإنّك لذهّاب في التيه روّاغ عن القصد.

ألا ترى ـ غير مخبر لك ولكن بنعمة الله احدّث ـ أنّ قوما استشهدوا في سبيل الله تعالى من المهاجرين والأنصار ـ ولكل فضل ـ حتى إذا استشهد شهيدنا قيل : سيد الشهداء ، وخصّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه!

أو لا ترى أنّ قوما قطعت أيديهم في سبيل الله ـ ولكل فضل ـ حتّى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم قيل : الطيّار في الجنة وذو الجناحين! ولو لا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة تعرفها قلوب المؤمنين ولا تمجّها آذان السامعين.

فدع عنك من مالت به الرميّة ؛ فإنا صنائع ربّنا ، والناس بعد صنائع لنا (١) ، لم يمنعنا قديم عزّنا ولا عاديّ طولنا على قومك : أن خلطناكم بأنفسنا فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء ، ولستم هناك! وأنّى يكون ذلك كذلك ومنّا النبيّ ومنكم المكذّب! ومنّا «أسد الله» ومنكم أسد الأحلاف ، ومنّا «سيّدا شباب أهل الجنة» ومنكم «صبية النار» ومنّا «خير نساء العالمين» ومنكم «حمّالة الحطب» في كثير مما لنا وعليكم (٢)!

__________________

(١) كما في قوله سبحانه : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) وصنيعة الملك من يحسن إليه الملك فيرفع قدره.

(٢) أسد الله : حمزة عمّ النبي ، وأسد الأحلاف قتيله : عتبة بن ربيعة بن عبد شمس

٥٧

فإسلامنا ما سمع ، وجاهليتنا لا تدفع ، وكتاب الله يجمع لنا ما شذّ عنّا وهو قوله سبحانه وتعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ)(١) وقوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)(٢) فنحن مرّة أولى بالقرابة ، وتارة أولى بالطاعة : ولمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله فلجوا عليهم ، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم ، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم.

وزعمت أنّي لكل الخلفاء حسدت وعلى كلّهم بغيت! فإن يكن ذلك كذلك فليست الجناية عليك فيكون العذر إليك ، و «تلك شكاة ظاهر عنك عارها».

وقلت : إني كنت اقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتّى أبايع (٣)! ولعمرو الله لقد أردت أن تذمّ فمدحت وأن تفضح فافتضحت! وما على المسلم من غضاضة أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا في دينه ولا مرتابا بيقينه! وهذه حجّتي إلى غيرك قصدها ولكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها.

__________________

ـ أبو هند جدّ معاوية ، وسيدا شباب أهل الجنة : الحسنان ، وصبية النار أطلقه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على صبية عقبة بن أبي معيط الأموي ، وخير نساء العالمين : فاطمة الزهراء ، وحمّالة الحطب : أم جميل بنت حرب بن أمية عمّة معاوية.

(١) الأنفال : ٧٥.

(٢) آل عمران : ٦٨.

(٣) هذه الجملة والمثل جاء في كتاب معاوية مع الباهلي وجاء هنا جوابه ، ولم يكن في كتابه مع الخولاني ، ولذا نقل المعتزلي الشافعي عن النقيب تخطئته لمن جعل هذا الجواب ضمن الجواب لكتاب الخولاني ، انظر شرح النهج ١٥ : ١٨٧.

٥٨

ثمّ ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان ؛ فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه :

فأيّنا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتله؟! أمن بذل له نصرته ، فاستقعده واستكفّه؟! أم من استنصره (عثمان من معاوية) فتراخى عنه وبث المنون عليه حتى أتى قدره عليه؟! وما كنت لأعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثا (بدعا) فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له «فربّ ملوم لا ذنب له» و «قد يستفيد الظنّة المتنصّح» وما أردت (إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(١).

وذكرت : أن ليس لي ولأصحابي عندك إلّا السيف! فلقد أضحكت بعد استعبار! متى ألفيت بني عبد المطلب عن الأعداء ناكلين وبالسيف مخوّفين؟! فلبث قليلا يلحق الهيجا حمل! فسيطلبك من تطلب ويقرب منك ما تستبعد! فأنا مرقل نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ، شديد زحامهم ساطع قتامهم! متسربلين سرابيل الموت! أحبّ اللقاء إليهم لقاء ربهم ، وقد صحبهم ذريّة بدرية وسيوف هاشمية ، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك (حنظلة) وخالك (الوليد) وجدك (عتبة) وأهلك (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)(٢).

وكتب إلى معاوية أيضا :

«أما بعد ، فإنك قد رأيت من الدنيا وتصرّفها بأهلها ، وإلى ما مضى منها ، وخير ما بقي من الدنيا ما أصاب العباد الصادقون فيما مضى ، ومن نسي الدنيا نسيان الآخرة يجد بينهما بونا بعيدا.

__________________

(١) هود : ٨٨.

(٢) هود : ٨٣ ، والكتاب في نهج البلاغة ك : ٢٨ ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٩٥ ، والخبر في شرح النهج للمعتزلي الشافعي ١٥ : ١٨٤ ـ ١٨٨.

٥٩

واعلم ـ يا معاوية ـ أنك قد ادّعيت أمرا لست من أهله لا في القدم ولا في الولاية! ولست تقول فيه بأمر بيّن تعرف لك به أثرة ، ولا لك عليه شاهد من كتاب الله ، ولا عهد تدّعيه من رسول الله ، فكيف أنت صانع إذا انقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا أبهجت بزينتها وركنت إلى لذّتها ، وخلّى فيما بينك وبين عدوّ جاهد ملحّ ، مع ما عرض في نفسك من دنيا قد دعتك فأجبتها وقادتك فاتّبعتها وأمرتك فاطعتها.

فاقعس عن هذا الأمر وخذ أهبة الحساب ؛ فإنه يوشك أن يقف واقف على ما لا يجنّك منه مجنّ!

ومتى كنتم ـ يا معاوية ـ ساسة للرعيّة أو ولاة لأمر هذه الأمة؟ بغير قدم حسن ، ولا شرف سابق على قومكم! فشمّر لما قد نزل بك ، ولا تمكّن الشيطان من بغيته فيك.

مع أني أعرف أن الله ورسوله صادقان! فنعوذ بالله من لزوم سابق الشقاء! وإن لا تفعل أعلمك ما أغفلك من نفسك : فإنك مترف قد أخذ منك الشيطان مأخذه ، فجرى منك مجرى الدم في العروق!

واعلم أن هذا الأمر لو كان إلى الناس أو بأيديهم ليحسدونا وامتنّوا به علينا! ولكنّه قضاء ممّن امتنّ به علينا على لسان نبيّه الصادق المصدّق (١)! لا أفلح من شك بعد العرفان والبيّنة! اللهم احكم بيننا وبين عدوّنا بالحق وأنت أحكم الحاكمين» (٢).

__________________

(١) معناه : أن الله تعالى امتنّ بأمر الإمامة والخلافة علينا قضاء منه على لسان نبيّه ، فهو تصريح بالاستخلاف بالنصّ ، ونقله المعتزلي الشافعي في شرح النهج ١٥ : ٨٧ ولم يتكلّم فيه تأويلا ، وإنّما نقله عن وقعة صفين : ١٠٨ تعديلا لما نقله الرضيّ في نهج البلاغة ك ١٠ قال عنه المعتزلي : ما نقله الرضيّ قد ضمّ إليه كتابا آخر على عادته في التقاط البليغ من كلامه.

(٢) وقعة صفين : ١٠٨.

٦٠