موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

قيس بن سعد. فوصل كتاب ابن سعد هذا يخبره : أنّهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها : اخنوخية بإزاء مسكن ، وأن معاوية أرسل إلى عبيد الله بن العباس يرغّبه في المصير إليه ، وضمن له ألف ألف (مليون) درهم ، يعجّل له منها النصف ، ويعطيه النصف الآخر عند دخوله الكوفة! فانسلّ عبيد الله بن العباس في خاصّته في الليل إلى معسكر معاوية ، وأصبح الناس وقد فقدوا أميرهم فصلّى هو بهم!

فازدادت بصيرة الحسن عليه‌السلام بخذلان القوم له ... ولم يبق معه من يأمن غوائله إلّا خاصّة من شيعته وشيعة أبيه ... وهم جماعة لا تقوم لأجناد الشام (١).

وروى ابن الأعثم قال : فلما قرأ الحسن عليه‌السلام الكتاب أرسل فدعا إليه وجوه من معه من عامة أصحابه وقال لهم : يا أهل العراق! ما أصنع بجماعتكم معي ، وهذا كتاب قيس بن سعد يخبرني بأن أهل الشرف منكم قد صاروا إلى معاوية! أما والله ما هذا بمنكر منكم ، لأنكم أنتم الذين أكرهتم أبي يوم صفّين على تحكيم الحكمين ، فلما أمضى الحكومة وقبل منكم اختلفتم عليه ، ثمّ دعاكم إلى قتال معاوية ثانية فتوانيتم عنه حتّى صار إلى ما صار إليه من كرامة الله إياه. ثمّ إنكم بايعتموني طائعين غير مكرهين ، فأخذت ببيعتكم وخرجت في وجهي هذا والله يعلم ما نويت فيه ، فكان منكم إليّ ما كان! فحسبي منكم لا تغرّوني (٢) في ديني ونفسي (٣) ثمّ لم يذكر أيّ ردّ ممّن حضر. هذا وحال الحسن عليه‌السلام ليس بحسن بل هو جريح طريح.

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١٣.

(٢) الفتوح ٤ : ١٥٧.

(٣) أنساب الأشراف ٣ : ٤٢ مختصرا.

٤٦١

رسل السلام ومشورة الإمام :

وكأنّه اكتفى عن مشورة هؤلاء الخاصة بالمشورة العامّة :

قال البلاذري : كان رسول معاوية لاستجلاب عبيد الله : عبد الرحمن بن سمرة العبشمي ، فردّه نهارا جهارا وقبله وخلا به ليلا سرّا وصار معه إليه (١) وكأنّه لنجاحه في مهمّته وجّه به بعده إلى الحسن عليه‌السلام ومعه آخر من عبد شمس هو عبد الله بن عامر ابن خالة عثمان ووالي البصرة سابقا. فقالا له : إن معاوية قد لجّ ، فننشدك الله أن تلجّ أنت فيهلك الناس بينكما ، وهو يعطيك كذا وكذا ويوليك الأمر بعده (٢).

وقال المفيد : وأنفذ إليه بكتب بعض أصحابه التي ضمنوا له فيها الفتك به أو تسليمه إليه! واشترط له على نفسه في إجابته إلى صلحه شروطا كثيرة ، وعقد له عقودا ، كان في الوفاء بها مصالح شاملة! وعلم الحسن عليه‌السلام احتياله بذلك واغتياله ، غير أنه لم يجد بدّا من إجابته إلى ما التمس من ترك الحرب وإنفاذ الهدنة ، لما كان عليه أصحابه مما وصفناه : من ضعف البصائر في حقّه ، والخلاف منهم له ، وما انطوى كثير منهم عليه من استحلال دمه وتسليمه إلى خصمه ، وما كان من خذلان ابن عمّه له ومصيره إلى عدوّه ، وميل الجمهور منهم إلى العاجلة وزهدهم في الآجلة (٣).

فدعا ابن عمّه عبد الله بن جعفر فقال له : إني رأيت رأيا ، وإني احبّ أن تتابعني عليه. قال : وما هو؟ قال : قد رأيت أن أعمد إلى المدينة واخلّي بين معاوية وبين هذا الحديث (الخلافة) فقد طالت الفتنة وسفكت فيها الدماء ، وقطعت فيها الأرحام وقطّعت السبل ، وعطّلت فروج (البلاد)!

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ٣٩.

(٢) أنساب الأشراف ٣ : ٤٣ هذا ومعاوية فوق الستين والحسن دون الأربعين.

(٣) الإرشاد ٢ : ١٣ ـ ١٤.

٤٦٢

فقال له ابن جعفر : جزاك الله عن أمة محمّد خيرا ، فأنا معك على هذا الحديث.

فقال له الحسن عليه‌السلام : فادع لي الحسين. فبعث ابن جعفر إلى الحسين فأتى أخاه الحسن فقال له :

أي أخي ، إني قد رأيت رأيا ، وإني احبّ أن تتابعني عليه ، قال : وما هو؟ فأخبره به (١).

فقال الحسين عليه‌السلام : يا أخي أعيذك بالله من هذا! فأبى الحسن عليه‌السلام (٢).

فلما رأى الحسين إباءه قال له : أنت أكبر ولد علي ، وأنت خليفته ، وأمرنا لأمرك تبع فافعل ما بدا لك (٣).

وخرج من عند أخيه الحسن ضاحكا! فسأله مواليه فقال : أتعجّب من دخولي على إمام أردت أن اعلّمه فقلت له : ما يدعوك إلى تسليم الخلافة؟ فقال : الذي دعا أباك في ما تقدم (٤) أي عدم الناصر الوافر الوافي والوفيّ!

ثمّ خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم :

«إنا والله ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم ، و (لكنّا) إنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر ، فشيبت السلامة بالعداوة ، والصبر بالجزع! وكنتم في مسيركم إلى صفّين ودينكم أمام دنياكم ، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين : قتيل بصفين تبكون له ، وقتيل بالنهروان تطلبون بثأره! فأما الباقي فخاذل ، وأما الباكي فثائر!

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر ، الإمام الحسن عليه‌السلام : ١٧٨.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٨ مرسلا.

(٣) المصدر الأسبق لابن عساكر الدمشقي.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٠ مرسلا ، هذا وقد روى هو أيضا عن الباقر عليه‌السلام قال : ما تكلم الحسين بين يدي الحسن (أي متقدّما عليه) إعظاما له ، مناقب آل أبي طالب.

٤٦٣

ألا وإنّ معاوية قد دعا لأمر ليس فيه عزّ ولا نصفة ، فإن أردتم الموت رددناه إليه وحاكمناه إلى الله عزوجل بظباة السيوف! وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضا؟» وسكت.

فناداه القوم من كل جانب : البقية البقية (١) ونادى القوم بأجمعهم : بل البقية والحياة (٢).

كتب وشروط للحسن عليه‌السلام :

روى الصدوق عن ابن بحر الشيباني : أن الحسن عليه‌السلام كتب من فوره ذلك إلى معاوية : «أما بعد ، فإن خطبي انتهى إلى اليأس من حقّ احييه وباطل أميته! وخطبك خطب من انتهى إلى مراده! وانني اعتزل هذا الأمر (الخلافة) واخلّيه لك ، وإن كان تخليتي إياه شرّا لك في معادك ، ولي شروط أشرطها ، لا تبهضنّك إن وفيت لي بها بعهد ، ولا تخفّ إن غدرت. وستندم ـ يا معاوية ـ كما ندم غيرك ممن نهض في الباطل أو قعد عن الحقّ حين لا ينفع الندم ، والسلام» وكتب الشروط في كتاب آخر يمنّيه بالوفاء وترك الغدر (٣).

وروى ذلك الكتاب والشروط بطريقه إلى يوسف بن مازن الراسبي الهمداني قال : بايع الحسن بن علي (صلوات الله عليه) ومعاوية على أن لا يسمّيه أمير المؤمنين. ولا يقيم عنده شهادة ، وعلى أن لا يتعقّب معاوية على شيعة عليّ شيئا. وعلى : أن يفرّق في أولاد من قتل مع أبيه يوم الجمل ، وأولاد من قتل مع أبيه بصفين

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر ، الإمام الحسن عليه‌السلام : ١٧٨ ـ ١٧٩ ، والكامل في التاريخ ٣ : ١٧٦.

(٢) أعلام الدين للديلمي : ٢٩٢ ـ ٢٩٣ مرسلا.

(٣) علل الشرائع ١ : ٢٦٠ ، الباب ١٦٠ عن كتاب الفروق بين الأباطيل والحقوق للشيباني.

٤٦٤

ألف ألف (مليون) درهم ، وأن يجعل ذلك من خراج داراب جرد (١) أي قلعة داراب الملك الساساني ، في اصطخر فارس في جنوب إيران تابعا للبصرة في جنوب العراق ، ولذا طلب خراجها لورثة قتلاهم في الجمل.

وقد مرّ في أخبار صفّين أن معاوية لوقف الحرب توسّل بالأشعث الكندي وهو صهر أبي بكر وعثمان ، وسعى الأشعث لذلك بما قدر عليه ، ومرّ في أخبار خوارج النهروان أنه سعى سعيه لصرف أمير المؤمنين عن القاسطين إلى المارقين ، وقد هلك بعد أربعين يوما من قتل علي عليه‌السلام (٢) أي في آخر ذي القعدة سنة أربعين. وكان محمد بن الأشعث من أم فروة أخت أبي بكر ، وهو أخو جعدة زوج الحسن عليه‌السلام ؛ لذا اختاره الإمام هنا وجعل معه عمرو بن سلمة الأرحبي الهمداني بعث بهما مع رسولي معاوية إليه ليعطياه ما يرضاه ويكتبا عليه الشروط. فكتب له معاوية كتابا نسخته :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، هذا كتاب للحسن بن عليّ من معاوية بن أبي سفيان! أني صالحتك على أن لك الأمر بعدي ، ولك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله محمد ، وأشدّ ما أخذه الله على أحد من خلقه من عهد وعقد : أن لا أبغيك غائلة ولا مكروها! وعلى : أن أعطيك في كلّ سنة ألف ألف (مليون) درهم من بيت المال! وعلى أنّ لك خراج «فسا» و «داراب جرد» تبعث إليهما عمّالك وتصنع به ما بدا لك» شهد عبد الله بن عامر ، وعمرو بن سلمة الهمداني ، وعبد الرحمن بن سمرة ، ومحمد بن الأشعث الكندي ، وكتب في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين (٣).

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ٢٤٩ ، الباب ١٥٩ عن كتاب الفروق بين الأباطيل والحقوق للشيباني.

(٢) قاموس الرجال ٢ : ١٦٠ برقم ١٣٦ عن تاريخ بغداد.

(٣) أنساب الأشراف ٣ : ٤٣ ـ ٤٤.

٤٦٥

وجاءه بالكتاب رسولا معاوية ابن عامر وابن سمرة العبشميان (١).

واكتفى أبو الفرج بذكر ثلاثة من الشروط : أن لا يتّبع أحد بما مضى. ولا ينال أحد من «شيعة» علي بمكروه. وزاد : لا يذكر علي إلّا بخير (٢).

وعبّر المفيد عنها بقوله : ولتأكيد الحجّة على معاوية والإعذار فيما بين (الحسن) وبين (معاوية) عند الله عزوجل وعند كافّة المسلمين : اشترط عليه : ترك سبّ أمير المؤمنين عليه‌السلام والعدول عن القنوت عليه في الصلوات ، وأن يؤمن شيعته رضي الله عنهم ولا يتعرّض لأحد منهم بسوء ، وزاد : ويوصل إلى كلّ ذي حقّ حقّه. فأجابه معاوية إلى ذلك كلّه وعاهده عليه وحلف له بالوفاء به ، واستتمّت «الهدنة» على ذلك (٣).

والعبارة السابقة من أبي الفرج : «أن لا يتّبع أحد بما مضى» فصّلت في رواية الأندلسي في «الاستيعاب» قال : «اشترط عليه : أن لا يطلب أحدا من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشيء كان في أيّام أبيه» فأجابه معاوية إلّا أنّه قال : أما عشرة أنفس فلا أؤمّنهم! فراجعه الحسن عليه‌السلام فيهم ، فكتب إليه يقول : «إنّي قد أليت متى ظفرت بقيس بن سعد أن أقطع لسانه ويده»! فراجعه الحسن عليه‌السلام : «إنّي لا ابايعك أبدا وأنت تطلب قيسا أو غيره بتبعة ، قلّت أو كثرت» فحينئذ بعث إليه معاوية برقّ أبيض وقال له : اكتب ما شئت فيه وأنا التزمه ، فاصطلحا على ذلك (٤) هذا ، ويأتي لاحقا أنه أرسل الرقّ الأبيض لقيس نفسه ، وهو الصحيح.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ٤٥.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٣.

(٣) الإرشاد ٢ : ١٤.

(٤) عن الاستيعاب بهامش الإصابة ١ : ٣٧٠ ، وبهامش تاريخ ابن عساكر ، الإمام الحسن عليه‌السلام : ١٨٥.

٤٦٦

وكتاب وشرط أمان لقيس :

روى الطبري عن الزهري : أنّ الناس في الفتنة كانوا يقولون : ذوو رأي العرب ومكيدتهم ودهاة الناس خمسة رهط : معاوية ، ومعه عمرو ، والمغيرة. ومن المهاجرين عبد الله بن بديل الخزاعي.

ومن الأنصار : قيس بن سعد الأنصاري الخزرجي وهما مع علي عليه‌السلام فحين فرغ معاوية من عبيد الله بن العباس ثمّ الحسن عليه‌السلام خلص إلى مكايدة رجل هو أهمّ الناس عنده مكايدة! وهو قيس بن سعد ، وقد أمّرت شرطة الخميس (الجيش) قيس بن سعد على أنفسهم وتعاهدوا على قتال معاوية حتى يشترط لمن اتّبع عليّا عليه‌السلام أمانا على دمائهم وأموالهم وما أصابوا في الفتنة!

وأرسل معاوية إلى قيس يذكّره الله ويقول له : على طاعة من تقاتل وقد بايعني الذي أعطيته طاعتك؟! فأبى قيس أن يلين له ، حتى أرسل معاوية بسجلّ قد ختم على أسفله وقال له : اكتب في هذا السّجل ما شئت فهو لك.

فلمّا بعث معاوية إليه بذلك السجلّ ، اشترط قيس فيه له ولشيعة علي الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال ، ولم يسأل معاوية في سجلّه ذلك مالا. فأعطاه معاوية ما سأله (١).

وأولى الأخبار بالاعتبار أنّ لقاء الحسن عليه‌السلام بمعاوية كان في نخيلة الكوفة ، فيبدو أنّه عليه‌السلام رجع من المدائن إلى الكوفة قبل أن يصلها معاوية.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٦٣ ـ ١٦٤ وفيه : أنّه كان معه أربعون ألفا : وهو مبالغ فيه قطعا اللهم إلّا أن يعني مجموع من كان مع الحسن عليه‌السلام وهم من قدّمهم علي عليه‌السلام قبيل مقتله.

٤٦٧

معاوية إلى النخيلة ، وبيعة الحسنين عليهما‌السلام وقيس وخطبهم :

تحرّك معاوية من مسكن إلى الكوفة حتّى نزل بخيله بين النخيلة ودار الرزق ومعه قرّاء أهل الشام وقصّاصهم (١) وصار يوم الجمعة فاجتمعوا في النخيلة للصلاة ، وتقدم معاوية بإحضار الحسنين عليهما‌السلام وقيس زعيم الأنصار للبيعة له ، فأحضر الحسنان عليهما‌السلام.

وقد مرّ الخبر : أن قيسا لما ساومه معاوية على الصلح كتب إليه : أنه لا يلقاه إلّا وبينه وبين معاوية الرمح وحلف على ذلك ، ثمّ اشترط عليه لمن معه الأمان حتّى تخلّى عن قتاله وانصرف راجعا إلى الكوفة.

قال أبو الفرج : فلما أرسل معاوية إلى قيس يدعوه إلى البيعة وأتي به وأرادوا أن يدخلوه إليه قال لهم : إني قد حلفت أن لا ألقاه إلّا وبيني وبينه الرمح أو السيف! وأبلغ بذلك معاوية فأمر برمح أو سيف أن يوضع بينه وبينه ليبرّ يمينه ... ثمّ وضع له كرسي ، وجلس معاوية على سريره (٢).

ويظهر من خبر الكشي عن الصادق عليه‌السلام أنّ هذا كان بعد أخذ البيعة من الحسنين عليهما‌السلام ، قال : قال (معاوية للحسن عليه‌السلام) : يا حسن! قم فبايع! فقام فبايع! ثمّ قال للحسين عليه‌السلام : يا حسين! قم فبايع! فقام فبايع! ثمّ (لما ادخل قيس وجلس) قال : يا قيس ، قم فبايع! فالتفت (قيس) إلى الحسين عليه‌السلام ينظر ما يأمره! فقال (له الحسين) : يا قيس! إنه ـ يعني الحسن ـ إمامي! قال : فنظر قيس إلى الحسن عليه‌السلام فقال له : يا أبا محمد ، بايعت؟

فقال له معاوية : أما تنتهي؟ أما والله إنّي ... فقال له قيس : (افعل) ما شئت! أما والله لو شئت لتناقضنّ!

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ٤٥ ، الحديث ٤٩.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٧.

٤٦٨

فقام الحسن إليه وقال له : بايع يا قيس (١)! فأقبل قيس عليه وقال له : أنا في حلّ من بيعتك! قال عليه‌السلام : نعم ، فالتفت إليه معاوية وقال له (٢) بايع ، قيس!

فقال له قيس : إن كنت لأكره مثل هذا اليوم يا معاوية (بلا لقب) ولقد حرصت أن أفرّق بين روحك وجسدك قبل هذا! فأبى الله ـ يا ابن أبي سفيان ـ إلّا ما أحب!

ثمّ أقبل على الناس وقال لهم : يا معشر الناس! لقد اعتصتم الشرّ من الخير ، واستبدلتم الذلّ من العزّ والكفر من الإيمان! فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين وسيّد المسلمين وابن عمّ رسول ربّ العالمين! وقد وليكم الطليق ابن الطليق! يسومكم الخسف ويسير فيكم بالعسف! فكيف تجهل ذلك أنفسكم؟! أم طبع الله على قلوبكم فأنتم لا تعقلون؟! وسكت.

فجثا معاوية على ركبتيه وأكبّ على قيس حتّى أخذ بيده وقال له : أقسمت عليك وصفق على كفّه ، فتنادى الناس : بايع قيس ، بايع قيس! فقال لهم : كذبتم ، والله ما بايعت (٣).

فالتفت معاوية إلى الحسن عليه‌السلام وقال له : يا أبا محمد ، إنك قد جدت بشيء لا تطيب أنفس الرجال بمثله! فاخرج (من الخيمة) إلى الناس فأظهر ذلك لهم واعتذر! فأبى ، فأقسم عليه!

فقام وخرج إلى الناس ورقى المنبر فقام عليه وحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم :

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١١٠ ، الحديث ١٧٦ ـ ١٧٧ بطريقين.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٧.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٦ ـ ٢١٧.

٤٦٩

«أيها الناس ، إنكم لو طلبتم بين جابلق (الغرب) وجابلس (الشرق) رجلا جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما وجدتموه غيري وأخي الحسين. وإنّ الله قد هداكم بأوّلنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّ أكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور! وإنّ معاوية (بلا لقب الإمرة) نازعني حقّا هو لي فتركته لصلاح الأمّة وحقن دمائها! وقد بايعتموني على أن تسالموا من سالمت ، وقد رأيت أن أسالمه فبايعته (١).

إنّما الخليفة من سار بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليس الخليفة من سار بالجور (وإنما ذلك) ملك ملك ملكا يمتّع به قليلا ثمّ تنقطع لذّته وتبقى تبعته. ثمّ تلا قوله سبحانه : (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)(٢) وسكت ونزل.

ثمّ تقدّم معاوية فجمّع بالناس فخطبهم خطبة طويلة لم ينقلها تامّة أحد من الرواة وإنما جاءت في الأخبار مقطّعة ، وسنذكر ما انتهى من ذلك إلينا (٣) :

صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : «أما بعد ، فإنه لم تختلف أمّة بعد نبيّها إلّا غلب باطلها حقّها (٤) ثمّ إنه انتبه فقال : «إلّا هذه الأمّة» فإنّها وإنّها» (٥).

ثمّ روى أبو الفرج الأموي ، بسنده عن عبد الرحمن بن شريك ، عن أبيه شريك ، عن الأعمش ، عن سعيد بن سويد أنّه قال في خطبته : «إني والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا ، فإنّكم لتفعلون ذلك ، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم! وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون» ثمّ قال شريك في حديثه : إنّ هذا لهو التهتّك!

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ٤٥ ، الحديث ٥٠ ـ ٥١.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٧ ، والآية في الأنبياء : ١١١.

(٣) المصدر السابق : ٤٥.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٦.

(٥) مقاتل الطالبيين : ٤٥ بطريقين عن الشعبي شاهدا.

٤٧٠

وروى أيضا بسنده ، عن أبي إسحاق السبيعي الهمداني أنّه قال في خطبته : «ألا إنّ كلّ شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدميّ هاتين لا أفي به» ثمّ قال أبو إسحاق : وكان غدّارا والله (١).

ولكن غيره ـ كالبلاذري ـ نقله معلّلا وبلا تصريح باسم الإمام عليه‌السلام قال : قال في خطبته : «ألا إني كنت قد شرطت في الفتنة شروطا ، أردت بها (الألفة ووضع الحرب) ألا وإنها تحت قدمي!».

وفي آخر قال : وقد كنت شرطت شروطا ووعدت عدات ومنيت أماني! لما أردت من إطفاء نار الفتنة وقطع الحرب ومداراة الناس وتسكينهم.

ثمّ نادى بأعلى صوته : ألا وإني طلبت بدم عثمان ، فقتل الله قاتليه وردّ الأمر إلى أهله على رغم معاطس أقوام! ألا إنّ ذمّة الله بريئة ممّن لم يخرج فيبايع! ألا وإنا قد أجّلناكم ثلاثا! فمن لم يبايع فلا ذمّة له ولا أمان عندنا! قال الراوي : فأقبل الناس من كلّ أوب يبايعونه (٢).

وهذا أولى ، وأقرب وأنسب.

وهنا نقل المعتزلي ، عن المدائني : أن المسيّب بن نجبة الفزاري دخل على الحسن عليه‌السلام وقد صاهرهم فقال له :

ما ينقضي عجبي منك! بايعت معاوية ومعك أربعون ألفا (٣) أعطاك أمرا فيما بينه وبينك ، ولم تأخذ لنفسك وثيقة وعقدا ظاهرا! ثمّ قال ما سمعت! والله ما أراد بما قال غيرك (فلم يصرّح به).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤٥ ، ومثله في الإرشاد ٢ : ١٤.

(٢) أنساب الأشراف ٣ : ٤٧ ، الحديث ٥٤ و : ٥٠ ، الحديث ٥٥.

(٣) لم نجد هذا العدد فيما مرّ من أخبار التاريخ إلّا في من قدّمهم عليّ عليه‌السلام قبيل مقتله ، فلعلّه يقصدهم.

٤٧١

فقال له الحسن عليه‌السلام : فما ترى؟ فقال : أرى أن ترجع إلى ما كنت عليه فقد نقض ما كان؟

فقال له الحسن عليه‌السلام : يا مسيّب ، إني لو أردت بما فعلت الدنيا لم يكن معاوية بأصبر منّي عند اللقاء ، ولا أثبت منّي للحرب! ولكنّي أردت أن يكفّ بعضكم عن بعض ، فارضوا بقدر الله وقضائه حتى يستريح برّ (الحسن) أو يستراح من فاجر (معاوية) (١).

معاوية في جامع الكوفة :

كان خالد بن عرفطة العذري محالفا لبني زهرة وأسلم وصحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان على عهد علي عليه‌السلام بوادي القرى ، وقيل : مات ، فدخل رجل جامع الكوفة وعلي عليه‌السلام على المنبر ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، قد مات خالد بن عرفطة بوادي القرى فاستغفر له ، فقال عليه‌السلام : مه إنّه لم يمت ، ولا يموت حتّى يقود جيش ضلالة ، وصاحب لوائه حبيب بن حمّاد! وكان حبيب حاضرا وسمع الكلام فقام وقال : يا أمير المؤمنين ، أنا حبيب بن حمّاد وأنا لك محبّ ومن «شيعتك» فقال عليه‌السلام : فإنّه كما أقول! وإيّاك أن تحملها ؛ ولتحملنّها وتدخل بها من هذا الباب! الباب الذي سمّي فيما بعد ذلك باب الفيل (٢).

وكأنّ خالد بن عرفطة الصحابي أصبح من صحابة معاوية في دخوله إلى الكوفة.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٤ ـ ١٥ عن المدائني ، واختصر الخبر الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٠.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٦ ، ونحوه في الإرشاد ١ : ٣٢٩ ، والاختصاص : ٢٨٠ مع تطبيق غير دقيق بل لا يليق.

٤٧٢

قال أبو الفرج : ودخل معاوية الكوفة وبين يديه خالد بن عرفطة ومعه رجل يقال له حبيب بن حمّاد يحمل رايته حتّى دخل الكوفة فصار إلى المسجد فدخل من الباب (الذي سمّي فيما بعد بباب الفيل) واجتمع الناس فخطبهم معاوية فذكر عليّا والحسن ونال منهما! والحسنان حاضران ، فقام الحسين ليردّ عليه فأخذ الحسن بيده وأجلسه ، ثمّ قام هو فقال لمعاوية :

أيها الذاكر عليّا! أنا الحسن ، وأبي علي ، وأنت معاوية وأبوك صخر! وأمي فاطمة ، وأمك هند! وجدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجدّك حرب! وجدّتي خديجة وجدّتك قتيلة! فلعن الله أخملنا ذكرا وألأمنا حسبا ، وشرّنا قدما ، وأقدمنا كفرا ونفاقا! فقال طوائف من الناس : آمين! آمين!

روى أبو الفرج الأموي هذا الخبر بسنده وفيه أبو عبيد ويحيى بن معين ، فروى أبو عبيد : أنّ الراوي يحيى بن معين قال : ونحن نقول : آمين ، وقال أبو عبيد : ونحن أيضا نقول : آمين ، وقال أبو الفرج : وأنا أقول : آمين (١)! فعدم ذكره عليّا عليه‌السلام بالسوء أوّل الشروط نقضا!

المعترضون على صلح الإمام عليه‌السلام :

لم نقف على ذكر لحجر الكندي فيما مرّ من الأخبار ، ولعلّه كان مع عبيد الله بن العباس ثمّ قيس بن سعد ورجع معه ، فقد نقل المعتزلي ، عن المدائني : أنه دخل مع آخر من كندة هو عبيدة بن عمرو مضروبا مجروحا في وجهه

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤٦ ، وكلام الإمام الحسن عليه‌السلام أرسله المفيد في الإرشاد ٢ : ١٥ ، بلا إسناد. وعن نفحة اليمن : ٦٣ : أن ذلك كان في المدينة سنة (٤٩ ه‍) كما في الإمام المجتبى للمصطفوي : ٢١٩. ولعلّه أولى وأقرب.

٤٧٣

في مناوشات أصحاب قيس مع عسكر معاوية في مسكن ، فلما رآه الإمام عليه‌السلام سأله : ما الذي أرى بوجهك؟ قال : أصابني هذا مع قيس.

ثمّ التفت حجر إليه وقال له : لوددت أنك كنت متّ قبل هذا اليوم ومتنا معك ولم يكن ما كان! فقد رجعنا راغمين بما كرهنا ، وهم مسرورون بما أحبّوا! وكان الحسين عليه‌السلام إلى جنبه فرأى الحسن قد تغيّر وجهه من كلام حجر ، فغمزه فسكت.

ثمّ قال الحسن لحجر : يا حجر ؛ ليس كلّ الناس يحبّ ما تحبّ ولا رأيه كرأيك ، وما فعلت ما فعلت إلّا إبقاء عليك (وأمثالك) والله كلّ يوم في شأن (١).

وروى الكشي بسنده ، عن الباقر عليه‌السلام قال : جاء رجل من أصحاب الحسن عليه‌السلام يقال له سفيان بن أبي ليلى (الهمداني) على راحلة له حتّى دخل على الحسن عليه‌السلام وهو محتب في فناء داره ، فوقف وسلم عليه فقال : السلام عليك يا مذلّ المؤمنين! فأجابه الحسن وقال له : انزل ولا تعجل! فنزل وعقل راحلته وأقبل يمشي حتّى انتهى إلى الإمام فقال له : ما قلت؟ قال : قلت : السلام عليك يا مذلّ المؤمنين! قال : وما علمك بذلك؟ قال : عمدت إلى أمر الأمّة فخلعته من عنقك وقلّدته هذه الطاغية يحكم بغير ما أنزل الله!

فقال له الحسن عليه‌السلام : سأخبرك لم فعلت ذلك ، سمعت أبي يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لن تذهب الأيام والليالي حتّى يلي أمر الأمّة رجل واسع البلعوم رحب البطن يأكل ولا يشبع» قال (علي عليه‌السلام) : وهو معاوية ، ثمّ قال الحسن : فلذلك فعلت (الذي فعلت).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٥ عن المدائني ، وعليه فلم يكن هذا في مجلس معاوية كما قيل.

٤٧٤

ثمّ سأله : ما جاء بك؟ قال : حبّك! قال : الله! قال : الله! فقال الحسن عليه‌السلام : «والله لا يحبّنا عبد أبدا ولو كان أسيرا في الديلم إلّا نفعه الله بحبّنا ، وإنّ حبّنا ليساقط الذنوب من بني آدم كما تساقط الريح الورق من الشجر» (١).

ونقل المعتزلي ، عن المدائني : أن الإمام قال له : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع له ملك بني امية فنظر إليهم يعلون منبره واحدا فواحدا! فشق ذلك عليه ، فأنزل الله تعالى في ذلك قرآنا قال له : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ)(٢) وسمعت عليّا أبي رحمه‌الله قال لي : إنّ القرآن قد نطق بملك بني امية ومدتهم إذ قال تعالى : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)(٣) قال أبي : هذه ملك بني امية! وسيلي أمر هذه الأمة رجل واسع البلعوم كبير البطن! فسألته : من هو؟ قال : معاوية!

ولما أخذ الحسن عليه‌السلام يتجهّز للشخوص إلى المدينة دخل عليه المسيّب بن نجبة الفزاري ومعه ظبيان بن عمارة التيمي ليودّعاه ، فقال الحسن عليه‌السلام : الحمد لله الغالب على أمره (حتّى) لو أجمع الخلق جميعا على أن لا يكون ما هو كائن ما استطاعوا!

وكان الحسين عليه‌السلام حاضرا وكان قد علم باعتراض المسيّب سابقا ، فكأنه أراد أن يسكّنه فقال : لقد كنت أنا كارها لما كان ، طيّب النفس على سبيل أبي ، حتّى عزم عليّ أخي فأطعته وكأنما يجذّ أنفي بالمواسي!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١١١ ، الحديث ١٧٨ ، وفي : ٩ الحديث ٢٠ روى عن الكاظم عليه‌السلام : أن سفيان بن أبي ليلى الهمداني من حواري الحسن عليه‌السلام يوم القيامة. وعليه فلا يصح ما جاء في تذكرة السبط : ١٨١ عن الكلبي : أنه كان من الخوارج! وعنه في حياة الحسن عليه‌السلام للقرشي ٢ : ٢٣٠.

(٢) الإسراء : ٦٠.

(٣) القدر : ٣.

٤٧٥

فكأنّ المسيّب أراد أن يعتذر عن اعتراضه السابق فقال : والله ما يكبر علينا هذا الأمر إلّا أن تنتقصوا وتضاموا! فأمّا نحن فإنّهم سيبطلون مودّتنا بكلّ ما قدروا عليه. ولكنه مع ذلك عرض على الحسن عليه‌السلام الرجوع عن عهده مرة اخرى! فقال عليه‌السلام : ليس إلى ذلك سبيل!

ثم قال له الحسين عليه‌السلام : يا مسيّب ، نحن نعلم أنك تحبّنا!

فروى الحسن عن أبيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من أحبّ قوما كان معهم» (١).

الإمام في مجلس معاوية :

ذكر في «تذكرة الخواص» عن أهل السير : أن الإمام أقام يتجهّز إلى المدينة ، وبلغ ذلك أصحاب معاوية : عمرو بن العاص والوليد بن عقبة ، وعتبة بن الوليد بن عتبة المخزومي فقالوا لمعاوية : نريد أن تحضر الحسن على سبيل الزيارة قبل مسيره إلى المدينة ، لنخجله! وألحّوا عليه.

فأرسل معاوية إلى الحسن واستزاره. فلما حضر تحدثوا فتناولوا عليّا عليه‌السلام بمرأى ومسمع من الحسن عليه‌السلام ، وسكت حتّى فرغوا من كلامهم الفارغ ، فلما فرغوا بدأ الحسن عليه‌السلام.

فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال لهم :

إن الذي أشرتم إليه بايع البيعتين وصلّى إلى القبلتين ، وأنتم بالجميع مشركون وبما أنزل الله على نبيّه كافرون!

وبات أمير المؤمنين يحرس رسول الله من المشركين وفداه بنفسه ليلة الهجرة حتّى أنزل الله فيه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ)(٢).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٦ عن المدائني.

(٢) البقرة : ٢٠٧.

٤٧٦

ووصفه الله بالإيمان فقال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا)(١) والمراد به أمير المؤمنين.

وقال له رسول الله : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» و «أنت أخي في الدنيا والآخرة».

وأنت ـ يا معاوية ـ قد علمت الفراش الذي عليه ولدت! وكنت يوم بدر .. تقاتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنت الذي كنت تنهى أباك عن الإسلام حتّى قلت مخاطبا إياه (بعد بدر) :

يا صخر لا تسلمن طوعا ، فتفضحنا

بعد الذين (ببدر) أصبحوا مزقا

وكنت في أحد والخندق والمشاهد كلها تقاتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونظر النبيّ إليك يوم الأحزاب فرأى أباك على جمل يحرّض الناس على قتاله ، وأخوك يقود الجمل وأنت تسوقه ، فقال : «لعن الله الراكب والقائد والسائق» وما قابله أبوك في موطن إلّا ولعنه وكنت معه ، وقال رسول الله في حقك : «اللهم لا تشبعه».

ثمّ التفت إلى عمرو بن العاص وقال له : وأما أنت يا ابن النابغة! فقد ادّعاك خمسة من قريش وغلب عليك ألأمهم ، وهو العاص ، وفيك نزل : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(٢) فأنت عدو الله ورسوله وعدو المسلمين ، وكنت عليهم أضرّ من كلّ مشرك ، وأنت القائل :

ولا أنثني عن بني هاشم

بما اسطعت في الغيب والمحضر

وعن عائب اللات لا أنثني

ولو لا رضا اللات لم نمطر

__________________

(١) المائدة : ٥٥.

(٢) الكوثر : ٣.

٤٧٧

وأما أنت يا وليد ؛ فلا ألومك في بغض أمير المؤمنين ، فإنّه قتل أباك صبرا ، وجلدك في الخمر لما صلّيت بالمسلمين الفجر سكرانا وقلت : أزيدكم؟! وقد سمّاك الله في كتابه فاسقا وسمّى أمير المؤمنين مؤمنا في قوله : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ)(١) ثمّ أنشد شعر حسّان فيه وفي أمير المؤمنين.

ثمّ قال : وأما أنت يا عتبة (بن الوليد المخزومي) فلا ألومك في أمير المؤمنين ، فإنه قتل أباك (الوليد) يوم بدر ثمّ شرك في دم ابن عمّك شيبة. وهلّا أنكرت على من وجدته في فراشك مع عرسك حتّى قال فيك نصر بن الحجّاج :

نبّئت عتبة هيّأته عرسه

لصداقة الهذلي من لحيان

ألفاه معها في الفراش! فلم يكن

فحلا! وأمسك خشية النسوان

لا تعتبن يا عتب نفسك حبّها

إن النساء حبائل الشيطان

ثمّ قام الحسن عليه‌السلام ونفض ثوبه وانصرف (٢).

ويبدو أنّ معاوية بن حديج الكندي قاتل ابن أبي بكر بمصر كان مع ابن العاص ومع ابن أبي سفيان اليوم في كوفان ، وبلغ الإمام عليه‌السلام أن ابن حديج شتم عليّا عليه‌السلام عند معاوية ، فقال لمولى له كان معه : أتعرف معاوية بن حديج؟ قال : نعم ، قال : فإذا رأيته فأعلمني. ومرّ يوما بدار عمرو بن حريث فرآه المولى خارجا من دار عمرو ، فقال للإمام : هو هذا! فدعاه الحسن عليه‌السلام وقال له : أنت الشاتم عليّا عند ابن آكلة الأكباد! أما والله لئن وردت الحوض ـ ولا يرده ـ لترينّه مشمّرا عن ساقيه حاسرا عن ذراعيه يذود عنه المنافقين!

__________________

(١) السجدة : ١٨.

(٢) تذكرة الخواص : ١٨٢ ـ ١٨٤ وفي : ١٨٧ قال : وقيل : إن القصّة جرت بالشام. وشرح المثالب فيها عن كتاب المثالب للكلبي في : ١٨٤ ـ ١٨٧ ، وقد طبع ونشر.

٤٧٨

ولقى يوما حبيب بن مسلمة الفهري القرشي من قادة معاوية فقال له : يا حبيب ، ربّ مسير لك في غير طاعة الله!

فقال معتزّا بالإثم : أما مسيري إلى أبيك (في صفّين) فليس من ذلك!

قال الإمام : بلى والله ، ولكنّك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائلة ، فلئن قام بك في دنياك لقد قعد بك في آخرتك! ولو كنت إذ فعلت شرّا قلت خيرا كان ذلك كما قال الله عزوجل : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً)(١) ولكنّك كما قال الله سبحانه : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٢).

الحسين عليه‌السلام والمعترضون :

ويوم وقف الحسين عليه‌السلام على الغلمان يأمرهم بحمل متاعهم التقى به جندب بن عبد الله الأزدي وسعيد بن عبد الله الحنفي وسليمان بن صرد الخزاعي والمسيّب بن نجبة الفزاري وعليهم ما بهم من الكآبة وسوء الهيئة ، فلما رأى ما بهم من ذلك ذكر لهم كراهية للصلح وقال : لكنت طيب النفس بالموت دونه! ولكن أخي عزم عليّ وناشدني فاطعته وكأنّما يحزّ أنفي بالمواسي ويشرّح قلبي بالمدى! وقد قال الله عزوجل : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً

__________________

(١) التوبة : ١٠٢.

(٢) المطفّفين : ١٤ ، والخبران في أنساب الأشراف ٣ : ١٣ و ١٤ ، الحديث ٩ و ١٠ عن المدائني بسنده ، وعنه في شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٨ ، وفي مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٨ مرسلا.

ولم يدم العمر بالفهري بعد هذا كثيرا حتّى وجّهه معاوية إلى أرمينية سنة (٤٢ ه‍). فمات بها ، كما عن الاستيعاب ١ : ٣٢٧ ، وعليه فلا يصح أن ذلك كان في المسجد النبوي بالمدينة سنة حجّ معاوية ، فسيأتي أن ذلك كان سنة (٤٤ ه‍) أي بعد هلاك ابن حديج بعامين ، وانظر مسند الإمام المجتبى للعطاردي : باب ٥٨.

٤٧٩

وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) وقال : (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)(٢) و (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً)(٣) و (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً)(٤).

فعرض عليه سعيد وسليمان الرجوع عن الصلح! فقال : هذا ما لا يكون ولا يصلح!

فقال له الأزدي : والله ما بنا إلّا أن تضاموا وتنتقصوا ، فأمّا نحن فإنا نعلم أن القوم سيطلبون مودتنا بكلّ ما قدروا عليه ، ولكن حاش لله أن نؤازر الظالمين ونظاهر المجرمين ونحن لكم «شيعة» ولهم عدوّ! وقال الخزاعي : هذا كلامنا كلّنا. فقال الحسين عليه‌السلام : بررتم وصدقتم رحمكم الله.

فقالوا : فمتى أنت سائر؟ قال : غدا إن شاء الله. فخرجوا معهم إلى دير هند (٥) من الحيرة.

الإمام ، وفراق العراق :

روى الطبري ، عن عوانة بن الحكم : أن الإمام عليه‌السلام لما عزم على فراق العراق خرج إلى مسجد الكوفة وخطبهم فقال لهم : يا أهل الكوفة ، اتّقوا الله في جيرانكم وضيفانكم ، وفي «أهل بيت» نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

__________________

(١) البقرة : ٢١٥.

(٢) النساء : ١٩.

(٣) الأحزاب : ٣٧.

(٤) الأحزاب : ٣٨.

(٥) أنساب الأشراف ٣ : ١٥٣ الحديث ١٦٢.

٤٨٠