تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

كريما ، وكذلك سمي روحا ووحيا ؛ لما يحيا به من اتبعه.

وأصل البركة : هو أن ينتفع بشيء على غير تبعة ، فهو البركة ؛ وعلى ذلك يخرج قول الناس بعضهم لبعض : بارك الله لك في كذا ، أي : جعل لك فيه منافع لا تبعة عليك فيه ؛ فعلى هذا يجيء أن يكون القرآن مباركا بكسر الراء ، لكن قيل : مبارك ؛ لانتفاع الناس به.

والبركة تحتمل وجهين :

أحدهما : اسم لكل خير يكون أبدا على النماء والزيادة.

والثاني : اسم لكل منفعة لا تبعة عليه [فيها] ولا مئونة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا).

أي : اتبعوا إشاراته ، [....](١) [(وَاتَّقُوا) أي : اتقوا مخالفته (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ؛ أي : لكي ترحموا ، من اتبع أوامره وإشاراته واتقى](٢) نواهيه ومحارمه رحم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) [آية ١٥٦].

قال أهل التأويل (٣) : أنزل الكتاب على الطائفتين : اليهود والنصارى ، ومن أنزل الكتاب على اليهود والنصارى إنما أنزله على المسلمين ، لكن المعنى ـ والله أعلم ـ : إنما أنزل الكتاب على طائفتين ، أي : إنما [يظهر نزول الكتاب التوراة والإنجيل](٤) عند الخلق بطائفتين من قبلنا سموا يهود ونصارى بالتوراة والإنجيل ، وإلا لم يكن وقت نزول التوراة يهود ، و [لا وقت](٥) نزول الإنجيل نصارى.

ثم قوله : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ) هو صلة قوله : (هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) لئلا تقولوا : إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ولم ينزل علينا.

ويجوز «أن» بمعنى «لن» ، أي : لن تقولوا : إنما أنزل الكتاب ؛ كقوله : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) [آل عمران : ٧٣] أي : لن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ).

__________________

(١) بياض بالأصل.

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٠٢) عن ابن عباس (١٤١٨٥) ومجاهد (١٤١٨٦) (١٤١٨٧) وقتادة (١٤١٨٨) والسدي (١٤١٨٩).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٠٧ ـ ١٠٨) وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد ، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٤) في ب : إنما ظهر الكتاب.

(٥) سقط في أ.

٣٢١

أي : وقد كنا عن دراستهم لغافلين ، ويجيء أن يكون عن دراستها (١) ؛ لأنها دراسة الكتب ، لكن أضيف إليهم ، أي (٢) : أولئك القوم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ).

هو على ما ذكرنا (٣) لئلا تقولوا : لو أنا أنزل علينا الكتاب.

(لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).

أنزل الله ـ عزوجل ـ هذا القرآن ؛ قطعا لحجاجهم ، ومنعا لعذرهم ، وإن لم يكن لهم الحجاج والعذر ، وعلى ذلك يخرج قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥] ، لا يكون لهم حجة على الله ، وإن لم ينزل الرسل والكتب.

ثم يحتمل عذر هؤلاء أن يقولوا : إنما أنزل الكتاب بلسانهم ، لم ينزل بلساننا ، ونحن لا نعرف لسانهم ، وكنا عن دراستهم لغافلين ، ولو كان لهم العذر والاحتجاج بهذا ، لكان للعجم الاحتجاج والعذر في ترك اتباع القرآن ؛ لما لم ينزل بلسان العجم ، ولم يعرفوا هم لسانهم ، أعني : لسان العرب ، ثم لم يكن للعجم الاحتجاج بذلك ؛ لما جعل لهم سبيل الوصول إلى معرفته ؛ فعلى ذلك لا عذر للعرب في ترك اتباع ما في الكتب التي أنزلت بغير لسانهم ؛ لما في وسعهم الوصول إلى معرفتها ، والتعلم منهم ، والأخذ عنهم ، وهذا يدل على أنه يجوز التكليف بأشياء ليست معهم أسبابها ، بعد أن جعل لهم سبيل الوصول إلى تلك الأسباب.

والثاني : من احتجاجهم أن يقولوا : إن اليهود والنصارى قد اختلفت وتفرقت تفرقا لا اجتماع بينهم أبدا ، فكيف نتبعهم في ذلك؟!

فيقال : إن مذاهبهم وكتبهم إنما تفرقت بهم وبقولهم ، فقد أنزل من الحجج والبيان ما يعرف ذلك الذي تفرق بهم ، فلا حجة لهم في ذلك ؛ وهذا كقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) [الأنعام : ١٠٩] وقد جاءتهم آيات فلم يؤمنوا [بها](٤) ؛ فعلى ذلك قوله : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) [١٥٦] وقوله : (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).

وفي الآية دلالة على أن المجوس (٥) ليسوا من أهل الكتاب ؛ لأنهم لو كانوا أهل كتاب

__________________

(١) في أ : دراستهم.

(٢) في ب : إلى.

(٣) في ب : ذكر.

(٤) سقط في أ.

(٥) يقال : تمجس الرجل ، وتمجسوا أي صاروا مجوسا ، ومجّسوا أولادهم صيروهم كذلك ، ومجسه غيره. ـ

٣٢٢

__________________

ـ ومجوس كصبور : رجل صغير الأذنين كان في سابق العصور أو لمن وضع دينا للمجوس ودعا إليه.

والمجوسية بالفتح نحلة. وفي الحديث : «فأبواه يمجسانه».

ويقول الشهرستاني : (المجوسية يقال لها الدين الأكبر ، والملة العظمى).

وأطلق العرب اسم المجوس على قرصان النورمان ، والسكاندينافيين الذين حاولوا في القرون الوسطى اقتحام السواحل أو الحدود في بلاد الغرب الإسلامي.

وقد عرفت المجوسية بأنها ديانة الفرس ؛ لأن معظم الفرس كانوا يدينون بها منذ ظهرت في بلادهم خصوصا (الزرادشتية). التي كانت الدين الرسمي (للدولة الساسانية) التي تأسست عام ٢٢٦ ق. م. وإن كانت بدايتها أسبق من نشأة هذه الدولة بكثير ، فشأن المجوسية شأن غيرها من أديان قديمة جابت أرجاء المعمورة في مصر واليونان والصين والهند والعراق وغيرها ، لكنها لم تقتصر على بلاد الفرس وحدها ، حيث إن بعض العرب دانوا بها في هجر وحضرموت وعمان ، وقيل : إن بعض العرب كان يدين (بالمزدكية) وممن تمجس من العرب (زرارة بن عدس) وابنه (حاجب) و (الأقرع بن حابس) وغيرهم.

ولم يرد ذكر المجوس في القرآن الكريم إلا في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[الحج : ١٧].

ويقرر ابن خلدون أنهم ـ أي المجوس ـ من أقدم الأمم ، فيقول :

هذه الأمة ـ أي المجوس ـ من أقدم أمم العالم ، وأشدهم قوة وآثارا في الأرض ، وكانت لهم دولتان عظيمتان طويلتان :

الأولى : الكينوية ، والثانية : الساسانية الكسروية.

ثم يحدد ملكهم فيقول (إن مدة ملكهم من ـ كيومرث ـ أبيهم إلى الملك يزدجرد أيام عثمان رضي الله عنه أربعة آلاف سنة ومائتان وإحدى وثمانون سنة).

ولقد مرت المجوسية بمراحل أربعة تمايزت كل منها عن سابقتها :

الأولى ـ من نشأتها حتى ظهور زرادشت.

الثانية ـ المجوسية في عهد زرادشت.

الثالثة ـ المجوسية بعد زرادشت وحتى ظهور الإسلام.

الرابعة ـ المجوسية بعد ظهور الإسلام.

وللمجوسية عقائدها الفاسدة :

فهم يعتقدون أن للعالم إليهن اثنين ، أو أصلين يقتسمان الخير والشر ، ويسمون الأول (النور) والآخر (الظلمة) ، وبالفارسية (يزدان) و (أهرمن).

ويقول ابن حزم (والمجوس لا يقرون بنبوة أحد من الأنبياء إلا زرادشت).

ويقول السكسكي في معرض حديثه عن المجوس : (إنهم ينكرون نبوة آدم ونوح ، عليهما‌السلام).

وقالوا : لم يرسل الله عزوجل إلا رسولا واحدا لا ندري من هو؟

وللمجوس كتاب مقدس يسمى (الأوفستا) أو الأبستاق يزعمون أنه نزل على نبيهم (زرادشت) من الإله وعمل (زرادشت) تفسيرا له سماه (زندا) والمجوس تؤمن باليوم الآخر والبعث والحساب والجنة والنار والصراط بيد أنه كان إيمانا شائها ، وهم يرون أن البعث للأرواح دون الأجساد فهم يعتقدون أن الروح ألبست الجسد من أجل محاربة (أهرمن) وجنوده من الشياطين ، فإذا قضي ـ

٣٢٣

صار أهل الكتاب ثلاث طوائف ، وقد أخبر أنه إنما أنزل الكتاب على طائفتين ، وذلك محال.

__________________

ـ عليهم فإن الروح تخلص من الجسد فيكون البعث بها فقط ، ولهم مراء عجيبة في مصير الروح بعد مفارقتها الجسد ، وبعض فرق المجوس تعتقد في التناسخ ، شأنها في ذلك شأن معظم الأديان الوضعية القديمة.

ومن فرق المجوس فرقة تسمى التناسخية تقول بتناسخ الأرواح في الأجساد والانتقال من شخص إلى شخص آخر. والمجوسية تؤمن بالمهدي فيذكر الشهرستاني عن (زرادشت) قوله في كتابه (زند أوستا) سيظهر في آخر الزمان رجل اسمه (أشيزريكا) ومعناه الرجل العالم يزين العالم بالدين والعدل ، ثم يظهر في زمانه (بتياره) فيوقع الآفة في أمره ، وملكه عشرون سنة ثم يظهر بعد ذلك (أشيزريكا) على أهل العالم ويحيي العدل ، ويميت الجور ويرد السفن المغيرة إلى أوضاعها الأولى وتنقاد له الملوك ، وتتيسر له الأمور ، وينصر الدين والحق ، ويحصل في زمانه الأمن ، وسكون الفتن ، وزوال المحن.

وللمجوسية شعائرها الضالة التي فيها :

ـ عبادة النار.

ـ تعظيم الملوك ورفعهم إلى مرتبة الألوهية.

ـ الصلوات والزمزمة.

ـ شرب الخمر.

ـ الولع بالغناء والمعازف.

ـ استحلال المحارم.

وللمجوسية فرق يحددها الإمام الشهرستاني على النحو والترتيب التاليين :

ـ الكيومرثية.

ـ الزروانية.

ـ الزرادشتية.

ثم يفرق بينهم وبين الثنوية فيحصر فرق الثنوية في :

ـ المانوية.

ـ المزدكية.

ـ الديصانية.

ـ المرقيونية.

ـ الكينوية.

ـ والصيامية.

ـ والتناسخية.

ينظر : لسان العرب لابن منظور مادة (مجس) ، تاج العروس من جواهر القاموس لمحمد مرتضى الزبيدي (٤ / ٢٤٦) ، مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر الرازي مادة (مجس) ، الملل والنحل للشهرستاني (١ / ٣٣) ، الدين والفلسفة والعلم أ/ محمود أبو الفيض ص ١٠٩ ، تاريخ العرب قبل الإسلام جواد على (٦ / ٢٣٤) ، تاريخ ابن خلدون (٣ / ٣٠٨) ، موسوعة الفرق الإسلامية (١ / ١١٠) وما بعدها ، الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم الأندلسي (١ / ٣٤) ، (البرهان في عقائد أهل الأديان للسكسكي تحقيق / علي بن ناصر عسيري ص (٥١٠) ، قصة الحضارة ليول ديورانت (٢ / ٤٢٦).

٣٢٤

فإن قيل : إنما هذا حكاية من الله ـ تعالى ـ عن المشركين ، قلنا : معناه ـ والله أعلم ـ : إني أنزلت عليكم الكتاب ؛ لئلا تقولوا : إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ، فلم يقولوا ذلك ، ولكن الله قطع بإنزاله الكتاب حجتهم التي علم أنهم كانوا يحتجون بها لو لم ينزله ، وإن لم يكن لهم في ذلك حجة ولا عذر ، وهو ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).

قيل (١) : القرآن.

وقيل (٢) : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَهُدىً).

أي : هدى من الضلالة وكل شبهة.

(وَرَحْمَةً).

أي : ذلك منه رحمة ونعمة.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ).

أي : لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله.

قيل : بآيات الله : حجج الله.

وقيل : دين الله ، وقد ذكرناها في غير موضع.

وقد ذكرنا أن قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ) حرف استفهام في الظاهر ، ولكن ذلك من الله على الإيجاب ؛ كأنه قال : لا أحد أوحش ظلما ممن كذب بآيات الله وصدف عنها [وقوله : (وَصَدَفَ عَنْها) أي أعرض عنها (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) يعرضون ويبدلون ... الآية ظاهرة](٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا ...).

قال أهل التأويل (٤) : ما ينظرون ، وحرف «هل» (٥) هو حرف استفهام وتعجب (٦) ، لكن

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٠٣) (١٤١٩٤) عن السدي بنحوه ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٠٨) وعزاه ابن أبي حاتم عن السدي ، وأبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٢٥٨).

(٢) ذكره أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٢٥٨) ونسبه لابن عباس.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر تفسير البحر المحيط لأبي حيان (٤ / ٢٥٨).

(٥) هل : استفهام عن الحكم لا المحكوم عليه ، كقولك : هل قام زيد ، وهل زيد قام؟ فالسؤال عن حصول القيام المحكوم به على زيد ، ولا يجوز هل زيدا ضربت؟ لأن تقدم الاسم مشعر حينئذ بأن الضرب واقع ، وإنما السؤال عن محل الضرب لا عن الضرب ، ولا يجوز : هل زيد قام أم عمرو؟ لأن السؤال حينئذ عن حقيقة القائم ، وأما القيام فهو واقع ، و (أم) موضوعة للسؤال عن تصور ـ

٣٢٥

أهل التأويل قالوا : ما ينظرون ، حملوا على الجواب ؛ لأنه لم يخرج له جواب ، فجوابه ما قالوا : ما ينظرون ؛ كما [قالوا](١) في قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [الأنعام : ٢١] ، أي : لا أحد أظلم ممن كذب ، هو جواب ؛ لأن جوابه لم يخرج ، فجوابه ما قالوا : لا أحد أظلم ؛ لأنه سؤال واستفهام ، فجوابه ما ذكروا ؛ فعلى ذلك قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ) هو استفهام ولم يخرج له الجواب ، فجوابه : لا ينظرون ؛ كقوله : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) [يس : ٤٩].

ثم قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ).

هذا ـ والله أعلم ـ يشبه أن تكون الآية في المعاندين منهم والمتمردين ، الذين همتهم العناد والتعنت ، خرج على إياس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) ، من أولئك الكفرة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حريصا على إيمانهم مشفقا على أنفسهم ؛ حتى كادت نفسه تذهب حسرات عليهم ؛ حرصا على إيمانهم وإشفاقا على أنفسهم ؛ كقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] ، وكقوله : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ ...) الآية [الكهف : ٦] ، ونحوه ، فآيسه الله ـ تعالى ـ عن إيمان أولئك الكفرة ؛ لئلا يطمع في إيمانهم وإسلامهم بعد ذلك ، ولا تذهب نفسه حسرات عليهم ؛ ليتخذهم أعداء ويبغضهم ، ويخرج الشفقة التي في قلبه لهم ، وليتأهب لعدوانهم ، ويتبرأ منهم ؛ كما فعل إبراهيم : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [التوبة : ١١٤] ، وكما قال لنوح : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) [هود : ٣٦] : آيسه الله عن إيمان قومه إلا من قد آمن ، ونهاه أن يحزن

__________________

ـ المحكوم عليه لا عن الحكم ، ولأجل هذا قلنا : (هل) لا تعادل (أم) ، وإنما تعادل (أو).

وأما الهمزة فإنها تصلح في الاستفهام عن الحكم وعن المحكوم به كقولك : أقام زيد أم عمرو؟ وكقولك : أقام زيد أو عمرو؟ وسائر أدوات الاستفهامات إنما تصلح للسؤال عن حقيقة المحكوم عليه.

ومختصر القول : أن (هل) موضوعة للاستفهام عن التصديق والإيجاب الذي هو معرفة المركبات ، الذي هو إسناد الحكم إلى المحكوم عليه وسائر الأدوات غير الهمزة موضوعة للتصور الذي هو معرفة حقائق المفردات التي هي محكوم عليها ، والهمزة صالحة للأمرين. ولها مع الاستفهام أربعة معان :

أحدها : النفي ، والثاني : تكون بمعنى (إن) في التوكيد والتحقيق ، والثالث : تكون بمعنى قد ، الرابع : التمني.

ينظر : مصابيح المغاني في حروف المعاني (٥٠٦) والمغني لابن هشام : (٣٨٦)

(٦) في ب : تعجيب.

(١) سقط في أ.

(٢) زاد في أ : يشبه أن تكون الآية في المعاندين.

٣٢٦

عليهم [وعلى فوت إيمانهم ؛ فعلى ذلك هذا آيس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن إيمانهم](١) ، ونهاه أن يحزن عليهم ؛ كقوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) [النحل : ١٢٧] ، إلى الوقت الذي ذكر أنهم يؤمنون في ذلك الوقت ، وهو وقت نزول الملائكة وإتيانهم بآياتهم ، وهو قوله : (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) [النحل : ٣٣].

ثم قال بعضهم (٢) : تأتيهم الملائكة بقبض الأرواح مع اللعن والسخط ؛ فعند ذلك يؤمنون بالله.

وقال بعضهم (٣) قوله : (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) يوم القيامة ، وهو كقوله : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) [الفرقان : ٢٢].

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ).

على إضمار الأمر ؛ كأنه قال : أو يأتي أمر ربك ؛ على ما ذكر في سورة النحل : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ).

ثم الأمر فيه عذاب الله ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) [هود : ٦٦] ، يعني : عذابنا ؛ فعلى ذلك في هذا : أمر الله عذاب الله ، والأصل فيما أضيف إلى الله في موضع الوعيد لا يراد به الذات ، ولكن يراد به نقمته وعذابه [وعقوبته](٤) ؛ كقوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨] لا يريد به [ذاته] ، ولكن يريد به [نقمته](٥) وعذابه (٦) ؛ كقوله : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) ، لا يريد به [لقاء](٧) ذاته ؛ [وكذلك قوله : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران : ٢٨] ، (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [البقرة : ٢١٠] ، وغيرها من الآيات ، لا يراد به ذاته](٨) ولكن يراد به عذابه ونقمته.

أو نقول : إن كل شيء يراد به تعظيمه ، يضاف إلى الله ـ تعالى ـ فيراد به تعظيم ذلك الشيء ، أو تعظيم عذابه ونقمته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) : يحتمل بعض آياته ما قال ـ عز

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٠٥) (١٤٢٠٥) عن ابن جريج بنحوه ، وينظر تفسير البغوي والخازن (٢ / ٤٧١) ، وتفسير البحر المحيط لأبي حيان (٤ / ٢٥٨).

(٣) ينظر : البحر المحيط (٤ / ٢٥٨).

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

(٦) هذه الآية تأويلها تلاوتها كما هي ، وهذا هو الذي عليه أئمة السلف.

(٧) سقط في ب.

(٨) سقط في ب.

٣٢٧

وجل ـ : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ ...) [الآية](١) [غافر : ٨٤].

كقوله (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ...) الآية [الأحقاف ٢٤].

وكقوله : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ...) الآية [المعارج : ١] ، ونحوه من الآيات ، يؤمنون عند معاينتهم العذاب ، ولا ينفعهم الإيمان [في ذلك الوقت](٢).

ويحتمل ما قال أهل التأويل (٣) : طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدجال ، وخروج الدابة ، وعلى ذلك روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» (٤) ، [وقال](٥) أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ : إن (٦) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بادروا بالأعمال ستا : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، والدخان ، والدابة (٧) ، وخويصة أحدكم ، وأمر العامة» (٨) ، وخويصة أحدكم : الموت ، وأمر العامة : الساعة إذا قامت.

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : «التوبة معروضة حتى تطلع الشمس من مغربها» ، ثم قال : «مهما يأت عليكم عام [إلا والآخر](٩) شر» ونحوه من الأخبار. فإن ثبتت هذه الأخبار فهي المعتمدة.

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : «إذا خرج أول الآيات ، طرحت الأقلام ، وجست (١٠) الخطبة ، وشهدت الأجساد (١١) على الأعمال» (١٢).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤١١) (١٤٢٤٩) و (١٤٢٥٠) عن ابن مسعود وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١١١) وعزاه لعبد بن حميد والطبراني عن ابن مسعود.

(٤) أخرجه مسلم (١ / ١٣٨) كتاب الإيمان / باب بيان الزمن الذي لا يقبل به الإيمان (٢٤٩ / ١٥٨) ، وأحمد في مسنده (٢ / ٤٤٥) عن أبي هريرة ، والترمذي (٥ / ١٥٦) في أبواب فضائل القرآن (٣٠٧٢) وقال : حسن صحيح.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : عن.

(٧) في ب : ودابة الأرض.

(٨) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٦٧) كتاب الفتن باب بقية من أحاديث الدجال (١٢٨ ـ ٢٩٤٧) ، وأحمد في مسنده (٢ / ٣٢٤ ، ٣٣٧ ، ٣٧٢ ، ٥١١) ، والبغوي في شرح السنة (٧ / ٤٣١) ، وله شاهد من حديث أنس أخرجه ابن ماجه (٢ / ١٣٤٨) كتاب الفتن باب الآيات (٤٠٥٦).

(٩) في ب : فالآخر.

(١٠) في ب : وحفظت.

(١١) في ب : الأجياد.

(١٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤١١) (١٤٢٥١) وذكره السيوطي في الدر المنثور (٣ / ١١٢) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.

٣٢٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ).

أخبر أن الإيمان لا ينفع في ذلك الوقت ؛ لأنه ليس بإيمان اختيار في الحقيقة ؛ إنما [هو](١) إيمان دفع العذاب والبأس عن أنفسهم ؛ كقوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ) [غافر : ٨٤] ، وقوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام : ٢٨] أخبر أنهم لو ردوا إلى الدنيا ، لعادوا إلى تكذيبهم الرسل وكفرهم بالله ؛ فدل أن إيمانهم في ذلك الوقت إيمان دفع العذاب والبأس وإيمان خوف ، وهو كإيمان فرعون ؛ حيث قال : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس : ٩٠] ، لم ينفعه إيمانه في ذلك [الوقت](٢) ؛ لأنه إيمان دفع الهلاك عن نفسه ، لا إيمان حقيقة باختيار.

والثاني : أنه في ذلك الوقت ـ وقت نزول العذاب ـ لا يقدر أن يستدل بالشاهد على الغائب ؛ ليكون قوله قولا عن معرفة وعلم ، وإنما هو قول يقوله بلسانه لا عن معرفة في قلبه [فلم ينفعه إيمانه](٣) في ذلك الوقت ؛ لما ذكرنا ، وهو كقوله : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) [النساء : ١٨] ؛ لأنه إيمان دفع البأس والعذاب ، أو يبالغ بالاجتهاد ؛ حتى يكون إيمانه إيمانا باجتهاد ؛ لذلك كان ما ذكرنا.

أو أن يكون في طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدجال ، ودابة الأرض ، وما ذكر من البلاء والشدة والعذاب ما يضطرهم إلى الإيمان به ؛ فيكون إيمانهم إيمان اضطرار لا اختيار.

ويشبه أن تكون (٤) [الأخبار](٥) التي رويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه (٦) لا تقبل التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها ، وبعد خروج الدجال ودابة الأرض ، أي : لا يثابون على طاعتهم ، وإلا فمن البعيد أن يدعوا إلى الإيمان والطاعات ، ثم إذا أتوا بها لم تقبل منهم ، لكنه يحتمل ما ذكرنا [بألا](٧) : لا يثابوا على ذلك ، ويعاقبوا ما كان منهم [من] الكفر وكفران

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : يكون.

(٥) سقط في أ.

(٦) في ب : أن.

(٧) سقط في أ.

٣٢٩

النعم ؛ لأن جهة وجوب الثواب إفضال وإحسان ، وفي الحكمة ترك الإفضال بالثواب في الطاعات إذا كان من الله ـ عزوجل ـ من النعم ما يكون ذلك شكرا له ، والعقاب على الكفر مما توجبه (١) الحكمة ؛ لذلك كان ما ذكرنا [واحدا](٢) ؛ [ولهذا](٣) يخرج قول أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ حيث قال : لا ثواب للجن على طاعتهم (٤) ؛ لأن طريق وجوبه

__________________

(١) في ب : يوجبه.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

(٤) اتفق العلماء على أن الجن مكلفون مخاطبون لقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ولقوله تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) [الجن : ١ ـ ٢] ، وقوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن : ٣٣ ـ ٣٤] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تكليفهم وأنهم مأمورون منهيون ولما في القرآن من ذم الشياطين ولعنهم ، والتحرز من غوائلهم وشرهم ، وذكر ما أعد الله لهم من العذاب ، وهذه لا تكون إلا لمن خالف الأمر والنهي ، وارتكب الكبائر ، وهتك المحارم ، مع تمكنه من ألا يفعل ذلك ، وقدرته على فعل خلافه.

قال القاضي عبد الجبار : لا نعلم خلافا بين أهل النظر في أن الجن مكلفون.

وحكي عن الحشوية أنهم مضطرون إلى أفعالهم ، وأنهم ليسوا مكلفين.

وأجمع العلماء على دخول الجن في عموم بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن الله تعالى أرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الجن والإنس ففي الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي».

وحديث «كان النبي يبعث إلى خاصة قومه وبعثت أنا إلى الجن والإنس» قال ابن عقيل : والجن داخلون في مسمى الناس لغة.

وذهب جمهور العلماء إلى أن الجن يثابون على الطاعة ويعاقبون على المعصية ، لقوله تعالى : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً. وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن : ١٤ ، ١٥] وقوله تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا)[الأنعام : ١٣٢] وقوله تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ)[الرحمن : ٥٦].

وحكى ابن حزم وغيره عن أبي حنيفة أنه قال : لا ثواب لهم إلا النجاة من النار لأنه جاء في القرآن فيهم (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)[الصف : ١٢] والمغفرة لا تستلزم الإثابة ، لأن المغفرة ستر. وروي عن ليث بن أبي سليم. قال : ثواب الجن أن يجاروا من النار ، ثم يقال لهم : كونوا ترابا ، وروي عن أبي الزناد قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال الله تعالى : لمؤمني الجن وسائر الأمم : كونوا ترابا ، فحينئذ يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا.

ثم إن العلماء اتفقوا على أن كافر الجن يعذب في الآخرة ، كما ذكر الله تعالى في كتابه العزيز : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) وقوله تعالى : (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ)[محمد : ١٢].

ينظر : شرح روض الطالب (٣ / ١٠٤) ، الفصل في الملل لابن حزم (٥ / ١٢) ، وتفسير الرازي (٣٠ / ١٥٣) ط عبد الرحمن محمد ، ومقالات الإسلاميين (٢ / ١١٣) ، والأشباه والنظائر لابن نجيم (٣٢٦) ، وآكام المرجان (٣٦) وما بعدها ، والفروع لابن مفلح (١ / ٦٠٣) ، وكشاف القناع (١ / ٤٧٠).

٣٣٠

الإفضال ولم يذكر [لهم](١) ذلك ، ويعاقبون بما كان منهم من الكفران والإجرام (٢) ؛ لما ذكرنا من المعنى الذي وصفنا ، والله أعلم بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها).

عند معاينة العذاب والبأس والآيات ، إذا لم تكن آمنت من قبل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً).

أي : لا ينفع ذا إلا بذا : إذا عملت خيرا ولم تكن آمنت لا ينفعها ذلك ، ولم ينفعها إيمان عند معاينة العذاب والآيات ، إذا لم تكن كسبت قبل ذلك خيرا.

وقيل : قوله : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) ، أي : لا ينفع نفسا إيمانها إذا لم تعزم ألا ترتد ولا ترجع عنه أبدا.

وقيل (٣) : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) ، أي : لا ينفع نفسا إيمانها ، [(أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) أي :](٤) وكسبت في تصديقها التعظيم لله والإجلال ؛ فعند ذلك تنفع صاحبها (٥) ؛ لأنه لا كل تصديق يكون فيه التعظيم له والإجلال [ينفي التعظيم والإجلال](٦) إذا لم يكن من التعظيم له.

وقيل : (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) ، أي : لم تكن عملت في تصديقها خيرا قبل معاينة الآيات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) ، هو يخرج على الوعيد ، أي : انتظروا إحدى هذه الثلاث التي ذكرنا ؛ فإنا منتظرون ، وهو كقوله : (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) [الطور : ٣١] ، وانتظروا العذاب ؛ فإنا منتظرون بكم ذلك.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١٦٠)

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : والجزاء.

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤١٢) (١٤٢٥٥) عن السدي بنحوه ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١١٠) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن السدي.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : صاحبه.

(٦) سقط في أ.

٣٣١

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً).

عن عائشة وأبي هريرة (١) ـ رضي الله عنهما ـ قال أحدهما : فتيكم في الكفرة ، وقال الآخر : في أهل الصلاة.

وقيل : هم الحرورية (٢).

وقيل (٣) : هم اليهود والنصارى.

ولكن لا ندري من هم ، وليس بنا إلى معرفة من كان حاجة.

ثم يحتمل وجوها ثلاثة :

يحتمل : فارقوا دينهم حقيقة ؛ لأن جميع أهل الأديان عند أنفسهم أنهم يدينون بدين الله ، لا أحد يقول : إنه يدين بدين غير الله (٤).

ألا ترى أنهم قالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] : فهم وإن كانوا عند أنفسهم أنهم يدينون بدين الله ، فهم في الحقيقة فارقوا دينهم ، وليسوا على دين الله.

ويحتمل قوله : فارقوا دينهم الذي أمروا به ودعا إليه الرسل والأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ فارقوا ذلك الدين.

ويحتمل : فارقوا دينهم الذي دانوا به في عهد الأنبياء والرسل بدين الله ، ففارقوا ذلك الدين ، والله أعلم ؛ كقوله : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩] ، وكقوله : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ...) الآية [آل عمران : ١٠٦] : كانوا مؤمنين به ، وصاروا شيعا ، أي : صاروا فرقا وأحزابا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ).

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤١٤) (١٤٢٦٩ ، ١٤٢٧٠) عن أبي هريرة وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١١٧) وزاد نسبته للفريابي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة.

(٢) نسبة إلى حروراء بالكوفة على ميلين منها نزل بها جماعة خالفوا عليّا رضي الله عنه من الخوارج. ويقال : (هو حروري بين الحرورية) ، ينتسبون إلى هذه القرية ، وهم نجدة الخارجي وأصحابه ومن يعتقد اعتقادهم يقال له : الحروري.

ينظر : تاج العروس من جواهر القاموس ـ وزارة الإعلام ـ الكويت (١٠ / ٥٨٨) (حرر).

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤١٣) (١٤٢٦١ ، ١٤٢٦٢) عن مجاهد ، (١٤٢٦٣ ، ١٤٢٦٤ ، ١٤٢٦٨) عن قتادة ، (١٤٢٦٧) عن الضحاك ، (١٤٢٦٥) عن السدي ، (١٤٢٦٦) عن ابن عباس.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١١٨) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة ، ولعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد.

(٤) في ب : بغير دين الله.

٣٣٢

من الناس من صرف [تأويل قوله](١) : (لَسْتَ مِنْهُمْ) ، أي : لست أنت من (٢) قتالهم في شيء (٣) ؛ كأنه نهاه عن قتالهم في وقت ، ثم أذن له بعد ذلك ، ثم نسخته آية السيف (٤) ، وهذا بعيد.

ويحتمل : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) ، أي : لست من دينهم في شيء ؛ لأن دينهم كان تقليدا لآبائهم ، ودينك دين بالحجج والبراهين ؛ فلست منهم ، أي : من دينهم في شيء.

ويحتمل : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) ، أي : لا تسأل أنت عن دينهم ولا تحاسب على ذلك ؛ كقوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية [الأنعام : ٥٢].

أو يخرج على إياس أولئك الكفرة عن عود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى دينهم ؛ كقوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) الآية [المائدة : ٣].

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ).

يحتمل : أي الحكم فيهم إلى الله ؛ ليس إليك ، هو الذي يحكم فيهم.

أو أن يكون أمرهم إلى الله في القتال ، حتى يأذن لك بالقتال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ).

هو وعيد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها).

ليس في قوله : (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) إيجاب الجزاء في السيئة ، وفي قوله : (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) إيجاب الجزاء ؛ لأنه قال : فله كذا ؛ فيه إيجاب الجزاء ، وإنما إيجاب الجزاء في السيئة بقوله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء : ١٢٣] وغيره من الآيات.

وقد ذكرنا أن إيجاب الجزاء والثواب في الحسنات والخيرات إفضال وإحسان ؛ لأنه قد سبق من الله ـ تعالى ـ إلى كل أحد من النعم ما يكون منه تلك الخيرات جزاء لما أنعم عليه وشكرا له ، ولا جزاء للجازي إلا من جهة الإفضال والإكرام.

وأما جزاء السيئة فمما توجبه الحكمة ؛ لما خرج الفعل منه مخرج الكفران لما أنعم

__________________

(١) في أ : تأويله.

(٢) في أ : في.

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤١٤) (١٤٢٧٢) عن السدي وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١١٨) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٤) وذلك في سورة التوبة (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [٥].

٣٣٣

عليه ؛ فيستوجب بالكفران العقوبة والجزاء على ذلك.

والثاني : أنه خرج الفعل منه في الخيرات والحسنات على موافقة خلقته وصورته وتقويمه (١) وتسويته على ما خلقها الله وأنشأها وبناها ؛ فلم يخرج الفعل منه (٢) على خلاف ما هو بني عليه ؛ فلم يستوجب به الجزاء.

وأما السيئات : فهي إخراجها على خلاف خلقتها وتقويمها وصرفها إلى غير الوجه الذي كانت خلقتها وتقويمها ؛ فاستوجب بذلك العقوبة والجزاء عليها ؛ لقوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦].

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها).

ليس هو على التحديد حتى لا يزاد عليه ولا ينقص منه ، إنما خرج ـ والله أعلم ـ على التعظيم لذلك والإجلال ؛ لأنه أخبر في النفقة التي تنفق في سبيل الله أنها تزداد وتنمو إلى سبعمائة ، ولا يجوز أن يكون في الحسنة التي جاء بها في التوحيد [ما] يبلغ إلى ما ذكر ، وإذا جاء بنفس ذلك التوحيد لا يبلغ ذلك أو يقصر عن ذلك ، ولكنها ـ والله أعلم ـ على التعظيم له ، أو على التمثيل ؛ كقوله : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد : ٢١] ذكر هذا ؛ لما لا شيء عند الخلق أوسع منها ، وكقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) [مريم : ٩٠] ومثله هو على التمثيل ؛ خرج لعظيم ما قالوا في الله ، ليس على أنها تنشق أو تنفطر ؛ فعلى ذلك الأول أنه يخرج لما ذكرنا ، لا على التحديد له والوقف.

ثم قوله : من جاء بالحسنة فله كذا ، ومن جاء بالسيئة فله كذا : ذكر مجيء الحسنة ومجيء السيئة ، ولم يقل : من عمل بالحسنة فله كذا ، ومن عمل بالسيئة ؛ ليعلم أن النظر إلى ما ختم به وقبض عليه ؛ فكأنه قال : من ختم بالحسنة وقبض عليها فله كذا ؛ لأنه قد يعمل بالحسنة ، ثم يفسدها وينقضها بارتكاب ما ينقضه ويفسده من الشرك وغيره ؛ على ما روي : «الأعمال بالخواتيم» (٣).

__________________

(١) في أ : تقديمه.

(٢) في أ : به.

(٣) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (٧ / ٢١٥) وعزاه للبزار بلفظ (العمل بخواتيمه) ، عن ابن عمر وقال : وفيه عبد الله بن ميمون القداح وهو ضعيف جدّا وقال البزار وهو صالح وبقية رجاله رجال الصحيح.

وعزاه للطبراني في الأوسط عن علي بن أبي طالب وقال : وفيه حماد بن وافد الصفار وهو ضعيف.

٣٣٤

ثم اختلف في قوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) : قال بعضهم : [من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها بعد التوحيد] ومن جاء بالسيئة بعد التوحيد فلا يجزي إلا مثلها.

وقال بعض أهل التأويل (١) : من جاء بالحسنة يعني بالتوحيد فله عشر أمثالها ، لكنه ليس على التحديد لما ذكرنا ، ولكن على التعظيم له والقدر عند الله ، أو على التمثيل. ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها [يعني : الشرك ، لا يجزى إلا مثله](٢). فكان التخليد في النار مثل الشرك ؛ لأن الشرك أعظم السيئات.

وفي الآية دلالة أن المثل قد يكون من غير نوعه ؛ حيث أوجب في الحسنة من الثواب عشر أمثالها ومن السيئة مثلها ، وليس واحد منهما من نوع الأصل والعمل الذي يثاب عليه.

وقيل : من جاء بالحسنة في الآخرة : بالتوحيد ، فله عشر أمثالها ، في الأضعاف. ومن جاء بالسيئة في الآخرة ، يعني : الشرك فلا يجزى إلا مثلها (٣) في العظم ؛ فجزاء الشرك النار ؛ لأن الشرك أعظم الذنوب ، والنار أعظم العقوبة ، وذلك كقوله (جَزاءً وِفاقاً) [النبأ : ٢٦] ، أي : وفاق العمل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) جميعا لا يزاد على المثل ولا ينقص مما ذكر.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير بنحوه (٥ / ٤١٧ ـ ٤١٨) عن كل من :

عبد الله بن مسعود (١٤٢٧٦) و (١٤٢٧٧) و (١٤٢٧٨).

شقيق بن سلمة (١٤٢٨٠).

القاسم بن أبي بزة ومجاهد (١٤٢٨١) و (١٤٢٩٠).

مجاهد (١٤٢٩٤).

عطاء (١٤٢٨٢) و (١٤٢٨٨).

محمد بن كعب (١٤٢٨٣).

إبراهيم (١٤٢٨٤) و (١٤٢٨٥) و (١٤٢٨٦).

أبي صالح (١٤٢٨٩).

الضحاك (١٤٢٩١).

الحسن (١٤٢٩٢).

سعيد بن جبير (١٤٢٩٣).

ابن عباس (١٤٢٩٥).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١١٨) وعزاه لعبد بن حميد عن سعيد بن جبير وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي نعيم عن ابن مسعود وعزاه لابن المنذر عن ابن عباس ، ولأبي الشيخ عن أبي هريرة وقال أراه رفعه.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : مثل ما.

٣٣٥

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(١٦٤)

قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

قال أبو بكر الكيساني (١) : قوله (هَدانِي) ، أي : دلني ربي إلى صراط مستقيم ، لكن هذا بعيد ؛ لأنه خرج مخرج ذكر ما منّ عليه بلطفه ، وليس في الدلالة والبيان ذلك ؛ إنما عليه البيان ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدل على الهدى ويبين لهم طريقه.

ثم أخبر أنه لا يهدي من أحب بقوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص : ٥٦] دل أن ذلك إكرام من الله ـ تعالى ـ بالهداية بالتوفيق (٢) له والعصمة بلطفه ، لا الدلالة والبيان.

وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) الآية [الحجرات : ١٧] ؛ فلو كان على الدلالة والبيان لكان منه ذلك ، ثم [أخبر](٣) إن المنة عليهم لله ـ تعالى ـ لا لرسوله ؛ دل أنه لما ذكرنا من الهداية نفسها لا الدلالة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (دِيناً قِيَماً).

قيل (٤) : قائما مستقيما لا عوج فيه ؛ كقوله : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) [الكهف : ١ ، ٢].

والعوج : هو الذي فيه الآفة ، فأخبر أن لا آفة فيه ولا عوج.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ).

إن أهل الأديان جميعا يدّعون أن الذي هم عليه هو دين إبراهيم ، فأخبر أن دين إبراهيم هو الدين الذي عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا هم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَنِيفاً).

__________________

(١) ينظر البحر المحيط لأبي حيان (٤ / ٢٦٢).

(٢) في أ : والتوفيق.

(٣) سقط في أ.

(٤) ذكره بمعناه ابن جرير (٥ / ٤١٩) ، والبغوي في تفسيره (٢ / ١٤٦) ، وابن عادل في اللباب (٨ / ٥٣٥).

٣٣٦

قيل (١) : مسلما ، والحنف : هو الميل ، وهو حنيف (٢) ، أي : مائل إلى دين الله ، أخبر أنه يدعو إلى دين الله ـ تعالى ـ إلى الدين الذي كان عليه آباؤه وأجداده ، أعني به : الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.

(وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

برأه ـ عزوجل ـ من الشرك.

وقيل (٣) : كان حنيفا خالصا لله مخلصا لم يشرك أحدا في ربوبيته ولا في عبادته ، على ما فعل أولئك الكفرة.

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وحفصة : دينا قيما فطرتكم التي فطرتم عليها ملة إبراهيم حنيفا.

ويقرأ : (قِيَماً) ، بالتشديد (٤) ، و (قِيَماً) بالتخفيف (٥). أو يخرج قوله : (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) على الشكر له والحمد على ما أنعم عليه وأفضل له ، من الإكرام له بالهداية بالطريق المستقيم.

[والمستقيم](٦) يحتمل : القائم بالحق والبرهان وكذلك قوله : (دِيناً قِيَماً) بالحجج والبراهين ، ودين أولئك دين بهوى أنفسهم ؛ ولذلك قال : (حَنِيفاً).

وقوله : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

__________________

(١) ذكره ابن جرير (١ / ٦١٧) ، والسيوطي في الدر (٣ / ٢٥٧) وعزاه لابن المنذر عن السدي.

(٢) في أ : الحنيف.

(٣) أخرجه ابن جرير (١ / ٦١٧) (٢١٠٥) عن السدي وذكره السيوطي في الدر (١ / ٢٥٧) وعزاه لابن أبي حاتم عن خصيف.

(٤) قرأ بها ابن كثير ونافع وأبو عمرو ، مفتوحة القاف مشددة الياء.

ينظر : معجم القراءات القرآنية (٢ / ٣٣٩) ، إتحاف الفضلاء (٢٢٠) ، الإملاء للعكبري (١ / ١٥٤ ، ١٥٥) ، البحر المحيط (٤ / ٢٦٢) ، التبيان للطوسي (٤ / ٣٥٢) ، التيسير للداني (١٠٨) ، تفسير الطبري (١٢ / ٢٨٢) ، الحجة لابن خالويه (١٥٢) ، الحجة لأبي زرعة (٢٧٩) ، السبعة لابن مجاهد (٢٧٤) ، الغيث للصفاقسي (٢٢٠) ، الكشاف للزمخشري (٢ / ٥٠) ، الكشف للقيسي (١ / ٤٥٨ ، ٤٥٩) ، المحتسب لابن جني (٢ / ٣٩٠) ، المعاني للأخفش (٢ / ٢٩٢) ، المعاني للفراء (١ / ٣٦٧) ، النشر لابن الجزري (٢ / ٢٦٧).

(٥) قرأ بها عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي مكسورة القاف خفيفة الياء.

قال الزمخشري ـ رحمة الله عليه ـ : القيم : (فيعل) من (قام) كسيد من ساد وهو أبلغ من القائم.

وأما قراءة أهل الكوفة فقال الزجاج ـ رحمة الله عليه ـ : هو مصدر بمعنى : القيام ، كالصغر والكبر والشبع ، والتأويل : دينا ذا قيم ، ووصف الدين بهذا المصدر مبالغة.

ينظر : اللباب في علوم الكتاب (٨ / ٥٣٦) ، والكشاف (٢ / ٨٣).

(٦) سقط في أ.

٣٣٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا).

خاطب الله بهذه الآيات رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به : الخلق كله ، فمن بلي بمثل ما كان بلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من السؤال والدعاء ، فله أن يقرأ أو يذكر ما في هذه الآيات.

ولو كان المراد [بالخطاب](١) بهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، لكان لا يقول له : (قُلْ) ، ولكن يقول له : افعل كذا ، ولا تفعل كذا ؛ وعلى ذلك الخطاب في الشاهد في خطاب بعض بعضا ألا يقولوا : (قُلْ) ؛ فدل أنه على ما ذكرنا ، وكذلك قوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] : من استوصف صفات الله ، فعليه أن يصف له ما في سورة الإخلاص ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره من الخلائق سواء في ذلك الخطاب.

ثم في قوله : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ...) الآية ذكر منّته بما هداه ، والاستسلام (٢) إلى شكر ما أنعم عليه. وفي قوله : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) الأمر بإخلاص العبادة لله ـ عزوجل ـ وإسلام النفس له في جميع أحواله محياه ومماته.

وفي قوله : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا).

فيه الدعاء إلى وحدانية الله وربوبيته.

ثم في قوله : (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي) دلالة رد قول من يستثني في إيمانه (٣) ؛ لأنه أمره أن يقول : (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، من غير أن يأمره بالثنيا ؛ فمن استثنى فيه لا يخلو استثناؤه من أحد معنيين :

إما أن يكون لشك فيه.

أو لكتمان ما أنعم الله عليه ؛ فعلى كل من أنعم الله عليه أن يظهر ذلك ، وأن يشكر له على ذلك ؛ على ما أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك.

وقوله : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

يخرج على وجهين :

أحدهما : يخرج على الأمر بالدعاء لنفسه ؛ لأنه قال : قل : أجعل صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين.

والثاني : على المنابذة مع أولئك الكفرة والفجرة ، يقول : أنا أجعل صلاتي وعبادتي

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : والاستبداء.

(٣) في أ : إيمان.

٣٣٨

ومحياي ومماتي لله ، لا أجعل لغيره شركاء ، كما جعلتم أنتم لغيره شركاء في عبادته وصلاته ونسكه ، والله أعلم.

ثم اختلف في قوله : (صَلاتِي) :

قال بعضهم (١) : الصلاة المفروضة.

وقال بعضهم (٢) : الصلاة : الخضوع والثناء ؛ يقول : إن خضوعي وثنائي لله ، والصلاة : هي الثناء في اللغة.

وقوله : (وَنُسُكِي) اختلف فيه.

قال الحسن (٣) : نسكي : ديني ؛ كقوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) [الحج : ٣٤] ، أي : دينا.

وقيل (٤) : نسكي ذبيحتي لله في الحج والعمرة وغيره.

وقيل (٥) : نسكي : عبادتي ، والنسك : اسم كل عبادة ؛ وعلى ذلك (٦) يسمى كل عابد ناسكا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

أي : أنا حي وميت لله ، لا أشرك أحدا في عبادتي ونفسي ، بل كله لله لا شريك [له] في ذلك.

ويحتمل : أن يكون هذا على التقديم والتأخير ؛ كأنه قال : قل إني أمرت أن أجعل صلاتي ونسكي لله ، أو إني أمرت أن أدعو وأسأل الله أن (٧) يجعل صلاتي ونسكي وعبادتي له ، لا أشرك غيره فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).

[يحتمل قوله : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)](٨) ، أي : وأنا أول من خضع وأسلم بالذي أمرت أن

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط (٤ / ٢٦٢).

(٢) ينظر : البحر المحيط (٤ / ٢٦٢).

(٣) ينظر : البحر المحيط (٤ / ٢٦٢).

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٢٠) (١٤٣٠١ ، ١٤٣٠٢ ، ١٤٣٠٣) عن مجاهد.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٢٣) وعزاه لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٥) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ١٤٦) ، وأبو حيان في البحر (٤ / ٢٦٢).

(٦) زاد في أ : قوله.

(٧) في ب أنه.

(٨) سقط في ب.

٣٣٩

أبلغ ؛ لأنه أمر بتبليغ ما أنزل إليه ، فيقول : أنا أول من أسلم بالذي أمرت بالتبليغ.

ويحتمل : أن يكون لا على توقيت الإسلام ؛ ولكن على سرعة الإجابة والطاعة [له](١) ؛ كقوله : (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) [الزخرف : ٤٨] : هو على الوصف بغاية العظم ، ليس على أن بعضها أكبر وأعظم وبعضها أصغر ؛ ولكن كلها أعظم وأكبر ؛ فعلى ذلك هذا ليس على وقت الإسلام ، ولكن لسرعة الإجابة ، والطاعة له ، والله أعلم.

الإسلام : هو جعل النفس وكلية الأشياء لله سالمة ، أي : أنا أول من جعل نفسه لله سالمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ).

يحتمل هذا وجهين :

يحتمل : أغير الله أبغي ربا وقد تعلمون أن لا رب سواه؟!

ويحتمل : أغير الله أبغي ربا سواه ، وفي كل أحد أثر ربوبيته وألوهيته قائم ظاهر ، وفيما تدعونني إليه أجد آثار العبودية والربوبية لله فيه ، فكيف أتخذ ربا سواه؟!.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها).

يحتمل وجهين :

[الأول](٢) يحتمل : لا تكسب كل نفس من [سوء](٣) إلا عليها ، أي : لا يتحمل ذلك غيره عنه في الآخرة ؛ وكذلك قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [فاطر : ١٨] ، وكقوله : (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) [النور : ٥٤].

[الثاني](٤) ويحتمل : أن يكون قوله : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) ، أي : لا تكسب كل نفس ـ لو تركت وما تختار ـ إلا عليها ، لكن الله بفضله يمنع بعضها وما تختار على نفسها ؛ كقول يوسف ـ عليه‌السلام ـ : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) [يوسف : ٥٣] : أخبر أنها كاسبة السوء إلا ما عصمها ربي.

وجائز أن يكون على الإضمار ؛ كأنه يقول : ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولها ، ومثله جائز في القرآن ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان : ١] ، وهو نذير

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

٣٤٠