تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان : ٦٧].

وقيل في قوله : (وَلا تُسْرِفُوا) ، أي : لا تمنعوا الكل ولكن كلوا بعضه ، وآتوا حقه من بعضه.

وقيل (١) : الإسراف ـ هاهنا ـ هو الشرك ؛ كأنه قال : ولا تشركوا آلهتكم فيما رزقكم الله من الحرث والأنعام ؛ فتحرموه ولا تنتفعوا به ، والإسراف هو الذي لا ينتفع به أحد ، وما كانوا جعلوا لشركائهم لا ينتفعون به هم ولا انتفع به أحد ؛ يكون مقابل قوله : (هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ...) الآية [الأنعام : ١٣٨].

وأما أبو يوسف ومحمد ـ رحمهما‌الله ـ [فإنهما] يذهبان إلى ما روى عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ [قال](٢) : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [«ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ، ولا فيما دون خمس ذود صدقة ، ولا فيما دون خمسة أواق صدقة» (٣) وعن أبي

__________________

ـ [غافر : ٤٣] أي المتجاوزين حدود الله من أوامره ونواهيه سواء كان ذلك في الإنفاق أم في غيره. ووصف قوم لوط بأنهم مسرفون من حيث تجاوزوا موضع البذر المذكور في قوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ)[البقرة : ٢٢٣]

ينظر عمدة الحفاظ (٢ / ٢٢١ ـ ٢٢٢).

(١) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ١٣٦) وعزاه لمقاتل بن حيان بنحوه ، والرازي في تفسيره (١٣ / ١٧٦) ، وابن عادل في اللباب (٨ / ٤٧٣).

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه البخاري (٣ / ٣١٠) كتاب : الزكاة ، باب : زكاة الورق ، حديث (١٤٤٧) ، ومسلم (٢ / ٦٧٤) كتاب : الزكاة ، حديث (٥١ / ٩٧٩) ، وأبو داود (٢ / ٢٠٨) كتاب : الزكاة ، باب : ما تجب فيه الزكاة ، حديث (١٥٥٨) ، والترمذي (٢ / ٦٩) كتاب : الزكاة ، باب : ما جاء في صدقة الزرع والثمر والحبوب ، حديث (٦٢٦) ، والنسائي (٥ / ١٧) كتاب : الزكاة ، باب : زكاة الإبل ، حديث (٢٤٤٥ ـ ٢٤٤٦) ، وابن ماجه (١ / ٥٧١) كتاب : الزكاة ، باب : ما تجب فيه الزكاة من الأموال ، حديث (١٧٩٣) ، ومالك (١ / ٢٤٤ ، ٢٤٥) كتاب : الزكاة ، باب : ما تجب فيه الزكاة ، حديث (٢) ، والشافعي (١ / ٢٣١ ، ٢٣٢) كتاب : الزكاة : الباب الثاني فيما يجب أخذه من رب المال من الزكاة وما لا ينبغي أن يؤخذ ، حديث (٦٣٦ ـ ٦٤٢) ، وابن أبي شيبة (٣ / ١١٧ ، ١٢٤ ، ١٣٧) كتاب : الزكاة ، باب : من قال : ليس في أقل من مائتي درهم زكاة ، وباب من قال : ليس فيما دون الخمس من الإبل صدقة ، وأحمد (٣ / ٦) ، وعبد الرزاق (٧٢٥٢ ، ٧٢٥٣ ، ٧٢٥٤ ، ٧٢٥٥) ، وابن الجارود (ص : ١٢٤ ، ١٢٥) كتاب : الزكاة ، حديث (٣٤٠) ، والدار قطني (٢ / ٩٣) كتاب : الزكاة ، باب : وجوب زكاة الذهب والورق والماشية والثمار والحبوب ، حديث (٥) ، والبيهقي (٤ / ٨٤) كتاب : الزكاة ، باب : العدد الذي إذا بلغته الإبل كانت فيها صدقة.

والحميدي (٢ / ٣٢٢) رقم (٧٣٥) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (٢ / ٣٤ ـ ٣٥) ، وأبو يعلى (٢ / ٢٦٨) رقم (٩٧٩) ، وابن حبان (٣٢٦٥ ـ الإحسان) ، وأبو عبيد القاسم بن سلام في الأموال (ص ـ ٤٣٠) رقم (١٤٢١) ، والطبراني في «الصغير» (١ / ٢٣٥) من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة ، وليس فيما دون خمس أوسق من التمر صدقة».

٢٨١

سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١)] «لا صدقة في الزرع ، ولا في الكرم (٢) ، ولا في النخل ، إلا ما بلغ خمسة أوسق» (٣) ، وذلك مائة فرق (٤).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) نبات معمر معترش من الفصيلة الكرمية ، اسم الشجرة الواحدة منه (كرمة) ، وتسمى أيضا (جفنة) ، و (حبلة) ، وقيل (الحبلة) أصل الكرمة ، والسرع (السرغ) قضيب من قضبان الكرم ، فإذا أخرج ورقه قيل : قد أطلع ، فإذا ظهر حمله قيل : قد أحثر وحثر ، فإذا صار حصر ما قيل : حصرم. والقطف هو العنقود ما دام عليه حبه ، فإذا أكل حبه فهو شمراخ ، ومعلق الحب من الشمراخ يسمى القمع.

عرف العرب أشجار الكرم في اليمن والعراق والحجاز وغيرها ، وورد ذكر ثمرها (العنب) في الشعر الجاهلي ، وفي العهد الإسلامي ورد ذكر (العنب) في القرآن المجيد ثماني مرات ، كما ورد ذكره وذكر الكرم في حديث نبوي جاء في صحيح مسلم ونقله صاحب كتاب (الطب النبوي) فقال (كرم : شجرة العنب ، وهي الحبلة ، ويكره تسميتها كرما لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يقولن أحدكم للعنب الكرم ، الكرم : الرجل المسلم». وفي رواية (إنما الكرم : قلب المؤمن) ، وفي أخرى (لا تقولوا الكرم ؛ وقولوا : العنب والحبلة).

ينظر معجم النباتات (٥٨٠ ـ ٥٨١).

(٣) أخرجه البيهقي (٤ / ١٢٨) كتاب الزكاة باب جماع أبواب صدقة الزرع من حديث جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري معا.

وأصل الوسق في اللغة : الحمل مطلقا وقال الخليل بن أحمد هو حمل بعير ، والوسق أيضا ضم الشيء إلى الشيء ويراد به الكيل.

وفي الاصطلاح. الوسق بالفتح ستون صاعا وهو عشرون وثلاثمائة رطل عند أهل الحجاز وثمانون وأربعمائة رطل عند أهل العراق على اختلافهم في مقدار الصاع والمد.

وقال المقريزي : والوسق ستون صاعا بصاع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك عشرون وثلاثمائة رطل عند الحجازيين.

وذكر الدكتور ضياء الدين الريس أنه لا خلاف على تحديد الوسق فأصحاب المعاجم والفقهاء يذكرون أن الوسق ستون صاعا. ولم أر في ذلك خلافا فتظهر أهمية تقدير الوسق بالأكيال المتداولة في تحديد نصاب زكاة الزروع والثمار حيث ربطت الأحاديث الشريفة زكاة الحرث بالوسق.

ومن هذا فالوسق يساوي ستين صاعا ويساوي أربعين ومائتي مد ويساوي عشرين وثلاثمائة رطل ، وبالرغم من أن الوسق لا خلاف في أنه مكيال يسع ستين صاعا إلا أن الخلاف يرد في مقدار الصاع بالأرطال عند الجمهور والحنفية.

ينظر المقادير الشرعية (١٨٠ ـ ١٨١).

(٤) الفرق في اللغة : الفرق إناء يسع ستة عشر مدّا ، وذلك أربعة أصوع ، والمراد بهذا التقدير المذكور هو الصاع والمد العراقيان ؛ لأن المد عندهم رطلان والصاع ثمانية أرطال ، وبذلك يكون الستة عشر مدّا ثلاثة أصوع. وقال ابن الأثير : الفرق بالتحريك مكيال يسع ستة عشر رطلا وهي اثنا عشر مدّا وثلاثة آصع عند أهل الحجاز ؛ لأن الصاع عندهم خمسة أرطال وثلث رطل ، وبالتالي يكون المد رطلا وثلثا ؛ فيكون الفرق أيضا عندهم ثلاثة آصع كما عند أهل العراق.

وفي الاصطلاح : يعتبر الفرق من المكاييل التي كانت منتشرة في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد ذكر في أحاديث كثيرة. والفرق بالتحريك مكيال يسع ستة عشر رطلا وهي اثنا عشر مدّا أو ثلاثة آصع عند أهل الحجاز ، وقيل : الفرق خمسة أقساط والقسط نصف صاع.

والفرق بالتحريك غير الفرق بالسكون ؛ لأن الأخير مكيال يسع عشرين ومائة رطل (١٢٠ رطل) ـ

٢٨٢

وعن ابن عمر (١) وعبد الله بن عمرو (٢) وأبي هريرة (٣) ـ رضي الله عنهم ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله.

وما روى موسى بن طلحة (٤) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس في الخضراوات صدقة» [وعن عمر مثله ، وعن على مثله ، وكذلك روى عن جماعة السلف : أن لا صدقة إلا في الحنطة والشعير والحبوب ، وقال أبو حنيفة ـ رحمة الله عليه ـ معنى ذلك كله لا صدقة](٥) تؤخذ إلا فيما بلغ خمسة أوسق» (٦) ، وليس في الخضراوات صدقة تؤخذ ، وما عليه في نفسه صدقة يؤديها هو.

ثم إن كان ذلك الحق الذي ذكر في الآية الزكاة ، فإن الآية تدل ـ والله أعلم ـ على أن

__________________

ـ وذلك ٥ ، ٢٢ آصع.

وقال (هنتسي) (كان هذا المكيال يساوي في المدينة ثلاثة صيعان أي : ٦١٧ ، ١٢ كيلو جراما وفي العراق وبلاد ما وراء النهرين كان فرق القمح يساوى ستة وثلاثين رطلا بغداديّا.

قال أبو عبيد : وذلك أن الفرق ثلاثة آصع وهي ستة عشر رطلا وأن الصاع ثلث الفرق لا اختلاف بين الناس أعلمه في ذلك أن الفرق ثلاثة آصع.

ينظر المقادير الشرعية (١٦٨ ـ ١٦٩).

(١) أخرجه أحمد (٢ / ٩٢) ، والبزار (١ / ٤٢٠ ـ كشف) ، رقم (٨٨٨) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (٢ / ٣٥) ، والبيهقي (٤ / ١٢١) ، من طريق ليث ابن أبي سليم ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس فيما دون خمس من الإبل صدقة».

وذكره الهيثمي (٣ / ٧٣) ، وقال : رواه أحمد والبزار ، والطبراني في الأوسط ، وفيه ليث بن أبي سليم ، وهو ثقة لكنه مدلس. ا. ه.

وقد تابعه عبد الرحمن بن محمد ، عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس فيما دون خمسة أوسق ، ولا خمس أواق صدقة».

أخرجه البزار (٨٨٧ ـ كشف).

وقال الهيثمي في المجمع (٣ / ٧٢) : وفي إسناده ضعف.

(٢) أخرجه الدار قطني (٢ / ٩٣) كتاب الزكاة باب وجوب زكاة الذهب والورق والماشية والثمار والحبوب وإسناده ضعيف ، قاله الحافظ في التلخيص (٢ / ٣٣٦).

(٣) أخرجه أحمد (٢ / ٤٠٢) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (٢ / ٣٥) كتاب : الزكاة ، باب : زكاة ما يخرج من الأرض.

(٤) موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي المدني ، عن أبيه وعثمان ، وعنه ابن أخيه طلحة بن يحيى وسماك وجماعة. قال العجلي : ثقة رجل صالح. قال عثمان بن موهب : مات في آخر سنة ثلاثة ومائة. له في البخاري فرد حديث.

ينظر خلاصة تذهيب تهذيب الكمال (٣ / ٦٦) ت (٧٢٨٠).

(٥) سقط في أ.

(٦) أخرجه البيهقي (٤ / ١٢٩) كتاب الزكاة باب الصدقة فيما يزرعه الآدميون ، والدارقطني (٢ / ٩٨) كتاب الزكاة باب ليس في الخضراوات صدقة ، وهو مرسل حسن قاله الزيلعي في نصب الراية (٢ / ٣٨٧). وروي موصولا من حديث طلحة بن عبيد الله ومعاذ بن جبل ، وروي موقوفا عن عمر وعلي بن أبي طالب.

٢٨٣

زكاة الحب والثمار إنما تجب فيما بيّن : الجنات المعروشات وغير المعروشات ؛ فدخل في ذلك ـ والله أعلم ـ العنب ، وغير العنب ، والثمار كلها ، وقال : (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) ، فدخل جميع ما تخرج الأرض من كل الأصناف التي سبق ذكرها ، وقال : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) ، فجعل الحق الواجب فيه يوم يحصد ؛ فيجوز أن يكون عفي عما قبل ذلك.

فإن كان هذا هو التأويل ، فهو ـ والله أعلم ـ معنى (١) ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو لم يكن قوله ـ تعالى ـ : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) عفوا عن صدقة ما يؤكل منه ما كان في ذلك فائدة ؛ لأنّ الثمرة تؤكل ولا تصلح لغير ذلك إلا للوجه الذي ذكرنا ، وهو أنهم كانوا يحرمونها ولا ينتفعون بها ؛ فقال ـ عزوجل ـ : كلوا وانتفعوا به ، ولا تضيعوه.

وإذا كان قوله : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) عفوا عن صدقة ما يؤكل منه ، ظهرت فائدة الكلام ، وهو على هذا التأويل ـ والله أعلم ـ ما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا خرصتم (٢) فخذوا ودعوا الثلث ، فإن لم تدعوا الثلث فالربع» (٣).

__________________

(١) في أ : يعني.

(٢) الخرص لغة : القول بالظن ، ويطلق على الكذب ، ومنه قول الحق تبارك وتعالى : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) [الذاريات : ١٠] ، ويطلق على حزر ما على النخل والكرم من الثمار تمرا أو زبيبا. وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أمر بالخرص في النخل والكرم خاصة».

والاصطلاح الشرعي لا يختلف عن ذلك.

وقد ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه يستحب للإمام خرص الثمار على رءوس النخل والكرم خاصة بعد بدو صلاحها ، لتحديد قدرها وقدر الزكاة فيها. فيبعث ساعية ليخرص الثمار على رءوس النخل والكرم بعد بدو صلاحها ، ليعلم بالخرص والتقدير نصاب الزكاة ، والقدر الواجب إخراجه. ويشترط المالكية لذلك : أن يحتاج أصحاب الثمار إلى التصرف فيها ، أما إذا لم يحتاجوا إلى التصرف فيها ، فينتظر جفاف ما يجف من الثمار وتخرج زكاته تمرا أو زبيبا ، وما لا يجف ينتظر جذه ثم يكال البلح ، ويوزن العنب ، ثم يقدر جفافهما إذا شك في بلوغهما النصاب. واستدل جمهور الفقهاء لمشروعية الخرص : بما روى الترمذي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمر أن يخرص العنب كما يخرص النخل ، وتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ صدقة النخل تمرا».

وعند الشافعية قول بوجوب الخرص لظاهر الحديث. وقال الخطابي : أثبت الحديث النبوي الخرص والعمل به ، وهو قول عامة أهل العلم إلا ما روي عن الشعبي أنه قال : الخرص بدعة ، وأنكر أصحاب الرأي ـ يعني الحنفية ـ الخرص ، وقال بعضهم : إنما كان ذلك الخرص تخويفا للأكرة لئلا يخونوا ، فأما أن يلزم به حكم فلا ، وذلك أنه ظن وتخمين وفيه غرر ، وإنما كان جوازه قبل تحريم الربا والقمار.

ينظر : المعجم الوسيط (خرص) ، ومغني المحتاج (١ / ٣٨٦ ، ٣٨٧) ، والمغني (٢ / ٧٠٦) ، حاشية الدسوقي (٢ / ٤٥٣).

(٣) أخرجه أحمد في المسند (٣ / ٤٤٨) ، وأبو داود (١ / ٥٠٤) كتاب الزكاة باب في الخرص (١٦٠٥) والنسائي في الصغرى (٥ / ٤٥) كتاب الزكاة باب كم يترك الخارص (٢٤٩٠) عن سهل بن أبي حثمة.

٢٨٤

وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس في العرايا (١) صدقة» (٢).

__________________

(١) بيع العرايا جائز في الجملة ، عند جمهور الفقهاء : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وابن المنذر ، لكن التحقيق أن مالكا ليس معهم. واستدل الجمهور المجيزون بما يلي :

ـ بحديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نهى عن بيع التمر بالتمر ، ورخص في العرية ، أن تباع بخرصها ، يأكلها أهلها رطبا».

قال ابن قدامة : والرخصة : استباحة المحظور مع وجود السبب الحاظر ، فلو منع مع وجود السبب من الاستباحة ، لم يبق لنا رخصة بحال.

ـ وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رخص في بيع العرايا ، في خمسة أوسق ، أو دون خمسة أوسق».

قال المحلي ـ من الشافعية ـ : شك داود بن الحصين أحد رواته ، فأخذ الشافعي بالأقل ، في أظهر قوليه.

والحنفية ـ وكذا مالك في التحقيق ـ لم يستجيزوا ، بيع العرايا ، وذلك : للنهي عن المزابنة ، وهي : بيع التمر على رأس النخل بتمر مجدود مثل كيله خرصا ، وللحديث الصحيح المعروف عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، سواء بسواء ، يدا بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم ، إذا كان يدا بيد». وفي بعض رواياته : «فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، الآخذ والمعطي فيه سواء». فهذه النصوص ، وأمثالها لا تحصى ، كلها مشهورة ، وتلقتها الأمة بالقبول ، فلا يجوز تركها ولا العمل بما يخالفها ، وهذا لأن المساواة واجبة بالنص ، والتفاضل محرم به ، وكذا التفرق قبل قبض البدلين ؛ فلا يجوز أن يباع جزافا ، ولا إذا كان أحدهما متأخرا ، كما لو كان أكثر من خمسة أوسق.

وهذا لأن احتمال التفاضل ثابت ، فصار كما لو تفاضلا بيقين ، أو كانا موضوعين في الأرض.

ومعنى العرايا ، وتأويلها عند المانعين فيما ذكر من الأحاديث :

ـ أن يكون للرجل النخلة أو النخلتان ، في وسط النخل الكثير لرجل ، وكان أهل المدينة إذا كان وقت الثمار ، خرجوا بأهليهم إلى حوائطهم ، فيجيء صاحب النخلة أو النخلتين ، فيضر ذلك بصاحب النخل الكثير ، فرخص صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصاحب الكثير أن يعطيه خرص ما له من ذلك تمرا ، لينصرف هو وأهله عنه ، روي هذا عن مالك.

ـ وما روي عن أبي حنيفة ، أنه قال : معنى ذلك عندنا : أن يعري الرجل الرجل نخلة من نخله ، فلا يسلم ذلك إليه حتى يبدو له ، فرخص له أن يحبس ذلك ، ويعطيه مكانه بخرصه تمرا مجذوذا بالخرص بدله. وهو جائز عند الحنفية ـ كما قالوا ـ لأن الموهوب له لم يملك الثمرة لعدم القبض ، فصار بائعا ملكه بملكه ، وهو جائز لا بطريق المعاوضة ، وإنما هو هبة مبتدأة ، وسمي ذلك بيعا مجازا ؛ لأنه لم يملكه فيكون برا مبتدأ ، كما يقول المرغيناني.

ينظر : المصباح المنير مادة (عرو) ، نيل الأوطار (٥ / ٢٠٠) ، شرح المحلي على المنهاج (٢ / ٢٣٨) ، وتحفة المحتاج (٤ / ٤٧٢) ، كشاف القناع (٣ / ٢٥٨ ، ٢٥٩) ، والشرح الكبير في ذيل المغني (٤ / ١٥٢) ، فتح القدير (٦ / ٥٤).

(٢) أخرجه البيهقي في الكبرى (٤ / ١٢٥) ، وله شاهد من حديث علي بن أبي طالب أخرجه الدار قطني في سننه (٢ / ٩٥) كتاب الزكاة باب ليس في الخضراوات صدقة وذكره الزيلعي في نصب الراية ، وقال : أخرجه الدار قطني عن الصفر بن حبيب عن أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس عن علي مرفوعا ، ـ

٢٨٥

وعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يبعث أبا خيثمة خارصا للنخل ، ويقول له : «إذا وجدت أهل بيت في حائطهم ، فلا تخرص بقدر ما يأكلون» (١).

وعن مكحول (٢) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خفضوا على الناس في الخرص ؛ فإن في المال العرية والوصية» (٣).

فدلت (٤) هذه الأحاديث [على](٥) أنه لا صدقة فيما يؤكل من الثمر (٦) رطبا إذا لم يكن فيما يأكلون إسراف.

وقدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك الثلث أو (٧) الربع ، وذلك ـ والله أعلم ـ يشبه ما دلت عليه الآية على تأويل من جعل الحق زكاة ؛ لأن الله ـ تعالى ـ قال : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) ؛ فاحتمل أن يكون ـ أيضا ـ معنى ذلك : ولا تسرفوا في الأكل ؛ فيجحف ذلك بأهل الصدقة ، ويحتمل أن يكون ذلك نهيا عن الإسراف في جميع الأشياء ، على ما ذكرنا من قبل.

وإذا صح أن لا صدقة فيما يؤكل من الرطب والعنب والثمار بهذه الأخبار ، وأن الصدقة إنما تجب فيما يلحقه الحصاد يابسا يمكن ادخاره ـ فالواجب ألا يكون في شيء من الخضر التي تؤكل (٨) رطبة صدقة ، وألا تكون الصدقة واجبة إلا فيما يبس منها ، ويمكن أن يدخر.

__________________

ـ ومن طريق الدار قطني رواه ابن الجوزي في العلل المتناهية ، قال ابن حبان في كتاب الضعفاء : ليس هذا من كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما يعرف بإسناد منقطع ، فقلبه هذا الشيخ عن أبي رجاء العطاردي.

(١) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (٤ / ١٣٠) (٧٢٢٢) وابن أبي شيبة (٢ / ٤١٤) (١٠٥٦٠) ، والبيهقي في سننه الكبرى (٤ / ١٢٤).

(٢) مكحول قيل هو ابن سهراب ، أبو عبد الله ، ويقال : أبو أيوب ، ويقال : أبو مسلم. مولى هذيل.

أصله من الفرس. دمشقي. فقيه تابعي. أعتق بمصر ، وجمع علمها ، وانتقل في الأمصار. عده الزهري عالم أهل الشام وإمامهم قال يحيى بن معين : كان قدريا ثم رجع.

ينظر : تذكرة الحفاظ (١ / ١٠١) ، وتهذيب التهذيب (١٠ / ٢٨٩) ، والأعلام (٨ / ٢١٢).

(٣) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (٢ / ٤١٤ ـ ٤١٥) (١٠٥٦٢) وذكره ابن حجر العسقلاني في تلخيص الحبير (٢ / ٣٣٣) وعزاه لابن عبد البر عن جابر مرفوعا.

(٤) في ب : دلت.

(٥) سقط في أ.

(٦) في ب : التمر.

(٧) في أ : و.

(٨) في ب : الذي يؤكل.

٢٨٦

فأما البقول (١) والرطاب (٢) والبطيخ (٣) والقثاء (٤) والخيار والتفاح وأشباهها : فلا صدقة فيها ، هذا كله يدل لأبي يوسف ومحمد ـ رحمهما‌الله ـ إلا أنا لا نعلم مخالفا أن فيما يباع من الرطب صدقة ، وإن كان يؤكل كهيئته ، فهذا يفسد ما احتججنا به لأبي يوسف ومحمد ومن وافقهما ، وتأويل ما روي «أن لا صدقة في الخضراوات» ، «وليس في أقل من خمسة أوسق صدقة تؤخذ» ، وإنما عليه في نفسه أن يؤديها ، والله أعلم.

وجائز أن يكون قوله : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) : على أولئك خاصّة في ذلك الوقت ، أو يقول : وآتوا حقه ولا تصرفوا إلى الأصنام التي تصرفون إليها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ).

هو صلة قوله : (أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) إلى آخر ما ذكر ، وأنشأ ـ أيضا ـ من الأنعام حمولة وفرشا.

__________________

(١) والبقل ما لا ينبت أصله وفرعه في الشتاء. وقيل : البقل ما لا ساق له ، خلاف الشجر. واستعير منه بقل : أعشب. قال :

فلا ديمة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها

ويقال : بقل وبقول وهي الخضراوات. قال :

جارية لم تأكل المرفقا

ولم تذق من البقول الفستقا

قيل : (من) بمعنى (بدل) ، أي بدل البقول.

ينظر : عمدة الحفاظ (١ / ٢٤٨ ـ ٢٤٩) ، وتاج العروس (٢٨ / ٩٨).

(٢) يقال رطب البسر رطوبا : صار رطبا والرطب نضيج البسر قبل أن يصير تمرا ، وذلك إذا لان وحلا ، أو ثمر النخل إذا أدرك ونضج قبل أن يصير رطبا.

ينظر : المعجم الوسيط (١ / ٣٥١) (رطب).

(٣) ثمر نبات حولي من الفصيلة القرعية وله عدة أنواع : يسمى في جنوب بلاد الشام باسم «بطيخ أصفر» و «بطيخ أخضر» وفي شمالها «جبس» ، وكان يسمى أيضا «حبحب» ، وفي مصر «بطيخ» وفي المغرب «دلّاع» ، وفي العراق «الرقّي» نسبة إلى بلدة الرقة ، وفي الحجاز «طبّيخ» ، وكان يسمى أيضا «البطيخ الشامي» أو «الخربز» وهذا من الفارسية و «خربز» و «البطيخ الهندي». وكلمة «زبش» كانت تطلق قديما عليه في الشام وهي محرفة من «جبس».

جاء في كتاب الطب النبوي لابن قيم الجوزية هذا النص : «إن النبي محمدا عليه الصلاة والسلام : كان يأكل البطيخ بالرطب ، ويقول : «يدفع حرّ هذا برد هذا» وفي البطيخ عدة أحاديث لا يصح منها شيء غير هذا الحديث الواحد.

ينظر : معجم النبات ص (٧٠ ، ٧١).

(٤) نبات من الفصيلة القرعية أصل اسمها من اللاتينية واسمه بالعربية «القشعر» ، ويعرفها عامة الشام باسم «المقتي ، والقتي (بالإمالة) ، ومن فصيلتها الخيار ، والعجور ، والفقوص ، وعبد اللاوي ، والشعرورة (القثاء الصغير) ، والضغابيس! كما تعرف باسم القثّ» من الهيروغليفية «قات». عرفت «القثاء» منذ القديم ، وزرعت ، وأكلت. عرفها قدماء المصريين ، واستعملوا بذرها لإدرار الحليب والبول ولزيادة القوة الجنسية ، وأضفوا عليها خصائص الخيار. ينظر قاموس الغذاء ص (٥١٧).

٢٨٧

ثم اختلف فيه :

قال بعضهم (١) : الحمولة : ما يحمل عليها أنشأها للحمل ، والفرش : الصغار منها التي لا تحمل.

وقيل : الحمولة : من نحو الإبل والبقر والبغال وغيرها من الحيوان ، والفرش : هو الغنم والمعز التي تؤكل وأنشأها للحم.

ويحتمل الفرش : ما يؤخذ من الأنعام ، ويتخذ منه الفرش والبسط.

وقال الحسن (٢) : الحمولة : ما يحمل عليها وهو خالص ، والفرش : كل شيء من أنواع المال من الحيوان وغيره ؛ يقال : أفرشه الله له ، أي : جعله له.

قال ابن عباس (٣) ـ رضي الله عنه ـ : الحمولة : الإبل والخيل والبغال والحمير ، وكل شيء يحمل عليه ، وأما الفرش فالغنم.

وعن ابن عمر (٤) ـ رضي الله عنه ـ قال : الحمولة : الإبل ، والفرش : البقر والغنم.

وقال أبو عوسجة (٥) : الحمولة : مراكب النساء ، والفرش : ما يكون للنتاج.

وقال القتبي : الحمولة : كبار الإبل التي يحمل عليها ، والفرش : صغارها التي لم تدرك أن يحمل عليها ، وهي ما دون الحقاق ، والحقاق : هي التي تصلح أن تركب ، أي : حق ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ).

قوله : [(كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) ووجهوا شكر ذلك إليه ، (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) في تحريم ما أحل الله لكم ، وجعل ذلك لكم](٦) رزقا ؛ كقوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا).

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٧٢) (١٤٠٥٢ ، ١٤٠٥٣) عن مجاهد.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٩٤) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وأبي عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود.

(٢) أخرجه بمعناه ابن جرير (٥ / ٣٧٣) (١٤٠٥٩)

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٧٣) (١٤٠٦١) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٩٥) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٧٣) (١٤٠٦٢) عن الربيع بن أنس (١٤٠٦٣ ، ١٤٠٦٤) عن قتادة ، (١٤٠٦٥) عن السدي (١٤٠٦٦) عن الضحاك.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٩٥) وعزاه لعبد بن حميد عن أبي العالية.

(٥) ينظر البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (٤ / ٢٤١).

(٦) سقط في أ.

٢٨٨

وقوله : (هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) [الأنعام : ١٣٨] وقوله : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) [الأنعام : ١٣٩] ، يقول : كلوا مما رزقكم الله ؛ وكذلك قوله : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) ، وانتفعوا به ، (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) : في تحريم ذلك على أنفسكم ، واعرفوا نعمه التي أنعمها عليكم ، ووجهوا شكر نعمه إليه ، ولا توجهوها إلى غيره.

ثم قوله : (خُطُواتِ الشَّيْطانِ).

قيل : آثار الشيطان.

وقيل : أعمال الشيطان.

وقيل : دعاء الشيطان وتزيينه ، وكله واحد.

وأصله : أن كل من أجاب آخر إلى ما يدعو إليه ويأتمر بأمره ، يقال : قد اتبع أثره ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

أي : إنه فيما يدعوكم إلى (١) تحريم ما أحل الله لكم ورزقكم ـ يقصد قصد إهلاككم وتعذيبكم ، لا قصد منفعة لكم في ذلك ، وكل من قصد إهلاك آخر فهو عدوّ له ، وهو يخرج على ما ذكرنا من تذكير المنن والنعم التي أنعمها عليهم ، يقول : هو الذي جعل لكم ذلك ؛ فلا تصرفوا شكره إلى غيره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ...) إلى آخر ما ذكر.

أي : أنشأ ـ أيضا ـ ثمانية أزواج ، على ما ذكر : أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ، وأنشأ من الأنعام ـ أيضا ـ حمولة وفرشا ، وأنشأ ـ أيضا ـ ثمانية أزواج مما عد علينا.

ويحتمل أن يكون قوله : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ...) إلى آخر ما ذكر هو تفسير قوله : (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) ، ويكون (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) التي ذكر في الآية بيان الحمولة والفرش التي ذكر في الآية الأولى.

ثم في قوله : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) : في الآية تعريف المحاجة مع الكفرة وتعليمها من الله ؛ لأنهم كانوا يحرمون أشياء على الإناث ويحللونها

__________________

(١) في أ : أي.

٢٨٩

للذكور ؛ كقوله : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) [الأنعام : ١٣٩] ؛ فقال الله ـ عزوجل : (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) : يعرفنا المحاجة معهم ، وطلب العلة التي بها (١) حرم ، فقال : (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) ، فإن قالوا : حرم الذكر ، فيجب أن كل ذكر محرم ، ثم من الذكور ما يحل ، فتناقضوا في قولهم ، وإن قالوا : حرم الأنثى ، فيجب أن كل أنثى ـ أيضا ـ تكون محرمة ، فإذا لم تحرم كل أنثى ظهر تناقضهم ؛ لأنه لا يجوز أن يجب حرمة شيء أو حله لمعنى ، ثم يرتفع ذلك الحكم والمعنى موجود ، أو حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ، فإن كان لهذا ، فيجب أن لكل مشتمل عليه أرحام الأنثيين محرم ، فإذا لم يحرم ذلك [دل أن التحريم لم يكن لهذا](٢).

وفيه دلالة أن الحكم إذا وجب لعلة (٣) ، فذلك الحكم واجب ما دامت العلة قائمة

__________________

(١) في ب : لها.

(٢) سقط في ب.

(٣) اختلفت كلمة العلماء في تعريف العلة :

فقد عرفها المعتزلة بأنها الوصف المؤثر في الأحكام لذاته ، وهذا مبني على رأيهم في التحسين والتقبيح العقليين ، بمعنى أن العقل يمكنه إدراك حسن الفعل أو قبحه ، وهذا مردود عند الأشاعرة.

وعرفها الآمدي بأنها الوصف الباعث على الحكم ، أي المشتمل على حكمة صالحة لأن تكون مقصود الشارع من شرع الحكم ، وذلك مثل جلب المصلحة أو دفع المفسدة. وهذا التعريف لا بأس به.

وعرفها الإمام الرازي بأنها الوصف المعرف للحكم. وهذا ما اختاره.

ويشترط في العلة ما يأتي :

ـ أن تكون وصفا ظاهرا ، ومعنى ظهوره أن يكون محسّا يدرك بحاسة من الحواس الظاهرة ؛ لأن العلة هي المعرف للحكم في الفرع فلا بد أن تكون أمرا ظاهرا يدرك بالحس في الأصل ويدرك بالحس وجوده في الفرع ، وذلك كالإسكار الذي يدرك بالحس في الخمر ويتحقق بالحس من وجوده في الفرع وهو النبيذ مثلا.

لذلك لا يصح التعليل بأمر خفي لا يدرك بحاسة ظاهرة ؛ لأنه لا يمكن التحقق من وجوده ولا عدمه فلا يعلل ثبوت النسب بحصول نطفة الزوج في رحم زوجته ، بل يعلل بمظنته الظاهرة وهي عقد الزواج الصحيح ، ولا يعلل نقل الملكية في البدلين بتراضي المتبايعين ، بل يعلل بمظنته الظاهرة وهي الإيجاب والقبول.

ـ أن تكون وصفا منضبطا ، ويعني انضباطه أن تكون له حقيقة معينة محدودة يمكن التحقق من وجودها في الفرع بحدها أو بتفاوت يسير ؛ لأن أساس القياس تساوي الفرع والأصل في علة حكم الأصل ، وهذا التساوي يستلزم أن تكون العلة مضبوطة محدودة حتى يمكن الحكم بأن الواقعتين متساويتان فيها ، كالقتل العمد العدوان من الوارث لمورثه حقيقة مضبوطة وأمكن تحقيقها في قتل الموصى له للموصي ، والاعتداء في بيع الإنسان على بيع أخيه حقيقة مضبوطة وأمكن تحقيقها في استئجار الإنسان على استئجار أخيه.

ولهذا لا يصح التعليل بالأوصاف المرنة غير المضبوطة التي تختلف اختلافا بينا باختلاف الظروف والأحوال والأفراد ؛ فلا تعلل إباحة الفطر في رمضان للمريض أو المسافر بدفع المشقة ، بل بمظنتها وهو السفر أو المرض. ـ

٢٩٠

موجودة ، وفيه الأمر بالمقايسة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

أي : ليس عندهم علم يعلمون ذلك وينبئونه ، ذكر ـ هاهنا ـ (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : في مقالتكم : إنه حرم ، وقال في الآية التي تليها (١) : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) ، أي : بتحريمها ، أي : ليس لكم شهداء على تحريم ما تحرمون : لا من جهة الكتاب ، ولا رسول ، ولا استدلال ؛ لأن العلوم ثلاثة : علم استدلال وهو علم العقل ، وعلم المشاهدة والعيان وهو علم الحس ، وعلم السمع والخبر ؛ فيخبر أنه ليس لهم من هذه العلوم شيء.

أما علم الاستدلال : فلا عقل يدل على تحريم ما حرمتم.

ولا علم مشاهدة ؛ لأنكم لم تشاهدوا الله حرم ذلك.

ولا علم من جهة السمع والخبر ؛ لأنهم [كانوا](٢) لا يؤمنون بالكتب ، ولا صدقوا الرسل فيقولون : أخبرنا الرسل بتحريم ذلك ، أو وجدنا في الكتب حرمتها ، فبهتوا في ذلك وضجروا.

__________________

ـ أن تكون وصفا مناسبا ، ومعنى مناسبته أن يكون مظنة لتحقيق حكمة الحكم ، أي أن ربط الحكم به وجودا وعدما من شأنه أن يحقق ما قصده الشارع بتشريع الحكم من جلب نفع أو دفع ضرر ؛ لأن الباعث الحقيقي على تشريع الحكم والغاية المقصودة منه هو حكمته ، ولو كانت الحكمة في جميع الأحكام ؛ ظاهرة مضبوطة لكانت هي علل الأحكام لأنها هي الباعثة على تشريعها ، ولكن لعدم ظهورها في بعض الأحكام وعدم انضباطها في بعضها أقيمت مقامها أوصاف ظاهرة مضبوطة ملائمة ومناسبة لها ، وما ساغ اعتبار هذه الأوصاف عللا للأحكام ولا أقيمت مقام حكمها إلا لأنها مظنة لهذا الحكم ، فإذا لم تكن مناسبة ولا ملائمة لم تصلح علة للحكم ، فالإسكار مناسب لتحريم الخمر ؛ لأن في بناء التحريم عليه حفظ العقول.

ولهذا لا يصح التعليل بالأوصاف المناسبة التي لا تعقل علاقة لها بالحكم ولا بحكمته كلون الخمر وما شابه ذلك.

ـ ألا تكون وصفا قاصرا على الأصل ، ومعنى هذا أن تكون وصفا يمكن أن يتحقق في عدة أفراد ويوجد في غير الأصل ؛ لأنه الغرض المقصود من تعليل حكم الأصل إلى الفرع ، فلو علل بعلة لا توجد في غير الأصل فلا يمكن أن تكون أساسا للقياس ؛ ولهذا لما عللت الأحكام التي هي من خصائص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنها لذات الرسول لم يصح فيها القياس ، فلا يصح تعليل تحريم الخمر بأنها نبيذ العنب تخمر ، ولا تعليل تحريم الربا في الأموال الربوية الستة بأنها ذهب أو فضة.

ينظر : البحر المحيط (٥ / ١١١) ، المستصفى (٢ / ٢٨٧ ، ٣٣٥) ، نهاية السول (٤ / ٥٣) ، التحصيل للأرموي (٢ / ٢٢٢) ، حاشية العطار على جمع الجوامع (٢ / ٢٧٢) ، تيسير التحرير (٣ / ٣٠٢).

(١) في ب : تليتها.

(٢) سقط في أ.

٢٩١

وفي الآية دلالة إثبات رسالة محمّد ونبوّته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنهم كانوا لا يحرمون هذه الأشياء ظاهرا فيما بينهم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نشأ بين أظهرهم منذ كان صغيرا إلى كبره ، وعرفوا أنه لم يختلف إلى أحد عرف ذلك ، ثم أخبر [الله ـ عزوجل ـ](١) [عن حل](٢) ما حرموا وفساد ما صنعوا ؛ ليدلهم أنه إنما عرف ذلك بالله ، وبه علم حل ما حرموا ، وحرمة ما أحلوا ، لا بأحد من الخلائق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [١٤٤].

أي : لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا ؛ لأنه هو الذي أنشأهم وأنشأ لهم جميع ما يحتاجون إليه ويقضون حوائجهم ، وبه كان جميع نعمهم التي يتنعمون ويتقلبون (٣) فيها ؛ فلا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا ، فقال : حرم كذا ولم يكن حرم ، أو : أمر بكذا ولم يكن أمر.

ألا ترى : أنه قال ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) [النساء : ٨٧] ، و (قِيلاً) [النساء : ١٢٢] ، فكما لم يكن أحد أصدق منه حديثا ، فعلى ذلك لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا بعد علمه : أنه هو الفاعل لذلك كله ، وهو المنشئ ما ذكر.

وقوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ). في الظاهر استفهام ، ولكن في الحقيقة إيجاب ؛ لأنه لا يحتمل الاستفهام ؛ كأنه قال : لا أحد أفحش ظلما ممن افترى على الله كذبا على الإيجاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ).

لأنه يقصد بالافتراء على الله قصد إضلال الناس وإغوائهم.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

أي : لا يهديهم (٤) وقت اختيارهم الكفر والظلم.

وقيل : (لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [أي أنهم يختمون](٥) بالكفر.

ويحتمل : لا يهديهم ؛ إذا كانوا هم عند الله ظلمة كفرة ، وإن كانوا عند أنفسهم عدولا على الحق.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : ويقلبون.

(٤) في أ : يهدي.

(٥) سقط في أ.

٢٩٢

قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)(١٤٧)

قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ).

قوله : (قُلْ لا أَجِدُ) يحتمل وجهين :

أحدهما : أي : لا أجد مما تحرمون أنتم فيما أوحي إلي ، وأما مما لا تحرمون فإنه يجد.

والثاني : لا أجد فيما أوحي محرما في وقت ، ثم وجده في وقت آخر.

وأيهما كان فليس فيه دليل حل سوى ما ذكر في الآية على ما يقوله بشر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ).

مثل هذا الخطاب لا يكون إلا في معهود [أو](١) سؤال ، وإلا مثل هذا الخطاب لا يستقيم على الابتداء.

فإن كان في معهود فهو يخرج جواب ما كانوا يحرمون من أشياء من الأنعام والحرث ، وما ذكر في الآيات التي تقدم ذكرها ، وما كانوا يحرمون من البحيرة والسائبة ، والوصيلة ، والحامي ؛ فقال : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) : مما تحرمون أنتم ، (عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً).

أو كان جواب سؤال في نازلة ؛ فقال : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) إلا فيما ذكر في الآية ، أو (٢) لم يجده محرما في وقت إلا ما ذكر ، ثم وجده في وقت آخر ، ففي أيهما كان لم يكن لبشر علينا في ذلك حجة ؛ حيث قال إن الأشياء كلها محللة مطلقة بهذه الآية : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) إلا ما ذكر : من الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، فقال : لا يحرم (٣) من الحيوان إلا ما ذكر.

ويقول : إن النهي الذي جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه نهى عن كل ذي ناب من

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : و.

(٣) في أ : تحرم.

٢٩٣

السباع ، وعن كل ذي مخلب من الطير» (١) ، إنما هو خبر خاص من أخبار الآحاد (٢) ، وخبر

__________________

(١) أخرجه البخاري (٩ / ٦٥٧) كتاب : الذبائح والصيد ، باب : أكل كل ذي ناب من السباع ، حديث (٥٥٣٠) ، ومسلم (٣ / ١٥٣٣) كتاب : الصيد والذبائح ، باب : تحريم أكل كل ذي ناب من السباع حديث (١٣ ، ١٤ / ١٩٣٢) ، ومالك (٢ / ٤٩٦) رقم (١٣) ، والطيالسي ص (١٣٦) حديث (١٠١٦) وأحمد (٤ / ١٩٣) ، والدارمي (٢ / ٨٤ ـ ٨٥) كتاب : الأضاحي ، باب : ما لا يؤكل من السباع ، وأبو داود (٤ / ١٥٩) كتاب : الأطعمة ، باب : النهي عن أكل السباع ، حديث (٣٨٠٢) ، والترمذي (٤ / ٧٣) كتاب : الأطعمة ، باب : ما جاء في كراهية أكل كل ذي ناب ، حديث (١٤٧٧) ، والنسائي (٧ / ٢٠٠ ـ ٢٠١) ، وابن ماجه (٢ / ١٠٧٧) كتاب : الصيد ، باب : أكل كل ذي ناب من السباع ، حديث (٣٢٣٢) ، وابن الجارود (٨٨٩) ، والشافعي (٢ / ١٧٢ ـ ١٧٣) كتاب : الصيد والذبائح رقم (٦٠٤ ، ٦٠٥) ، والحميدي (٢ / ٣٨٦) رقم (٨٧٥) ، وابن حبان (٥٢٥٥ ـ الإحسان) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (٤ / ١٩٠) ، وأبو نعيم في الحلية (٩ / ٢٨) ، والبيهقي (٩ / ٣٣١) ، والبغوي في شرح السنة (٦ / ٣١) من طريق أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة به.

وقال الترمذي : حديث مشهور من حديث أبي ثعلبة حسن صحيح.

وأما حديث أبي هريرة :

فأخرجه مسلم (٣ / ١٥٣٤) كتاب : الصيد والذبائح ، باب : تحريم أكل كل ذي ناب من السباع ، حديث (١٦ / ١٩٣٤) ، ومالك (٢ / ٤٩٦) كتاب : الصيد ، باب : تحريم أكل كل ذي ناب من السباع ، حديث (١٤) ، والشافعي (٢ / ١٧٢) كتاب : الصيد والذبائح ، حديث (٦٠٣) ، وأحمد (٢ / ٢٣٦) والترمذي (٤ / ٧٤) كتاب : الأطعمة ، باب : ما جاء في كراهية أكل كل ذي ناب وذي مخلب ، حديث (١٤٧٩) ، والنسائي (٧ / ٢٠٠) كتاب : الصيد والذبائح ، باب : تحريم أكل السباع ، وابن ماجه (٢ / ١٠٧٧) كتاب : الصيد ، باب : أكل كل ذي ناب من السباع ، حديث (٣٢٣٣) ، والبيهقي (٩ / ٣١٥) كتاب : الضحايا ، باب : ما يحرم من جهة ما لا تأكل العرب ، بلفظ «أكل كل ذي ناب من السباع حرام».

وأما حديث جابر بن عبد الله قال : «حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم خيبر الحمر الإنسية ، ولحوم البغال ، وكل ذي ناب من السباع ، وذي مخلب من الطير».

أخرجه أحمد (٣ / ٣٢٣) ، والترمذي (٤ / ٧٣) كتاب : الأطعمة ، باب : ما جاء في كراهية كل ذي ناب وذي مخلب ، حديث (١٤٧٨) ، والبزار ، والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (٥ / ٤٧).

وقال الترمذي : حسن غريب.

وأما حديث خالد بن الوليد قال : غزوت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيبر فأتت اليهود ، فشكوا أن الناس قد أسرعوا إلى حظائرهم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها ، وحرام عليكم الحمر الأهلية ، وخيلها ، وبغالها ، وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير».

فأخرجه أحمد (٤ / ٨٩ ، ٩٠) ، وأبو داود (٤ / ١٦٠ ـ ١٦١) كتاب : الأطعمة ، باب : النهي عن أكل السباع ، حديث (٣٨٠٦) ، والنسائي (٧ / ٢٠٢) كتاب : الصيد والذبائح ، باب : تحريم أكل لحوم الخيل ، والدار قطني (٤ / ٢٨٧) باب الصيد والذبائح والأطعمة ، حديث (٦٠ ، ٦١ ، ٦٣) ، والبيهقي (٩ / ٣٢٨) كتاب : الضحايا ، باب : بيان ضعف الحديث الذي روي في النهي عن لحوم الخيل.

وقال النسائي في الحديث : يشبه أن يكون صحيحا ولكنه منسوخ بإباحة الخيل بعد ذلك.

وأما حديث المقدام بن معديكرب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يحل ذو ناب من السباع ، ولا الحمار الأهلي ، ولا اللقطة من مال معاهد».

فأخرجه أحمد (٤ / ١٣١) ، وأبو داود (٤ / ١٦٠) كتاب : الأطعمة ، باب : النهي عن أكل السباع ، حديث (٣٨٠٤) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (٤ / ٢٠٩) كتاب : الصيد والذبائح ، باب : أكل ـ

٢٩٤

الواحد لا يعمل في نسخ الكتاب (١) ، وقد قال : (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً).

__________________

ـ لحوم الحمر الأهلية ، والدار قطني (٤ / ٢٨٧) باب الصيد والذبائح ، حديث (٥٩) ، والبيهقي (٩ / ٣٣٢) كتاب : الضحايا ، باب : ما جاء في أكل لحوم الحمر الأهلية.

(٢) وهو في الاصطلاح ما لم يبلغ مبلغ التواتر ، فيصدق على المشهور ، والعزيز ، والغريب. والعزيز : ما جاء في طبقة من طبقات رواته ، أو أكثر من طبقة ـ اثنان ، ولم يقل في أي طبقة من طبقاته عنهما. والغريب : ما جاء في طبقة من طبقات رواته ، أو أكثر ـ واحد تفرد بالرواية. ينظر : البحر المحيط (٤ / ٢٥٧) ، والبرهان (١ / ٥٩٩) ونهاية السول (٣ / ٩٧) ، ومنهاج العقول (٢ / ٣١٧) والتحصيل من المحصول (٢ / ١٣٠).

(١) اختلف العلماء في جواز نسخ القرآن بالسنة ووقوعه ، ونعني بالسنة هنا المتواترة لأن الآحاد لم يخالف في عدم نسخ القرآن بها أحد اللهم إلا أقل القليل فذهب جمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة إلى جوازه ووقوعه ، ومالك وأصحاب أبي حنيفة وابن سريج إلى جوازه دون وقوعه وقطع الشافعي بالمنع مطلقا ولكل فريق على مدعاه أدلة والذي يظهر لي أن المختار من هذه المذاهب هو مذهب الفقهاء كما يتضح من الأدلة بعد.

أما المتكلمون فاستدلوا على الجواز بالوقوع وذلك أن الوصية للوالدين والأقربين الثابتة بقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)[البقرة : ١٨٠] نسخت بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا لا وصية لوارث» وأن جلد الزاني الثابت بقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور : ٢] نسخ بالرجم الثابت بالسنة.

والاستدلال بهذين المثالين باطل لما فيهما من نسخ القرآن بآحاد السنة وليس هو موضوع البحث في هذا الضرب. هذا هو وجه بطلانه أما وجه ضعفه فلجواز أن تكون الآية الأولى منسوخة بآية المواريث والثانية منسوخة بالآية التي نسخ لفظها وبقي حكمها كما قال عمر : «لو لا أنني أخشى أن يقال زاد عمر في القرآن ما ليس منه لكتبت «الشيخ والشيخة إذا زنيا .... على حاشية المصحف» وبهذا ظهر أنه لم يقع نسخ من الشارع بهذا النحو.

وأما الفقهاء فذهبوا إلى أن نسخ القرآن بالسنة المتواترة جائز عقلا غير واقع شرعا : أما الأول فلأن النسخ في الحقيقة بيان مدة الحكم كما أسلفنا فإذا ثبت حكم بالكتاب لم يمتنع أن يبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدة بقائه بوحي غير متلو كما لا يمتنع أن يبينها بوحي متلو وكما لا يمتنع أن يبين مجمل الكتاب بعبارته لا يمتنع أن يبين مدة الحكم المطلق بعبارته ألا ترى أن النسخ إسقاط الحكم في بعض الأزمان الداخلة تحت العموم كما أن التخصيص إسقاط الحكم في بعض الأعيان الداخلة تحت العموم فإذا لم يمتنع تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة لم يمتنع نسخه بها أيضا وبهذا ثبت أن ذلك ليس يمتنع عقلا.

وأما أنه غير واقع شرعا فلأننا لم نجد في كتاب الله نسخا وقع على هذا النحو ، على أن هناك من الأدلة النقلية ما يمنع جواز ذلك شرعا.

أولا : قوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ)[النحل : ١٠١] فهذا يفيد أن الله تعالى يبدل الآية بالآية لا بالسنة.

ثانيا : قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ)[يونس : ١٥] وهذا دليل على أن القرآن لا ينسخ بغير القرآن.

ثالثا : قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)[البقرة : ١٠٦] وذلك يدل على أن الآية لا تنسخ إلا بآية وبيانه من أوجه :

الأول : أنه قال (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) والسنة ليست خيرا من القرآن ولا مثله. ـ

٢٩٥

[وبعد](١) : فإن ذلك الخبر من الأخبار المتواترة (٢) ؛ لأنه عرفه الخاص (٣) والعام (٤) ،

__________________

ـ والثاني : أن الله تعالى وصف نفسه بأنه الذي يأتي بخير منها. وذلك لا يكون إلا والناسخ قرآن لا سنة.

الثالث : وصف البدل بأنه خير أو مثل وكل واحد من الوصفين يدل على أن البدل من جنس المبدل والسنة ليست من جنس القرآن.

ويجاب عن الأدلة النقلية التي مفادها عدم الجواز شرعا بما يأتي.

أما عن الآية الأولى فإنها ظاهرة في تبديل رسم آية بآية والنزاع إنما هو في تبديل حكم الآية.

وليس فيه ما يدل على تبديل حكمها بآية أخرى.

وأما عن الثانية فلأن النسخ وإن كان بالسنة فهي من الوحي فلم يكن متبعا إلا ما يوحى إليه به.

وأما عن الثالثة فلأنا نقول : إما أن يراد به نسخ رسمها أو حكمها فإن كان الأول فهو ممتنع فإنه وصف البدل بكونه خيرا منها والقرآن خير كله ولا يفضل بعضه على بعض فلم يبق إلا الحكم ولا يمتنع شرعا أن تكون السنة ناسخة ؛ لأن الآتي بما هو خير إنما هو الله تعالى والرسول مبلغ. ولا يدل ذلك على أن الناسخ لا يكون إلا قرآنا بل الإتيان بما هو خير أعم من ذلك وعلى هذا تكون المفاضلة والمماثلة راجعة إلى حكم المنسوخ والناسخ وهذا كله لا يفيد الوقوع بل يفيد الجواز.

أما أدلتهم على عدم الوقوع فهي عين أدلة الفقهاء السالف ذكرها ويجاب عنها بما تقدم.

وأما دليلهم على عدم الجواز عقلا فمن وجهين :

الأول : أن السنة إنما وجب اتباعها بالقرآن في قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[الحشر : ٧] وذلك يدل على أن السنة فرع القرآن والفرع لا يرجع إلى أصله بالإبطال والإسقاط. كما لا ينسخ القرآن والسنة بالفرع المستنبط منهما وهو القياس.

والثاني : أن القرآن أقوى من السنة ودليله من ثلاثة أوجه :

الأول : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ «بم تحكم» قال : بكتاب الله قال : «فإن لم تجد» قال : بسنة رسول الله فنجد أن معاذا في إجابته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم العمل بكتاب الله على السنة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقره على ذلك وذلك دليل قوته.

والثاني : أنه أقوى من جهة لفظه لأنه معجزة والسنة ليست معجزة.

والثالث : أنه أقوى من جهة حكمه حيث اعتبرت الطهارة في تلاوته من الجنابة والحيض وفي مسطوره مطلقا. والأقوى لا يجوز فيه النسخ بالأضعف.

يجاب عن الوجه الأول بأن الامتناع يلزم أن لو كانت السنة رافعة لما هي فرع عليه من القرآن.

وليس كذلك بل ما هي فرع عليه ، غير مرفوع وما هو مرفوع بها ليست فرعا عليه : على أن السنة ليست رافعة للفظ القرآن بل لحكمه وحكمه ليس أصلا لها.

وعن الوجه الثاني بأن القرآن وإن كان معجزا في نظمه وبلاغته ومتلوا ومحترما فليس فيه ما يدل على أن دلالته في كل آية أقوى من دلالة غيره ولهذا فإنه لو تعارض عام من الكتاب وخاص من السنة المتواترة كانت السنة مقدمة عليه ، وكذلك لو تعارضت آية ودليل عقلي فإن الدليل العقلي يكون حاكما عليها وكذلك الإجماع وكثير من الأدلة.

(١) سقط في ب.

(٢) هو ما رواه جمع يحيل العقل تواطؤهم على الكذب عادة ، من أمر حسي ، أو حصول الكذب منهم اتفاقا ، ويعتبر ذلك في جميع الطبقات إن تعددت.

ومن المتفق عليه عند العلماء وأرباب النظر أن القرآن الكريم لا تجوز الرواية فيه بالمعنى ، بل أجمعوا على وجوب روايته لفظة لفظة ، وعلى أسلوبه ، وترتيبه ، ولهذا كان تواتره اللفظي لا يشك فيه أدنى عاقل ، أو صاحب حس ، وأما سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد أجازوا روايتها بالمعنى ؛ لذلك لم تتحد ـ

٢٩٦

__________________

ـ ألفاظها ، ولا أسلوبها ، ولا ترتيبها.

فإذن يكون الحديث متواترا تواترا لفظيا أو معنويا ، إذا تعددت الرواية بألفاظ مترادفة ، وأساليب مختلفة في التمام والنقص ، والتقديم والتأخير في الواقعة الواحدة ، حتى بلغت مبلغ التواتر.

ومن ناحية أخرى ، فإذا تعددت الوقائع ، واتفقت على معنى واحد ، دلت عليه تارة بالتضمن ، وتارة بالالتزام حتى بلغ القدر المشترك في تلك الوقائع المتعددة مبلغ التواتر ـ فإنه حينئذ يكون متواترا تواترا معنويا ، لا خلاف في ذلك.

وعلى ذلك ، فالتواتر ثلاثة أقسام :

١ ـ تواتر لفظي لا شك فيه ، كالقرآن الكريم.

٢ ـ تواتر معنوي لا شك فيه ؛ إذا تعددت الوقائع ، واشتركت جميعها في معنى تضمني أو التزامي.

٣ ـ أما إذا اتحدت الواقعة ، وتعددت روايتها بألفاظ مختلفة ، وأساليب متغايرة ، واتفقت في المعنى المطابقي ، وبلغت في تتابعها وتعددها حد المتواتر ـ كان متواترا تواترا لفظيا.

وعلى ذلك ينقسم المتواتر إلى قسمين : لفظي ، ومعنوي ، وينقسم اللفظي إلى قسمين ، كما ينقسم المعنوي إلى قسمين أيضا ؛ وعلى هذا فالمتواتر أربعة أقسام :

١ ـ أن يتواتر اللفظ والأسلوب في الواقعة الواحدة.

٢ ـ أن تتواتر الواقعة الواحدة بألفاظ مترادفة وأساليب كثيرة متغايرة متفقة على إفادة المعنى المطابقي للواقعة الواحدة.

ـ أن يتواتر المعنى التضمني في وقائع كثيرة.

٤ ـ أن يتواتر المعنى الالتزامي في وقائع كثيرة.

ولهذه الأقسام أمثلة كثيرة ذكرها المحدثون في كتب الاصطلاح ، فلتنظر من هناك.

ينظر : البحر المحيط (٤ / ٢٣١) ، والبرهان (١ / ٥٦٦) ، والإحكام في أصول الأحكام (٢ / ١٤) ، ونهاية السول (٣ / ٥٤) ، ومنهاج العقول (٢ / ٢٩٦) ، وغاية الوصول (٩٥).

(٣) عرف الإمام أبو الحسين الخاص : بأنه إخراج بعض ما يتناوله الخطاب عنه ، وذهب سيف الدين الآمدي إلى أن المراد باللفظ الموضوع للعموم حقيقة إنما هو الخصوص ؛ وذلك على مذهب أرباب العموم.

أما على مذهب أرباب الاشتراك ، فهو المراد باللفظ الصالح للعموم والخصوص ويرى أكثر الشافعية أن الخاص : هو قصر العام على بعض مسمياته مطلقا وذهب الحنفية إلى أنه قصر العام على بعض مسمياته بكلام مستقل موصول. ينظر : البحر المحيط (٣ / ٢٤٠) ، والإحكام في أصول الأحكام (٢ / ٢٥٨) ، وسلال الذهب ص (٢١٩) والتمهيد ص (٣٦٨) ، ونهاية السول (٢ / ٣٧٤) ، ومنهاج العقول (٢ / ١٠٤) ، والمستصفى (٢ / ٣٢) والإبهاج (٢ / ١١٩) وحاشية العطار على جمع الجوامع (٢ / ٣١).

(٤) عرفه أبو الحسين البصري في المعتمد بقوله : «هو اللفظ المستغرق لما يصلح له» ، وزاد الإمام الرازي على هذا التعريف في المحصول : «... بوضع واحد» ، وعليه جرى البيضاوي في منهاجه. وعرفه إمام الحرمين الجويني في الورقات بقوله : «العام : ما عم شيئين فصاعدا». وإلى ذلك أيضا ذهب الإمام الغزالي ؛ حيث عرفه بأنه : «اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدا» ، ويرى سيف الدين الآمدي أن العام هو : «اللفظ الواحد الدال على قسمين فصاعدا مطلقا معا».

وعرفه الإمام فخر الدين البزدوي بأنه : «كل لفظ ينتظم جمعا من الأسماء لفظا أو معنى». ويرى الإمام النسفي أنه : (ما يتناول أفرادا متفقة الحدود ؛ على سبيل الشمول). ينظر : البرهان (١ / ٣١٨) ، ـ

٢٩٧

وعملوا به وظهر العمل به حتى لا يكاد يوجد ذلك يباع في أسواق المسلمين ؛ دل أنه [من] المتواتر.

قال الشيخ ـ رضي الله عنه ـ : وعندنا أن لفظة «التحريم» [على الإطلاق لا تقال إلا في النهايات من الحرمة ، ونحن نقول : لا تطلق لفظة التحريم](١) في الحيوان إلا فيما ذكر في الآية من الميتة ، والدم المسفوح ، والخنزير ، ولكن يقال : منهي عنه مكروه ، ولا يقال : محرم مطلقا ، ويقال : لا يؤكل ولا يطعم.

وبعد : فإن الآية لو كانت في غير الوجهين اللذين ذكرناهما ، لم يكن فيها دليل حل ما عدا المذكور في الآية ؛ لأنه قال : (لا أَجِدُ) ، ولم يوجد في وقت ، ثم وجد في وقت آخر ، [و] هذا جائز.

وفي قوله : (مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) دلالة أن الجلد (٢) يحرم بحق اللحمية ؛ لأنه أمكن أن يشوى فيؤكل ؛ فحرمته حرمة اللحم ، فإذا دبغ (٣) خرج من أن يؤكل ؛ [فظل هو

__________________

ـ والبحر المحيط (٣ / ٥) ، والإحكام في أصول الأحكام (٢ / ١٨٥) ، وزوائد الأصول ص (٢٤٨) ، والمستصفى (٢ / ٣٢) ، وحاشية البناني (١ / ٣٩٢) والآيات البينات (٢ / ٢٥٤) ، وتخريج الفروع على الأصول ص (٣٢٦).

(١) سقط في أ.

(٢) الجلد في اللغة : ظاهر البشرة ، قال الأزهري : الجلد غشاء جسد الحيوان ، والجمع جلود ، قال الله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) [النساء : ٥٦]. وقد يجمع على أجلاد ويطلق على الجلد أيضا «المسك». وسمي الجلد جلدا لأنه أصلب من اللحم ، من الجلد وهو صلابة البدن. ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي.

وقد ذهب الفقهاء إلى أن الحيوان المأكول المذكى ، يؤكل جلده قبل الدبغ ما لم يغلظ ويخشن ويصر جنسا آخر غير اللحم ، لأن الذكاة تحل لحمه وجلده وسائر ما يجوز أكله منه. أما الحيوان المأكول الذي مات أو ذكي ذكاة غير شرعية ، فإن جلده قبل دبغه لا يؤكل ، لقول الله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)[المائدة : ٣] ، ولقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما حرم من الميتة لحمها» والجلد جزء من الميتة فحرم أكله كسائر أجزائها. هذا عن الحكم قبل الدباغ ، أما بعده : فقد ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة ، وهو الأصح عند الشافعية في القديم المفتى به إلى تحريم أكل جلد الميتة بعد الدباغ للآية والحديث السابقين ، سواء أكان من حيوان مأكول أم غير مأكول. ينظر : تاج العروس) (جلد) ، رد المحتار على الدر المختار (١ / ١٣٦) ، جواهر الإكليل (١ / ١٠) ، والمغني (١ / ٧٠).

(٣) الدباغة في اللغة : مصدر : دبغ الجلد يدبغه دبغا ودباغة ، أي : عالجه ولينه بالقرظ ونحوه ؛ ليزول ما به من نتن وفساد ورطوبة ، والدباغة أيضا اسم يطلق على حرفة الدبّاغ وهو صاحبها. والدبغ والدباغ بالكسر ما يدبغ به الجلد ليصلح. والمدبغة موضع الدبغ. وتطلق الدباغة في اصطلاح الفقهاء على المعنى اللغوي نفسه. قال الخطيب الشربيني : الدبغ نزع فضول الجلد ، وهي مائيته ورطوباته التي يفسده بقاؤها ، ويطيبه نزعها بحيث لو نقع في الماء لم يعد إليه النتن والفساد. ويشترط عند بعض الفقهاء أن يكون الدبغ بما يحرف الفم ، أي يلذع اللسان بحرافته كالقرظ والعفص ونحوهما.

والدباغة مباحة ، وهي من الحرف التي فيها مصلحة الناس ، وقد استدلوا لجواز الدباغة ـ

٢٩٨

مخرج](١) عن قوله : (عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ...) ، والله أعلم.

ثم في قوله : (مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ...) الآية دلالة أن الحرمة التي ذكر في قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ ...) إلى آخر ما ذكر حرمة الأكل والتناول منها ؛ لأنه لم يبين في تلك الآية ما الذي حرم منها سوى ما ذكر حرمته (٢) تفسرها (٣) هذه الآية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً)

دل هذا أن الحرمة في تلك الآية الأكل والتناول منها ؛ وكذلك قوله : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) [المائدة : ٥] : ذكر الحل ، ولم يذكر الحكم ، لما ذا؟ ثم جاء التفسير في هذه الآية أنه للأكل ، ثم الميتة التي ذكر أنها محرمة ليست هي التي ماتت حتف أنفها خاصة.

ألا ترى (٤) أنه ذكر : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣] ، (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [المائدة : ٣].

[و] قال : (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ) [المائدة : ٣] ، كل هذا الذي ذكر لم يمت حتف أنفه ، ولكن بأسباب لم يؤمر بها ؛ فصارت ميتة ؛ فدل أن كل مذبوح أو مقتول بسبب لم يؤمر به فهو ميتة ، لا يحل التناول منها إلا في حال الاضطرار.

وفي قوله : (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً).

دلالة أن المحرم من الدم هو المسفوح ، والدم الذي يكون في اللحم ويخالط اللحم ليس بحرام ، والدم المسفوح حرام (٥).

__________________

ـ بأحاديث ، منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيما إهاب دبغ فقد طهر» ، ولأن الدباغة وسيلة لتطهير الجلود بإزالة ما بها من نتن وفساد فينتفع بها كما ينتفع من سائر الأشياء الطاهرة.

ينظر : المصباح المنير (دبغ) ، المعجم الوسيط (دبغ) ، حاشية ابن عابدين (١ / ١٣٦) ، ونهاية المحتاج (١ / ٢٣٢) ، والخرشي (١ / ٨٨) ، ومغني المحتاج (١ / ٨٢).

(١) في أ : فظهر.

(٢) في ب : حرمة.

(٣) في أ : يفسرها.

(٤) في ب : ألا يرى.

(٥) الدم بالتخفيف ، هو ذلك السائل الأحمر الذي يجري في عروق الحيوانات ، وعليه تقوم الحياة. واستعمله الفقهاء بهذا المعنى ، وكذلك عبروا به عن القصاص والهدي في قولهم : مستحق الدم ـ يعني ولي القصاص ـ وقولهم : يلزمه دم. كما أطلقوه على ما تراه المرأة في الحيض ، والاستحاضة ، والنفاس أيضا.

واتفق الفقهاء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به ، وقد حمل المطلق في سورة البقرة على المقيد في سورة الأنعام ، في قوله تعالى : (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً)[الأنعام : ١٤٥]. ينظر : الاختيار ـ

٢٩٩

قال أبو عوسجة : المسفوح المصبوب ؛ تقول : سفحت : صببت.

وقال القتبي (١) : مسفوحا ، أي : سائلا.

وقال ابن عباس (٢) ـ رضي الله عنه ـ : المسفوح : هو الذي يهراق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَحْمَ خِنزِيرٍ).

ذكر (٣) اللحم وذكر حرمة الميتة ؛ ليعلم أن الخنزير (٤) بجوهره حرام ، والميتة حرمتها لا بجوهرها ، لكن لما اعترض ؛ لذلك قلنا : [إنه](٥) لا بأس بالانتفاع بصوف الميتة ووبرها وعظمها ، ولا يجوز من الخنزير شيء ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ).

قيل : غير باغ : يستحله في دينه ، ولا عاد ، أي : ولا متعد بألم يضطر إليه فأكله. وقد ذكرنا أقاويلهم والاختلاف في تأويله في صدر الكتاب.

(فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ) ، لأكله الحرام في حال الاضطرار ، (رَحِيمٌ) ، حيث رخص الحرام في موضع الاضطرار ، وهذا ـ أيضا ـ قد مضى ذكره في غير موضع (٦).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) [١٤٦].

__________________

ـ (١ / ٣٠ ، ١٤٣ ، ١٥٨) وما بعدها ، والقوانين الفقهية (٤٤ ، ١٣٧) ، وروضة الطالبين (١ / ١٣٤ ، ١٧٤) وما بعدها ، وكشاف القناع (١ / ١٩٦) وما بعدها.

(١) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ١٣٨) ولم ينسبه لأحد.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٨٠) (١٤٠٩١) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٩٧) ، وعزاه لابن المنذر عن ابن جريج.

(٣) في ب : ذلك.

(٤) الخنزير حيوان خبيث ، قال الدميري : الخنزير يشترك بين البهيمية والسبعية ، فالذي فيه من السبع الناب وأكل الجيف ، والذي فيه من البهيمة الظلف وأكل العشب والعلف. أجمعت الأمة على حرمة أكل لحم الخنزير إلا لضرورة ؛ لقوله سبحانه وتعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام : ١٤٥]. ونص الحنابلة على تقديم أكل الكلب على الخنزير عند الضرورة ، وذلك لقول بعض الفقهاء بعدم تحريم أكل الكلب. كما يقدم شحم الخنزير وكليته وكبده على لحمه ، لأن اللحم يحرم تناوله بنص القرآن ، فلا خلاف فيه. ونص المالكية على وجوب تقديم ميتة غير الخنزير على الخنزير عند اجتماعهما ، لأن الخنزير حرام لذاته ، وحرمة الميتة عارضة.

ينظر : حاشية ابن عابدين (٥ / ١٩٦) ، حاشية الدسوقي (٢ / ١١٦ ، ١١٧) ، مطالب أولي النهى (٦ / ٣٢١) ، المجموع (٩ / ٢ ، ٣٩)

(٥) سقط في أ.

(٦) عند قول الله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة : ١٧٣].

٣٠٠