تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

__________________

ـ وأما الحديثان فواردان على سبيل التغليظ ، والمراد نفي الإيمان الكامل وترك القيد إشعارا إلى أنه لا ينبغي أن يصدر هذا الفعل عن المؤمن المطلق ، ولا يلزم من ذلك كذب ؛ لأن المراد المبالغة والتغليظ.

وقال بعض العلماء : إذا كان الحديثان واردين على سبيل التغليظ فهما من باب الكناية لا الحقيقة ، فهما كناية عن نقصان إيمان الزاني والخائن حتى كأنه عدم ، والمقصود بالكناية هاهنا المجاز الذي قرينته مانعة لا الكناية في اصطلاح البيانيين لأنها تجوز إرادة المعنى الأصلي وهو هنا ممتنع.

ذهب فريق آخر من العلماء إلى أن الحديثين مراد منهما الإنشاء والمعنى : لا تزنوا وأنتم مؤمنون ، فالمنهي مقيد بما ينافي المنهي عنه.

وذهب فريق ثالث إلى إن العاصي لا يقدم على المعصية وهو متذكر أن هناك عقابا عليها بل داعي المعصية يدعوه إليها ويسهلها له حتى ينسيه الإيمان المنافي لها وينسيه أيضا ما يترتب على فعلها من عقاب ، وذلك حاصل للجناة الذين يرتكبون القتل والسرقة فإنهم حين الفعل لا يتذكرون القوانين الرادعة ، ولو تذكروها وعرفوا حقا أنهم يؤاخذون بها لرجعوا.

ومن هذه الآراء جميعها يتضح لك بطلان ما فهمه المعتزلة من النصوص.

أضف إلى هذا أنه يدل على بطلان هذا الفهم الكثير من النصوص ، منها حديث أبي ذر رضي الله عنه حينما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ قوله تعالى (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقال : وإن سرق وإن زنى؟ وكرر ذلك ثلاث مرات ، كل ذلك والرسول عليه‌السلام يقول له : «وإن سرق وإن زنى» ، وقال له في الأخيرة «على رغم أنف أبي ذر» وغير ذلك من النصوص.

أدلة المذهب الثالث :

استدل الإمام الحسن البصري ـ رحمه‌الله ـ على قوله : إن صاحب الكبيرة منافق بدليلين :

الدليل الأول : قوله عليه الصلاة والسلام «آية المنافق ثلاث إذا وعد أخلف وإذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان».

وقد أجيب عن هذا الدليل بثلاثة أجوبة :

أحدها : أن هذا الحديث غير محمول على ظاهره بدليل أن من وعد غيره أن يعطيه ثوبا تفضلا منه ثم أخلف ولم يعطه لم يخرج بذلك إجماعا عن الإيمان. وعلى ذلك فالحديث معناه : أن هذه الخصال إذا صارت ملكة لشخص بحيث لا يصدر إلا عنها كانت أمارة على نفاقه ، وأما بدون كونها ملكة فلا تدل على النفاق كما حصل من إخوة يوسف حينما وعدوا أباهم أن يحفظوا يوسف وقد ائتمنهم عليه فخانوا الأمانة وكذبوا في قولهم «أكله الذئب» وما كانوا منافقين.

والجواب الثاني : أن الأمارة على شيء لا تكون دالة عليه قطعا فيجوز تخلف المدلول عنها.

والجواب الثالث : أن الكلام على التشبيه ، أي أن مرتكب هذه الأشياء مثله كالمنافق ، لأنه محكوم عليه بأنه منافق.

الدليل الثاني : واستدل الإمام الحسن البصري ـ ثانيا ـ على أن صاحب الكبيرة منافق بدليل عقلي : هو أن من اعتقد شيئا ، لا يعمل ما يخالفه ، كمن اعتقد أن في هذا الجحر حية فإنه لا يدخل يده فيه فإذا زعم ذلك ثم أدخل يده في الجحر علم أن قوله عن غير اعتقاد فكذا الحال فيمن ارتكب كبيرة فإن ارتكابها يدل على عدم اعتقاده.

ويجاب عن هذا الاستدلال بأنه قياس مع الفارق لأن مضرة الحية عاجلة محققة بخلاف عقاب الكبيرة فإنه آجل وغير محقق إذ يجوز العفو عنه.

أدلة المذهب الرابع :

استدل الخوارج على كفر مرتكب الكبيرة بأدلة كثيرة منها : ـ

٦١

__________________

ـ الدليل الأول : قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)[المائدة : ٤٤].

ووجه الاستدلال بهذه الآية أن (وَمَنْ) من ألفاظ العموم لأنها اسم موصول موضوع للعموم ، وعموم الموصول بعموم صلته فيشمل كل من لم يحكم بما أنزل الله سواء أكان الحكم تصديقا أو عملا أو قضاء بين الناس ، فيدخل الفاسق لأنه لم يعمل بما أنزل الله كما دخل القاضي بغير ما أنزل الله وغير المصدق بما أنزل الله وقد ثبت لكل الكفر بمقتضى الخبر.

وقد نوقش استدلالهم بثلاثة أوجه :

أولا : أن هذه الآية غير محمولة على ظاهرها ؛ بل إن المراد من الحكم التصديق ، والمعنى : ومن لم يصدق بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، وإذا كان هذا هو المراد بالآية فإنها لا تشمل العاصي الفاسق لأنه مصدق بما أنزل الله.

والحقيقة : أن هذا الجواب ضعيف ؛ لأن سياق الآية في الحكم بمعنى القضاء لا بمعنى التصديق ، ولأن العرف في الحكم أنه بمعنى القضاء.

والجواب الثاني : أن الآية غير محمولة على ظاهره ، كما قيل في الجواب الأول إلا أننا هاهنا نقول : إن معناها : أن من لم يحكم بشيء أصلا مما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، وعلى هذا تكون الآية من عموم النفي لا نفي العموم.

والدليل على أن الآية غير محمولة على ظاهرها أن (ما) صيغة عموم وقعت بعد النفي فحقها أن تكون جزئية لا كلية حسب القاعدة المشهورة من أن العام إذا وقع بعد النفي كان جزئيّا ، أي أن عمومه سلب ، ولكن خولف هذا الظاهر هنا وبقي العموم على حاله ، والمعنى : ومن لم يحكم بشيء أصلا مما أنزل الله.

ولا شك أن هذا لا يشمل العاصي لأنه حاكم ببعض ما أنزل الله فلا يكون كافرا.

الجواب الثالث : أن المراد بما أنزل الله هو التوراة ، ويكون المعنى ومن لم يحكم من اليهود بالتوراة التي أنزلها الله فأولئك هم الكافرون. وعلى هذا تكون الآية في حق اليهود بدليل السياق ، ونحن غير متعبدين بالحكم بالتوراة ، وهم كفار بسبب حكمهم بغير ما أنزل الله وهذا الجواب هو أصح الأجوبة الثلاثة وأقواها.

الدليل الثاني : قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)[النور : ٥٥].

ووجه الاستدلال من هذه الآية أن ضمير الفصل (هم) قد حصر الخبر في المبتدأ ، وعليه فإن الفاسق يكون مقصورا على الكافر ، وعلى هذا يكون كل فاسق كافرا ، والعاصي فاسق فيكون كافرا.

وقد أجيب عن هذا الدليل : بأننا لا نسلم لكم ما فهمتموه من الحصر ؛ بل إن المحصور هو الفاسق الكامل في الفسق الذي هو الكافر ، والعاصي ليس كاملا في الفسق ولو كان المراد من الآية ما فهمتموه لم تصح الآية ؛ لأن الفاسق على رأيكم محصور فيمن كفر بعد ذلك فلا يتناول من كفر ابتداء مع أنه فاسق بالإجماع.

وبهذا قد ظهر أن الآية غير محمولة على ظاهرها وإلا لخرج الكافر ابتداء عن أن يكون فاسقا ، إذن يجب حمل الآية على الفاسق الكامل وهذا لا ينافي أن الكافر ابتداء فاسق.

الدليل الثالث : استدل الخوارج ـ ثالثا ـ بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر فقد كفر» ووجه الاستدلال من هذا الحديث صريح في إثبات كفر تارك الصلاة.

وقد أجيب عنه بأجوبة ؛ أحدها : أن المراد من ترك الصلاة مستحلا فقد كفر.

الجواب الثاني : أن المراد بالكفر كفر النعمة أي سترها ولا شك أن تارك الصلاة كافر أي ساتر لنعمة الله تعالى فهو كفر بالمعنى اللغوي. ـ

٦٢

يفعل ؛ إذ الله سماهم كذبة بما في علمه أنهم يعودون إلى ذلك.

فإذا تقرر عندنا من أحد [ركوب ما كان في](١) عهده وإيمانه أنه [لا] يرتكب يظهر به كذبه.

وذلك خطأ ؛ لما لو كان كذلك لكان الصغائر والكبائر واحدا ، ومن كذب في أمر الصغائر في العهد أو رد يكفر ، ومن ارتكب [الصغيرة](٢) لم يصر كذلك ، فعلى ذلك الكبائر. لكن الآية تخرج على أوجه (٣) :

أحدها : أنها في قوم أرادوا بذلك دفع العذاب لا أن عزموا على ما ذكروا ، دليله فتنتهم بقوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣].

والثاني : أنه ذكر كذبهم ، أنطق الله جوارحهم ، فشهدت عليهم بما كتموا من الشرك ، فتمنوا عند ذلك العود والرد.

ويحتمل : (بَدا لَهُمْ) : ظهر لهم ما كانوا يخفون من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته في الدنيا وكتموه ، والله أعلم.

__________________

ـ والجواب الثالث : أن معنى كونه كافرا أنه مشارك للكفار في عدم حرمة ماله وعرضه.

والجواب الرابع : أنه مقارب للكفر على حد قولهم : فلان دخل الدار لمن قارب دخولها.

وخلاصة القول فيما ذهب إليه الخوارج : أن جميع ما استدلوا به غير محمول على ظاهره ، بل المقصود به أمور أخر ، قد أوضحناها فيما سبق.

فإن قيل : لما ذا ذهبتم إلى تأويل ما استدل به الخوارج من نصوص ، ولم تؤولوا النصوص التي استدللتم بها.

قلنا : إن ما أوردناه من أدلة ـ نحن معاشر أهل السنة ـ يؤيدنا فيه الأدلة القاطعة على أن مرتكب الكبيرة مؤمن ، أضف إلى هذا إجماع من يعتد به في الإجماع على أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر وأما خروج الخوارج عن الإجماع ، فهم فئة ضالة لا يعتد بمخالفتها والله أعلم.

والراجح من الخلاف أن مذهب أهل السنة هو الأولى بالقبول ؛ لقوة أدلتهم ، وبطلان ما وجه إليها من اعتراضات ؛ ولقول الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)[النساء : ٤٨] ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة ، وإن زنى وإن سرق» فقال أبو ذر : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ قال : «وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر».

ومن ناحية أخرى ، لا يستقيم عقلا أن نسوي بين مرتكب الكبيرة وبين الكافر أو المشرك ، فمرتكب الكبيرة على الرغم من اقترافه الآثام والمعاصي الكبيرة ـ موحد وإذا كان الأمر كذلك فكيف نسوي بينه وبين المشرك الذي لا يشهد أن لا إله إلا الله. والله أعلم.

ينظر حاشية التفتازاني على العقائد (٥ / ١٤٨ ـ ١٥٥) حاشية رمضان أفندي على العقائد (٢٣٦) أصول البزدوي (١٤٢ ـ ١٤٥) نشر الطوالع للعلامة المرعشي ص (٣٥٩) شرح النووي على صحيح مسلم (١ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠) حاشية الباجوري (١٣٧) النشر الطيب للوزاني (٢ / ٩٩)

(١) في ب : ذكر بما كان.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : وجوه.

٦٣

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) تعلق بظاهر هذه الآية الخوارج والمعتزلة.

أما المعتزلة فإنهم قالوا : إنهم لما طلبوا الرد ولم يردهم لما علم أنه لو ردهم لعادوا إلى التكذيب ثانيا ، ولو علم منهم أنهم لا يعودون لكان يردهم ، فدل أنه إنما لم يردهم لما علم منهم أنهم يعودون إلى ما كانوا من قبل ، فيستدلون بظاهر هذه الآية على أن الله لا يفعل بالعبيد إلا الأصلح لهم في الدين ، وقالوا : لو علم منهم الإيمان لكان لا يجوز له ألا يردهم.

ومن قولهم : إنه إذا علم من كافر أنه يؤمن في آخر عمره لم يجز [له](١) أن يميته. وغير ذلك من المخاييل والأباطيل.

وقالت الخوارج : أخبر أنه لو ردهم لعادوا لما نهوا عنه ، وسماهم بالقول كاذبين بما في علمه أنهم لا يفعلون بما يقولون ، فعلى ذلك كل صاحب كبيرة إذا كان في اعتقاده الذي أظهره أنه لا يأتي بها ، فإذا أتى بها يصير فيما اعتقده ألا يأتي بها كاذبا ؛ ولذلك يجعلون أصحاب الكبائر كذبة في القول الأول أنهم لا يأتون بها ، وعلى ذلك كانت المبايعة بقوله ـ عزوجل ـ : (يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ ...) الآية [الممتحنة : ١٢] فإذا سرقن صرن كاذبات في البيعة (٢) ، كما جعل من ذكر كاذبا في الوعد إذا أخلف ، وعلى ذلك يجعلونه كافرا.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) للبيعة في اللغة معان ، فتطلق على : المبايعة على الطاعة. وتطلق على : الصفقة من صفقات البيع ، ويقال : بايعته ، وهي من البيع والبيعة جميعا والتبايع مثله. قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] وفي الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمجاشع حينما سأله : علام تبايعنا؟ قال «على الإسلام والجهاد» وهو عبارة عن المعاقدة والمعاهدة. كأن كلا منهما باع ما عنده لصاحبه ، وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره. ومثله : أيمان البيعة ، وهي : التي رتبها الحجاج مشتملة على أمور مغلظة من طلاق وعتق وصوم ونحو ذلك.

والبيعة اصطلاحا ، كما عرفها ابن خلدون في مقدمته : العهد على الطاعة ، كأن يعاهد المبايع أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين ، لا ينازعه في شيء من ذلك ، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره ، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدا للعهد ، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري ، وصارت البيعة تقترن بالمصافحة بالأيدي.

هذا مدلولها في اللغة ومعهود الشرع ، وهو المراد في الحديث في بيعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة العقبة ، وعند الشجرة ، وحيثما ورد هذا اللفظ ومنه : بيعة الخلفاء ، ومنه أيمان البيعة. فقد كان الخلفاء يستحلفون على العهد ويستوعبون الأيمان كلها لذلك ، فسمي هذا الاستيعاب أيمان البيعة.

ينظر : لسان العرب (بيع) الصحاح (بيع) تاج العروس (بيع) ، مقدمة ابن خلدون (٢٠٩).

٦٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

يحتمل (لَكاذِبُونَ) أي : ليكذبون لو ردوا ، أو أنهم لكاذبون في قولهم : (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : يضمرون أنهم لا يؤمنون ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) إلى قوله : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١] يقولون : إنك لرسول الله ، لكنهم لما أضمروا خلاف ذلك في قلوبهم سماهم كاذبين ، فعلى ذلك هؤلاء لما أضمروا في أنفسهم التكذيب وإن ردوا فهم كاذبون في ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ رُدُّوا).

قيل : إلى الدنيا ، ولكن [لو](١) ردوا إلى المحنة ثانيا لعادوا لما نهوا عنه.

والثاني : أنه ذكر كذبهم بما اعتادوا العناد ، وظهر منهم الجحود في القديم ، فبذلك سماهم كذبة ، كما سمي أهل النار كفرة بما كان من كفرهم قبل أن يصيروا إليها ؛ فعلى ذلك هذا.

والثالث : أن يكون على الخبر عن عاقبتهم أنهم يصيرون كاذبين لو ردوا ، وعرض عليهم ذلك ، وبعث إليهم الرسل بالآيات ، لا أن يكذبوا في ذلك الوعد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).

قوله تعالى : (إِنْ هِيَ) يحتمل (هى) : الحياة الدنيا ، ويحتمل (هى) الدنيا.

ثم هذا القول يحتمل أن يكون من الدهرية ؛ لأنهم ينكرون البعث والحياة بعد الموت ، ويقولون : إن هذا الخلق كالنبات ينبت ثم يتلاشى ؛ فعلى ذلك الخلق يموتون ويصيرون ترابا ، ثم يحيون في الدنيا ؛ كقوله : (نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤].

ويحتمل أن هذا القول كان من مشركي العرب لما لم يروا إلا الدهر ، ولم يشاهدوا غيره ، فظنوا أنه ليس يهلكهم إلا ذلك الدهر الذي تدور (٢) الدنيا عليه ، فإن كان ذلك منهم ، فإنما كان ذلك من كبرائهم ورؤسائهم على علم منهم بذلك ، أي : بالبعث ، يلبسون ذلك على السفلة والأتباع ؛ ليكونوا أشد اتباعا لهم وانقيادا ؛ لأنهم لو أعلموا الأتباع بالبعث بعد الموت لعلهم يتركون طاعتهم واتباعهم ؛ لما يشتغلون بالاستعداد لذلك والعمل له ، ففي ذلك ترك اتباعهم وطاعتهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ).

أي : لربهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [المطففين : ٦] وكقوله ـ

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : يدور.

٦٥

تعالى ـ : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣] أي : للنصب (١) ، وأصله : ما روي في حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : ولو ترى إذ وقفوا إذ عرضوا على ربهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ).

يحتمل قوله : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) ، أي : البعث بعد الموت ؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث ، ويقولون : إنه باطل.

ويحتمل : بما كانوا أوعدوا العذاب إن لم يؤمنوا ، فكذبوا ذلك ، فقال : أليس ما أوعدتم في الدنيا حقا ، فأقروا فقالوا : (بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) : في الدنيا.

قوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٣٢)

قوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ).

يحتمل قوله ـ تعالى ـ : (كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) ، أي : كذبوا لقاء وعد الله ووعيده في الدنيا وعلى هذا يخرج قوله : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) [العنكبوت : ٥] أي : يرجو لقاء وعد الله [في الدنيا](٢) ووعيده ، خسروا في الآخرة بتكذيبهم ذلك في الدنيا ، وعلى ذلك يخرج ما روي في الخبر : «من أحبّ لقاء الله» أي : أحب لقاء ما أعد (٣) الله له «ومن كره لقاء الله» أي : كره لقاء ما أعد له ، وأصله : من أحبّ الرجوع إلى الله أحب الله رجوعه ، ومن كره الرجوع إلى الله كره الله رجوعه إليه (٤) ، والمحبة لله اختيار أمره وطاعته ؛ وعلى

__________________

(١) في ب : النصب.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : عد.

(٤) (من أحب لقاء الله) أي المصير إلى ديار الآخرة بمعنى أن المؤمن عند الغرغرة يبشر برضوان الله وجنته فيكون موته أحب إليه من حياته (أحب الله لقاءه) أي أفاض عليه فضله وأكثر عطاياه (ومن كره لقاء الله) حين يرى ما له من العذاب حالئذ (كره الله لقاءه) أبعده من رحمته وأدناه من نقمته وعلى قدر نفرة النفس من الموت يكون ضعف منال النفس من المعرفة التي بها تأنس بربها فتتمنى لقاءه ، والقصد بيان وصفهم بأنهم يحبون لقاء الله حين أحب الله لقاءهم لأن المحبة صفة الله ومحبة العبد ربه منعكسة منها كظهور عكس الماء على الجدر كما يشعر به تقديم «يحبهم» على «يحبونه» في التنزيل كذا قرره جمع ، وقال الزمخشري : لقاء الله هو المصير إلى الآخرة وطلب ما عند الله ، فمن كره ذلك وركن إلى الدنيا وآثرها كان ملوما ، وليس الغرض بلقاء الله : الموت لأن كلا يكرهه حتى الأنبياء فهو معترض دون الغرض المطلوب فيجب الصبر عليه وتحمل مشاقه ليتخطى لذلك المقصود العظيم وقال الغزالي : هذه المحبة تقع لعامة المؤمنين عند الكشف حال ـ

٦٦

ذلك ما روي في الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الدنيا جنة الكافر ، يلعب فيها ويركض (١) في أمانيها ، وسجن المؤمن ، وراحته بالموت» (٢).

وأصله : أنها سجن المؤمن ؛ لأن المؤمن يمنعه دينه من قضاء شهواته لما يخاف هلاكه ، ويحذره مما يفضي به إلى الهلاك ، والكافر لا يمنعه شيء من ذلك عما يريد من قضاء شهواته في الدنيا ، فتكون (٣) له كالجنة ، وللمؤمن كالسجن ، على ما ذكرنا.

ويحتمل [قوله](٤) وجها آخر : وهو أن الكافر عند الموت يعاين مكانه وما أعدّ له في النار ، فتصير عند ذلك الدنيا كالجنة له يكره الرجوع ، والمؤمن يعاين موضعه في الجنة ، فتصير (٥) كالسجن له (٦).

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً).

قيل (٧) : سميت القيامة ساعة لسرعتها ، ليست كالدنيا ؛ لأن في الدنيا يتغير فيها على المرء الأحوال ، يكون نطفة ، ثم يصير علقة ، ثم مضغة ، ثم يصير خلقا آخر ، ثم إنسانا ثم يكون طفلا ثم رجلا يتغير عليه الأحوال ، وأما القيامة فإنها لا تقوم على تغير الأحوال فسميت الساعة لسرعتها بهم.

وقيل (٨) : سميت القيامة الساعة لأنها تقوم في ساعة ، وهو كقوله : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ

__________________

ـ الغرغرة وللخواص في محل الحياة إذ لو كشف لهم الغطاء لما ازدادوا يقينا فما هو للمؤمنين بعد الكشف من محبة لقاء الله فهو للموقن في حياته لكمال الكشف له مع وجوب حجاب الملك الظاهر.

ينظر فيض القدير للمناوي (٦ / ٢٩ ـ ٣٠).

(١) ارتكض فلان في أمره : اضطرب ومنه قول بعض الخطباء : انتفضت مرته ، وارتكضت جرته. وكذا ارتكض الولد في البطن : اضطرب. وارتكض الماء في البئر : اضطرب. وكل ذلك مجاز. ومنه أيضا : ارتكض فلان في أمره : تقلب فيه وحاوله. وهو في معنى الاضطراب.

ينظر تاج العروس (١٨ / ٣٥٩)

(٢) لم أجده بهذا اللفظ ولكن أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٧٢) في كتاب الزهد (١ / ٢٩٥٦) والترمذي (٤ / ٤٨٦) في كتاب الزهد باب ما جاء أن الدنيا سجن المؤمن (٢٣٢٤) ، وابن ماجه (٢ / ١٣٧٨) في كتاب الزهد باب مثل الدنيا (٤١١٣) عن أبي هريرة بلفظ (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) واللفظ لمسلم. وفي الباب عن عبد الله بن عمرو ، وعبد الله بن عمر وسلمان الفارسي.

(٣) في ب : فيكون.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : فيصير.

(٦) الدنيا سجن المؤمن ؛ لأنه ممنوع من شهواتها المحرمة ؛ فكأنه في سجن والكافر عكسه فكأنه في جنة ينظر فيض القدير للمناوي (٣ / ٥٤٦ ـ ٥٤٧).

(٧) ذكره بمعناه الرازي في تفسيره (١٢ / ١٦٣) ، وابن عادل في اللباب (٨ / ١٠٢).

(٨) قال الرازي في تفسيره (١٢ / ١٦٣) : الساعة هي الوقت الذي تقوم القيامة سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة لا يعلمها أحد إلا الله تعالى ، وانظر تفسير الخازن (٢ / ٣٧٠).

٦٧

إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل : ٧٧].

وقيل (١) : سميت الساعة [لما تقوم ساعة فساعة](٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَغْتَةً) أي : فجأة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها).

قيل (٣) : التفريط : هو التضييع ، فيحتمل قوله : (ما فَرَّطْنا فِيها) ، أي : ما ضيعنا في الدنيا من المحاسن والطاعات.

ويحتمل : ما ضيعنا في الآخرة من الثواب والجزاء الجزيل بكفرهم في الدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ).

هو ـ والله أعلم ـ على التمثيل (٤) ، ليس على التحقيق ، وهو يحتمل وجهين :

يحتمل : أنه أخبر أنهم يحملون أوزارهم على ظهورهم بما لزموا أوزارهم وآثامهم ، لم يفارقوها قط ، وصفهم بالحمل على الظهر ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء : ١٣] لما لزم ذلك صار كأنه في عنقه.

والثاني : إنما ذكر الظهر ؛ لما بالظهر يحمل ما يحمل ، فكان كقوله : (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] و (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) [آل عمران : ١٨٢] لأن الكفر لا يكتسب بالأيدي ولا يقدم بها ، لكن اكتساب الشيء وتقديمه لما كان باليد ذكر اكتساب اليد وتقديمها.

وكقوله : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) [آل عمران : ١٨٧] أنهم لما تركوا العمل به والانتفاع ، صار كالمنبوذ وراء الظهر ؛ لأن الذي ينبذ وراء الظهر هو الذي لا يعبأ به ولا يكترث (٥) إليه.

ويحتمل وجها آخر : ما ذكر (٦) في بعض القصة أنه يأتيه عمله الخبيث على صورة قبيحة ، فيقول له : كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات ، وأنت اليوم تحملني ،

__________________

(١) ذكره ابن جرير (٥ / ١٧٧) ، والرازي في تفسيره (١٢ / ١٦٣) ، وابن عادل في اللباب (٨ / ١٠١) ، والبغوي في تفسيره (٢ / ٩٣).

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه بنحوه ابن جرير (٥ / ١٧٨) (١٣١٨٨) عن السدي وذكره بنحوه السيوطي في الدر (٣ / ١٧) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٤) ينظر اللباب (٨ / ١٠٣ ـ ١٠٤) ، وتفسير الرازي (١٢ / ١٦٤).

(٥) في الأساس : كرثه الأمر : حركه ، وأراك لا تكترث لذلك ولا تنوص : لا تتحرك له ولا تعبأ به. ينظر تاج العروس (٥ / ٣٣٣ ـ ٣٣٤).

(٦) في أ : ما ذكره.

٦٨

فيركب ظهره ؛ فذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ).

يحتمل أن يكون هذا صلة (١) قوله : (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [٢٩] قال : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) [٣٢].

أي : الحياة الدنيا للدنيا خاصة ؛ لأن العمل إذا لم يكن لعاقبة تتأمل فهو عبث ، كبان يبني بناء لا لعاقبة تتأمل وتقصد ببنائه فهو لعب ، وعبث ، فعلى ذلك الحياة الدنيا ، لا لدار أخرى يتأمل ويرجى بها الثواب والعقاب [فهذا] ليس بحكمة ، وإنما هو لعب ولهو ؛ وعلى ذلك يخرج قوله ـ تعالى ـ : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ...) [الآية](٢) [المؤمنون : ١١٥] ، أخبر أن خلقه إياهم إذا لم يكن للرجوع إليه فهو عبث ، فعلى ذلك الحياة الدنيا ، إذا لم يكن هناك بعث ولا حياة بعد الموت للثواب والعقاب ، فهي لعب ولهو.

واللهو : ما يقصد به قضاء الشهوة خاصة ، لا يقصد به العاقبة (٣) ، واللعب : هو الذي لا حقيقة له ولا مقصد (٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ).

أي : الدار الآخرة خير للذين يتقون الشرك والفواحش كلها من الحياة الدنيا (٥) ، وأصله : أن الحياة الدنيا على ما عند أولئك الكفرة لعب ولهو ؛ لأن عندهم أن لا بعث ، ولا ثواب ، ولا عقاب ، فإذا كانت (٦) عندهم هكذا فتصير لعبا ولهوا ؛ لأنه يحصل إنشاء لا عاقبة له ، فيكون كبناء البناء الذي ذكرنا إذا كانت (٧) عاقبته غير مقصودة ، فهو لا انتفاع به.

قوله تعالى : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ

__________________

(١) في أ : أصله.

(٢) سقط في ب.

(٣) قال الراغب الأصفهاني في المفردات (٤٥٥) اللهو : ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه ، يقال : لهوت بكذا أو لهيت عن كذا : اشتغلت عنه بلهو.

(٤) قال الرماني : اللعب : عمل يشغل النفس عما تنتفع به ، واللهو صرف النفس من الجد إلى الهزل ، يقال : لهيت عنه : أي صرفت نفسي عنه. اللباب (٨ / ١٠٦).

(٥) زاد في ب : لكم.

(٦) في ب : كان.

(٧) في ب : كان.

٦٩

تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٣٥)

قوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) هذا ـ والله أعلم ـ إخبار منه نبيه ـ عليه‌السلام ـ أنه عن علم منه بتكذيبهم إياك بعثك إليهم رسولا ، وأمرك بتبليغ الرسالة إليهم ، وكان عالما بما يلحقك من الحزن بتكذيبهم إياك ، ولكن بعثك إليهم رسولا مع علم منه بهذا كله لتبلغهم ، يذكر هذا ـ والله أعلم ـ ليعلم رسوله ألا عذر له في ترك تبليغ الرسالة ، وإن كذّبوه في تبليغها.

ثم الذي يحمله على الحزن يحتمل وجوها :

يحتمل : يحزنه افتراؤهم وكذبهم على الله.

أو كان يحزن لتكذيب أقربائه وعشيرته إياه فإذا أكذبته (١) عشيرته ، انتهى الخبر إلى الأبعدين فيكذبونه ، فيحزن لذلك.

أو يحزن حزن طبع ؛ لأن طبع كل أحد ينفر عن التكذيب.

أو كان يحزن إشفاقا عليهم بما ينزل عليهم (٢) من العذاب بتكذيبهم إياه وآذاهم له ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ ...) الآية [الكهف : ٦] وكقوله ـ تعالى ـ : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) اختلف في تلاوته : قرأ بعضهم بالتخفيف (٣) ، وبعضهم بالتشديد والتثقيل (٤) :

فمن قرأ بالتخفيف : قراءة (لا يُكَذِّبُونَكَ) ، أي : لا يجدونك كاذبا قط.

ومن قرأ بالتثقيل : (لا يُكَذِّبُونَكَ) ، أي : لا ينسبونك إلى الكذب ، ولا يكذبونك في نفسك (٥).

__________________

(١) في ب : كذبه.

(٢) في ب : لهم.

(٣) وهما نافع والكسائي.

(٤) وهم باقي السبعة وهي قراءة علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع.

ينظر : الدر المصون (٣ / ٤٨) ، البحر المحيط (٤ / ١١٦) ، الوسيط في تفسير القرآن المجيد (٢ / ٢٦٥ ـ ٢٦٦) ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٤٧ ـ ٢٤٩) السبعة ص (٢٥٧) ، النشر (٢٥٧ ـ ٢٥٨) ، التبيان (١ / ٤٩١) ، الزجاج (٢ / ٢٦٦) ، المشكل (١ / ٢٥١) ، الفراء (١ / ٣٣١) ، الحجة لابن خالويه ص (١٣٨).

(٥) قال الزمخشري في الكشاف (٢ / ١٨) (لا يكذبونك) قرئ بالتشديد والتخفيف ، من كذبه إذا جعله كاذبا في زعمه ، وأكذبه إذا وجده كاذبا ، والمعنى : أن تكذيبك أمر راجع إلى الله لأنك رسوله المصدق بالمعجزات ، فهم لا يكذبونك في الحقيقة ، وإنما يكذبون الله بجحود آياته ، فاله عن ـ

٧٠

ويحتمل قوله : ولا يكذبونك في السر ، ولكن يقولون ذلك في العلانية ، والتكذيب هو أن يقال : إنك كاذب.

(وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ).

أي : عادة الظالمين التكذيب بآيات الله.

و (الظَّالِمِينَ) يحتمل وجهين :

أحدهما : الظالمين على نعم الله عادتهم التكذيب بآيات الله.

[الثاني] والظالمين على أنفسهم ؛ لأنهم وضعوها في غير موضعها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا).

يخبر نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويصبره على تكذيبهم إياه وأذاهم بتبليغ الرسالة ، يقول : لست أنت بأول مكذب من الرسل ، بل كذب إخوانك من قبلك على تبليغ الرسالة ، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا ، ولم يتركوا تبليغ الرسالة مع تكذيبهم إياهم ؛ فعلى ذلك لا عذر لك في ترك تبليغ الرسالة وإن كذبوك في التبليغ وآذوك ، وهو ما ذكرنا أنه يخبره أنه بعثك رسولا على علم منه بكل الذي كان منهم من التكذيب والأذى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا).

أخبر الله أنه نصر رسله ، ثم يحتمل ذلك (النصر) وجوها.

أحدها : ينصرهم أي : أظهر حججه وبراهينه ، حتى علموا جميعا أنها هي الحجج

__________________

ـ حزنك لنفسك وإن هم كذبوك وأنت صادق ، وقيل : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) [الأنعام : ٣٣] لأنك عندهم الصادق الموسوم بالصدق ولكنهم يجحدون بآيات الله.

وذكر أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ١١١) مثل ذلك فقال : قيل هما بمعنى واحد ، نحو «كثر وأكثر» وقيل بينهما فرق ، حكى الكسائي أن العرب تقول : «كذبت الرجل» إذا نسبت إليه الكذب ، و «أكذبته» إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه.

وتقول العرب أيضا : «أكذبت الرجل» إذا وجدته كذابا كما تقول «أحمدت الرجل إذا وجدته محمودا».

فعلى الفرق يكون معنى التخفيف لا يجدونك كاذبا أو لا ينسبون الكذب إليك ، وعلى معنى التشديد يكون إما خبرا محضا عن عدم تكذيبهم إياه والمراد بعضهم ، وإما أن يكون نفي التكذيب لانتفاء ما يترتب عليه من المضار ، فكأنه قيل : لا يكذبونك تكذيبا يضرك ؛ لأنك لست بكاذب ، فتكذيبهم كلا تكذيب.

وحكى قطرب «أكذبت الرجل» دللت على كذبه.

وفي الصحاح (٢ / ٣٨١) «كذب» : أكذبت الرجل : ألفيته كاذبا ، وكذبته إذا قلت له : كذبت وقال الكسائي : أكذبته إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه و «كذبته» إذا أخبرت أنه كاذب.

وقال ثعلب : «أكذبه وكذبه» بمعنى ، وقد يكون «أكذبه» بين كذبه ، وقد يكون بمعنى حمله على الكذب وبمعنى وجده كاذبا.

٧١

والبراهين ، وأنهم رسل الله ، لكنهم عاندوا وكابروا (١).

ويحتمل : النصر لهم بما جعل آخر أمرهم لهم ، وإن كان قد أصابهم شدائد في بدء الأمر.

أو نصرهم لما استأصل قومهم وأهلكهم بتكذيبهم الرسل ، وفي استئصال القوم وإهلاكه إياهم ، وإبقاء الرسل نصرهم ، وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر : ٥١] وقوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) [الصافات : ١٧٢] يخرج على الوجوه التي ذكرناها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) هو ما ذكرنا من النصر لهم ، واستئصال قومهم ، وما أوعدهم من العذاب ؛ فذلك كلمات الله.

ويحتمل قوله : (لِكَلِماتِ اللهِ) : حججه وبراهينه (٢) ؛ كقوله : (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) [يونس : ٨٢] ، أي : بحججه وآياته ، وكقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) [الكهف : ١٠٩] أي : حجج ربي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) يحتمل ما ذكرنا من إهلاك القوم وإبقاء الرسل ، قد جاءك ذلك النبأ.

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) من تكذيب قومهم لهم وأذاهم إياهم ، فإن كان هذا ففيه تصبير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[وقوله (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) كان يشتد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٣) ويشق عليه كفر قومه وإعراضهم عن الإيمان ، حتى كادت نفسه تتلف وتهلك لذلك إشفاقا عليهم ؛ كقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨]

__________________

(١) ينظر اللباب (٨ / ١١٦) ، ومعالم القرآن ص (٢٧٤) ، البحر المحيط (٤ / ١١٨).

(٢) البرهان : هو الدليل القاطع ، فهو أخص من الدليل الواضح قال الراغب : والبرهان أوكد الأدلة ، وهو ما يقتضي الصدق أبدا لا محالة ، ودلالة تقتضي الكذب أبدا ، ودلالة إلى الكذب أقرب ، ودلالة لهما على السواء. واختلفوا في نونه هل هي أصلية أم زائدة؟

قال الهروي : هو رابعي ، ولذا ترسم مادته بباء وراء وهاء ونون. ويؤيده قولهم : برهن يبرهن برهنة ، فتثبت النون في تصاريفه. إلا أن الظاهر زيادتها اشتقاقا من البره ، وهو بياض. يقال : بره يبره : إذا أبيض. ورجل أبره ، وامرأة برهاء ، وقوم بره أي بيض ، وامرأة برهرهة أي شابة بيضاء. فسمي الدليل الواضح بذلك لظهوره وسطوعه بجلاء بياضه وإضاءته ، ولذلك وصفوه بالساطع والنير في قولهم : برهان ساطع نير فهو مصدر لبره ويبره كالرجحان والنقصان.

ينظر عمدة الحفاظ (١ / ٢١١) والمفردات للراغب الأصفهاني ص ٤٥.

(٣) سقط في أ.

٧٢

وقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] ونحو ذلك من الآيات ، يشفق عليهم بتركهم الإيمان لما يعذبون أبدا في النار ، فعلى (١) ذلك قوله : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ).

أو كان يكبر عليه ويثقل إعراضهم لما كانوا يطلبون منه الآيات ، حتى إذا جاء بها لا يؤمنون ؛ من نحو ما قالوا : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٣] وغير ذلك من الآيات التي سألوها ، فطمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إيمانهم إذا جاء بما سألوا من الآيات ، فكان الله عالما بأنه وإن جاءتهم آيات لم يؤمنوا ، وإنما يسألون سؤال تعنت لا سؤال طلب آيات لتدلهم على الهدى ، فقال عند ذلك : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ).

أو أن يكون قوله : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) نهيا عن الحزن عليهم ، أي : لا تحزن عليهم كل هذا الحزن بما ينزل بهم ، وقد تعلم صنيعهم وسوء معاملتهم آيات الله.

وكذلك روي في القصة عن ابن عباس (٢) ـ رضي الله عنه ـ أن نفرا (٣) من قريش قالوا : يا محمد ، ائتنا بآية (٤) كما كانت الأنبياء تأتي قومها بالآيات إذا سألوهم (٥) : فإن أتيتنا آمنا بك وصدقناك ، فأبى الله أن يأتيهم بما قالوا ، فأعرضوا عنه ، فكبر ذلك عليه وشق ، فأنزل الله : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ ...). يقول : إن قدرت (أَنْ تَبْتَغِيَ) يقول : أن تطلب (نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) يقول : سربا (٦) في الأرض كنفق اليربوع (٧) نافذا أو مخرجا فتوارى (٨)

__________________

(١) في ب : من.

(٢) ذكره الرازي في تفسيره (١٢ / ١٧١) ، وابن عادل في اللباب (٨ / ١١٩).

(٣) (والنفر) ، محركة : الناس كلهم ، عن كراع ، وقيل : النفر والرهط : ما دون العشرة من الرجال ومنهم من خصص فقال : الرجال دون النساء ، وقال أبو العباس : النفر والرهط والقوم ، هؤلاء معناهم الجمع ، لا واحد لهم من لفظهم ، قال سيبويه : والنسب إليه نفري ، والنفير ، كأمير ، ج أنفار ، كسبب وأسباب ، وفي حديث أبي ذر : «لو كان هاهنا أحد من أنفارنا» قال ابن الأثير : أي قومنا. والنفر : رهط الإنسان وعشيرته ، وهو اسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة ، ما بين الثلاثة إلى العشرة. وقال الليث : يقال : هؤلاء عشرة نفر ، أي عشرة رجال ، ولا يقال عشرون نفرا ، ولا ما فوق العشرة. وقوله تعالى : (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً)[الإسراء : ٦] قال الزجاج : النفير جمع نفر ، كالعبيد والكليب ، وقيل معناه : وجعلناكم أكثر منهم أنصارا. ينظر تاج العروس (١٤ / ٢٦٧).

(٤) زاد في أ : عند ذلك.

(٥) في أ : سألوه.

(٦) السرب : حفير تحت الأرض لا منفذ له ينظر المعجم الوسيط (١ / ٤٢٥) [سرب].

(٧) بفتح الياء المثناة تحت ، ويسمى : الدرص ـ بفتح الدال وكسرها وإسكان الراء المهملتين وبالصاد المهملة ـ حيوان طويل الرجلين قصير اليدين جدا وله ذنب الجرذ يرفعه صعدا في طرفه شبه ـ

٧٣

فيه منهم (أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) يكون سببا إلى صعود السماء ، (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) التي سألوكها فافعل.

قال القتبي : النفق في الأرض : المدخل ، وهو السرب ، والسلم في السماء : المصعد (١).

وقال أبو عوسجة : النفق : الغار ، والأنفاق : الغيران ، والغار واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى).

قال الحسن : أي : لو شاء الله لقهرهم على الهدى وأكرههم ، كما فعل بالملائكة ؛ إذ من قوله إن الملائكة مجبورون مقهورون [على ذلك](٢) ، ثم هو يفضل الملائكة على البشر ويجعل لهم مناقب ، لا يجعل ذلك لأحد من البشر ، فلو كانت الملائكة مجبورين مقهورين على ذلك ، لم يكن في ذلك لهم كبير منقبة ؛ ففي قوله اضطراب.

وأما تأويله عندنا (٣) : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) ، أي : لجعلهم جميعا بحيث اختاروا الهدى وآثروه على غيره ، ولكن لما علم منهم أنهم يختارون (٤) الكفر على

__________________

ـ النوارة لونه كلون الغزال قال أصحاب الكلام في طبائع الحيوان : إن كل دابة حشاها الله خبثا فهي قصيرة اليدين لأنها إذا خافت شيئا لاذت بالصعود فلا يلحقها شيء ، وهذا الحيوان يسكن بطن الأرض لتقوم رطوبتها له مقام الماء وهو يؤثر النسيم ويكره البحار أبدا يتخذ جحره في نشز من الأرض ثم يحفر بيته في مهب الرياح الأربع ويتخذ فيه كوى وتسمى النافقاء والقاصعاء والراهطاء ، فإذا طلب من إحدى هذه الكوى نافق أي خرج من النافقاء وإن طلب من النافقاء خرج من القاصعاء وظاهر بيته تراب وباطنه حفر وكذلك المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر ، قال الجاحظ وغيره : واسم المنافق لم يكن في الجاهلية لمن أسر الكفر وأظهر الإيمان ولكن الباري جل وعلا اشتق له هذا الاسم من هذا الأصل من نافقاء اليربوع لأنه لما أبطن الكفر وأظهر الإيمان وورى بشيء عن شيء ودخل في باب الخديعة وأوهم الغير خلاف ما هو عليه أشبه في ذلك فعل اليربوع. ا. ه.

ينظر حياة الحيوان (٢ / ٤٨٠ ـ ٤٨١).

(٨) في ب : فتتوارى.

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ١٨٣) (١٣٢٠٦) عن ابن عباس وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٩) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات.

(٢) سقط في أ.

(٣) قال الناصر في الانتصاف : هذه الآية كافلة بالرد على القدرية في زعمهم أن الله تعالى شاء جمع الناس كلهم على الهدى فلم يكن. ألا ترى أن الجملة مصدرة بلو ، ومقتضاها امتناع جوابها ، لامتناع الواقع بعدها. فامتناع اجتماعهم على الهدى إذن إنما كان لامتناع المشيئة. فمن ثم ترى الزمخشري يحمل المشيئة على قهرهم على الهدى بآية ملجئة ، لا يكون الإيمان معها اختيارا ، حتى يتم له أن هذا الوجه من المشيئة لم يقع ، وأن مشيئته اجتماعهم على الهدى على اختيار منهم ، ثابتة غير ممتنعة ، ولكن لم يقع متعلقها. وهذه من خباياه ومكامنه فاحذرها ـ والله الموفق.

ينظر محاسن التأويل للقاسمي (٦ / ٥١٠).

(٤) في ب : أن يختاروا.

٧٤

الهدى ، لم يشأ أن يجمعهم على الهدى (١) ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم ألا يكون الهدى في حال القهر والجبر ، وإنما يكون في حال الاختيار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ).

يحتمل وجوها :

يحتمل : فلا تكونن من الجاهلين : من قضاء الله وحكمه.

ويحتمل : لا تكونن من الجاهلين : من إحسانه وفضله ، أي : من إحسانه [وفضله] يجعل لهم الهدى (٢).

ويحتمل : لا تكونن من الجاهلين أنه يؤمن بك بعضهم وبعضهم لا يؤمن.

قال أبو بكر الكيساني في قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) أي : لو شاء الله ابتلاهم بدون ما ابتلاهم به ليخف عليهم ، فيجيبون بأجمعهم ، أو يقول : لو شاء [الله] لوفقهم جميعا للهدى فيهتدون ، وهو قولنا ، لكن لم يشأ ؛ لما ذكرنا أنه لم يوفقهم لما علم منهم أنهم يختارون الكفر.

وقوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) ، بأن الله قادر لو شاء لجعلهم جميعا مهتدين.

ثم معلوم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان معصوما ، لا يجوز أن يقال إنه يكون من الجاهلين أو من الشاكرين ، على ما ذكر ، ولكن ذكر هذا ـ والله أعلم ـ ليعلم أن العصمة لا ترفع الأمر والنهي والامتحان ، بل تزيد ؛ لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٣٩)

قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) معناه ـ والله أعلم ـ إنما يستجيب الذين ينتفعون بما يسمعون ، وإلا كانوا يسمعون جميعا ، لكن الوجه فيه ما ذكرنا [أنه] إنما يجيب الذين ينتفعون بما يسمعون ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) [يس : ١١] كان النبي ـ عليه‌السلام ـ ينذر من اتبع الذكر ومن لم يتبع ، لكن انتفع بالإنذار من اتبع الذكر ، ولم ينتفع من لم يتبع ، وهو ما ذكر ـ عزوجل ـ : (وَذَكِّرْ فَإِنَ

__________________

(١) في ب : على ذلك.

(٢) ذكره أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط (٤ / ١٢٠) ونسبه لابن عطية بنحوه.

٧٥

الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات : ٥٥] أخبر أن الذكرى تنفع المؤمنين ولا تنفع غيرهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) :

اختلف فيه ؛ قال بعضهم : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) [أنه](١) على الابتداء ؛ يبعثهم الله ثم إليه يرجعون. وقال قائلون : أراد بالموتى الكفار (٢) ، سمي الكافر ميتا والمؤمن حيّا في غير موضع من القرآن (٣) ؛ كقوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) [الأنعام : ١٢٢] ، فهو ـ والله أعلم ـ أن جعل لكل بشر سمعين وبصرين وحياتين ؛ سمع أبدي في الآخرة ، وبصر (٤) أبدي في الآخرة ؛ وكذلك جعل لكل أحد حياتين : حياة [أبدية في](٥) الآخرة ، وحياة منقضية وهي حياة الدنيا ؛ وكذلك سمع أبدي وهو سمع الآخرة ، وسمع ذو مدة لها انقضاء وهو سمع الدنيا ، ثم نفى السمع والبصر والحياة عمن لم يدرك بهذا السمع والبصر والحياة التي جعل له في الدنيا ، ولم يقصد سمع الأبدية وبصر الأبدية والحياة الأبدية ؛ لأنه إنما جعل لهم هذا في الدنيا ؛ ليدركوا بهذا ذاك (٦) ؛ وكذلك العقول التي ركبت في البشر إنما ركبت ليدركوا بها ويبصروا ذلك الأبدي ، وإلا لو كان تركيب هذه العقول في البشر لهذه الدنيا خاصة ، لا لعواقب تتأمل للجزاء والعقاب ـ فالبهائم قد تدرك (٧) بالطبع ذلك القدر ، وتعرف ما يؤتى ويتقى ، وما يصلح لها [....](٨) ؛ فدل أن تركيب العقول فيمن ركب إنما ركب لا لما يدرك هذا ؛ إذ يدرك ذلك المقدار بالطبع من لم يركب فيه وهو البهائم التي ذكرنا.

والسمع والبصر والحياة قد جعلت في الدنيا لمعاشهم ومعادهم ؛ وكذلك جعل لهم

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه بمعناه ابن جرير (٥ / ١٨٥) (١٣٢٠٩ ، ١٣٢١٠) عن مجاهد ، (١٣٢١١) عن قتادة ، (١٣٢١٢ ، ١٣٢١٣) عن الحسن البصري وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٩) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الحسن البصري ولعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد. ولعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة.

(٣) عند قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٨] وقوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ١٢٢].

(٤) زاد في ب : له.

(٥) سقط في أ.

(٦) في ب : ذلك.

(٧) في ب : يدرك.

(٨) بياض بالأصول مقدار كلمتين مطموستين.

٧٦

اللسان ؛ لينطق بحوائجهم في الدنيا ، ويعرف بعضهم من بعض حاجته في الدنيا (١) ، ويدرك به الأزلي ، فإذا لم ينتفعوا بذلك أزال عنهم ذلك وسماهم العمي والصم والبكم ؛ ألا ترى أنه قال : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٨] لما لم ينتفعوا بذلك؟!

ألا ترى أنه إذ لم يدرك الأزلي والأبدي من ذلك سماه أعمى ؛ حيث قال :

(قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) [طه : ١٢٥].

والحياة حياتان : حياة مكتسبة : وهي الحياة التي تكتسب بالهدى والطاعات.

وحياة منشأة : وهي حياة الأجسام ؛ فالكافر له حياة الجسد وليس له حياة مكتسبة ، وأما المؤمن : فله الحياتان جميعا المكتسبة والمنشأة فيسمى كلّا بالأسماء (٢) التي اكتسبها ، فالمؤمن اكتسب أفعالا طيبة فسماه بذلك ، والكافر اكتسب أفعالا قبيحة فسماه بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) :

هؤلاء قوم همتهم العناد والمكابرة [وإلا](٣) قد كان أنزل عليه آيات عقليات وسمعيات وحسيات.

فأما الآيات العقليات : فهي ما ذكر : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ...) الآية [الإسراء : ٨٨].

وأما الآيات السمعيات : فهي ما أنبأهم عن أشياء كانت غائبة عنهم ، من غير أن كان له اختلاف إلى من يعلمها وينبئه (٤) عنها (٥).

[والآيات الحسيات](٦) : هي ما سقى أقواما كثيرة بلبن قليل من قصعة (٧) ، وما قطع

__________________

(١) زاد في ب : وكذلك السمع ولأنهم ليس في تبعضهم من بعض حاجة في الدنيا.

(٢) في أ : كلا بأسماء.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : وينبئها.

(٥) ومن ذلك حديث علي بن أبي طالب :

ينظر : البخاري (٦ / ١٦٦ ـ ١٦٧) كتاب الجهاد باب الجاسوس (٣٠٠٧ ، ٣٠٨١ ، ٣٩٨٣ ، ٤٢٧٤ ، ٤٨٩٠ ، ٦٢٥٩ ، ٦٩٣٩) ومسلم (٤ / ١٩٤١) كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أهل بدر (١٦١ / ٢٤٩٤).

(٦) سقط في ب.

(٧) ينظر : البخاري (١٢ / ٢٩٦) كتاب الاستئذان باب إذا دعي الرجل فجاء هل يستأذن (٦٢٤٦) وأحمد (٢ / ٥١٥) ، والترمذي (٤ / ٢٦٠) أبواب صفة القيامة باب (٣٦) (٢٤٧٧) ، وهناد في الزهد (٧٦٤) وابن حبان (٦٥٣٥) وأبو الشيخ في أخلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ص / ٧٧ ـ ٧٨) والحاكم (٣ / ١٥ ـ ١٦) ، وأبو نعيم في الحلية (١ / ٣٣٨ ـ ٣٣٩ ، ٣٧٧) ، والبيهقي في الدلائل (٦ / ١٠١ ـ ١٠٢) عن أبي هريرة.

٧٧

مسيرة شهرين بليلة واحدة (١) ، ونطق العناق (٢) الذي شوي له (٣) ، وحنين المنبر (٤) ، وغير ذلك من الأشياء مما يكثر ذكرها (٥). لكنهم عاندوا ، وكانت همتهم العناد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) : التي سألوك ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) : يحتمل وجهين :

يحتمل : أن [يكون](٦) أن أكثرهم لا يعلمون أنه إذا أنزل آية على أثر السؤال لأنزل عليهم العذاب واستأصلهم إذا عاندوا.

ويحتمل قوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) : أنه لا ينزل الآية إلا عند الحاجة [بهم](٧) إليها.

ويحتمل ألا يسألوا (٨) الآية ليعلموا ، ولكن يسألون ؛ ليتعنتوا.

__________________

(١) أخرجه البيهقي في الدلائل (٢ / ٣٥٥ ـ ٣٥٧) من حديث شداد بن أوس وقال صحيح الإسناد وفيه أنه قطع مسيرة شهر في ليلة واحدة ، وهذا في ليلة الإسراء والمعراج وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٦٣) وزاد نسبته للبزار وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه ، وعزاه السيوطي أيضا لابن أبي حاتم عن أنس بن مالك

(٢) جمع أعنق وعنق وعنوق. والعناق : الأنثى من أولاد المعز والغنم من حين الولادة إلى تمام الحول ، ينظر المعجم الوسيط (١ / ٦٣٢) (عنق).

(٣) أخرجه البخاري (٥ / ٥٥٠) كتاب الهبة باب قبول الهدية من المشركين (٢٦١٧) ومسلم (٤ / ١٧٢١) كتاب السلام باب السم (٤٥ / ٢١٩٠) من حديث أنس بن مالك قال : أن يهودية أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فقيل : ألا نقتلها؟ قال لا. فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي رواية البزار عنه كما في مجمع الزوائد (٨ / ٢٩٨) (قال رسول الله : إن عضوا من أعضائها يخبرني أنها مسمومة ...)

وفي الباب عن ابن عباس ، وأبي سعيد ، وجابر ، وكعب بن مالك ، وغيرهم.

(٤) ينظر : البخاري (٦ / ٦٩٦) كتاب المناقب ، باب علامات النبوة في الإسلام (٣٥٨٥) والشافعي (١ / ١٤٢) كتاب الجمعة (٤١٦) ومن طريقه البغوي في شرح السنة (٧ / ٧٥ ـ ٧٦) كتاب الفضائل باب علامات النبوة (٣٦١٨) من حديث جابر بن عبد الله.

(٥) منها انشقاق القمر كما في سبل الهدى والرشاد (٩ / ٥٩٩) والصحيحين وأحمد وغيرهما.

وحبس الشمس له صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الطبراني والبيهقي ، وفي رد الشمس بعد غروبها ببركة دعائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في الطبراني في المعجم الكبير.

وغير ذلك كثير كما هو مدون في كتب السير والتاريخ والخصائص والفقه والله أعلم.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

(٨) ورد في ب : ألا يسألون وهو وجه له صحته من كلام العرب فقد ورد رفع الفعل بعد (أن) كقراءة ابن محيصن (لمن أراد أن يتم الرضاعة) يرفع «يتم» ويكون تخريج ذلك على وجهين أن (أن) هنا لا عمل لها ويكون الفعل بعدها مرفوعا بالتجرد من العوامل الناصبة والجازمة ، وإما أن يكون الرفع من عمل (أن) وهو تعدد العمل للعامل الواحد كالرفع والنصب ل «أن» مثلا ، ومن ذلك قول الشاعر :

أن تقرءان على أسماء ويحكما

مني السلام وألا تشعرا أحدا ـ

٧٨

أو [إن أنزل آية](١) على أثر سؤال ، فلم يقبلوها ، ولم يؤمنوا بها ؛ أهلكهم على ما ذكرنا من سنته في الأولين ، لكنه وعد إبقاء هذه الأمة إلى يوم القيامة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) : يشبه أن يكون هذا صلة قوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) [٣٧] ؛ لأنه ذكر «دابة» ، والدابة : كل ما يدب على وجه الأرض من ذي الروح ، وذكر الطائر ، وهو : اسم كل ما يطير في الهواء. لما كان قادرا على خلق هذه الجواهر المختلفة ، وسوق رزق كل منهم إليهم ، [فهو قادر] على أن ينزل آية ؛ [ولو أنزل آية] لاضطروا جميعا إلى القبول لها والإقرار بها ، ولكنه لا ينزل لما ليست لهم الحاجة إليها ، والآيات لا تنزل إلا عند وقوع الحاجة بهم إليها ، وعلى هذا يخرج [مخرج](٢) قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [٣٧].

[و] من الناس من استدل بهذه الآية على أن البهائم والطير ممتحنات ؛ حيث قال : (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) ، ثم قال : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤].

ثم اختلف في قوله تعالى : (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) :

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال في قوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) : أي : إلا سيحشرون يوم القيامة [كما تحشرون](٣) ، ثم يقتص البهائم بعضها من بعض ، ثم يقال لها : كوني ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [النبأ : ٤٠] ؛ كالبهائم (٤).

وعن ابن عباس قال (٥) : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) ؛ أي : يفقه بعضها من بعض كما يفقه بعضكم من بعض ، وأمم أمثالكم في معرفة ما يؤتى ويتقى.

ويحتمل : (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) في الكثرة ، والعدد ، والخلق ، والصنوف تعرف بالأسامي

__________________

ـ وزعم الكوفيون أن (أن) هذه هي المخففة من الثقيلة شذ اتصالها بالفعل ، والصواب قول البصريين : إنها أن الناصبة أهملت حملا على (ما) أختها المصدرية.

انظر مغني اللبيب (١ / ٣٨).

(١) في ب : إذا أنزل عليه آية.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ١٨٧) (١٣٢٢٥) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٠ ـ ٢١) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.

(٥) قال الرازي في تفسيره (١٢ / ١٧٦) : المراد إلا أمم أمثالكم في كونها أمما وجماعات وفي كونها مخلوقة بحيث يشبه بعضها بعضا ويأنس بعضها ببعض ويتوالد بعضها من بعض كالإنس.

٧٩

كما تعرفون أنتم.

وأصله : إن ما ذكر من الدواب والطير (أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) : سخرها لكم لم يكن منها ما يكون منكم من العناد [والخلاف](١) والتكذيب للرسل والخروج عليهم ، بل خاضعين لكم مذللين تنتفعون بها.

ويحتمل قوله : (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) : في حق معرفة وحدانيته وألوهيته ، أو حق الطاعة لله ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤].

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ).

اختلف فيه :

قال بعضهم (٢) : (ما فَرَّطْنا) أي : ما تركنا شيئا إلا وقد ذكرنا أصله في القرآن.

وعن ابن عباس (٣) ـ رضي الله عنهما ـ قال : ما تركنا شيئا إلا قد كتبناه في أم الكتاب : وهو اللوح المحفوظ.

وقيل (٤) : (ما فَرَّطْنا) : ما ضيعنا في الكتاب مما قد يقع لكم الحاجة إليه أو منفعة إلا قد بيناه لكم في القرآن.

(ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ).

قيل (٥) : الطير والبهائم يحشرون مع الخلق ، وقيل : (إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) : يعني بني آدم.

وقوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا).

قال الحسن : (بِآياتِنا) : ديننا.

وقال غيره (٦) : (كَذَّبُوا بِآياتِنا) : حججنا : حجج وحدانيته وألوهيته ، وحجج الرسالة والنبوة.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر تفسير القرطبي (٦ / ٢٧٠) ، وتفسير الخازن (٢ / ٣٧٥).

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ١٨٦) (١٣٢١٩) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٠) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) ذكره ابن جرير (٥ / ١٨٦) والرازي في تفسيره (١٢ / ١٧٦ ـ ١٧٩). وابن عادل في اللباب بمعناه (٨ / ١٢٩).

(٥) أخرجه بمعناه ابن جرير (٥ / ١٨٧) (١٣٢٢٥) عن أبي هريرة وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٠) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي هريرة والبغوي في تفسيره (٢ / ٩٥).

(٦) ذكره ابن جرير في تفسيره (٥ / ١٨٨).

٨٠