تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

ولم يكونوا يومئذ يعرفون التوحيد والبعث ، كانوا كلهم كفارا عبدة الأوثان والأصنام لا يحتمل أن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألّف ذلك وأنشأه من ذات نفسه ؛ ليعلم أنه إنما عرف ذلك بالله.

وفيه دلالة إثبات المحاجة في التوحيد والمناظرة فيه ؛ لأن أكثرها نزلت في محاجة أهل الشرك ، وهم كانوا أهل شرك ، وينكرون البعث والرسالة ، فتنزل أكثرها في محاجتهم في التوحيد (١) وإثبات البعث والرسالة.

وفيه أنه إذا ثبت فساد قول أحد الخصمين ، ثبت صحة قول الآخر ؛ لأن إبراهيم لما قال : (هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [الأنعام : ٧٦] أثبت فساد عبادة من يعبد الآفل بالأفول (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) يحتمل الحق : الآيات التي كان يأتي بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آيات التوحيد وآيات البعث.

ويحتمل القرآن ، ولو لم يكن يأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بآية كانت نفسه آية عظيمة من أول نشأته (٣) إلى آخر عمره ؛ لأنه عصم حتى لم يأت منه ما يستسمج (٤) ويستقبح (٥) قط ؛ فدل أن ذلك إنما كان لما جعل (٦) آية في نفسه ، وموضعا لرسالته ، وعلى ذلك تخرج إجابة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في أول دعوة دعاه إلى ذلك لما كان رأى منه من آيات ، فلما دعاه أجابه في ذلك مع ما كان معه [من](٧) آيات عظيمة ، وأعلام عجيبة (٨).

__________________

(١) في ب : بالتوحيد.

(٢) الأفول : الغيبوبة تكون في الكواكب ، يقال : أفل ، يأفل ويأفل : إذا غاب ، يقال : أفل النجم ، وأفلت الشمس قال البحتري :

قمر أتبعته من كلف

نظر الصب به حتى أفل

ويقال : أفل نجم فلان : خاب سعيه وساء حظه ، وفي الأساس : فلان كعبه سافل ونجمه آفل.

ينظر : عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ للسمين الحلبي (١ / ١٠٨) ، والمعجم الكبير الصادر عن مجمع اللغة العربية (١ / ٣٧٤) ، تاج العروس (٢٨ / ٧).

(٣) في أ : نشأة.

(٤) سمج الشيء بالضم يسمج سماجة : قبح ، ولم يكن فيه ملاحة ينظر تاج العروس (٦ / ٤٤). قلت : معاذ الله أن يصدر من سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يستقبح ويستسمج ، كيف ذلك وخلقه القرآن وقد أنزل الله في محكم التنزيل قرآنا يتلى إلى يوم القيامة فقال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم : ٤]

(٥) القبح : ضد الحسن يقال : أقبح فلان : أتى بقبيح ، واستقبحه : رآه قبيحا ، وهو ضد استحسنه. ينظر : تاج العروس (٧ / ٣٥ ـ ٣٦) ، لسان العرب (قبح).

(٦) في ب : جعله.

(٧) سقط في ب.

(٨) روى البيهقي عن ابن إسحاق أن أبا بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أحقّ ما تقول قريش يا محمد من تركك آلهتنا وتسفيهك عقولنا وتكفيرك إيانا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بلى إني ـ

٢١

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) معناه ـ والله أعلم ـ [أن](١) يأتيهم وينزل بهم ما نزل بالمستهزئين ، [وإلا كان أتاهم أنباء ما نزل بالمستهزئين](٢) ، ولكن معناه ما ذكرنا ، أي : ينزل بهم ويحل ما نزل وحل بالمستهزئين.

ويحتمل قوله وجها آخر : (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو العذاب ؛ لأن الرسل كانوا يوعدونهم (٣) أن ينزل بهم العذاب بتكذيبهم الرسل ، فعند ذلك يستهزءون بهم ؛ كقوله : (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) [ص : ١٦] وكقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) [العنكبوت : ٥٣] وغير ذلك ؛ إذ قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] فأخبر أنه ينزل بهم ذلك كما نزل بأولئك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) قال الحسن (٤) : ألم يروا : ألم يعتبروا (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ).

وقال أبو بكر الكيساني : (أَلَمْ يَرَوْا) قد رأوا (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) [قال](٥) :

وهو واحد ، قد رأوا آثار الذين أهلكوا بتكذيبهم الرسل ، وتعنتهم ومكابرتهم ، لكنهم لم يعتبروا بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) قال بعضهم : أعطيناهم من الخير والسعة والأموال ما لم نمكن لكم يا أهل مكة أي : لم نعطكم ، ثم إذا كذبوا الرسل أهلكهم الله ـ تعالى ـ وعاقبهم بأنواع العقوبة.

__________________

ـ رسول الله ونبيه بعثني لأبلغ رسالته ، وأدعوك إلى الله بالحق ، فوالله إنه لحق ، فأدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له ولا تعبد غيره والموالاة على طاعته. وقرأ عليه القرآن فلم يعز ولم ينكر بل أسلم وكفر بالأصنام وخلع الأنداد وأقر بحق الإسلام ، ثم رجع إلى أهله وقد آمن وصدق.

قال ابن إسحاق : بلغني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر إلا أبا بكر ما عكم عنه حين ذكرته له ولا تردد.

قال البيهقي : وذلك لما كان يرى من دلائل نبوته ويسمع بشأنه قبل دعوته ، فلما دعاه وقد سبق فيه تفكره ونظره أسلم على الفور.

قال السهيلي ـ رحمه‌الله تعالى ـ : وكان من أسباب ذلك توفيق الله تعالى إياه فيما ذكروا أنه رأى رؤيا قبل ، وذلك أنه رأى القمر نزل إلى مكة ثم رآه قد تفرق على جميع منازل مكة وبيوتها فدخل في كل بيت شعبة ، ثم كان جميعه في حجره. فقصها على بعض أهل الكتابين فعبرها له بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنتظر قد أظل زمانه ، اتبعه وتكون أسعد الناس به ، فلما دعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتوقف. ينظر سبل الهدى والرشاد (٢ / ٤٠٥ ـ ٤٠٦).

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : يوعدونه.

(٤) ذكره القرطبي في تفسيره (٣ / ٢٥٢) بنحوه ولم ينسبه لأحد.

(٥) سقط في ب.

٢٢

ويحتمل : مكناهم في الأرض من القوة والشدة ؛ كقوله : (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت : ١٥] ثم مع شدة قوتهم أهلكوا إذ كذبوا الرسل.

ويحتمل وجها آخر : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : في قلوب الخلق ، من نفاذ القول ، وخضوع الناس لهم ؛ لأنهم كانوا ملوكا وسلاطين الأرض ، من نحو نمرود (١) ، وفرعون (٢) ، وعاد (٣) ، مع ما كانوا كذلك أهلكوا إذ كذبوا الرسل ، وأنتم يا هؤلاء ليس

__________________

(١) هو النمروذ بن كنعان بن سام بن نوح ، هو أول من وضع التاج على رأسه ، وتجبر وادعى الربوبية ؛ حاج إبراهيم أي : خاصمه وجادله ، واختلفوا في وقت هذه المحاجة ، فقال مقاتل : لما كسر الأصنام سجنه النمروذ ، ثم أخرجه ليحرقه فقال له : من ربك الذي تدعونا إليه ؛ فقال : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] ، وقال قتادة : هو أول من تجبر ، وهو صاحب الصرح ببابل ، وقيل : هو نمروذ بن فالج بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام ، وحكى السهيلي أنه النمروذ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح ، وكان ملكا على السواد ، وكان ملكه الضحاك الذي يعرف بالأزدهاق ؛ وذلك أن الناس قحطوا على عهد نمروذ ، وكان الناس يمتارون من عنده الطعام ، وكان إذا أتاه الرجل في طلب الطعام سأل : من ربك؟ فإن قال : أنت ، نال من الطعام فأتاه إبراهيم فيمن أتاه ، فقال له نمروذ : من ربك ؛ فقال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت. فاشتغل بالمحاجة ، ولم يعطه شيئا ، فرجع إبراهيم عليه الصلاة والسلام فمر على كثيب من رمل أعفر ، فأخذ منه تطييبا لقلوب أهله إذا دخل عليهم ، فلما أتى أهله ، ووضع متاعه نام فقامت امرأته إلى متاعه ، ففتحته فإذا هو بأجود طعام رأته ، فصنعت له منه فقربته إليه ، فقال : من أين هذا؟ قالت : من الطعام الذي جئت به ، فعرف أن الله تعالى رزقه فحمد الله تعالى. ينظر اللباب (٤ / ٣٣٧) ، والطبري في التفسير (٥ / ٤٣٠) ، والرازي في التفسير (٧ / ٢٠) ، واللباب في علوم الكتاب لابن عادل الحنبلي (٤ / ٣٣٧) ، والسيوطي في الدر المنثور (١ / ٥٨٦).

(٢) فرعون عدو الله قال العلماء بالتواريخ : هو فرعون موسى عمّر أربعمائة سنة وكان اسمه وليد بن مصعب ، وقيل غير ذلك ، وليس في الفراعنة أعتى منه وليس هو فرعون يوسف عليه‌السلام ؛ لأن فرعون يوسف أسلم على يديه والله أعلم.

ينظر تهذيب الأسماء واللغات (١ / ٤٩) (٥١).

(٣) عاد قبيلة كانت تعبد الأصنام ، وكانت ذات بسطة وقوة ، قهروا الناس بفضل القوة ، قال الشهاب البيضاوي : عاد اسم أبيه سميت به القبيلة أو الحي ، قال الليث : وعاد الأولى ، هم عاد بن عاديا ابن سام بن نوح الذين أهلكهم الله تعالى ؛ قال زهير بن أبي سلمى :

ألم تر أن الله أهلك تبّعا

وأهلك لقمان بن عاد وعاديا

وأما عاد الأخيرة فهم بنو تميم ، ينزلون رمال عالج ، وفي كتاب الأنساب : عاد هو ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، كان يعبد القمر ، ويقال : إنه رأى من صلبه وأولاد أولاده أربعة آلاف ، وإنه نكح ألف جارية ، وكانت بلادهم إرم المذكورة ، في القرآن ، وهي من عمان إلى حضرموت. ومن أولاده شداد بن عاد صاحب المدينة المذكورة كذا في تاج العروس.

وقال ابن عرفة : قوم عاد كانت منازلهم في الرمال ، وهي الأحقاف ، وقال ابن إسحاق : الأحقاف رمل فيما بين عمان إلى حضرموت. ينظر تفسير القاسمي (٧ / ١٦٤) ، وقلب جزيرة العرب لفؤاد حمزة (٢٠٨) ، ومعجم قبائل العرب لعمر رضا كحالة (٢ / ٧٠٠) ، والأغاني للأصفهاني (٦ / ٢٨٠) ، وتاج العروس (٢ / ٤٠٢).

٢٣

لكم شيء من ذلك ، أفلا تهلكون إذا كذبتم الرسل؟! وإنما حملهم على تكذيب الرسل ـ والله أعلم ـ لما كانوا ذوي سعة وقوة ، فلم يروا الخضوع لمن دونهم في ذلك [لما رأوا الأمر بالخضوع لمن دونهم في ذلك](١) جورا غير حكمة ، وإنما أخذوا ذلك من إبليس (٢) اللعين ؛ حيث قال عند أمره بالسجود لآدم ، فقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف : ١٢] فعلى ذلك هؤلاء الكفرة رأوا الأمر بالخضوع لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جورا (٣) منه ، حتى قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) قال القتبي : مدرارا بالمطر : أي غزيرا (٤) ، من درّ يدرّ.

وقال أبو عوسجة (٥) : أي : درت عليهم السماء بالمطر (٦) ، أي : كثر ودام وتتابع واحدا بعد واحد في وقت الحاجة (٧)(وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) [أخبر عن سعة](٨) أولئك ،

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) إبليس عدو الله قال الجوهري وغيره : كنيته أبو مرة ، واختلف العلماء في أنه من الملائكة من طائفة يقال لهم الجن أم ليس من الملائكة. وفي أنه اسم عربي أم عجمي ، والصحيح أنه من الملائكة وأنه عجمي ؛ قال الإمام أبو الحسن الواحدى : قال أكثر أهل اللغة والتفسير : سمي إبليس لأنه أبلس من رحمة الله تعالى أي : أيس والمبلس المكتئب الحزين الآيس قال : وعلى هذا هو عربي ، واختلفوا في أنه من الملائكة فروى عن طاوس ومجاهد عن ابن عباس أنه كان من الملائكة وكان اسمه عزازيل ، فلما عصى الله تعالى لعنه الله وجعله شيطانا مريدا وسماه إبليس ، وبهذا قال ابن مسعود وابن المسيب وقتادة وابن جريج وابن جرير واختاره الزجاج وابن الأنباري قالوا : وهي مستثنى من جنس المستثنى منه قالوا : وقول الله تعالى : (كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠] أي : طائفة من الملائكة يقال لهم الجن. وقال الحسن وعبد الرحمن بن زيد وشهر بن حوشب : ما كان من الملائكة قط والاستثناء منقطع ، والمعنى عندهم أن الملائكة وإبليس أمروا بالسجود فأطاعت الملائكة كلهم وعصى ، إبليس والصحيح أنه من الملائكة لأنه لم ينقل أن غير الملائكة أمر بالسجود والأصل في الاستثناء أن يكون من جنس المستثنى منه والله أعلم ، وأما إنظاره إلى يوم الدين فزيادة في عقوبته وتكثير معاصيه وغوايته ، نسأل الله الكريم اللطف وخاتمة الخير. ينظر تهذيب الأسماء واللغات (١ / ١٠٦ ـ ١٠٧).

(٣) في أ : جوارا.

(٤) ذكره ابن قتيبة في غريب القرآن ص (١٥٠) ، وابن جرير في تفسيره (٥ / ١٠) بنحوه.

(٥) لم نجد له ترجمة فيما بين أيدينا من مصادر ومراجع.

(٦) ذكره ابن جرير في تفسيره (٥ / ١٤٩) من قوله.

(٧) من قول ابن عباس بنحوه ذكره السيوطي في الدر المنثور (٣ / ٨) ، وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ ، والبغوي في تفسيره (٢ / ٨٥) ، والرازي في تفسيره (١٢ / ١٣٢) من قوله.

(٨) في ب : يخبر عن سفه.

٢٤

وما أنعم عليهم من كثرة الأمطار والأنهار ما لم يكن ذلك لهؤلاء ، ثم مع ما كان أعطاهم ذلك أهلكهم إذ (١) كذبوا الرسل.

فإن قيل : [كيف] ذكر إهلاك هؤلاء (٢) ، وخوف أولئك ذلك (٣) بتكذيبهم الرسل ، وقد أهلك الرسل والأولياء من قبل؟

قيل : لأن إهلاك أولئك إهلاك عقوبة وتعذيب ؛ لأنه كان أهلكهم هلاك استئصال واستيعاب ؛ خارجا عن الطبع ، وأهلك أولئك الرسل والأولياء لا إهلاك عقوبة خارجا عن الطبع ؛ لذلك كان ما ذكر.

قوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (١١)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) يخبر بشدة (٤) تعنتهم أنهم وإن أتوا ما سألوا من الآيات لم يؤمنوا (٥) به ؛ لأنهم كانوا سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينزل كتابا يعاينونه ، ويقرءونه ، كقوله : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٣] وكقوله : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] ونحوه من الآيات ، وقوله (٦) : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) أي : في صحيفة ، مكتوبا ، يعلمون أنه لم يكتب في الأرض ، ولمسوه بأيديهم ، وعاينوه لم يؤمنوا به ، ولا صدقوه ، وقالوا : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) يخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم لا يؤمنون ، ويخبره بشدة تعنتهم أنهم لا يؤمنون وإن جئت بكل آية ؛ إذ قد أتاهم من الآيات ما إن تأملوا ولم يتعنتوا لدلتهم على ذلك ، لكنهم أعرضوا عنها ، ولم يتأملوا فيها لتعنتهم ، وشدة مكابرتهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) أن مشركي العرب كانوا لا يعرفون

__________________

(١) في ب : إذا.

(٢) في ب : أولئك.

(٣) في ب : هؤلاء بذلك.

(٤) في أ : لشدة.

(٥) في ب : تؤمنوا.

(٦) في أ : يقول.

٢٥

الرسل ، ولا الكتب ، ولا كانوا آمنوا برسول ولا كتاب ، فقالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان : ٢١] ونحوه من السؤال ، فيسألون إنزال الملك.

ثم يحتمل سؤالهم إنزال الملك لما لم يكونوا رأوا الرسل يكونون من البشر ، وإنما رأوا الرسول إن كان يكون ملكا ، فقالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) [الفرقان : ٢١].

ويحتمل أن يكون سؤالهم إنزال الملك سؤال عناد وتعنت ، لا سؤال طلب الرسول من الملائكة ، فقال : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) على ما سألوا (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي أن الملك إذا نزل على إثر سؤال العناد والتعنت ينزل بالعذاب والهلاك ، فهذا يبين أن سؤالهم سؤال تعنت وعناد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي أنهم كانوا يسألون إنزال الملك آية لصدقه ـ عليه‌السلام ـ فقال : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي : يهلكون ؛ لأن الآيات إذا نزلت على إثر سؤال القوم ثمّ خالفوا تلك الآيات وكذبوها لنزل بهم العذاب والهلاك ، وإن جاءت الآيات على غير سؤال ، فكذبوها يمهلون ، ولا يعذبون عند تكذيبهم إياها ، [و](١) الله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) :

قيل : آدميّا بشرا (٢) ، [و] يحتمل (٣) هذا وجوها :

[أحدها](٤) : أي : لو بعثنا الرسول ملكا لجعلناه على صورة البشر ؛ لأنه لو كان على صورة الملائكة لصعقوا ودهشوا ؛ لأنه ليس في وسع البشر رؤية الملك على صورته.

ألا ترى أن جبريل (٥) ـ عليه‌السلام ـ إذا نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ينزل على صورته ، ولكن كان ينزل على صورة البشر (٦) ، حتى ذكر أنه كان ينزل عليه (٧) على صورة

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ١٥٢) (١٣٠٨٨) (١٣٠٨٩) (١٣٠٩٠) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٩) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبي الشيخ عن قتادة.

(٣) في ب : محتمل.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : جبرئيل.

(٦) قال العلماء رضي الله تعالى عنهم : كان الوحي ينزل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أحوال مختلفة :

الأولى : الرؤيا الصادقة في المنام ، قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ)[الصافات : ١٠٢] فدل على أن الوحي كان يأتيهم في المنام كما كان يأتيهم في اليقظة. وفي الصحيح عن عبيد بن عمير : رؤيا الأنبياء وحي» وقرأ هذه الآية.

الثانية : أن ينفث الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن روح القدس نفث في روعي : لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله ؛ فإن ما عند الله لن ينال إلا بطاعته». رواه ابن أبي الدنيا في كتاب ـ

٢٦

دحية الكلبي ، وأنه متى رآه على صورته صعق وتغير حاله ، فإذا رأوا ذلك في وجهه قالوا : إنه لمجنون (١) ، فقال : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) ويكون فيه ما في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اللبس به.

والثاني : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) ؛ لأنهم لا يعرفون صدقه ، فيحتاجون إلى الدلائل ، والآيات [التي] تدلهم على أنه ملك ، وعلى صدقه ، فذلك لا يعرف إلا بالبشر ؛ لأنهم [لا يعرفون صدقه](٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ...) الآية.

قالوا : لا يجوز إضافة اللبس إلى الله ـ تعالى ـ إلا على المجازاة للبس ، كالاستهزاء ،

__________________

ـ القناعة والحاكم. وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً)[الشورى : ٥١] هو أن ينفث في روعه بالوحي ، قال الحليمي : هذا هو الوحي الذي يخص القلب دون السمع.

الثالثة : أن يأتيه مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليه ، فيتلبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد ، وحتى إن راحلته لتبرك على الأرض.

روى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول».

الرابعة : أن يكلمه الله تعالى بلا واسطة من وراء حجاب في اليقظة كما في ليلة الإسراء على القول بعدم الرؤية.

الخامسة : أن يكلمه الله تعالى كفاحا بغير حجاب على القول بالرؤية ليلة الإسراء.

السادسة : أن يكلمه الله تعالى في النوم ، كما في حديث معاذ عند الترمذي : «أتاني ربي في أحسن صورة فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى».

السابعة : مجيء الوحي كدوي النحل ، روى الإمام والحاكم ، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا أنزل عليه يسمع عند وجهه كدوي النحل».

الثامنة : العلم الذي يلقيه الله تعالى في قلبه وعلى لسانه عند الاجتهاد في الأحكام.

وأما صفة حامله : فمجيء جبريل عليه الصلاة والسلام في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح يتناثر من أجنحته اللؤلؤ والياقوت ، وقد وقع ذلك مرتين : مرة في السماء ليلة المعراج ، ومرة في الأرض.

ومجيئه في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر وفي صورة دحية الكلبي. ومجيئه في صورة رجل غير دحية.

ونزول الوحي على لسان ملك الجبال ونزوله على لسان إسرافيل. ينظر سبل الهدى والرشاد (٢ / ٣٥٢ ـ ٣٥٥). وصحيح البخاري كتاب بدء الوحي ، ومسلم في كتاب الفضائل حديث (٨٧) ، وطبقات ابن سعد (١ / ١٩٧) ، والدارمي باب رقم (١٢) ، وأحمد (١٦٧).

(٧) في أ : إليه.

(١) في ب : مجنون.

(٢) في ب : لا يعرفونه ولا صدقه.

٢٧

والمكر ، والخداع (١).

ويحتمل قوله : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) أي : لو جعلناه ملكا للبسنا عليهم ما لبس [أولئك](٢) على صنيعهم (٣) ؛ حيث قالوا : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [المؤمنون : ٢٤] و (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [يس : ١٥] وغير ذلك من الكلام ، لكنا لا نفعل حتى لا يكون ذلك لبسا ؛ إذ ليس في وسعهم النظر إلى الملك ، ولو جعلنا ذلك ملكا لكان ذلك لبسا.

فإن قال لنا ملحد في قوله : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) [سألوا أن ينزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [ملك] وقال : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ)](٤) وأنتم تقولون : إنه قد أنزل عليه الملك ، وهو أخبر لو أنزل عليه الملك لقضي الأمر ، ولم يقض الأمر ، كيف لآيات لكم إنما اختار ذلك من نفسه ؛ لأن الله أنزل عليه ذلك.

قيل : إنهم إنما سألوا أن ينزل عليهم الملك ـ وإن لم يذكر في الآية السؤال ـ لما ذكر في آية أخرى ؛ كقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان : ٢١] أو سألوا أن

__________________

(١) تسمية الله تعالى بالأسماء توقيفية يتوقف إطلاقها على إذن الشرع ، ومعنى إذن الشرع وقوع الإطلاق بذلك الاسم في الكتاب أو السنة ، وذلك للاحتراز عما يوهم باطلا ، ولم يكتف في عدم إيهام الباطل بإدراك العقل بل توقف على إذن الشرع للاحتياط ، وليس النزاع في أسمائه الأعلام الموضوعة لذاته في اللغات كلفظة «الله» في العربية ولفظة «يزدان» في الفارسية ، فإنه لا نزاع في جواز إطلاقها من غير توقف على الإذن ، وإنما النزاع في الأسماء المأخوذة من الصفات والأفعال ، فذهب المعتزلة والكرامية إلى أنه إذا دل العقل على اتصافه تعالى بصفة وجودية أو سلبية جاز أن يطلق عليه تعالى اسم يدل على اتصافه تعالى بتلك الصفة ، سواء ورد بذلك الإطلاق إذن شرعي أو لم يرد ، وكذا الحال في الأفعال. قال القاضي أبو بكر : كل لفظ دل على معنى ثابت لله تعالى جاز إطلاقه عليه تعالى بلا توقيف إذا لم يكن إطلاقه موهما لما لا يليق بكبريائه ، فمن ثمة لم يجز أن يطلق عليه تعالى لفظة العارف ؛ لأن المعرفة قد يراد بها علم سبقه غفلة. وذهب الشيخ الأشعري ومتابعوه إلى أنه لا بد من التوقيف وهو المختار. والذي ورد به التوقيف في المشهور تسعة وتسعون اسما ، فقد ورد في الصحيحين «أن لله تعالى تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدة من أحصاها دخل الجنة» وليس في الصحيحين تعيين تلك الأسماء ، لكن البيهقي والترمذي عيناها في روايتيهما ، وإنما قيل في المشهور إذ قد ورد التوقيف بغيرها ، أما في القرآن فكالمولى والنصير والغالب والقاهر والقريب والرب والناصر والأعلى والأكرم وأحسن الخالقين وأرحم الراحمين وذي الطول وذي القوة وذي المعارج إلى غير ذلك ، وأما في الحديث فكالحنان والمنان. قال في شرح المواقف : وقد ورد في هذا الحديث في رواية ابن ماجه أسماء ليست في الرواية المشهورة كالتام والقديم والوتر والشديد والكافي وغيرها يعني أنه ذكر في رواية هذه الأسامي بدل بعض ما ذكر في رواية غيره والعدد بحاله. ينظر نشر الطوالع (٣ / ٣٠٩ ـ ٣١١).

وعليه فلا يجوز ماكر وخادع وغيرهما والله أعلم.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : ضعفهم.

(٤) سقط في أ.

٢٨

تأتيهم الملائكة وتأتيه ، قالوا : كيف يخصّ هو بإتيان الملائكة دوننا وهو كواحد منا ؛ كقوله : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الحجر : ٧] وهذا جائز أن يكون أسئلة لم تذكر ، ويكون في الجواب بيان ذلك ، على ما ذكرنا من قبل في غير موضع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

يصبر رسوله على تكذيب قومه ليعلم أنه ليس هو أول مكذب ، ولكن قد كذب الرسل الذين من قبلك ، ويخبره أنه يلحق هؤلاء بتكذيبك كما لحق أولئك بتكذيبهم الرسل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَحاقَ).

قال أبو عوسجة : «حاق» أي : رجع ، يقال : حاق يحيق حيقا ، أي : رجع عليهم (١).

وقال الكيساني : حاق بهم أي : [أحاط بهم ونزل](٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) ليس على الأمر بالسير في الأرض ، ولكن على الاعتبار والتفكر فيما نزل بأولئك بتكذيبهم الرسل ؛ لأنه ـ عزوجل ـ أراهم آيات عقلية وسمعية ، فلم ينفعهم ذلك ، فأراد أن يريهم آيات حسية (٣) ليمنعهم ذلك عن التكذيب والعناد.

قوله تعالى : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(١٣)

قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ).

يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يخرج مخرج البيان لهم [و] أنه ليس على الأمر ؛ لأنه لو كان على الأمر لكان يذكر سؤاله لهم ، ولم يذكر وإن سألهم ، لا يحتمل ألا يخبروه بذلك ، فلما لم يذكر

__________________

(١) ذكره الرازي في تفسيره (١٢ / ١٣٥) عن الفراء بلفظ (عاد عليهم). وبنحوه ابن جرير في تفسيره (٥ / ١٥٤).

(٢) ذكره ابن جرير في تفسيره (٥ / ١٥٤) ، وبنحوه الرازي في تفسيره (١٢ / ١٣٥) ولم ينسبه لأحد والبغوي في تفسيره (٢ / ٨٦) ، وعزاه للربيع بن أنس والضحاك وعطاء.

وفي ب : حاط ونزل.

(٣) من الحس وأهل الإحساس الإبصار كما في قوله تعالى (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) [مريم : ٩٨] أي هل ترى ، ثم استعمل في الوجدان والعلم بأي حاسة كانت من حواس الإنسان الخمس : السمع ، والبصر ، والشم ، والذوق ، واللمس. ينظر الفيومي في المصباح المنير (١ / ٥٢) (حسس).

٢٩

سؤاله لهم عن ذلك ، ولا يحتمل أن يأمره بالسؤال ثم لا يسأل ، أو يسأل هو ولا يخبرونه ـ فدل أنه على البيان خرج لا على الأمر.

والثاني : على أمر سبق ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) [المؤمنون : ٨٤ ، ٨٥] وكقوله : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ...) [المؤمنون : ٨٨] إلى قوله : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) [المؤمنون : ٨٩] وقوله : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرعد : ١٦] ونحوه ، كان على أمر سبق ، فسخرهم (١) ـ عزوجل ـ حتى قالوا : الله ؛ كقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] ذلك تسخير منه إياهم حتى قالوا : الله.

وفي حرف ابن مسعود ، وأبي بن كعب ـ رضي الله عنهما ـ (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) هذا يدل على أنه كان على أمر سبق.

وقال بعضهم (٢) : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : سلهم ، فإن أجابوك فقالوا : لله ، وإلا فقل لهم أنت : لله.

وقال قائلون : فإن سألوك لمن ما في السموات والأرض؟ قل لله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ).

قال الحسن : كتب على نفسه الرحمة للتوابين [إن شاء](٣) أن يدخلهم الجنة ، لا أحد يدخل الجنة بعمله ، إنما يدخلون الجنة برحمته ، وعلى ذلك جاء الخبر عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل أحد الجنة بعمله» قيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» (٤).

وقيل : كتب على نفسه الرحمة أن يجمعهم إلى يوم القيامة ، أي : من رحمته أن يجمعهم إلى يوم القيامة ، حيث جعل للعدو عذابا ، وللولي ثوابا ، أي : من رحمته أن يجمعهم جميعا ، يعاقب العدو ويثيب الولي.

وقيل (٥) : أي : من رحمته أن جعل لهم الجمع (٦) ، فأوعد العاصي العذاب ، ووعد

__________________

(١) في أ : فيخيرهم.

(٢) ذكره الرازي في تفسيره (١٢ / ١٣٦) بنحوه ، وكذا أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٨٥ ـ ٨٦).

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه بنحوه البخاري في صحيحه (١١ / ٣٠٠) كتاب الرقاق باب القصد والمداومة (٦٤٦٣) ومسلم (٤ / ٢١٦٩) كتاب صفات المنافقين باب لن يدخل أحد الجنة بعمله (٧١ ـ ٢٨١٦).

(٥) ذكره الرازي في تفسيره (١٢ / ١٣٧) بنحوه.

(٦) في ب : الجميع.

٣٠

المطيع الثواب ؛ ليمنع العاصي ذلك عن عصيانه ، وليرغب المطيع في طاعته ، وذلك من رحمته.

وقال قائلون : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) لأمة محمد ألا يعذبهم عند التكذيب ، ولا يستأصلهم ، كما عذب غيرهم من الأمم ، واستأصلهم عند التكذيب ، فالتأخير الذي أخراهم إلى يوم القيامة من الرحمة التي كتب [على نفسه](١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) قيل (٢) : (إِلى) صلة ، ومعناه : ليجمعنكم يوم القيامة.

وقيل (٣) : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي : ليوم القيامة ، كقوله : (لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) [آل عمران : ٩].

وقال قائلون (٤) : قوله : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) في القبور (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ثم يجمعكم يوم القيامة والقرون السالفة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا رَيْبَ) أي : لا ريب في الجمع والبعث بعد الموت عند من يعرف أن خلق الخلق للفناء خاصة ، لا للبعث والإحياء بعد الموت للثواب والعقاب ، ليس لحكمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) قد ذكرناه (٥).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) في الآية ـ والله أعلم ـ إنباء أن الخلق كلهم تحت قهر الليل والنهار وسلطانهما ، مقهورين مغلوبين ؛ إذ لم يكن لأحد من الجبابرة (٦) ، والفراعنة (٧) الامتناع عنهما ، ولا صرف أحدهما إلى الآخر ،

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ذكره الرازي في تفسيره (١٢ / ١٣٨) وابن عادل في اللباب (٨ / ٤٦).

(٣) ذكره أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط (٤ / ٨٦).

(٤) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٨٧).

(٥) في سورة النساء آية : [١١٩].

(٦) الجبار هو من يجبر نقيصته بادعاء منزلة لا يستحقها ، وهي غالبا للذم كما في قوله تعالى (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)[إبراهيم : ١٥] وقوله : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر : ٣٥] أي : متعال عن قبول الحق والإذعان له. ينظر عمدة الحفاظ (١ / ٣٤٦ ـ ٣٤٧).

(٧) فرعون : لقب كل من ملك مصر كالعزيز لكل من ملكه ، ويقال : أول من لقب به بمصر دفافة بن معاوية بن أبي بكر العمليقي ، وهو الذي وهب هاجر أم إسماعيل ، عليه‌السلام ، أو كل عات متمرد : فرعون ، والجمع : فراعنة.

ينظر التاج (فرعن).

٣١

بل يدركانهم ، شاءوا أو أبوا ، وسلطانهما جار عليهم ليعلموا أن لغير فيهما تدبيرا ، وأن قهرهما الخلق وسلطانهما كان بسلطان من له التدبير والعلم ، ثم جريانهما على سنن واحد [ومجرى واحد](١) يدل على أن منشئهما واحد ، ومدبرهما عليم حكيم.

وقال بعض أهل التأويل (٢) : (ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [الأنعام : ١٣] ما استقر في الليل والنهار ، من الدواب والطير ، في البر والبحر ، فمنها ما يستقر نهارا وينتشر ليلا ، ومنها ما يستقر بالليل وينتشر (٣) بالنهار.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) وذلك أن كفار أهل مكة أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : يا محمد ، إنا قد علمنا [أنه](٤) ما يحملك على هذا الذي تدعو إليه إلا الحاجة ، فنحن (٥) نجعلك في أموالنا حتى تكون أغنانا رجلا ، وترجع عما أنت عليه ؛ فنزلت : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ؛ لمقالة أولئك (٦).

(الْعَلِيمُ) من أين يرزقهم ، لكن الوجه فيه ما ذكرنا آنفا أن الخلق كلهم تحت قهرهما وسلطانهما.

وفيهما وجوه من الحكمة :

أحدها : بعض ما ذكرنا ليعلم أن مدبرهما واحد ، وفيه نقض قول الفلاسفة (٧) ؛ لأنهم

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ١٥٨) (١٣١١٢) عن السدي وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١١) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) يقال : انتشر النهار وغيره : طال وامتد. ينظر تاج العروس (١٤ / ٢١٨).

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : ونحن.

(٦) أخرجه بنحوه البيهقي في دلائل النبوة (٢ / ٢٠٣).

(٧) الفلسفة باليونانية محبة الحكماء ، والفيلسوف هو : فيلا وسوفا ، وفيلا هو المحب وسوفا هو الحكمة أي : هو محب الحكمة ، والحكمة قولية وفعلية. ينظر الملل والنحل للشهرستاني (٢ / ١٥٥)

واصطلاحا : أطلق قديما على دراسة المبادئ الأولى وتفسير المعرفة عقليا ، وتشتمل عند أرسطو الفلسفة النظرية العملية ، وقصرها الرواقيون على المنطق والأخلاق والطبيعة ، ويرى ابن سينا أن الغرض من الفلسفة الوقوف على حقائق الأشياء كلها ، سواء أكان وجودها باختيارنا أم خارجا عن إرادتنا ، وهي نظرية وعملية ، ويضع تحت النظرية : الطبيعيات والرياضيات والإلهيات ، وتحت العملية : تدبير المدينة وتدبير المنزل والأخلاق ، ومنذ القرن التاسع عشر أخذت العلوم تستقل شيئا فشيئا ، وأصبحت الفلسفة تقتصر اليوم على المنطق والأخلاق وعلم الجمال وما بعد الطبيعة وتاريخ الفلسفة.

ينظر : المعجم الفلسفي الصادر عن مجمع اللغة العربية ص (١٣٨).

٣٢

يقولون : الظلمة كثافة ستارة ، والنور دقيق (١) دراك.

وفيهما ما ذكر من المنافع بقوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً) [الفرقان : ٤٧] وغيره من المنافع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ السَّمِيعُ) لمن دعا له ، (الْعَلِيمُ) : بمصالح الخلق وحاجتهم.

قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)(١٨)

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(١٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ) وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : (ربا) ؛ كأن هذا صلة قوله : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) [الأنعام : ١٢] فإذا أقررتم أن ذلك كله لله فكيف تتخذون له شركاء فتعبدون غير الله وهو فاطر السموات والأرض ومنشئهما ومنشئ ما فيهما ، كيف صرفتم العبادة إلى غير الله؟

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ).

قال أهل التأويل : هو يرزق ولا يرزق ، ليس كمن له عبيد في الشاهد (٢) يرزق (٣) بعضهم بعضا ، الموالي من العبيد ، والعبيد من السادات ، ينتفع بعضهم من بعض ، فأما الله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق الخلق لا لمنفعة نفسه ؛ لأنه غني بذاته ، والخلق فقراء إليه ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر : ١٥].

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ).

قال الحسن : أول من أسلم من قومه (٤) ، وأصله : (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أي : أمرت أن أسلم وأخضع أنا أولا ، ثم آمركم بذلك.

__________________

(١) في أ : رقيق.

(٢) أي : عالم المشاهدة.

(٣) في الأصول : يرزقهم.

(٤) ذكره القرطبي في تفسيره (٦ / ٢٥٦).

٣٣

واحتج بعض الناس بظاهر هذه الآية أن الإسلام لا يلزم إلا بالأمر والدعاء إليه ، وقالوا : إن من مات قبل أن يؤمر به ، وقبل أن يدعي إليه ـ فإنه لا شيء عليه ، وعلى ذلك من مات في وقت الفترة وانقطاع الرسل والوحي ؛ لأنّه قال : (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أخبر أنه أمر بذلك ، وإذا لم يكن ثمّ أمر لم يلزم ، لكن الوجه في الآية ما ذكرنا ، أي : أمرت أن أسلم وأخضع أولا ثم آمر غيري ، فإذا كان التأويل هذا بطل أن يكون في ذلك حجة لهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : قل يا محمد لكفار (١) أهل مكة : (إِنِّي أَخافُ) ، أي أعلم (٢)(إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) فعبدت غيره ، (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

هذا التأويل صحيح إن كان ما ذكر من سؤالهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرضهم المال عليه ليعود ويرجع إلى دينهم ، فيخرج هذا على الجواب لهم (٣).

وقال بعضهم : قوله ـ تعالى ـ : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) على الخوف ، لكن لقائل أن يقول : كيف خاف عذاب يوم عظيم وقد أخبر أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! وكيف قال : (إِنْ عَصَيْتُ) وقد أخبر أنه عصمه وغفر له؟

قيل (٤) : يحتمل أن تكون المغفرة له على شرط الخوف ، غفر له ليخاف عذابه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) قال بعض المعتزلة :

الرحمة هاهنا : الجنة (٥) ؛ لأن الله ـ تعالى ـ جعل (٦) في الآخرة دارين ؛ إحداهما (٧) :

__________________

(١) في ب : للكفار.

(٢) ذكره القرطبي في تفسيره (٦ / ٢٥٦) وأبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٩١).

(٣) يقول العلامة القاسمي في محاسن التأويل : وفي الآية مبالغة أخرى في قطع أطماعهم ، وتعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب العظيم. ووجه التعريض إسناد ما هو معلوم الانتفاء ، ب (إن) التي تفيد الشك تعريضا. وجيء بالماضي إبرازا له في صورة الحاصل على سبيل الفرض ، تعريضا بمن صدر عنهم ذلك. وحيث كان تعريضا لهم ـ والمراد تخويفهم إذا صدر منهم ذلك ـ لم يكن فيه دلالة على أنه يخاف هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفسه المعصية ، مع أنه معصوم. كما لا يتوهم مثله في قوله : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر : ٦٥] وحينئذ فلا حاجة إلى ما أجيب عن ظاهر دلالته على ما ذكره ، بأن الخوف تعلق بالعصيان الممتنع الوقوع امتناعا عاديا ، فلا يدل إلا على أنه يخاف لو صدر عنه العصيان. وهذا لا يدل على حصول الخوف. ينظر : تفسير القاسمي : (٦ / ٤٧٦ ـ ٤٧٧).

(٤) قال الرازي في تفسيره (١٢ / ١٤١) : إن الآية لا تدل على أنه خاف على نفسه بل الآية تدل على أنه لو صدر عنه الكفر والمعصية فإنه يخاف وهذا القدر لا يدل على حصول الخوف.

(٥) قال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط (٤ / ٩١) : وهي النجاة من العذاب ، وإذا نجي من العذاب دخل الجنة. وقال الزمخشري في الكشاف (٢ / ١٠) : الرحمة العظمى هي النجاة.

(٦) زاد في ب : في من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه قلت.

(٧) في أ : أحدهما.

٣٤

النار ، سماها سخطا.

والأخرى : الجنة ، سماها رحمة.

وإنما حملهم على هذا أنهم لا يصفون الله بالرحمة في الأزل (١) ، فعلى قولهم يكون قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إلا أن يتغمدني الله برحمته» (٢) ، أي : يثيبني الجنة.

ولكن سميت الجنة رحمة عندنا لما برحمته يدخلون الجنة ، لا بأعمالهم ؛ لما روينا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «لا يدخل أحد الجنة بعمله» قيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» (٣).

__________________

(١) الأزل : بفتح الألف والزاي المعجمة دوام الوجود في الماضي ، كما أن الأبد دوامه في المستقبل ، وفي شرح الطوالع في بيان حدوث الأجسام : هو ماهية تقتضي اللامسبوقية بالغير ، وهذا معنى ما قيل : الأزل نفي الأولية.

وقيل : هو استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب الماضي ، انتهى.

والأزلي ما لا يكون مسبوقا بالعدم. والموجود أقسام ثلاثة لا رابع لها ؛ فإنه إما أزلي أبدي وهو الله سبحانه وتعالى ، أو لا أزلي ولا أبدي وهو الدنيا ، أو أبدي غير أزلي وهو الآخرة ، وعكسه محال فإن ما ثبت قدمه امتنع عدمه. ينظر كشاف اصطلاحات الفنون (١ / ١٢٢).

(٢) أخرجه البخاري (١١ / ٢٩٤) كتاب الرقاق ، (٦٤٦٣) ، ومسلم (٤ / ٢١٦٩) كتاب صفات المنافقين (٧١ / ٢٨١٦).

وزاد في أ : فيصير تقديره : لا يدخل أحد الجنة إلا برحمته.

(٣) قال ابن بطال في الجمع بين هذا الحديث وقوله تعالى : (تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : ٤٣] ما محصله أن تحمل الآية على أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال ، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال ، وأن يحمل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها. ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل : ٣٢] فصرح بأن دخول الجنة أيضا بالأعمال ، وأجاب بأنه لفظ مجمل بينه الحديث ، والتقدير : ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون ، وليس المراد بذلك أصل الدخول.

ثم قال : ويجوز أن يكون الحديث مفسرا للآية ، والتقدير : ادخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم ؛ لأن اقتسام منازل الجنة برحمته ، وكذا أصل دخول الجنة هو برحمته حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك ، ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله ، وقد تفضل عليهم ابتداء بإيجادهم ثم برزقهم ثم بتعليمهم. وقال عياض : طريق الجمع أن الحديث فسر ما أجمل في الآية ، فذكر نحوا من كلام ابن بطال الأخير وأن من رحمة الله توفيقه للعمل وهدايته للطاعة وكل ذلك لم يستحقه العامل بعمله ، وإنما هو بفضل الله وبرحمته. وقال ابن الجوزي : يتحصل عن ذلك أربعة أجوبة ؛ الأول : أن التوفيق للعمل من رحمة الله ، ولو لا رحمته السابقة ما حصل الإيمان ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة. الثاني : أن منافع العبد لسيده فعمله مستحق لمولاه ، فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله. الثالث : جاء في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة برحمة الله ، واقتسام الدرجات بالأعمال. الرابع : أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير والثواب لا ينفد فالإنعام الذي لا ينفد في جزاء ما ينفد بالفضل لا بمقابلة الأعمال. وقال الكرماني : الباء في قوله : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الأعراف : ٤٣] ليس للسببية بل للإلصاق أو المصاحبة ، أي أورثتموها ملابسة أو مصاحبة ، أو للمقابلة نحو أعطيت الشاة بالدرهم ، وبهذا ـ

٣٥

وعلى قول المعتزلة فيكون الله بالملائكة رحيما لأنه [.....](١) ولا ثواب ، ولكن الوجه فيه ما ذكرنا أنها سميت رحمة لما برحمته يدخل فيها.

وعلى هذا يخرج ما سمي المطر رحمة لما برحمته ينزل ، وكذلك كل ما سمي رحمة

__________________

ـ الأخير جزم الشيخ جمال الدين ابن هشام في المغني فسبق إليه فقال : ترد الباء للمقابلة وهي الداخلة على الأعواض كاشتريته بألف ، ومنه (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[النحل : ٣٢] وإنما لم تقدر هنا للسببية كما قالت المعتزلة وكما قال الجميع في «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» لأن المعطي بعوض قد يعطي مجانا بخلاف المسبب فلا يوجد بدون سبب ، قال : وعلى ذلك ينتفي التعارض بين الآية والحديث. قال الحافظ ابن حجر : سبقه إلى ذلك ابن القيم فقال في كتاب مفتاح دار السعادة : الباء المقتضية للدخول غير الباء الماضية ، فالأولى السببية الدالة على أن الأعمال سبب الدخول المقتضية له كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها ، والثانية بالمعاوضة نحو اشتريت منه بكذا فأخبر أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد ، وأنه لو لا رحمة الله لعبده لما أدخله الجنة لأن العمل بمجرده ولو تناهى لا يوجب بمجرده دخول الجنة ولا أن يكون عوضا لها ؛ لأنه ولو وقع على الوجه الذي يحبه الله لا يقاوم نعمة الله ، بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة ، فتبقى سائر نعمه مقتضية شكرها وهو لم يوفها حق شكرها ، فلو عذبه في هذه الحالة لعذبه وهو غير ظالم ، وإذا رحمه في هذه الحالة كانت رحمته خيرا من عمله كما في حديث أبي بن كعب الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه في ذكر القدر ففيه «لو أن الله عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم ....» الحديث ، قال وهذا فصل الخطاب مع الجبرية الذين أنكروا أن تكون الأعمال سببا في دخول الجنة من كل وجه ، والقدرية الذين زعموا أن الجنة عوض العمل وأنها ثمنه وأن دخولها بمحض الأعمال ، والحديث يبطل دعوى الطائفتين والله أعلم. قلت : وجوز الكرماني أيضا أن يكون المراد أن الدخول ليس بالعمل ، والإدخال المستفاد من الإرث بالعمل ، وهذا إن مشي في الجواب عن قوله تعالى : (أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) لم يمش في قوله تعالى : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ويظهر لي في الجمع بين الآية والحديث جواب آخر وهو أن يحمل الحديث على أن العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولا. وإذا كان كذلك فأمر القول إلى الله تعالى ، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه ، وعلى هذا فمعنى قوله : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي تعملونه من العمل المقبول ، ولا يضر بعد هذا أن تكون الباء للمصاحبة أو للإلصاق أو المقابلة ، ولا يلزم من ذلك أن تكون سببية. ثم رأيت النووي جزم بأن ظاهر الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال ، والجمع بينهما وبين الحديث أن التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها إنما هو برحمة الله وفضله ، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل ، وهو مراد الحديث ، ويصح أنه دخل بسبب العمل وهو من رحمة الله تعالى ـ ورد الكرماني الأخير بأنه خلاف صريح الحديث. وقال المازري : ذهب أهل السنة إلى أن إثابة الله تعالى من أطاعه بفضل منه ، وكذلك انتقامه ممن عصاه بعدل منه ، ولا يثبت واحد منهما إلا بالسمع ، وله سبحانه وتعالى أن يعذب الطائع وينعم العاصي ، ولكنه أخبر أنه لا يفعل ذلك وخبره صدق لا خلف فيه. وهذا الحديث يقوي مقالتهم ويرد على المعتزلة حيث أثبتوا بعقولهم أعواض الأعمال ، ولهم في ذلك خبط كثير وتفصيل طويل.

ينظر فتح الباري للحافظ ابن حجر (١٣ / ٨٥ ـ ٨٦).

(١) بياض في الأصل ، ولعله (لأنه لا عقاب هناك).

٣٦

في الشاهد يخرج على ما ذكرنا ، والله أعلم.

ثم قوله : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ).

قيل (١) : من يصرف عنه العذاب يومئذ فقد رحمه ، وكذلك روي في حرف حفصة (٢) :

من يصرف عنه العذاب فقد رحمه ، وفي حرف ابن مسعود : من يصرف عنه شر ذلك اليوم فقد رحمه.

ويحتمل أن يكون قوله : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) صلة قوله : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

وكذلك روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال في قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنِّي أَخافُ) : قل لكفار أهل مكة حين دعوة إلى دينهم ، على ما ذكر في بعض القصة : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ).

وذلك الصرف ـ يعني : صرف العذاب ـ الفوز المبين ، وإنما ذكره ـ والله أعلم ـ فوزا مبينا ؛ لأنه فوز دائم ، لا زوال له ، وليس كفوز هذه الدنيا يكون في وقت ثم يزول عن قريب ، ولا كذلك فوز الآخرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ).

فيه إخبار أن ما يصيب العبد من الضرّ والخير إنما يصيب به ، ثم الضر المذكور في الآية لا يخلو من أن يراد [به] سقم (٣) النفس ، أو ضيق العيش ، أو شدة وظلم يكون من

__________________

(١) أخرجه بنحوه ابن جرير (٥ / ١٦٠) (١٣١١٨) عن قتادة وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٢) وزاد نسبه لعبد الرزاق وابن أبي حاتم.

(٢) هي : حفصة بنت عمر أمير المؤمنين وأمها زينب بنت مظعون روت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن عمر ، وروى عنها أخوها عبد الله وابنه حمزة وزوجته صفية بنت أبي عبيد وحارثة بن وهب والمطلب بن أبي وداعة وأم مبشر الأنصارية وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وغيرهم. وكانت قبل أن يتزوجها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند حصن بن حذافة وكان ممن شهد بدرا ومات بالمدينة فانقضت عدتها فتزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد عائشة. وتوفيت رضي الله عنها سنة ٤١ ه‍ وقيل سنة ٤٥ ه‍ ، وقيل سنة ٢٧ ه‍ ، حكاه أبو بشر الدولابي وهو غلط. ينظر : الإصابة (٨ / ٥١) ت (٢٩٤) ، الاستيعاب (٢ / ٧٣٤) ت (٣٢٤٨).

(٣) يقصد به مرض النفس ، ويقال : أسقمه الداء إسقاما : أمرضه ، نقله الجوهري. وسقمه تسقيما كذلك : قال ذو الرمة :

هام الفؤاد بذكراها وخامرها

منها على عدواء الدار تسقيم

والمسقام كالسقيم. وفي الصحاح : هو الكثير السقم.

والأنثى مسقام أيضا. وهذه عن اللحياني. وأسقم الرجل : سقم أهله وترادفت عليه الأسقام ، ورجل سقيم مسقم : سقم هو وأهله.

ومن المجاز : قلب سقيم ، وكلام سقيم ، وفهم سقيم ، وهو سقيم الصدر عليه : أي : حاقد.

ينظر : تاج العروس (٣٢ / ٣٦٩).

٣٧

العباد لا يخلو من هذه الأوجه الثلاثة ، فإذا كان كذلك فدل إضافة ذلك إلى الله ـ تعالى ـ على أن لله فيه فعلا ، وهو أن خلق فعل ذلك منهم ، فهو على كل شيء قدير من كشف الضر له ، والصرف عنه ، وإصابة الخير لا يملك ذلك غيره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).

في هذه الآية والآية الأولى ذكر أهل التوحيد ؛ لأنه أخبر أن ما يصيب العباد من الضر والشدة لا كاشف لذلك إلا هو ، ولا يدفع ذلك عنهم ولا يصرفه إلا الله ، وأن ما يصيبهم من الخير إنما يصيبهم بذلك الله ، وأخبر أنه على كل شيء قدير.

وفي قوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) إخبار أنه قاهر يقهر الخلق ، عزيز ، قادر ، وله سلطان عليهم ، وأنهم أذلاء تحت سلطانه.

وفي قوله : (فَوْقَ عِبادِهِ) إخبار بالعلوية ، والعظمة ، وبالتعالي عن أشباه الخلق.

(وَهُوَ الْحَكِيمُ) : يضع كل شيء موضعه (١).

(الْخَبِيرُ) : بما يسرون وما يعلنون ، إخبار ألّا يخفى عليه شيء ، وأنه يملك وضع كل شيء موضعه ، وأن ما يصيبهم من الضر والشدة إنما يكون به ، لا يملك أحد صرفه ، وأن [ما](٢) ضر أحد أحدا في الشاهد ، أو نفع أحد أحدا إنما يكون ذلك بالله في الحقيقة.

وفي هذه الأحرف : إخبار عن أصل التوحيد وما يحتاج إليه لما ذكرنا من الوصف له بالقدرة والقهر ، والوصف له بالعلو والعظمة ، والتعالي عن أشباه الخلق ، والوصف له بالحكمة في جميع أفعاله ، والعلم بكل ما كان ويكون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً).

كأن في الآية إضمارا (٣) ـ والله أعلم ـ أي (قُلْ) يا محمد (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) ،

__________________

(١) أي ذو الحكمة وهي العلم بالأشياء على ما هي عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغي. ينظر نشر الطوالع (ص / ٣٢٢).

(٢) سقط في أ.

(٣) الإضمار على شريطة التفسير : هو أن يحذف من صدر الكلام ما يؤتى به في آخره ، فيكون الآخر دليلا على الأول.

وقد قسم ابن الأثير هذا الفن إلى ثلاثة أقسام :

الأول : أن يأتي على طريق الاستفهام ، فتذكر الجملة الأولى دون الثانية كقوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)[الزمر : ٢٩] بمعنى : أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن أقسى قلبه ، ويدل على المحذوف قوله : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ).

الثاني : يرد على حد النفي والإثبات ؛ كقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا)[الحديد : ١٠] بمعنى : لا يستوي منكم من أنفق من ـ

٣٨

فيقولون : الله ؛ لأنهم كانوا يقرون أنه خالق السموات والأرض ، وأنه أعظم من كل شيء ؛ لكنهم (١) يشركون غيره في عبادته ، ويقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] وإلا كانوا يقرون بالعظمة له والجلال ، فإذا سئلوا : (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) ، فيقولون : الله.

ويحتمل ـ أيضا ـ أن يقول لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنهم إذا سألوا : (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً)؟ قل : الله ، فإنك إذا قلت لهم ذلك يقولون هم أيضا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ).

في كل اختلاف بيننا وبينكم في التوحيد ، والبعث بعد الموت ، ونحوه.

ويحتمل : (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) في كل حجة وبرهان أتاهم الرسول به.

وفي قوله : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ) دلالة أنه يقال له شيء ؛ لأنه لو لم يجز أن يقال له شيء لم يستثن الشيء منه (٢) ، وكذلك في قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] أنه

__________________

ـ قبل الفتح وقاتل ومن أنفق من بعده وقاتل ، ويدل على المحذوف قوله : (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا).

الثالث : أن يرد على غير هذين الوجهين ، فلا يكون استفهاما ، ولا نفيا وإثباتا ، وذلك كقول أبي تمام : [الكامل]

يتجنب الآثام ثم يخافها

فكأنما حسناته آثام

وقال ابن الأثير : وكنت سئلت عن معناه ، وقيل : كيف ينطبق عجز البيت على صدره ، وإذا تجنب الآثام وخافها فكيف تكون حسناته آثاما؟ ينظر المعجم المفصل ص (١٥٦ ـ ١٥٧)

(١) في ب : لكنه.

(٢) قال القاسمي : استدل الجمهور بقوله تعالى (قُلِ اللهُ) في جواب (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) على جواز إطلاق (الشيء) عليه تعالى. وكذا بقوله سبحانه وتعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] ، فإن المستثنى يجب أن يدخل تحت المستثنى منه ، وذلك لأن الشيء أعم العام ـ كما قال سيبويه ـ لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه. واختار الزمخشري شموله حتى للمستحيل. وصرح كثير من المحققين بأنه يختص بالموجود ، وضعفوا من أطلقه على المعدوم ، بأنه محجوج بعدم استعمال العرب ذلك ، كما علم باستقراء كلامهم ، وبنحو (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ، إذ المعدوم لا يتصف بالهلاك ، وبنحو : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)[الإسراء : ٤٤] إذ المعدوم لا يتصور منه التسبيح.

قال الناصر في الانتصاف : هذه المسألة معدودة من علم الكلام باعتبار ما ، وأما هذا البحث فلغوي ، والتحاكم فيه لأهل اللغة وظاهر قولهم : غضبت من لا شيء.

 .............................................. .

إذا رأى غير شيء ظنه رجلا

أن الشيء لا يطلق إلا على الموجود ، إذ لو كان الشيء كل ما يصح أن يعلم ، عدما كان أو وجودا ، أو ممكنا أو مستحيلا ، لما صدق على أمر ما أنه ليس بشيء ، والأمر في ذلك قريب.

هذا ، وتمسك من منع إطلاقه عليه تعالى بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)[الأعراف : ١٨٠] والاسم إنما يحسن لحسن مسماه ، وهو أن يدل على صفة من صفات الكمال ، ونعت من نعوت الجلال. ولفظ (الشيء) أعم الأشياء ، فيكون مسماه حاصلا في ـ

٣٩

شيء ؛ لأن «لا شيء» في الشاهد ، إنما يقال إما للنفي أو للتصغير ، ولا يجوز في الغائب النفي ولا التصغير ؛ فدل أنه إنما يراد ب «الشيء» الإثبات لا غير وبالله العصمة.

ذكر في بعض القصّة في قوله : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) أن رؤساء مكة أتوا رسول الله ، فقالوا : يا محمد ، أما وجد الله رسولا يرسله غيرك ، ما ترى (١) أحدا يصدقك بما تقول ، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر ، ولا صفة ، ولا مبعث ، فأرنا من شهد لك أنك رسول الله [كما تزعم](٢). فقال الله ـ تعالى ـ : يا محمد ، قل لهم : (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) ، يقول : أعظم شهادة ؛ يعني : البرهان ، محمد حجة وبرهان (٣) ، فإن أجابوك فقالوا : الله ، وإلا فقل لهم : الله أكبر شهادة من خلقه أني رسوله ، والله شهيد بيني وبينكم في كل اختلاف بيننا وبينكم ، في التوحيد ، وإثبات الرسالة ، والبعث ، وكل شيء (٤).

وذكر في هذه القصة أنهم لما قالوا : من يشهد أن الله أرسلك رسولا ، قالوا : فهلا أنزل إليك ملك. فقال الله لنبيّه : [قل لهم : (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً)؟ فقالوا : الله أكبر شهادة من غيره ، فقال الله :](٥) قل لهم يا محمد : الله شهيد بيني وبينكم أني رسول الله ، وأنه أوحى إليّ هذا القرآن لأنذركم به ، ومن بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له.

ثم قال لهم : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) ، قالوا : نعم ، نشهد. فقال الله لنبيّه : قل لهم : لا أشهد بما شهدتم ، ولكن أشهد أنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون (٦).

__________________

ـ أحسن الأشياء وفي أرذلها. ومتى كان كذلك ، لم يكن المسمى بهذا اللفظ صفة من صفات الكمال ، فوجب ألا يجوز دعوة الله بهذا الاسم ؛ لأنه ليس من الأسماء الحسنى ، وقد أمر تعالى بأن يدعى بها. وأجيب : بأن كونه ليس من الأسماء الحسنى ، لكونها توقيفية ، وكونه لا يدعى به لعدم وروده ـ لا ينافي شموله للذات العلية ، شمول العام. والمراد بإطلاقه عليه تعالى (فيما تقدم) شموله ، لا تسميته به. وبالجملة فلا يلزم من كونه ليس من الأسماء الحسنى ، ألا يشمل الذات المقدسة شمولا كليّا ، كيف وهو من الموضوعات العامة؟ والتحاكم للغويين في ذلك.

ينظر تفسير القاسمي (٦ / ٤٨١ ـ ٤٨٣) ، والإملاء لأبي البقاء العكبري (١ / ٢٣٧) واللباب لابن عادل (٨ / ٦٤).

(١) في ب : نرى.

(٢) سقط في أ.

(٣) زاد في ب : وكل شيء حجة وبرهان.

(٤) ذكره الرازي في تفسيره (١٢ / ١٤٥ ـ ١٤٦) وعزاه لابن عباس ، وابن عادل في اللباب (٨ / ٦٤) وعزاه للكلبي.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : تعملون.

٤٠