تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

وجاوزه يقال : فحش ؛ فعلى ذلك الفحشاء ـ هاهنا ـ هو ما جاوز حده في القبح ، أو جاوز الحد من الكثرة ، وهم قد أكثروا الافتراء على الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

قال بعضهم : بل تقولون على الله ما لا تعلمون : إنه أمر بذلك.

وقيل : قوله : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ) أي : تعلمون أنكم تقولون على الله ما لا تعلمون ؛ لأنهم لم يكونوا يؤمنون بالرسل ، ولا كان لهم كتاب ، فكيف تعلمون أن الله أمركم بذلك ، وهو كقوله : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [يونس : ١٨] لا يجوز ألا يعلم الله ، ولكن على النفي لذلك ، ليس كما تقولون وتنبئون ، ولكن يعلم خلاف ذلك وضده ، ويكون في نفي ذلك إثبات غيره ؛ فعلى ذلك يعلمون (١) أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون.

وأسباب العلم بهذا (٢) : إما الرسل يخبرون عن الله ذلك ، وإما الكتاب يجدونه (٣) فيه مكتوبا ، فيعلمون فتتسع (٤) الشهادة بذلك ، وهم قوم لا يصدقون الرسل ، ولا يؤمنون بخبرهم ، وليس لهم كتاب ـ أيضا ـ يقرءونه ، فما بقي إلا وحي الشيطان إليهم ؛ كقوله : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) [الأنعام : ١٢١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ).

والقسط : هو العدل في كل شيء : في القول والفعل وغيره ، كقوله : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) [الأنعام : ١٥٢] ، وكقوله ـ تعالى ـ : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) [النساء : ١٣٥] ، وأصل العدل (٥) : هو محافظة الشيء على الحد الذي جعل له ، ووضعه (٦) موضعه.

__________________

(١) في أ : لا يعلمون.

(٢) في ب : هذا.

(٣) في ب : يجدون.

(٤) في ب : فيسع.

(٥) العدل خلاف الجور ، وهو في اللغة : القصد في الأمور ، وهو عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط ، والعدل من الناس : هو المرضي قوله وحكمه ، ورجل عدل : بين العدل والعدالة ، وصف بالمصدر ، معناه : ذو عدل.

والعدل يطلق على الواحد والاثنين والجمع ، ويجوز أن يطابق في التثنية والجمع فيقال : عدلان ، وعدول ، وفي المؤنثة : عدلة.

والعدالة : صفة توجب مراعاتها الاحتراز عما يخل بالمروءة عادة في الظاهر.

والعدل في اصطلاح الفقهاء : من تكون حسناته غالبة على سيئاته. وهو ذو المروءة غير المتهم.

ينظر : لسان العرب (عدل) ، المصباح المنير (عدل) ، ومغني المحتاج (٤ / ٤٢٧) ، وكشاف القناع (٦ / ٤١٨) ، والقوانين الفقهية ص (٣٠٣) ، ومعين الحكام ص (٨٢).

(٦) في ب : وضعه.

٤٠١

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).

اختلف فيه ؛ قيل (١) : (أَقِيمُوا) ، أي : سووا وجوهكم نحو الكعبة ، (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) ، أي : في كل مكان تكونون فيه ، وهو كقوله : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) [يونس : ٨٧] أي : اجعلوا بيوتكم نحو الكعبة ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة : ١٤٤].

وقيل (٢) : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ) ، أي : اجعلوا عبادتكم لله ، ولا تشركوا فيها غيره ؛ كقوله : (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ، ويشبه أن يكون الوجه كناية وعبارة عن الأنفس ؛ كأنه قال : أقيموا أنفسكم لله ، لا تشركوا فيها لأحد شركا كقوله : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) [لقمان : ٢٢] أي (٣) بجعل نفسه لله سالما.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).

يحتمل الدعاء نفسه ، أي : ادعوه ربّا خالقا ورحمانا ، (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) : بالوحدانية والألوهية والربوبية.

ويحتمل قوله : (وَادْعُوهُ) ، أي : اعبدوه مخلصين له العبادة ، ولا تشركوا غيره فيها.

ويحتمل : أي دينوا بدينه الذي دعاكم إلى ذلك وأمركم به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).

قال قائلون : هو صلة قوله : (فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) [الأعراف : ٢٥] ؛ كأنهم سألوا مما يعودون إذا بعثوا ، فقال : (كَما بَدَأَكُمْ) : خلقكم ، (تَعُودُونَ) مثله.

ويحتمل أن يكون هو صلة قوله : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التغابن : ٢] ، يعودون كما كانوا في البداءة : الكافر كافرا ، والمؤمن مؤمنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) : هو من الدائمة ، ليس من الابتداء (٤) ؛ لأنه

__________________

(١) أخرجه بمعناه ابن جرير (٥ / ٤٦٤) (١٤٤٧٧ ، ١٤٤٧٨ ، ١٤٤٨٠) عن مجاهد ، و (١٤٤٧٩) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٤٣) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد ، ولابن أبي حاتم عن أبي العالية.

(٢) أخرجه بمعناه ابن جرير (٥ / ٤٦٥) (١٤٤٨٢ ، ١٤٤٨٣) عن الربيع بن أنس ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٤٣) وعزاه لابن أبي حاتم عن أبي العالية.

(٣) في أ : أتى.

(٤) قال الفارسي : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف : ٢٩] ليس على ظاهره ؛ إذ ظاهره : تعودون على البدء ، وليس المعنى تشبيههم بالبدء ؛ إنما المعنى على إعادة الخلق كما ابتدأ ، فتقدير (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) : كما بدأ خلقكم ، أي : يحيي خلقكم عودا كبدئه ، وكما أنه لم يعن بالبدء ظاهره من غير حذف المضاف إليه ، كذلك لم يعن بالعود من غير حذف المضاف الذي هو الخلق ، فلما حذف قام المضاف إليه مقام الفاعل ؛ فصار الفاعلون مخاطبين. كما أنه لما حذف المضاف من قوله : «كما ـ

٤٠٢

لا يجوز أن يقال لصبي : كافر أو مؤمن ، وهو الدوام والمقام فيه إلى وقت الموت ، وهو في [الدنيا] البداءة ، وفي الآخرة الإعادة ، وهو كقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [الروم : ٢٧] ، وقوله : (يَبْدَؤُا) ليس يريد ابتداء نشوئه ؛ ولكن كونه في الدنيا ؛ فعلى ذلك قوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ...) الآية ، يخرج على وجهين :

أحدهما ، أي : كما كنتم في الدنيا تعودون في الآخرة كذلك : المؤمن مؤمن والكافر على كفره.

والثاني : كما أنشأكم في الدنيا لا (١) من شيء ؛ فعلى ذلك يبعثكم كذلك (٢) ، لا يعجزه شيء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَرِيقاً هَدى).

بما هداهم الله بفضله.

(وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ).

بما اختاروا من فعل الضلال ؛ فأضلهم الله ؛ كقوله : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) [الرعد : ٢٧] ، وقوله : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) [الأعراف : ١٨٦].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ).

__________________

ـ بدأ خلقكم» صار المخاطبون مفعولين في اللفظ.

قال شهاب الدين : يعني أن الأصل : كما بدأ خلقكم يعود خلقكم ، فحذف «الخلق» في الموضعين ، وصار المخاطبون في الأول مفعولين بعد أن كانوا مجرورين بالإضافة أيضا ، وفي الثاني صاروا فاعلين بعد أن كانوا مجرورين بالإضافة. و «بدأ» بالهمز : أنشأ واخترع ، ويستعمل بهذا المعنى ثلاثيا ورباعيا على «أفعل» ، فالثلاثي كهذه الآية ، وقد جمع بين الاستعمالين في قوله تعالى :

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) [العنكبوت : ١٩] فهذا من «أبدأ» ، ثم قال : (كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) [العنكبوت : ٢٠] ، هذا فيما يتعدى بنفسه.

وأما ما يتعدى بالباء نحو : بدأت بكذا ، بمعنى : قدمته وجعلته أول الأشياء ، فيقال منه : بدأت به ، وابتدأت به.

وحكى الراغب أيضا أنه يقال من هذا : أبدأت به ، على «أفعل» ، وهو غريب.

وقولهم : أبدأت من أرض كذا ، أي : ابتدأت منها بالخروج. والبدء : السيد ، سمي بذلك ؛ قيل : لأنه يبدأ به في العد إذا عد السادات ، وذكروا عليه قوله :

فجئت قبورهم بدءا ولما

فناديت القبور فلم يجبنه

أي جئت قبور قومي سيدا ولم أكن سيدا ، لكن بموتهم صيّرت سيدا ، وهذا ينظر لقول الآخر :

خلت الديار فسدت غير مسود

ومن العناء تفردي بالسؤدد

ينظر : اللباب في علوم الكتاب (٩ / ٨٢ ـ ٨٣) ، والدر المصون (٣ / ٢٥٨).

(١) في أ : إلا.

(٢) في أ : لذلك.

٤٠٣

فيه [دلالة](١) لزوم الحجة والدليل فى حال الحسبان والظن إذا كان بحيث الإدراك والوصول إليه ؛ لأنه قال : (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٣٧] فيه أنهم عند أنفسهم مهتدون ، ولم يكونوا ، ثم عوقبوا على ذلك ؛ دل أن الدليل والحجة قد يلزم ، وإن لم يعرف بعد أن [كيف] يكون سبيل الوصول إلى ذلك ، وهذا يرد قول من يقول بأن فرائض الله لا تلزم (٢) إلا بعد العلم بها والمعرفة.

قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٣٣)

قوله ـ عزوجل ـ : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).

يحتمل أن يكون الخطاب ـ وإن خرج مخرج الأمر ـ بأخذ الزينة واللباس ، فهو على النهي عن نزعها ؛ لأن الناس يكونون آخذين الزينة وساترين عوراتهم غير بادين بها فإذا كان كذلك فهو على النهي عن نزع لباسهم وإبداء عوراتهم ، وهو ما ذكر في بعض القصّة أن أهل الشرك كانوا إذا طافوا بالبيت نزعوا ثيابهم ، ويقولون : لا نطوف في ثيابنا التي أذنبنا فيها ، فإن كان التأويل [ما](٣) قال ابن عباس (٤) وهؤلاء : فيكون فيه إضمار ؛ كأنه قال : خذوا زينتكم عند هذا المسجد ، كما تأخذون عند كل مسجد سواء.

وإلا خرج تأويل الآية على وجوه :

أحدها : يقول : صلوا في كل مسجد ، ذكر هذا لمن لا يرى الصلاة إلا في مسجده ، على ما روي : «أن لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» (٥).

والثاني : [يقول](٦) : صلوا بكل مسجد ، وبكل مكان ؛ كقوله ـ عليه‌السلام ـ :

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : لا يلزم.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٦٩) (١٤٥٠٩ ، ١٤٥١٠) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٤٥) وزاد نسبته لابن أبي شيبة ومسلم والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي.

(٥) أخرجه الدارقطني (١ / ٤١٩ ـ ٤٢٠) عن جابر وأبي هريرة ، وقال الحافظ في التلخيص (٢ / ٦٦) : هو ضعيف ليس له إسناد ثابت.

(٦) سقط في أ.

٤٠٤

«جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» (١).

والثالث : بجعل (٢) الزينة العبادة نفسها ؛ بقوله : (خُذُوا زِينَتَكُمْ).

ويحتمل ما ذكره أهل التأويل : كانوا يستعيرون من أهل مكة ثيابا يطوفون فيها ، فإن لم يجدوا بها طافوا فيها عراة بادين عوراتهم ، فنهاهم الله ـ تعالى ـ عن ذلك (٣) ، وقال : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) ، أي : لا تنزعوا ثيابكم التي على عوراتكم ؛ فهو على النهي عن نزع الثياب وإبداء العورة ، وكذلك قوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا).

يخرج على النهي عما حرموا على أنفسهم من أنواع المنافع والنعم التي أحل الله لهم : من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ، ومن نحو ما حرموا من الزرع والطعام ، وكقوله : (وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) الآية [الأنعام : ١٣٨] ، خرج قوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) على النهي عما حرموا مما أحل لهم ، لا على الأمر بالأكل والشرب ؛ [لأن كل أحد يأكل ويشرب](٤) ولا يدع ذلك ؛ فدل أنه خرج على النهي عما حرموا ؛ كأنه قال : لا تحرموا [ما تحرمون](٥) ولكن كلوا واشربوا وانتفعوا بها.

فإن كان على ابتداء الأمر بأخذ الزينة ، فهو ـ والله أعلم ـ أمر بأخذ الزينة والتجمل عند كل مسجد ، والمسجد هو مكان كل عبادة ونسك (٦) ، على ما يكون (٧) في غير ذلك من الأوقات يتزينون ويتجملون (٨) عند اجتماع الناس ؛ فعلى ذلك يكونون في مكان العبادة والنسك.

أو أن يكون لما في المسجد من اجتماع الناس للعبادة ، فأمروا بستر عوراتهم في ذلك.

__________________

(١) أخرجه البخاري (١ / ٥١٩) كتاب : التيمم ، أول باب فيه (٣٣٥) وأطرافه (٤٣٨ ، ٣١٢٢) ، ومسلم (١ / ٣٧٠ ـ ٣٧١) كتاب المساجد ومواضع الصلاة (٣ / ٥٢١) عن جابر بن عبد الله.

(٢) في ب : نجعل.

(٣) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٤٦) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة ، وعزاه أيضا لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن طاوس بنحوه.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

(٦) المسجد ـ بالكسر ـ : موضع السجود ، والذي يصلّى فيه ، شاذ قياسا لا استعمالا ، وهو أخفض محط القائم.

ينظر : لسان العرب (سجد) ، الكليات (٤ / ٣٠١) ، والمفردات (٣٢٨) التوقيف على مهمات التعاريف (٦٥٤).

(٧) في ب : يكونون.

(٨) في أ : تجملون.

٤٠٥

ويكون قوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) ، أي : كلوا واشربوا واحفظوا الحدّ في ذلك ولا تجاوزوه ، وهو نهي عن الكثرة.

أو ما (١) ذكرنا أنه نهاهم عن التحريم وترك الانتفاع بها ، وفي تحريم ما أحل الله وترك الانتفاع بها إسراف.

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) ؛ لأنه لا يحب الإسراف ، وقد ذكرنا أن المفروض من الستر هو ما يستر به العورة ، وأما غيره فإنما هو على دفع الأذى والتجمل.

ألا ترى أنه قال : (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) [الأعراف : ٢٧] ، وقال : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) [الأعراف : ٢٦] ، منّ علينا بما أنزل مما نستر (٢) به عوراتنا ، وإن كانت له (٣) المنة في الكل ، وذلك [ـ أيضا ـ](٤) قبيح في الطبع أن ينظر أحد إلى عورة آخر ، وعلى ذلك جاءت الآثار في الأمر بستر العورة ، روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «احفظ عورتك ، إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك» ، فقيل : يا رسول الله ؛ فإن كان بعضنا في بعض ، فقال : «إن استطعت ألا تظهر عورتك فافعل» ، فقيل : فإذا كان أحدنا خاليا ، فقال : «فالله أحق أن يستحيا منه» (٥).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا المرأة إلى عورة المرأة» (٦) ، ومثله كثير ، وفيما ذكرنا كفاية ؛ وعلى ذلك يخرج الأمر بالإخبار بستر العورة ؛ ألا ترى أنه قال ـ تعالى ـ : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ ...) [المائدة : ٣١] الآية ، لئلا ترى عورته ؛ لأنه يكون جفاء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ).

__________________

(١) في أ : وما.

(٢) في ب : يستر.

(٣) في ب : كانت تلك.

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه أحمد (٥ / ٣ ، ٤) ، وأبو داود (٢ / ٤٣٧) في كتاب الحمام ، باب ما جاء في التعري (٤٠١٧) ، والترمذي (٤ / ٤٧٦) باب ما جاء في حفظ العورة (٢٧٦٩) ، وقال : حسن. وابن ماجه (١٩٢٠) ، وعبد الرزاق (١١٠٦) ، والحاكم (٤ / ١٧٩) ، وأبو نعيم في الحلية (٧ / ١٢١) ، والبيهقي في سننه (١ / ٩٩) ، (٢ / ٢٢٥) ، (٧ / ٩٤) ، والخطيب في التاريخ (٣ / ٢٦١) عن معاوية بن حيدة القشيري.

(٦) أخرجه مسلم (١ / ٢٦٦) كتاب الحيض ، باب تحريم النظر إلى العورات (٧٤ ـ ٣٣٨) ، والترمذي (٥ / ١٠١) كتاب الأدب : باب في كراهية مباشرة الرجال الرجال والمرأة المرأة (٢٧٩٣) ، والحاكم وصححه (١ / ١٥٨) ، والطبراني في الكبير (٦ / ٤٤) ، وابن أبي شيبة (١ / ١٠٦).

٤٠٦

قال أبو بكر الأصم : الزينة ـ هاهنا ـ : هي اللباس (١) ؛ لأنه ذكر على أثر ذلك اللباس ، وهو قوله : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) ، والطيبات من الرزق : ما حرموا مما أحل الله لهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وغير ذلك ، مما كانوا يحرمون الانتفاع به ؛ كقوله : (وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ).

وقال الحسن (٢) : زينة الله هي المركب ؛ كقوله : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [النحل : ٨] جعل الله ما يركب زينة للخلق ، وهم كانوا يحرمون الركوب والانتفاع بها ، فقال : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) ، وقال : (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) : ألبانها ولحومها.

وقال غيره من أهل التأويل : زينة الله ـ هاهنا ـ : النبات وما يخرج من الأرض مما هو رزق للبشر ، والدواب جميعا ؛ كقوله : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ ...) [الكهف : ٧] الآية ، وكقوله : (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ) [يونس : ٢٤] سمى لنا ما أخرج من الأرض : زينة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ).

اختلف فيه ؛ قال الحسن (٣) : هي ، يعني : الطيبات خالصة للمؤمنين في الآخرة لا يشاركهم الكفرة فيها ، فأمّا في الدنيا فقد شاركوهم ؛ فالتأويل الأول يخرج على التقديم والتأخير ؛ كأنه قال : قل هي للذين آمنوا خالصة يوم القيامة ، وفي الحياة الدنيا لهم جميعا ؛ كقوله : (قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) [البقرة : ١٢٦].

ويحتمل قوله : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ؛ لأنهم لم يحرموا الطيبات التي أحلّ الله لهم ، بل انتفعوا بها ، وحرمها أولئك ولم ينتفعوا بها ، فكانت هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ؛ لما انتفعوا بها في الدنيا ، وتزودوا بها للآخرة ، وكانت [لهم](٤) خالصة يوم القيامة ، وإنما كان خالصا لهم يوم القيامة ، لما لا يكون لأهل الشرك ذلك ؛ لما لم يتزودوا للمعاد ، [و](٥) قد كانت لهم في الدنيا لو لم يحرموها وانتفعوا بها.

__________________

(١) أخرجه بمعناه ابن جرير (٥ / ٤٧٣) (١٤٥٤٢) عن ابن زيد ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٥٠) وعزاه لأبي الشيخ عن ابن زيد ، وذكره ابن عادل في اللباب (٩ / ٩٠) ونسبه لابن عباس.

(٢) ذكره الرازي في تفسيره (١٤ / ٥٢) ولم ينسبه لأحد وابن عادل في اللباب (٩ / ٩٠).

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٧٤) (١٤٥٥٠) ، وذكره الرازي في تفسيره (١٤ / ٥٣) ، وابن عادل في اللباب (٩ / ٩٢).

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

٤٠٧

وفي قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) دليل إباحة الزينة والتناول من الطيبات ، وقد يحتمل أن يكون خرج على النهي والإنكار على ما كان يفعله أهل الشرك ؛ من نحو تحريم البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، فقال : قل من حرم ما حرمتم إذا لم يحرمه الله.

ألا ترى (١) أنه قال : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) يقول ـ والله أعلم ـ لم يحرم ما حرمتموه من هذه الأشياء ؛ ولكن حرم الفواحش وما ذكر ، ولم يذكر جوابهم أنهم ما ذا يقولون ؛ فهو يخرج على وجهين :

إن قالوا : حرمه الله ، فيقال لهم : من حرمه وأنتم قوم لا تؤمنون (٢) بالرسل والكتب؟!

فإن قالوا : حرمه فلان ، فيقال : كيف صدقتم فلانا في تحريم ذلك ، ولا تصدقون الرسل فيما يخبرون عن الله ـ تعالى ـ مع ظهور صدقهم؟! يذكر سفههم في ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) ؛ كأنه يقول : ليس لأحد تحريم ما ذكرنا ؛ إنما التحريم إلى الله ، وإنما حرم ما ذكر ، وقد يحتمل ما ذكرنا من نزعهم (٣) الثياب عند الطواف ويطوفون عراة ، على ما ذكر في القصة ، وإلى هذا يذهب ابن عباس (٤) والحسن وقتادة (٥) وعامة أهل التأويل ، وعلى ذلك يخرج ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [حيث قال](٦) «ألا لا يطوفنّ بهذا البيت عريان ولا محدث» (٧). وقوله ـ عزوجل ـ : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ). أي : نبين الآيات. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). أي : لقوم ينتفعون بعلمهم ، أو نقول : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) ، أي : كذلك نفصل حكم آية من حكم آية أخرى ، نفصل هذا من هذا ، وهذا من هذا.

وقوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) إنه إذا لم يفهم من زينة الله ما يفهم من زينة الخلق ـ لأن زينة الخلق ما يتزينون به ويتجملون ـ لا يجب أن يفهم من استوائه استواء الخلق ، ولا

.

__________________

(١) في ب : ألا يرى.

(٢) في أ : يؤمنون.

(٣) في ب : في ترغيبهم.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٦٩ ـ ٤٧٠) (١٤٥٠٩ ـ ١٤٥١٤).

(٥) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٧١) (١٤٥٢٨).

(٦) سقط في أ.

(٧) أخرجه بمعناه أحمد في المسند (١ / ٧٩) ، والحميدي (٤٨) ، والدارمي (١٩٢٥) ، والترمذي (٢ / ٢١٢) باب ما جاء في كراهية الطواف عريانا (٨٧١) (٣٠٩٢) وقال : حسن صحيح. والبزار (٧٨٥) ، وأبو يعلى (٤٥٢) ، والدار قطني في العلل (٣ / ١٦٣) ، والحاكم (٤ / ١٧٨) ، والبيهقي (٩ / ٢٠٦) عن علي بن أبي طالب وفي الباب عن ابن عباس ، وأبي هريرة.

٤٠٨

من مجيئه مجيء الخلق ؛ لأن استواء الخلق هو انتقال من حال إلى حال ، ولا يجوز أن يفهم منه ذلك ، على ما لم يفهم من زينة الله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ).

يشبه أن تكون هذه الآية مقابل قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) [النحل : ٩٠] ، كما خرج آخر الآية وهو قوله : (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) [النحل : ٩٠] مقابل الأول وهو قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) ، والنهي [هناك نهي](١) تحريم [كالتنصيص على التحريم هاهنا](٢) ، وتكون الفحشاء التي ذكر في هذه الآية الفواحش التي ذكر في تلك ، والمنكر الذي ذكر هاهنا هو الإثم الذي ذكر في تلك ، وذكر البغي هاهنا وهنالك.

ثم الفحشاء : هو الذي ظهر قبحه في العقل ، والسمع (٣).

والمنكر : هو الذي ظهر الإنكار فيه على مرتكبه (٤).

والإثم هو الذي يأثم المرء فيه (٥).

__________________

(١) في ب : هنا.

(٢) سقط في ب.

(٣) الفحشاء : ما تزايد فحشه واشتد نكره ، والفاحشة كذلك ، قال ابن عرفة في قوله : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) [الأعراف : ٣٣]. ـ : هي كل ما نهى الله عنه. والفواحش عند العرب : كل ما قبح ، ومنه : مكان فاحش ، وقد تفحش وتفاحش ، ومنه قول الأنصاري للأحوص :

هل عيشنا بك في زمانك راجع

فلقد تفحش بعدك المتعلل

قوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ)[النساء : ١٩] قيل : الزنى ، وقيل : اللواطة ، والبذاءة على الزوج أو على أحمائها.

والفاحش : البخيل ، والفاحشة : البخل ، وأنشد لطرفة :

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

عقيلة مال الفاحش المتشدد

وذلك أن البخل من أفحش الفحش ، كقوله عليه الصلاة والسلام : «وأي داء أدوى من البخل؟!». والفحش والتفحش من ذلك.

والمتفحش : الآتي بالفحشاء.

ينظر : عمدة الحفاظ (٣ / ٢٤٦) ، والنهاية (٢ / ٣٢٨).

(٤) أو هو ما ليس فيه رضا الله تعالى من قول أو فعل. ينظر : تعريفات الجرجاني (٢٥٤) ، والكليات (١ / ٢٩١) ، والمصباح المنير (٧٦٦) (نكر) ، والتوقيف (١٠ / ٦).

(٥) اختلفوا في الفرق بينهما ، فقيل : الفواحش : عبارة عن الكبائر ؛ لأن قبحها قد تفاحش أي : تزايد ، والإثم : عبارة عن الصغائر ، والمعنى : أنه حرم الكبائر والصغائر.

وطعن القاضي في ذلك بأن ذلك يقتضي أن يقال : الزنى والسرقة والكفر ليس بإثم ، وهو بعيد ، وأقل الفواحش : ما يجب فيه الحد ، والإثم : ما لا حد فيه.

وقيل : الفاحشة اسم للكبيرة ، والإثم اسم لمطلق الذنب سواء كان صغيرا أو كبيرا ، وفائدته : أنه ـ

٤٠٩

والبغي : هو من مظالم الناس يظلم بعضهم على بعض (١).

__________________

ـ لما حرم الكبيرة أردفه بتحريم مطلق الذنب ؛ لئلا يتوهم أن التحريم مقصور على الكبيرة ، وهذا اختيار القاضي.

وقيل : إن الفاحشة وإن كانت بحسب اللغة اسما لكل ما تفاحش وتزايد في أمر من الأمور ، إلا أنه في العرف مخصوص بالزنى ، ويدل على ذلك قوله تعالى في الزنى : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً)[الإسراء : ٣٢] ، ولأن لفظ الفاحشة إذا أطلق لم يفهم منه إلا ذلك.

وإذا قيل : فلان فحاش ، فهم منه أنه يشتم الناس بألفاظ الوقاع ؛ فوجب حمل لفظ الفاحشة على الزنى ، فعلى هذا يكون «ما ظهر منها» أي : الذي يقع منها علانية ، و «ما بطن» أي : الذي يقع منها سرّا على وجه العشق والمحبة.

وقيل : «ما ظهر منها» : الملامسة والمعانقة ، و «ما بطن» : الدخول.

وأما «الإثم» فالظاهر أنه الذنب.

وقيل : هو الخمر ، قاله المفضل ، وأنشد القائل في ذلك :

نهانا رسول الله أن نقرب الزنى

وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا

وأنشد الأصمعي :

ورحت حزينا ذاهل العقل بعدهم

كأني شربت الإثم أو مسني خبل

قال : وقد يسمى الخمر إثما ؛ وأنشد القائل :

شربت الإثم حتى ضل عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

ويروى عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ والحسن البصري أنهما قالا : «الإثم : الخمر».

قال الحسن : وتصديق ذلك قوله : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ)[البقرة : ٢١٩].

والذي قاله الحذاق : إن الإثم ليس من أسماء الخمر.

قال ابن الأنباري : «الإثم لا يكون اسما للخمر ؛ لأن العرب لم تسم الخمر إثما ، لا في جاهلية ولا في الإسلام ، وقول ابن عباس والحسن لا ينافي ذلك ؛ لأن الخمر سبب الإثم ، بل هي معظمه ؛ فإنها مؤججة للفتن ، وكيف يكون ذلك وكانت الخمر حين نزول هذه السورة حلالا ؛ لأن هذه السورة مكية ، وتحريم الخمر إنما كان في «المدينة» بعد «أحد» ، وقد شربها جماعة من الصحابة يوم أحد فماتوا شهداء ، وهي في أجوافهم.

وأما ما أنشده الأصمعي من قوله :

شربت الإثم .....

 .....................................................

فقد نصوا على أنه مصنوع ، وأما غيره فالله أعلم.

وقال بعض المفسرين : «الإثم : الذنب والمعصية».

وقال الضحاك ـ رحمه‌الله ـ : «الإثم : هو الذنب الذي لا حد فيه».

ينظر : اللباب (٩ / ٩٦ ، ٩٧) ، تفسير الرازي (١٤ / ٥٤) ، روح المعاني (٨ / ١١٢) ، والدر المصون (٣ / ٢٦٢ ، ٢٦٣) ، وتفسير القرطبي (٧ / ١٢٩).

(١) أكثر استعمال البغي في الأشياء المذمومة ، لا سيما إذا أطلق نحو : زيد بغى. وقد بغى زيد على عمرو.

وقال الراغب : والبغي على ضربين :

أحدهما : محمود ، وهو تجاوز الحق إلى الإحسان ، والفرض إلى التطوع.

والثاني : مذموم ، وهو تجاوز الحق إلى الباطل ، أو تجاوزه من الشّبه ، كما قال : «الحق بين ـ

٤١٠

وقال بعضهم : الفواحش هن الكبائر ، والإثم هو الصغائر ، والبغي هو أخذ (١) ما عصم من مال أو نفس (٢) بعقد الإسلام ، على ما روي عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أمرت أن أقاتل الناس ؛ حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» (٣) ، فكل ما صار معصوما بالإسلام من مال أو نفس ، فأخذ ذلك بغي (٤) وظلم إلا ما ذكر بحقها.

وأصل البغي هو المجاوزة عن الحدّ الذي جعل له.

وقال أهل التأويل (٥) : الفواحش هي الزنى ، ما ظهر منها علانية ، وما بطن منها : سرّا ، لكن الفواحش ما ذكرنا أن ما [ظهر قبحه](٦) في العقل وفحشه (٧) السمع [فهو فاحشة ، والفواحش هي ما ذكرنا أن ما قبح في العقل والسمع وأفحش فيهما](٨) فهي الفاحشة.

وأصل المنكر : كل ما [لا](٩) يعرف ؛ كقول إبراهيم : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) [الحجر : ٦٢] ، والمنكر : ما أنكره العقل والسمع أيضا.

__________________

ـ والباطل بين ، وبين ذلك أمور مشتبهات ، ومن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه» ، ولأن البغي قد يكون محمودا ومذموما ، قال تعالى : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ)[الشورى : ٤٢] ، فخص العقوبة بمن بغيه بغير الحق.

قال الحباني : أصل البغي الحسد ، وسمي الظلم : بغيا ؛ لأن الحاسد ظالم. قلت : هو داخل في قولنا : مجاوزة الحد ؛ لأن الحاسد تجاوز ما ليس له. واستدل على أن البغي : الحسد ، بقوله : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)[آل عمران : ١٩]. وقيل : البغي : الاستطاعة على الناس والكبر. ومنه قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ)[الأعراف : ٣٣].

ينظر : عمدة الحفاظ (١ / ٢٤٣ ، ٢٤٤) ، وكشف الخفاء (١ / ٤٣٨) ، والفتح الكبير (٢ / ٨٢) ، والنهاية (٢ / ١٩٤).

(١) في أ : ما أخذ.

(٢) في أ : تفسر.

(٣) أخرجه البخاري (٣ / ٣٠٨) كتاب : الزكاة ، باب : وجوب الزكاة (١٣٩٩) وفي ١٢ / ٢٨٨ كتاب : استتابة المرتدين (٦٩٢٤) ، وفي (١٣ / ٢٦٤) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (٧٢٨٤) ، ومسلم (١ / ٥٢) كتاب : الإيمان ، باب : الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله (٣٣ / ٢١).

وفي الباب عن ابن عمر وأنس بن مالك.

(٤) في أ : بفيء.

(٥) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٥١) وعزاه لأبي الشيخ عن ابن عباس ، وأبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٢٩٤) ونسبه لمجاهد.

(٦) في أ : قبح.

(٧) في أ : وفحش.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في أ.

٤١١

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً).

أي : وحرم ـ أيضا ـ أن تشركوا بالله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) : ليس على أنه ينزل سلطانا على الإشراك بحال ؛ ولكن على أنهم يشركون بالله من غير حجج وسلطان ؛ لأن أهل الإسلام هم الذين يدينون بدين ظهر بالحجج والآيات ، وهم يدينون بدين لا يظهر بالحجج والآيات ، ولكن بما هوت أنفسهم واشتهت.

ويحتمل قوله : (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) ، أي : عذرا ؛ لأنه يجوز أن يعذر المرء بحال في إجراء كلمة الكفر على لسانه عند الإكراه ، ولا يصير به كافرا إذا كان قلبه مطمئنا بالإسلام ومنشرحا به ؛ كقوله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦] أي : يشركون (١) بالله من غير أن ينزل بهم حال عذر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

أي : يعلمون أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون أنه حرم كذا ، وأمر بكذا.

وقوله : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [يحتمل وجهين :

أحدهما : أنكم تقولون على الله ما لا تعلمون](٢) هذا على الجهل ، والأول على العلم ؛ كقوله : (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ) [يونس : ١٨] ، أي : تنبئون الله بما يعلم أنه ليس ما تقولون.

قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٣٦)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ).

اختلف فيه :

قال بعضهم : (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) : [هو بعث الرسول إليها أي لا يهلكون إلا بعد] بعث الرسل إليهم ، فإذا أتاهم الرسول ، فكذبوه وعاندوا ، فعند ذلك يهلكون ، وهو كقوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] ، وقوله : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) [القصص : ٥٩].

ويحتمل أن لكل أمة أجلا لا تهلك قبل بلوغ أجلها لا تستأخر ولا تستقدم (٣). فهذا يرد

__________________

(١) في أ : تشركون.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : لا يستأخر ولا يستقدم.

٤١٢

على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن من قتل إنما هلك قبل بلوغ أجله ، ويجعلون القاتل منه مستقدما لأجل ذلك المقتول (١) ، والله ـ تعالى ـ يقول : (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) : إذا جاء لا يستأخرون ، وإذا لم يجئ لا يستقدمون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ).

قال أهل التأويل : (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) ، أي : سيأتينكم رسل منكم ، أو سوف يأتيكم [يقصون عليكم ثم يحتمل قوله :](٢)

(يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) ، أي : هداي ؛ كقوله : [(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٣٨] فعلى ذلك قوله (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) أي : هداي](٣)(فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

ويحتمل الآيات : الحجج والبراهين التي يضطر أهلها إلى قبولها إلا من عاند وكابر.

(فَمَنِ اتَّقى). اتقى الشرك. (وَأَصْلَحَ). وآمن بالله وعمل صالحا.

(فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

وقوله : (فَمَنِ اتَّقى) يحتمل : اتقى ما نهى الرسل أو اتقى المهالك ، وأصلح فيما أمر به الرسل ، أو أصلح أمره وعمله. (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في ذهاب ما أكرمهم به مولاهم ولا فوته ؛ لأن خوف الفوت مما ينقص [النعم](٤).

(وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) : تبعاته وآفاته : يخبر أن نعيم الآخرة على خلاف نعيم الدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

ظاهر تأويلها ، وقد ذكرنا في غير موضع حتى لم يأخذوا على أحد منهم (٥).

__________________

(١) المقتول ميت بأجله وهو مذهب أهل الحق فالأجل عندهم واحد لا يقبل الزيادة والنقصان خلافا للمعتزلة ، ينظر حاشية البيجوري على جوهرة التوحيد ص (١١٢).

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) قال المصنف في سورة النساء عند قوله تعالى : (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) الاستنكاف والاستكبار واحد في الحقيقة ، وقال الكسائي : وإنما جمع بينهما ؛ لاختلاف اللفظين ، وهذا من حسن كلام العرب : كقول العرب : كيف حالك؟ وبالك؟ والحال والبال واحد ، ومثله في القرآن والشعر كثير. ـ

٤١٣

وفي قوله : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) له على خلقه منن كثيرة ونعم (١) عظيمة ، حيث بعث الرسل من جنس المرسل إليهم :

أحدها : أن كل ذي جنس وجوهر يستأنس بجنسه وجوهره ، ويستوحش بغيره ، فمنّ عليهم ؛ [حيث بعث](٢) الرسل من جنسهم وجوهرهم ، يستأنس بعضهم ببعض ويألف (٣) بعضهم بعضا ؛ فذلك آخذ للقلوب وأدعى إلى الاتباع والإجابة.

والثاني : بعث الرسل من قومهم الذين نشئوا بين أظهرهم ، وعرفوا صدقهم وأمانتهم ؛ ليعلموا أنهم صادقين فيما يدعون من الرسالة ؛ حيث لم يظهر منهم الكذب والخيانة قط ، حتى لم يأخذوا على أحد منهم الكذب.

والثالث : أن الرسل لو كانوا من غير جنسهم وغير جوهرهم ، لم يعرفوا ما أوتوا من الآيات والبراهين أنها آيات وحجج ؛ لما لا يعلمون أن وسعهم لا يبلغ هذا ، وطوقهم لا يصل إلى ذلك ، وإذا كانوا منهم يعرفون ذلك إن (٤) أتوا بشيء خرج عن وسعهم أنها آيات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا).

قال الحسن : ديننا. ويحتمل (بِآياتِنا) حججنا [أي : كذبوا بحججنا](٥) فإذا كذبوا بحججه كفروا به ؛ لأنه ـ عزوجل ـ لا يعرف من طريق الحس والعيان ؛ ولكن إنما يعرف من طريق الحجج والآيات والدلائل ؛ فيكون الكفر بآياته وحججه كفرا به ، ويشبه أن تكون (٦) آياته آيات الرسالة وحججها.

ويحتمل آياته ـ هاهنا ـ رسله ، أي : كذبوا برسلنا ، سمى رسله آياته ؛ لأن أنفس الرسل كانت آيات للخلق تدلهم على وحدانية الله ، ورسالتهم من أعلام جعلت من أنفسهم من صدقهم وأماناتهم.

(وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها).

أي : استكبروا عن التدبر فيها والنظر.

__________________

ـ لكن الاستنكاف ـ والأنفة ـ لا يضاف إلى الله تعالى ، والاستكبار يضاف ، فهما من هذا المعنى مختلفان ، وأما في الحقيقة فهما واحد ، والله أعلم.

(١) في ب : نعمة.

(٢) في ب : فبعث.

(٣) في أ : تأليف.

(٤) في ب : إذا.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : يكون.

٤١٤

(أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ).

لأنهم يصحبون النار والسبب الذي يوجب لهم النار أبدا ؛ فسموا أصحاب النار بذلك ؛ كما يقال : صاحب الدار وصاحب الدابة ؛ لأنه هو يصحبها دائما ؛ فعلى ذلك هؤلاء سموا أصحاب النار ؛ لما هم يصحبونها دائما أبدا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)(٤١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ).

قد ذكرنا فيما تقدم أن قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ) : إنما هو حرف استفهام وسؤال لم يخرج له جواب ، لكن أهل التأويل عرفوا ذلك ، فقالوا : لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا ، أجابوا على ما عرفوا من السؤال ؛ وإلا ليس قولهم : لا أحد أظلم ، نفس قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ) ، أي : لا أحد أفحش ظلما ولا أقبح ظلما ممن افترى على الله كذبا ، مع علمه أنه خالقه ، وأنه متقلب في نعمه ، وأحاطت به أياديه وإحسانه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ أَظْلَمُ) : أي لا [أحد](١) أفحش ظلما ولا أقبح ظلما ممن افترى على الله كذبا.

وقوله : (افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ، قيل : الافتراء هو اختراع الكذب من نفسه من غير أن سبق له أحد في ذلك ؛ كقوله : (يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) [الممتحنة : ١٢] وأما [الكذب](٢) فقد يكون مما أنشأ هو أو مما قد سبق له أحد فسمع منه ثم افتراه (٣) على الله فهو أنواع :

يكون بما قالوا : [إن له ولدا ، وقالوا : إن له شريكا وصاحبة ، وبما عبدوا غير الله

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : افتراؤهم.

٤١٥

وقالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٢] و (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، ويكون ما قالوا](١)(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨] ، ويكون بما حرموا من أشياء على أنفسهم فأضافوا ذلك إلى الله ، ونحو ذلك من الافتراء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ).

اختلف فيه : قال الحسن (٢) : [إنّ](٣) من أطاع الله في أمره ونهيه ، وأطاع رسله ، فقد كتبت له الجنة خالدا فيها أبدا ، فذلك نصيبه وحظه من الكتاب الذي كتب له ، ومن عصى الله وخالف رسله ، كتبت له النار [خالدا فيها أبدا](٤) فهو نصيبه من الكتاب.

وقال أبو بكر الكيساني (٥) :

[في](٦) قوله : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) ، أي : حظهم من الخير والعقاب في الآخرة ، وهو قول القتبي ويحتمل (٧) وجهين آخرين غير هذين :

أحدهما : ما حرفوا من الكتب وغيروها ، ثم أضافوا ذلك ونسبوه إلى الله ؛ كقوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) [البقرة : ٧٩] وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [آل عمران : ٧٨] ، فصار ما حرفوا هم وغيروه سنة فيهم يعملون بها إلى يوم القيامة ، فينالون هم جزاء ذلك يوم القيامة.

والثاني : قوله : (يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ) مما كتب لهم من الرزق والنعمة ، يستوفون ذلك المكتوب لهم ، ثم يموتون (٨).

ثم قوله : (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ).

على هذا التأويل جاءتهم الرسل بقبض أرواحهم ، وهو ظاهر.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ذكره بمعناه أبو حيان في البحر (٤ / ٢٩٦) ، والبغوي في تفسيره (٢ / ١٥٨).

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) ذكره بمعناه أبو حيان في البحر (٤ / ٢٩٦) عن الضحاك.

(٦) سقط في أ.

(٧) في أ : يجعل.

(٨) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٨١) (١٤٥٩٥) عن الربيع بن أنس ، و (١٤٥٩٦) عن محمد بن كعب القرظي ، و (١٤٥٩٧) عن ابن زيد ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٥٣) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب ، ولابن أبي حاتم وعبد بن حميد عن الربيع بن أنس.

٤١٦

وعلى تأويل من حمل ذلك على الجزاء في الآخرة : فهو يجعل المتوفّى في النار ؛ لشدة العذاب ، وإن كانوا لا يموتون ، وهو كقوله : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) [إبراهيم : ١٧] ، أي تأتيه أسباب الموت.

وعلى تأويل [من](١) يجعل قوله : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) : في الدنيا في استيفاء الرزق وما كتب لهم ؛ يكون قوله : (حَتَّى) على الإثبات وعلى تأويل من يقول بأن ذلك في الآخرة فيجيء أن يكون على الصلة والإسقاط.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ).

تقول لهم الملائكة في النار على تأويل هؤلاء [و](٢) على تأويل أولئك : عند قبض أرواحهم ، أو بعد قبض أرواحهم.

وقوله : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، أي : تعبدون من دون الله ، وتقولون (٣) : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، وقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، أو الأكابر التي ذكر بقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) [الأنعام : ١٢٣] أين أولئك الذين كنتم تعبدون من دون الله؟!

(قالُوا ضَلُّوا عَنَّا).

وهلكوا ، أي : بطل عبادتنا التي عبدناهم ؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) [السجدة : ١٠] ، أي : هلكنا وبطلنا.

(وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ).

فإن كان قوله : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) : الكبراء منهم والرؤساء يكون قوله : (ضَلُّوا عَنَّا) ، أي : شغلوا بأمرهم عنا ، وإن كان الأصنام يكون قوله : (ضَلُّوا عَنَّا) أي : بطل ما كنا نطمع من عبادتنا إياهم ، وهو قولهم (٤) : (شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨].

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ).

قوله : (فِي أُمَمٍ) يحتمل مع أمم ، وذلك جائز في اللغة ؛ يقال : جاء فلان في جنده.

وقوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : يقولون.

(٤) في أ : قوله.

٤١٧

المتبوعين والأتباع جميعا معا والعرب تضع حروف الخفض بعضها في موضع بعض ؛ كقوله : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) [الفجر : ٢٩] ، قيل : مع عبادي. ويحتمل «في» موضعه كأن المتبوعين يدخلون النار قبل الأتباع [فقيل لهؤلاء الأتباع](١)(ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ). وفيه دليل أن الكفار من الجن يعذبون كما يعذب الكفار من الإنس.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها).

لعن الأتباع المتبوعين ؛ لما هم دعوهم إلى ذلك ، وهم صرفوهم (٢) عن دين الله ؛ كقولهم : (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً ....) [سبأ : ٣٣] ، وكقوله : (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ...) [سبأ : ٣٣] ، وغير ذلك من الآيات.

ولعن المتبوعون الأتباع ؛ لما يزداد لهم العذاب بكثرة الأتباع وبقدرهم ؛ فيلعن بعضهم بعضا.

وفيه دليل (٣) أن أهل الكفر وإن اختلفوا في مذاهبهم فهم إخوة وأخوات بعضهم لبعض ، كالمؤمنين [بعضهم](٤) إخوة وأخوات لبعض.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً).

قال بعضهم (٥) : هو من التدارك ، أي : حتى إذا تداركوا وتتابعوا فيها.

وقيل : هو من الدرك ؛ لأن النار دركات ، لا يزال أهل النار يهوون فيها لا قرار لهم في ذلك ؛ [و](٦) في القرار بعض التسلي والراحة ، فلا يزالون يهوون فيها دركا فدركا.

وقيل : ولذلك سميت هاوية.

وقيل (٧) : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) ، أي : اجتمعوا فيها ؛ فعند ذلك يتلاوم بعضهم بعضا ، فإن كان على التدارك فهو كقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) [الصافات : ٢٢] ، وإن كان على الاجتماع فهو للتضييق ؛ كقوله : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ) [الفرقان : ١٣] الآية ، ويجتمعون يلعن بعضهم بعضا.

__________________

(١) في أ : بهؤلاء.

(٢) في أ : صرفوا.

(٣) في أ : دلالة.

(٤) سقط في أ.

(٥) ذكره أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٢٩٨) ، والبغوي في التفسير (٢ / ١٥٩).

(٦) في أ : إن.

(٧) ذكره ابن جرير (٥ / ٤٨٢) ، والبغوي في التفسير (٢ / ١٥٩) ، وأبو حيان في البحر (٤ / ٢٩٨).

٤١٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ).

يحتمل قوله : (أُخْراهُمْ) : الذين [كانوا](١) في آخر الزمان ، (لِأُولاهُمْ) : الذين شرعوا لهم ذلك الدين.

(رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ).

ويحتمل قوله : (أُخْراهُمْ) الذين دخلوا النار أخيرا وهم الأتباع ، (لِأُولاهُمْ) الذين دخلوا النار أولا ، وهم القادة والمتبوعون ، (رَبَّنا هؤُلاءِ) ، يعني : القادة والسادة ، (أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) ؛ كقوله : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) [الأحزاب : ٦٦] ، ويشبه أن يكون قوله : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) : ليس على القول بعضهم لبعض ، ولكن على الدعاء عليهم واللعن ؛ كقوله : (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) [الأحزاب : ٦٨].

وقوله : (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ).

قال بعضهم (٢) : لكل ضعف النار ؛ لأنها لا تزال تزداد وتعظم وتكبر فذلك الضعف ، وذلك للأتباع والمتبوعين جميعا.

وقال بعضهم (٣) : قوله : (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) ، أي : للمتبوعين والقادة ضعف ، قال لهم مالك (٤) ، أو خزنة [النار](٥) ، أو من كان : ليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة بعد أن يقال لهم ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ).

في الدنيا أن لكم ضعفا منها.

وقيل (٦) : (لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) : للحال بأن لكل ضعفا من النار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ).

يحتمل (أُولاهُمْ) ما ذكرنا : الذين شرعوا لهم ذلك الدين ، وسنّوا لهم (٧)(لِأُخْراهُمْ) الذين كانوا في آخر الزمان.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) انظر تفسير الخازن والبغوي (٢ / ٥٠٥) ، وتفسير أبي حيان (٤ / ٢٩٨).

(٣) ذكره البغوي في التفسير (٢ / ١٥٩).

(٤) في ب : فلك.

(٥) سقط في ب.

(٦) ذكره بمعناه ابن جرير (٥ / ٤٨٣) ، وأبو حيان في البحر (٤ / ٢٩٩) ، والبغوي في التفسير (٢ / ١٥٩).

(٧) في أ : سؤالهم.

٤١٩

ويحتمل (أُولاهُمْ) : الذين دخلوا أولا ، (لِأُخْراهُمْ) : هم الذين (١) دخلوا النار أخيرا ، وهم الأتباع.

(فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ).

قيل فيه بوجهين :

يحتمل ما كان لكم علينا من فضل في شيء ؛ فقد ضللتم كما ضللنا (٢) ، أي : لم يكن لنا عليكم فضل سلطان ، ولا كان معنا حجج وآيات قهرناكم عليها (٣) ، إنما دعوناكم إلى ذلك فاستجبتم لنا ، وقد كان بعث إليكم الرسل مع (٤) حجج وآيات فلم تجيبوهم ، وهو كخطبة إبليس حيث قال : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ ...) [إبراهيم : ٢٢] الآية ، فيقول هؤلاء القادة للأتباع مثل قول الشيطان لجملتهم.

وقيل (٥) : قوله : (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) ، يعني : تخفيف العذاب.

أي : نحن وأنتم في العذاب سواء ، لا فضل لكم علينا من تخفيف العذاب في شيء.

أحد التأويلين في قوله : (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) يرجع إلى الآخرة والآخر إلى (٦) الدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ).

من الشرك والتكذيب لآيات الله ، وكذلك جزاء بما كانوا يكسبون ويعملون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها).

هذا قد ذكرناه فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ).

قال بعضهم : يعني بأبواب السماء أبواب الجنان ؛ لأن الجنان تكون في السماء ؛ فسمى أبواب السماء لأن (٧) الجنان فيها.

ألا ترى أنه قال : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) [الذاريات : ٢٢] ، وما يوعد لنا هو

__________________

(١) في أ : للذين.

(٢) أخرجه بمعناه ابن جرير (٥ / ٤٨٤) (١٤٦٠٦) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٥٤) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) في ب : عليه.

(٤) في أ : من.

(٥) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٨٤) (١٤٦٠٧ ، ١٤٦٠٨) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٥٤) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٦) في ب : وللآخر في.

(٧) في ب : لما.

٤٢٠