تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

ويحتمل : آيات البعث ، كذبوا بذلك كله ، وقد ذكرنا هذا في غير موضع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (صُمٌّ وَبُكْمٌ).

هو ما ذكرنا أنه نفى عنهم السمع ، واللسان ، والبصر ؛ لما لم يعرفوا نعمة السمع ، ونعمة البصر ، ونعمة اللسان.

ولا يجوز أن يجعل لهم السمع والبصر واللسان ، ثم لا يعلمهم ما يسمعون بالسمع ، وما ينطقون باللسان ، دل أنه يحتاج (١) إلى رسول يسمعون [منه](٢) ، ويستمعون إليه ، وينطقون ما علمهم ، فإذا لم يفعلوا صاروا كما ذكر (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٨] لما لم ينتفعوا به ، ولم يعرفوا نعمته التي جعل لهم فيما ذكر.

أو نفى عنهم السمع والبصر واللسان ؛ لما ذكرنا أن السمع والبصر ، والحياة على ضربين : مكتسب ، ومنشأ ، فنفي عنهم السمع المكتسب ، والبصر المكتسب ، والحياة المكتسبة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِي الظُّلُماتِ).

يحتمل وجهين :

يحتمل : ظلمات الجهل والكفر.

والثاني : هم في ظلمات : يعني ظلمات السمع ، والبصر ، والقلب.

وهم في الظلمتين جميعا : في ظلمة الجهل والكفر ، وظلمة السمع ، والبصر ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) [النور : ٤٠] ، والمؤمن في النور ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (نُورٌ عَلى نُورٍ) [النور : ٣٥].

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

وصف ـ عزوجل ـ نفسه بالقدرة ، وجعلهم جميعا متقلبين في مشيئته ، وأخبر أنه شاء لبعضهم الضلال ، ولبعضهم الهدى ، فمن قال : إنه شاء للكل الهدى [لكن](٣) لم يهتدوا ، أو شاء للكل الضلال ـ فهو خلاف ما ذكره عزوجل ؛ لأنه أخبر أنه شاء الضلال لمن ضل ، وشاء الهدى لمن اهتدى.

وأصله : أنه إذا علم من الكافر أنه يختار (٤) الكفر ، شاء أن يضل وخلق فعل الكفر منه ،

__________________

(١) في ب : محتاج.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : مختار.

٨١

وكذلك إذا علم من المؤمن أنه يختار (١) الإيمان والاهتداء ، شاء أن يهتدي وخلق فعل الاهتداء منه.

قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٤٥)

قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ).

الذي وعدكم في الدنيا أنه يأتيكم.

(أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ).

لأنه كان وعدهم أن يأتيهم (٢) العذاب ، أو (٣) كان يعدهم أن تقوم الساعة ، فقال : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) : في رفع (٤) ذلك ، وكشفه عنكم.

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أن معه شركاء وآلهة.

أو (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : أن ما تعبدون شفعاؤكم عند الله ، أو تقربكم (٥) عبادتكم إياها إلى الله.

وقوله ـ تعالى ـ (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ).

يحتمل : حقيقة الدعاء عند نزول البلاء.

ويحتمل : العبادة ، أي : أغير الله تعبدون على رجاء الشفاعة لكم ، وقد رأيتم أنها لم تشفع لكم عند نزول البلايا ، ثم أخبر أنهم لا يدعون غير الله في دفع ذلك وكشفه عنهم ، وأخبر أنهم إلى الله يتضرعون في دفع ذلك عنهم ، وهو ما ذكر ـ عزوجل ـ : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧] وكقوله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) [الزمر : ٨].

__________________

(١) في ب : مختار.

(٢) في ب : يأتيكم.

(٣) في ب : و

(٤) في ب : دفع.

(٥) في ب : يقريكم.

٨٢

وكقوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [العنكبوت : ٦٥] : ذكر هذا ـ والله أعلم ـ أنكم إذا مسكم الشدائد والبلايا لا تضرعون إلى الذين تشركون في عبادته وألوهيته ، فكيف (١) أشركتم أولئك في ربوبيته في غير الشدائد والبلايا ، (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) ، أي : تتركون ما تشركون بالله من الآلهة ؛ فلا تدعونهم أن يكشفوا عنكم؟

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ).

اختلف فيه :

قال بعضهم : البأساء : الشدائد التي تصيبهم من العدو ، والضراء : ما يحل بهم من البلاء والسقم السماوي.

وقال بعضهم : (٢) البأساء : هو ما يحل بهم من الفقر والقحط والشدة.

وعن ابن عباس (٣) ـ رضي الله عنه ـ قال : [قوله](٤)(فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ) : الزمانة والخوف ، (وَالضَّرَّاءِ) : البلاء والجوع.

(لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ).

أي : ابتلاهم بهذا ، أو امتحنهم لعلهم يتضرعون ، ويرجعون عما هم عليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا).

يذكر في ظاهر هذا أنه قد أصابهم البلاء والشدة ، ولم يتضرعوا ولكن قست قلوبهم ، ويذكر في غيره من الآيات أنه إذا أصابهم البلاء والشدائد تضرعوا ورجعوا عما كانوا عليه ؛ وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧] ، وقوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) [العنكبوت : ٦٥] وغيرهما من الآيات. لكن يحتمل هذا وجوها :

أن هذا كان في قوم ، والأول كان في قوم آخرين ، وذلك أن الكفرة كانوا على أحوال ومنازل : منهم من كان على حال ، فإذا أصابه خير اطمأن به ، وإذا زال عنه وتحول تغير ؛ وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ...) الآية [الحج : ١١]. ومنهم من يتضرع ويلين قلبه إذا أصابه الشدة والبلاء ، وعند السعة والنعمة قاسي القلب معاند ؛ وهو كقوله : (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ...) إلى آخر الآية [العنكبوت : ٦٥] ؛ وكقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧]. ومنهم : من

__________________

(١) في ب : كيف.

(٢) ذكره الرازي في تفسيره (١٢ / ١٨٥) وعزاه للحسن البصري بمعناه.

(٣) ذكره البغوي في تفسيره بمعناه (٢ / ٩٦).

(٤) سقط في ب.

٨٣

كان فرحا عند الرحمة [والنعمة](١) ، وعند الشدة والبلاء كفورا حزينا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) [هود : ٩]. ومنهم : من كان لا يخضع ولا يتضرع في الأحوال كلها ، لا عند الشدة والبلاء ، ولا عند الرخاء والنعمة ، ويقولون : إن مثل هذا يصيب غيرنا ، وقد كان أصاب آباءنا ، [وهم] كانوا أهل الخير والصلاح ؛ وهو كقوله : (وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) [الأعراف : ٩٥] : كانوا على أحوال مختلفة ، ومنازل متفرقة ؛ فيشبه أن يكون قوله : فلو لا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قلوبهم قست : في القوم الذين لم يتضرعوا عند إصابتهم الشدائد والبلايا.

وجائز أن يكونوا تضرعوا عند حلول الشدائد ، فإذا انقطع ذلك وارتفع ، عادوا إلى ما كانوا من قبل ؛ كقوله : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت : ٦٥] ؛ ويشبه أن يكون قوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [٤٢] ، وقوله : (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [العنكبوت : ٦٥] : فيما بينهم وبين ربهم ، وهذا فيما بينهم (٢) ، وبين الرسل ؛ لأن الرسل كانوا يدعونهم (٣) إلى أن يقروا ، ويصدقوهم فيما يقولون لهم ويخبرون ، فتكبروا عليهم ، وأقروا لله وتضرعوا إليه ، تكبروا (٤) عليهم ولم يتكبروا على الله.

ويحتمل أن يكون قوله : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) : في الأمم السالفة إخبار منه (٥) أنهم لم يتضرعوا.

ويحتمل قوله أيضا : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) وجهين :

أحدهما : أنهم لم يتضرعوا إذ جاءهم بأس الله ، ولكن عاندوا وثبتوا على ما كانوا عليه.

والثاني : تضرعوا عند نزول بأسه ؛ لكن إذا ذهب ذلك وزال عادوا إلى ما كانوا ، فيصير كأنه قال : فلولا لزموا التضرع إذ جاءهم بأسنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

أي : زين لهم صنيعهم الذي صنعوا ، ويقولون : إن هذا كان يصيب أهل الخير ، ويصيب آباءنا وهم كانوا أهل خير وصلاح.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) زاد في أ : وبين ربهم.

(٣) في ب : يدعون.

(٤) في ب : تكبرا.

(٥) في ب : منهم.

٨٤

أو زين لهم الشيطان ما كانوا يعملون من الشرك والتكذيب ، ويقول لهم : إن الذي أنتم عليه حق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) يحتمل : ابتداء ترك ، أي : تركوا الإجابة إلى ما دعوا وتركوا ما أمروا به.

ويحتمل : نسوا ما ذكروا به من الشدائد والبلايا.

(فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ).

يحتمل وجهين :

يحتمل أبواب كل شيء مما يحتاجون إليه ، (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً).

ويحتمل : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) ، أي : تركوا ما وعظوا به ، يعني : بالأمم الخالية لما دعاهم الرسل فكذبوهم (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) ، أي : أنزلنا عليهم أبواب كل شيء من أنواع الخير بعد الضر والشدة الذي كان نزل بهم.

(حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ).

اختلف فيه : قال بعضهم [المبلس] : (١) الآيس من كل خير.

قال القتبي : المبلس : الآيس الملقي بيديه.

وقال أبو عوسجة : المبلس : هو الحزين المغتم الآيس من الرحمة وغيرها من الخير.

وقال الفراء : المبلس هو المنقطع الحجة ، وقيل : لذلك سمي إبليس لعنه الله إبليس لما أيس من رحمة الله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا).

قيل (٢) : استؤصل القوم الذين ظلموا بالهلاك جميعا ، والظلم هاهنا : هو الشرك.

وقيل (٣) : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، أي : أصلهم.

وقيل (٤) : دابر القوم ، أي : آخرهم (٥).

وكله واحد ، وذلك أنه إذا هلك (٦) آخرهم وقطعوا ، فقد استؤصلوا.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ١٩٤) (١٣٢٤٦) عن ابن زيد بمعناه وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٢) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ١٩٤) (١٣٢٤٥) عن السدي بمعناه وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٢) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٤) ينظر تفسير القرطبي (٦ / ٢٧٥) ، وتفسير الخازن والبغوي (٩ / ٣٧٨).

(٥) في ب : أخبرهم.

(٦) في ب : أهلك.

٨٥

ويشبه أن يكون قوله : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، أي : قطع افتخارهم وتكبرهم الذي كانوا يفتخرون به ويتكبرون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

الحمد في هذا الموضع على أثر ذلك الهلاك يخرج (١) على وجوه ، وإلا الحمد إنما يذكر على أثر ذكر (٢) الكرامة والنعمة ، لكن هاهنا وإن كان نقمة وإهلاكا فيكون للأولياء كرامة ونعمة ؛ لأن هلاك العدو يعد من أعظم الكرامة والنعمة من الله ، فإذا كان في ذلك شر للأعداء والانتقام فيكون خيرا للأولياء وكرامة ، وما من شيء يكون شرا لأحد إلا ويجوز أن يكون في ذلك خير لآخر ، فيكون الحمد في الحاصل في الخير والنعمة.

والثاني : أنه يجوز أن يكون في الهلاك نفسه (٣) الحمد إذا كان الهلاك بالظلم ؛ لأنه هلاك بحق إذ لله أن يهلكهم ، ولم يكن الهلاك على الظلم خارجا عن الحكمة ، فيحمد عزوجل في كل فعل : حكمة.

والثالث : يقول : (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على إظهار حججه بهلاكهم.

«قوله عزوجل» : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)(٤٩)

قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ).

اختلف فيه ؛ قال بعضهم : يراد بأخذ السمع والبصر والختم على القلوب : أخذ منافع هذه الأشياء ، أي : إن أخذ منافع سمعكم ، ومنافع بصركم ، ومنافع بصركم ، ومنافع عقولكم ، من إله غير الله يأتيكم به : [أي يأتيكم](٤) بمنافع سمعكم ، [ومنافع](٥) بصركم ، [ومنافع](٦) عقولكم ، فإذا كانت الأصنام والأوثان التي تعبدون من دون الله وتشركون في ألوهيته وربوبيته لا يملكون ردّ تلك المنافع التي أخذ الله عنكم ، فكيف تعبدونها وتشركونها في

__________________

(١) في ب : مخرج.

(٢) في أ : ذلك.

(٣) هكذا في الأصل ويحتمل أن تكون نفس والله أعلم.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

٨٦

ألوهيته؟!

وقيل : يراد بأخذ السمع والبصر وما ذكر : أخذ أعينها وأنفسها ، أي : لو أخذ الله سمعكم وبصركم وعقولكم ، لا يملك ما تعبدون رد هذه الأشياء إلى ما [كانوا عليه](١) : لا يملكون رد السمع إلى ما كان ، ولا رد البصر والعقل الذي كان إلى ما كان ، فكيف تعبدون دونه وتشركون في ألوهيته؟! يسفّه (٢) أحلامهم لما يعلمون أن ما يعبدون ويجعلون لهم الألوهية لا يملكون نفعا ولا ضرّا ، فمع ما يعرفون ذلك منهم يجعلونهم آلهة معه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ).

أي : نبين لهم الآيات في خطئهم في عبادة هؤلاء ، وإشراكهم في ألوهيته.

(ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ).

أي : يعرضون عن تلك الآيات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ).

معناه (٣) ـ والله أعلم ـ : أنهم يعلمون أن العذاب لا يأتي ولا يأخذ إلا الظالم ، ثم [مع علمهم](٤) أنهم ظلمة ؛ لعبادتهم غير الله ، مع علمهم أنهم لا يملكون نفعا ولا ضرّا يسألون العذاب كقوله : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) [المعارج : ١].

وقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) [الحج : ٤٧].

وقوله : (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) [ص : ١٦].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) : أخبر أنه لم يرسل الرسل إلا مع بشارة لأهل الطاعة (٥) ، ونذارة لأهل معصيته ، وفيه أن الرسل ليس إليهم الأمر والنهي ، إنما إليهم إبلاغ الأمر والنهي.

ثم بين البشارة فقال : (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

(فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) : لما ليس لذلك فوت ولا زوال ، ليس نعيمها كثواب الدنيا [و](٦)

__________________

(١) في أ : كان.

(٢) في ب : تسفه.

(٣) أي : هل يهلك بذلك العذاب إلا أنتم؟ ووضع الظاهر موضعه ، تسجيلا عليهم بالظلم ، وإيذانا بأن مناط إهلاكهم ظلمهم الذي هو وضعهم الإعراض عما صرف الله له من الآيات ، موضع الإيمان.

(٤) سقط في أ.

(٥) زاد في أ : ونذارة لأهل الطاعة.

(٦) سقط في أ.

٨٧

أنه على شرف الفوت والزوال.

(وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) : لأنه سرور لا يشوبه حزن ، ليس كسرور الدنيا يكون مشوبا بالحزن والخوف.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) : هذه هي النذارة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ).

ذكر المس ـ والله أعلم ـ لما لا يفارقهم العذاب ، ولا يزول عنهم.

والفسق في هذا الموضع (١) : الكفر ، والشرك ، وما ذكر من الظلم هو ظلم شرك وكفر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ).

لم يحتمل ما قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ حيث قال : إنهم قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ينزل الله عليك كنزا تستغني به ؛ فإنك محتاج ، ولا جعل لك جنة تأكل منها فتشبع من الطعام ؛ فإنك تجوع ، فنزل عند ذلك هذا ، لا يحتمل أن يقولوا له ذلك ، فيقول لهم : إني لا أقول لكم إني ملك ، وليس عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ، فإن كان من السؤال شيء من ذلك ، فإنما يكون على سؤال سألوا لأنفسهم ؛ كقوله :

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) الإسراء : ٩١] ، ونحو ذلك من الأسئلة التي سألوا (٢) لأنفسهم ، فنزل عند ذلك ما ذكر ، فهذا لعمري يحتمل ، فيقول لهم : [إنه](٣) ليس عندي خزائن الله فأجعل لكم هذا ، ولا أعلم الغيب ، ولا أقول لكم : إني ملك ، إن أتبع إلا ما يوحى إلى.

والثاني : جائز أن يكون النبي ـ عليه‌السلام ـ أوعدهم بالعذاب وخوفهم ، فسألوا العذاب استهزاء وتكذيبا ، فقالوا : متى يكون؟! كقوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٤٨] ، فقال عند ذلك : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) ومفاتيحه ، أنزل عليكم العذاب متى شئت ، (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) متى وقت نزول العذاب عليكم ، (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) نزلت من السماء بالعذاب ، إنما أنا [رسول](٤) بشر مثلكم ، ما أتبع إلا

__________________

(١) في ب : في هذه المواضع.

(٢) في ب : سألوه.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

٨٨

ما يوحى إليّ ، هذا محتمل جائز أن يكون على أثر ذلك نزل.

ويحتمل وجها آخر وهو : أنه يخبر ابتداء ، أي : (لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) ؛ لأني لو قلت : عندي خزائن الله ، وأنا أعلم الغيب ، وإني ملك ـ كان ذلك أشد اتباعا [لي](١) وأرغب وأكثر لطاعتي ، لكن أقول (٢) : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ ما أتبع إلا ما يوحى إليّ ؛ لتعلموا أني صادق [في قولي](٣) ومحق فيما أدعوكم إليه.

قوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)(٥٣)

قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ).

يعلم بالإحاطة أن هذا ونحوه خرج (٤) على الجواب لأسئلة كانت منهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكن لسنا نعلم ما كانت تلك الأسئلة [التي](٥) كانت من أولئك ، حتى كان هذا جوابا لهم ، فلا نفسر ، ولكن نقف ؛ مخافة الشهادة على الله (٦).

ويحتمل : أن يكون جوابا لما ذكر في آية أخرى ، وهو قولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ) [الإسراء : ٩١] ، فقال عند ذلك : (لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) ، [وقال :](وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) جوابا لسؤال [عن](٧) وقت الساعة ، أو وقت نزول العذاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) جواب لقولهم : (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) [الإسراء : ٩٣] فقال عند ذلك : لا أقول : إني أعلم الغيب ؛ حتى أعلم وقت نزول العذاب

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : نقول.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : مخرج.

(٥) سقط في أ.

(٦) انظر إلى المصنف رحمه‌الله كيف يتعامل مع القرآن مع أنه إمام له ثقل كبير في إرساء دعائم التوحيد في العالم بأسره فرحمه‌الله تعالى رحمة واسعة.

(٧) سقط في ب.

٨٩

أو قيام الساعة ، ولا أقول : إني ملك حتى أرقى في السماء.

وقوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ).

أي : تعرفون أنتم أنه لا يستوي الأعمى ، أي : من عمي بصره ، والبصير : أي : من لم يعم بصره ، فكيف لا تعرفون أنه لا يستوي من عمي عن الآيات ومن لم يعم عنها؟!

أو نقول : إذا لم يستو الأعمى والبصير ، كيف يستوي من يتعامى عن الحق ومن لم يتعام؟! (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) أنهما لا يستويان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ).

في آيات الله وما ذكركم.

أو نقول : (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) في وعظكم ، بالله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) [٥١].

اختلف فيه :

قال بعضهم : هو صلة قوله : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ...) الآية ، أيئس الكفرة عما سألوا من الأشياء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أمر بالإنذار الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم وهم المؤمنون ، أي : يعلمون أنهم يحشرون إلى ربهم ، وأن ليس لهم [ولي](١) يدفع عنهم ما يحل بهم ، ولا شفيع يسأل لهم ما لم يعطوا.

وجائز أن يكون تخصيص الأمر بإنذار المؤمنين لما كان الإنذار ينفعهم ولا ينفع غيرهم ، وليس فيه لا ينذر غيرهم ؛ وهو كقوله : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) [يس : ١١] ليس فيه أنه لا ينذر من لم يتبع الذكر ولا خشي الرحمن ولكن أنبأ (٢) أنه إنما ينفع (٣) هؤلاء ؛ كقوله تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات : ٥٥] أخبر أن الذكرى تنفع المؤمنين ولا تنفع أولئك ، ينذر الفريقين : من اتبع ، ومن لم يتبع ، ومن انتفع ، ومن لم ينتفع ، ويكون قوله : (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌ) ، يعني : ليس لأولئك أولياء ولا شفعاء ؛ لأنهم يقولون : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨](ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ونحوه أخبر (٤) أن ليس لهم ولي ولا شفيع دونه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ ...).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : إنباء.

(٣) في أ : يشفع.

(٤) في ب : وأخبر.

٩٠

يذكر في بعض القصة أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يسبقون إلى مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيجلسون قريبا منه ، فيجيء أشراف القوم وساداتهم ، وقد أخذ أولئك المجلس فيجلس هؤلاء ناحية ، فقالوا : نحن نجيء فنجلس ناحية ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إنا سادات قومك وأشرافهم ، فلو أدنيتنا منك [في](١) المجلس ، فهمّ أن يفعل ذلك ، فأنزل الله هذه الآية يعاتب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم [بقوله](٢) : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ...)(٣) الآية.

وإلى هذا يذهب عامة أهل التأويل ، لكنه بعيد ؛ إذ ينسبون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أوحش فعل وأفحشه ما لو كان فيه إسقاط نبوته ورسالته ؛ إذ لا يحتمل أن يكون [النبي](٤) صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرب أعداءه ويدني مجلسهم منه ، ويبعد الأولياء ، هذا لا يفعله سفيه فضلا أن يفعله رسول الله المصطفى على جميع بريته ، أو يخطر بباله شيء من ذلك ، وكان فيه ما يجد الكفرة فيه (٥) مطعنا يقولون : يدعو الناس إلى التوحيد والإيمان به والاتباع له ، فإذا فعلوا ذلك وأجابوه طردهم وأبعد مجلسهم [منه](٦) ، هذا لعمري مدفوع في عقل كل عاقل ، ولكن إن كان فجائز أن يكون منهم طلب ذلك طلبوا منه أن يدني مجلسهم ويبعد أولئك ؛ هذا يحتمل (٧) ، وأما أن يهم أن يفعل ذلك أو خطر بباله شيء من ذلك فلا يحتمل.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه بن جرير (٥ / ١٩٩) (١٣٢٥٨ ، ١٣٢٥٩) عن ابن مسعود (١٣٢٦٠) عن كردوس بن عباس ، (١٣٢٦١) عن خباب بن الأرت ، (١٣٢٦٣) ، (١٣٢٦٤) عن قتادة والكلبي ، (١٣٢٦٥) عن مجاهد ، (١٣٢٦٦) عن سعد بن أبي وقاص (١٣٢٦٧) عن عكرمة ، (١٣٢٦٨) عن ابن زيد وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٤ ـ ٢٦) وعزاه لأحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود ولابن المنذر عن عكرمة.

ولابن أبي شيبة وابن ماجه وأبي يعلى وأبي نعيم في الحلية وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن خباب. وللفريابي وأحمد وعبد بن حميد والنسائي وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبي الشيخ وابن مردويه والحاكم وأبي نعيم في الحلية والبيهقي في الدلائل عن سعد بن أبي وقاص.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : عليه.

(٦) سقط في ب.

(٧) روى الإمام مسلم حديث (٤٥ / ٤٦) (فضائل الصحابة) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ستة نفر ، فقال له المشركون : اطرد هؤلاء يجترئون علينا! قال : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما ، فوقع في نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شاء الله أن يقع ، فحدث نفسه ، فأنزل الله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ ...) الآية.

وأخرج نحوه الحاكم وابن حبان في صحيحيهما. ـ

٩١

وجائز أن يكون هذا من الله ابتداء تأديبا وتعليما (١) ؛ يعلم رسوله صحبة أصحابه ومعاملته معهم ؛ كقوله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) [الكهف : ٢٨] ، ونهاه أن يمد عينه إلى ما متع أولئك ؛ كقوله : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ...) الآية [طه : ١٣١] ويخبره عن عظيم قدرهم عند الله.

وقد ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي والحظر (٢) ، بل العصمة تزيد في النهي والزجر ، وأخبر أن ليس عليه من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء ، فإنما عليك البلاغ وعليهم الإجابة ؛ وهو كقوله :

(فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) [النور : ٥٤].

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ).

يشبه أن يكونوا يجتمعون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل غداة ومساء ، فيسمعون منه ، ثم يفترقون على ما عليه أمر الناس من الاجتماع في كل غداة ومساء عند الفقهاء وأهل العلم.

وجائز أن يكون ذكر الغداة والعشي كناية (٣) عن الليل كله وعن النهار جملة ؛ كقوله :

__________________

ـ وروى الإمام أحمد (١ / ٤٢٠) عن ابن مسعود قال : مر الملأ من قريش على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار ، فقالوا : يا محمد! أرضيت بهؤلاء؟ فنزل عليه القرآن : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) إلى قوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)[الأنعام : ٥١ ، ٥٣].

ورواه ابن جرير عن ابن مسعود أيضا قال : مر الملأ من قريش برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب وغيرهم من ضعفاء المسلمين وفيه : فقالوا : يا محمد! أرضيت بهؤلاء من قومك ، أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ونحن نصير تبعا لهؤلاء؟ اطردهم ، فلعلك إن طردتهم نتبعك! فنزلت هذه الآية : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ...) إلى آخر الآية [الأنعام : ٥٢] الآية.

إذا علمت ذلك تبين أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يطردهم بالفعل ، وإنما هم بإبعادهم عن مجلسه آن قدوم أولئك ، ليتألفهم فيقودهم ذلك إلى الإيمان ، فنهاه الله عن إمضاء ذلك الهم.

وما أورده الرازي من كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم طردهم ، ثم أخذ يتكلف في الجواب عنه ، لمنافاته العصمة على زعمه ، فبناء على واه. والقاعدة المقررة أن البحث في الأثر فرع ثبوته ، وإلا فالباطل يكفي في رده ، كونه باطلا.

والمعنى : لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك ، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك.

كقوله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)[الكهف : ٢٨].

(١) ورد في ب : تأديب وتعليم. والصواب ما ذكر في (أ) على أنه صبي يكون.

(٢) في أ : الخطر.

(٣) الكناية لغة : أن تتكلم بشيء وتريد غيره ، يقال كنيت بكذا عن كذا وكنيت عن الشيء كناية ، وكنى عن الأمر بغيره ، يعني إذا تكلم بغيره مما يستدل عليه نحو الرفث والغائط. ينظر لسان العرب (٥ / ٣٩٤٤) ، ترتيب القاموس (٤ / ٩٢) ، الصحاح (٦ / ٢٤٧٧) ، أساس البلاغة للزمخشري ص (٨٣٦) ـ

٩٢

(وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) [الضحى : ١ ، ٢] ليس يريد ب (وَالضُّحى) الضحوة خاصة ولكن النهار كله.

ألا ترى أنه قال : (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) ذكر الليل دل أنه كان الضحى كناية عن النهار جملة ؛ فعلى ذلك الغداة والعشي يجوز أن يكون كناية عن الليل والنهار جملة ، والله أعلم.

وجائز أن يكون أصحاب الحرف والمكاسب ، لا يتفرغون للاجتماع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستماع (١) منه في عامة النهار ، ولكن يجتمعون إليه ويستمعون (٢) منه بالغداة والعشي ، فكان ذكر الغداة والعشي لذلك أو لما ذكرنا.

وجائز أن يكون المراد بذكر الغداة والعشي صلاة الغداة ، وصلاة العشاء ؛ يقول : لا تطرد من يشهد هاتين الصلاتين ، وإنما [كان](٣) يشهدهما أهل الإيمان ، وأما أهل النفاق : فإنهم [كانوا](٤) لا يشهدون هاتين الصلاتين ، ويحتمل [غير] ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ).

[الظلم](٥) على وجوه : ظلم كفر ، وظلم شرك ، وظلم يكون بدونه ، وهو أن يمنع أحدا حقه أو أخذ منه حقا بغير حق ؛ فهو كله ظلم.

والظلم ـ هاهنا والله أعلم ـ : يشبه أن يكون هو وضع الحكمة في غير أهلها ؛ لأنه لو كان منه ما ذكر من [طرد أولئك وإدناء أولئك](٦) لم يكن أهلا للحكمة ، ويجوز أن يوصف واضع الحكمة في غير موضعها بالظلم ؛ على ما روى في الخبر : «أن من وضع الحكمة في غير أهلها فقد ظلمها ، ومن منعها عن أهلها فقد ظلمهم».

__________________

ـ كتاب الشعب. وعند علماء البيان : لفظ أريد به لازم معناه ، مع جواز إرادة معناه ، وذلك بأن تكني عن الشيء وتعرض به دون تصريح كقوله تعالى (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) [النساء : ٤٣] (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) وفلان كثير الرماد ومهزول الفصيل ، أي كثير الضيف. فالغائط : كناية عن الحاجة ، وملامسة النساء كناية عن الجماع ، وقوله تعالى (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) [الواقعة : ٣٤] كناية عن النساء. ينظر بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة ، لعبد المتعال الصعيدي ٣ / ١٧٣ ، كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري ص (٣٦٨) ، كشاف اصطلاحات الفنون (٣ / ٦٥) جامع العلوم (٢ / ١٥٠ ـ ١٥١).

(١) في ب : الاستمتاع.

(٢) في ب : يستمتعون.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) في ب : من طرد وإدناء أولئك وأولئك.

٩٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ).

قوله : (وَكَذلِكَ) لا يتكلم إلا على أمر سبق ، فهو ـ والله أعلم ـ يحتمل أن يقول لما قالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء الأعبد من قومك ، أفنحن نكون تبعا لهؤلاء ، ونحن سادة القوم وأشرافهم؟! فقال عند ذلك : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي : كما فضلتكم على هؤلاء في أمر الدنيا فكذلك (١) فضلتهم عليكم في أمر الدين ، ويكونون (٢) هم المقربين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمدنين مجلسهم إليه ، وأنتم أتباعهم في أمر الدين ، وإن كانوا هم أتباعكم في أمر الدنيا ؛ فكذلك امتحان بعضهم ببعض.

ويحتمل وجها آخر : وهو أن يقال : كما كان له امتحان كل في نفسه ابتداء محنة ؛ كقوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥].

وكقوله : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الأعراف : ١٦٨].

وقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ...) الآية [البقرة : ١٥٥].

فعلى ذلك له أن يمتحن بعضكم ببعض.

وأشد المحن أن يؤمر المتبوع ومن يرى لنفسه فضلا بالخضوع للتابع ومن هو دونه عنده ، يشتد ذلك عليه ويتعذر ؛ لما كانوا يرون هم لأنفسهم الفضل والمنزلة في أمر الدنيا ، فظنوا أنهم كذلك يكونون في أمر الدين ؛ وعلى ذلك يخرج امتحانه (٣) إبليس بالسجود لآدم لما رأى لنفسه فضلا عليه فقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) [الأعراف : ١٢] ولم ير الخضوع لمن دونه عدلا وحكمة ، فصار ما صار ؛ فعلى ذلك هؤلاء لم يروا أولئك الضعفة أن يكونوا متبوعين عدلا وحكمة ، وظنوا أنهم لما كانوا مفضلين في أمر الدنيا ، وكان لهؤلاء إليهم حاجة ـ يكونون في أمر الدين كذلك ، ويقولون : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١] ونحوه من الكلام.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا).

قال بعضهم : هو موصول بالأول بقوله : (فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا) يقول الكافر قول الكفر والمؤمن قول الإيمان. ثم ابتدأ فقال : (أَهؤُلاءِ) أي : يقول الكفرة (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) ليس بمفصول من قوله (لِيَقُولُوا) ولكن موصول به (لِيَقُولُوا) يعني الكفرة (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا).

__________________

(١) في ب : فلذلك.

(٢) في أ : ويكون.

(٣) في ب : امتحن.

٩٤

ثم يحتمل قوله (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) بالحظ بالتقريب والإدناء في المجلس وجعلهم متبوعين من بيننا بعد ما كانوا أتباعا لنا فقال عند ذلك (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) أي : عرف هؤلاء نعمة الله تعالى ، ووجهوا شكر نعمه إليه وأنتم وجهتم شكر نعمه إلى غيره بعد ما عرفتم أنه هو المنعم عليكم والمسدي إليكم.

قوله تعالى : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ)(٥٨)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) هذا يدل على أن النهي عن الطرد ليس للإبعاد خاصة في المجلس ، ولكن في كل شيء في بشاشة الوجه واللطف في الكلام وفي كل شيء ؛ لأنه قال (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ)

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) قال بعضهم (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) هو أن يبدأهم بالسلام فذلك الذي كتب على نفسه الرحمة.

وقال بعضهم قوله (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي : لم يأخذهم في أول ما وقعوا في المعصية ولكن أمهلهم إلى وقت وجعل لهم المخرج من ذلك بالتوبة وعلى ذلك ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : «فتح الله للعبد التوبة إلى أن يأتيه الموت».

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : كل من عمل سوءا بجهالة ثم تاب من بعد ذلك وأصلح أنه يغفر له ما كان منه.

ومن قرأها بالنصب عطفه على قوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لذلك.

وجائز أن يكون قوله (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي : كتب على خلقه الرحمة أن يرحم بعضهم بعضا.

وجائز ما ذكرنا أنه كتب على نفسه الرحمة أي : أوجب أن يرحم ويغفر لمن تاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) جائز أن يكون الآية في الكافر إذا

٩٥

تاب يغفر الله له ما كان منه في حال الكفر والشرك كقوله : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ...) الآية ، وقوله : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨].

وجائز أن تكون في المؤمنين.

ثم ذكر عملا بجهالة وإن لم يكن يعمل بالجهل لأن الفعل فعل الجهل وإن كان فعله لم يكن على الجهل ؛ وكذلك ما ذكر من النسيان والخطأ في الفعل ؛ لأن فعله فعل ناس وفعل مخطئ وإن لم يفعله الكافر على النسيان والخطأ ، وإلا لو كان على حقيقة الخطأ والنسيان لكان لا يؤاخذ به ؛ لقوله (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) [الأحزاب : ٥] لكن الوجه ما ذكرنا أن الفعل فعل نسيان وخطأ وإن لم يكن ناسيا ولا مخطئا فيه ، وعلى ذلك [الفعل] فعل جهل وإن لم يكن جاهلا والفعل فعل جهل وإن لم يكن بالجهل ، والمؤمن جميع ما يتعاطى من المساوي يكون لجهالة ؛ لأنه إنما يعمل السوء إما لغلبة شهوة أو للاعتماد على كرم ربه بالعفو عنه والصفح عن ذلك ويعمل السوء على نية التوبة والعزم عليها في آخره. على هذه الوجوه الثلاثة يقع المؤمن في المعصية وأما على التعمد فلا يعمل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) قرئ بالياء والتاء جميعا.

فمن قرأ بالتاء نصب السبيل بجعل الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : لتعرف سبيل المجرمين.

ومن قرأ بالياء رفع «السبيل» كأنه قال نفصل الآيات وجوها.

أي : نبين الآيات ما يعرف السامعون أنها آيات من عند الله غير مخترعة من عند الخلق ولا مفتراة ما يبين سبيل المجرمين من سبيل المهتدين.

والثاني : نفصل الآيات ما بالخلق حاجة إليها وإلى معرفتها.

والثالث : نبين من الآيات ما بين المختلفين ، أي : بين سبيل المجرمين وبين سبيل المهتدين.

(وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) تأويله ما ذكرنا أن من قرأ بالتاء حمله على خطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : نبين من الآيات لتعرف سبيل المجرمين بالنصب.

ومن قرأ بالياء نبين من الآيات ليتبين سبيل المجرمين من سبيل غير المجرمين ، والله أعلم.

٩٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) معناه ـ والله أعلم ـ : إني نهيت بما أكرمت من العقل واللب أن أعبد الذين تعبدون من دون الله.

أو يقول : إني نهيت بما أكرمت من الوحي والرسالة أن أعبد الذين تدعون من دون الله.

(قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) ثم أخبر أن ما يعبدون هم من دون الله إنما يعبدونه اتباعا لهوى أنفسهم وأن ما يعبده هو ليس يتبع هوى نفسه ، ولكن إنما يتبع الحجة والسمع وما يستحسنه العقل ؛ ألا ترى أنه قال (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي : على حجة من ربي؟! يخبر أن ما يعبده هو يعبده اتباعا للحجة والعقل ، وما يعبدون اتباعا لهوى أنفسهم ، وما يتبع بالهوى يجوز أن يترك اتباعه ويتبع غيره لما تهوى نفسه هذا ولا تهوى الأول وأما ما يتبع بالحجة والسمع وما يستحسنه العقل فإنه لا يجوز أن يترك اتباعه ويتبع غيره وفيه تعريض بسفههم ؛ لأنه قال (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي : لو اتبعت هواكم لضللت أنا ، وأنتم إذا اتبعتم أهواءكم لعبادتكم غير الله ضلال ولستم من المهتدين ؛ فهو تعريض بالتسفيه لهم والشتم منه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) قيل : على بيان من ربي وحجة ، وقيل على دين من ربي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) قيل بالقرآن ، وقيل : العذاب ما أوعدتكم ويحتمل كذبتم ما وعدتكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أي : العذاب كقوله ـ تعالى ـ : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) [الحج : ٤٧] وغيره فقال ما عندي ما تستعجلون به من العذاب. ثم هذا يدل على أن قوله : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أن المراد بالخزائن العذاب أي : ليس عندي ذلك ، إنما ذلك إلى الله وعنده ذلك وهو قوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) ، أي : ما الحكم والقضاء إلا لله.

(يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) اختلف في تلاوته وتأويله : قرأ بعضهم بالضاد وآخرون بالصاد.

فمن قرأ بالصاد (يَقُصُ) يقول يبين الحق ؛ لأن القصص هو البيان. وقال آخر (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) أي : خير المبينين.

ومن قرأ بالضاد يقول يقضي بحكم.

٩٧

ثم اختلف فيه : قال بعضهم أي : يقضي بالحق وكذلك روي في حرف ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ (يَقْضِي بِالْحَقِ) وقيل فيه إضمار ، أي : يقضي ويحكم وحكمه الحق.

(يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) أي : القاضين والفصل والقضاء واحد ؛ لأنه بالقضاء يفصل والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) لأهلكتكم.

وقيل : (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ، أي : لعجلته لكم بالقضاء [فيما بيننا ، يخبر](١) عن رحمة الله وحلمه ، أي : لو كان بيدي لأرسلته (٢) عليكم ، لكن الله بفضله ورحمته يؤخر ذلك عنكم.

ثم فيه نقض على المعتزلة في قولهم بأن الله لا يفعل بالعبد إلا الأصلح في الدين ؛ لأنه قال : (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ، ثم لا يحتمل أن تأخير العذاب والهلاك خير لهم وأصلح ، ثم هو يهلكهم ويكون عظة لغيرهم وزجرا لهم ، ثم إن الله ـ تعالى ـ أخر ذلك العذاب عنهم وإن كان فيه شر لهم ؛ فدل أن الله قد يفعل بالعبد ما ليس ذلك بأصلح له في الدين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ).

أي : عليم بمن الظالم منا؟ وهم كانوا ظلمة.

قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ)(٦٢)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ).

هذا ـ والله أعلم ـ يحتمل أن يكون صلة قوله : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا

__________________

(١) في ب : وما بيننا الخبر.

(٢) في أ : لأرسلت.

٩٨

أَعْلَمُ الْغَيْبَ) [الأنعام : ٥٠] ، وصلة قوله : (ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) ؛ كانوا يطلبون منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسألونه أشياء من التوسيع في الرزق ، وغير ذلك مما كان يعدهم من الكرامة والمنزلة والسعة ، وكان يوعدهم بالعذاب ويخوفهم بالهلاك ، فيستعجلون ذلك منه ويطلبون منه ما أوعدهم فقال : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) ، ليس ذلك عندي ، لا يعلم ذلك إلا هو.

ومفاتح : من المفتح ، ليس من المفتاح [؛ لأن المفتاح] يكون جمعه مفاتيح ، والمفتح : يقال في النصر والمعونة ؛ يقال : فتح الله عليه بلدة كذا ، أي : نصره وجعله غالبا عليهم ، ويقال فيما يحدثه ويستفيد منه : فتح فلان على فلان باب كذا ، أي : علمه علم ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ).

أي : من عنده يستفاد ذلك ومنه يكون ، ومن نصر آخر إنما ينصر به ، ومن علم آخر علما إنما يعلمه به ، ومن وسع على آخر رزقا إنما يوسعه بالله ، كل هذا يشبه أن يخرج تأويل الآية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).

هذا يحتمل وجوها ؛ يحتمل [أي يعلم](١) ما في البر والبحر من الدواب ، وما يسكن فيها من ذي الروح ، كثرتها وعددها وصغيرها [وكبيرها](٢) لا يخفى عليه شيء.

والثاني : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ، أي : يعلم رزق كل ما في البر والبحر (٣) من الدواب ويعلم حاجته ، ثم يسوق إلى كل من ذلك رزقه.

يذكر (٤) هذا ـ والله أعلم ـ ليعلموا أنه لما ضمن للخلق لكل منهم رزقه ، يسوق إليه رزقه من غير تكلف ولا طلب (٥) ؛ [كما يسوق أرزاق](٦) كل ما في البر والبحر من غير طلب ولا تكلف (٧) ، لا تضيق قلوبهم لذلك ، فما بالكم تضيق قلوبكم على ذلك ، وقد ضمن ذلك لكم كما ضمن لأولئك؟!

والثالث : يعلم ما في البر والبحر من اختلاط الأقطار بعضها ببعض ، ومن دخول بعض

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : ما في البحر والبر.

(٤) في ب : يخبر.

(٥) في ب : ولا تكلف.

(٦) سقط في ب.

(٧) زاد في ب : كما يسوق أرزاق.

٩٩

في بعض ، يخرج هذا على الوعيد : أنه لما كان عالما بهذا كله يعلم بأعمالكم ومقاصدكم.

فإن قيل : هذا الذي ذكر كله في الظاهر دعوى ، فما الدليل على أنه كذلك؟

قيل : اتساق التدبير في كل شيء وآثاره فيه يدل على أنه كان بتدبير واحد ؛ لأن آثار التدبير في كل شيء واتساقه على سنن واحد ظاهرة بادية ، فذلك يدل على ما ذكر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ...) [الآية](١).

يحتمل الكتاب ـ هاهنا ـ : التقدير والحكم اختلف فيه ؛ قال بعضهم : قوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي : محفوظ كله عنده ؛ يقول الرجل لآخر : عملك كله عندي مكتوب ، يريد الحفظ ، أي : محفوظ عندي ، وذلك جائز في الكلام.

وقيل (٢) : الكتاب ـ هاهنا ـ : [هو](٣) اللوح المحفوظ ، أي : كله مبين فيه.

وقال الحسن ـ رحمه‌الله ـ : إن الله يخرج كتابا في كل ليلة قدر (٤) ،

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ذكره ابن جرير في تفسيره (٥ / ٢١١) ، وابن عادل في اللباب (٨ / ١٩٠) ، والبغوي في تفسيره (٢ / ١٠٢) ، وأبو حيان في البحر المحيط (٤ / ١٥٠) ، والقرطبي في تفسيره (٧ / ٥).

(٣) سقط في أ.

(٤) لا اختلاف بين العلماء أن ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان ، لما روي عن أبي ذر الغفاري أنه قال : قلت : يا رسول الله رفعت ليلة القدر مع الأنبياء ، أو هي باقية إلى يوم القيامة. قال : هي باقية قلت : هي في رمضان أو غيره. قال : «في رمضان». قال قلت : هي في العشر الأول ، أو الأوسط ، أو الآخر قال : «هي في الأواخر» : وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «التمسوها في العشر الأواخر. والتمسوها في كل وتر» ثم اختلفوا في موضعها من العشر فحكي عن أبي بن كعب ، وعبد الله بن عباس أنها في ليلة سبع وعشرين ، وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، وأنزل الزبور على داود في اثني عشر من رمضان وأنزل الإنجيل على عيسى في ثماني عشر من شهر رمضان وأنزل الفرقان على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أربع وعشرين من شهر رمضان». قالوا وإنما أنزل في ليلة القدر ، فدل أنها في أربع وعشرين من رمضان.

قال الشافعي رحمه‌الله الذي يشبه أن يكون في إحدى وعشرين ، أو ثلاث وعشرين لحديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلم قال : «أريت هذه الليلة وخرجت لأعلمكم فتلاحى رجلان فأنسيتها ورأيتني أسجد في صبيحتها في ماء وطين» قال أبو سعيد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى وجهه أثر الماء والطين في صبيحة إحدى وعشرين. قال أبو سعيد : وكان المسجد على عريش فوكف.

فأخذ الشافعي بهذه الرواية ، وقال الشافعي في موضع إلى ثلاث وعشرين وبعدهما ليلة سبع وعشرين هذا هو المشهور في المذهب.

وقال إمامان جليلان وهما المزني وأبو بكر محمد بن إسحاق وهي متنقلة في ليالي العشر فتنتقل في بعض السنين إلى ليلة ، وفي بعضها إلى غيرها جمعا بين الأحاديث. وهذا هو الظاهر المختار لتعارض الأحاديث الصحيحة في ذلك ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلا بانتقالها ، وصفة هذه ـ

١٠٠