تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

ويدفعه (١) إلى الملائكة ، وفيه مكتوب كل ما يكون في تلك السنة ؛ ليحفظوه على ما يكون. أو كلام نحو هذا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ).

__________________

ـ الليلة وعلامتها أنها ليلة طلقة لا حارة ولا باردة ، وأن الشمس تطلع في صبيحتها بيضاء ، ليس لها كثير شعاع ، فإن قيل : فأي فائدة لمعرفة صفتها بعد فواتها ، فإنها تنقضي بمطلع الفجر.

فالجواب : من وجهين :

أحدهما : أنه يستحب أن يكون اجتهاده في يومها الذي بعدها كاجتهاده فيها.

والثاني : أنها لا تنتقل ، فإذا عرفت ليلتها في سنة انتفع به في الاجتهاد فيها في السنة الآتية ، ويسن الإكثار من الصلاة ، والدعاء فيها ، والاجتهاد في ذلك ، وغيره من العبادات ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه». ويستحب الدعاء فيها بما ورد في حديث عائشة وهو قولها يا رسول الله أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما ذا أقول : قال : تقولين «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني».

وأجمع العلماء على أن ليلة القدر باقية دائمة إلى يوم القيامة ، وعلى هذا اختلفوا في محلها : فقيل هي متنقلة تكون في سنة في ليلة ، وفي سنة في ليلة أخرى ، وبهذا يجمع بين الأحاديث ويقال كل حديث جاء بأحد أوقاتها ، فلا تعارض فيها ، ونحو هذا قول مالك ، والثوري ، وأحمد وإسحاق ، وأبي ثور ، وغيرهم ، وانتقالها قالوا : تنتقل في العشر الأواخر من رمضان.

وقيل في رمضان كله.

وقيل : في السنة كلها.

وقيل : بل في رمضان خاصة.

وقيل : في العشر الأوسط منه.

وقيل : تختص بأوتار العشر الأواخر.

وقيل : في ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين ، وهو قول ابن عباس.

وقيل : ليلة سبعة عشر أو واحد وعشرين.

وقيل : ليلة أربعة وعشرين.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أريت هذه الليلة ثم أنسيتها» : وليس معناه أنه رأى الملائكة والأنوار عيانا ، ثم أنسي ذلك ؛ لأن مثل هذا قلما ينسى ، وإنما معناه أنه قيل له : ليلة القدر كذا وكذا ، ثم أنسي كيف قيل له والأحاديث الواردة في ذكر ليلة القدر وفي فضلها كثيرة نذكرها تتميما للفائدة.

وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» ، وعن ابن عمر أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر» رواه البخاري ومسلم. وعن عائشة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ، ويقول : «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» : رواه البخاري ومسلم. ولفظه للبخاري «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» ، وعن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى» رواه البخاري. وفي ب : ليلة القدر.

(١) في ب : يدفع.

١٠١

قال بعض أهل الكلام (١) : إن لكل حاسة من هذه الحواس روحا تقبض عند النوم ، ثم ترد إليها ، سوى روح الحياة فإنها لا تقبض ؛ لأنه يكون أصم بصيرا متكلما ناطقا ، ويكون أعمى سميعا ، ويكون أخرس سميعا بصيرا ، فثبت أن لكل حاسة من حواس النفس روحا على حدة تقبض عند النوم ، ثم ترد إليها إذا ذهب النوم.

وأما الروح التي (٢) بها (٣) تحيا (٤) النفس : فإنه لا يقبض ذلك منه إلا عند انقضاء أجله وهو الموت.

وقالت الفلاسفة : الحواس هي التي تدرك صور الأشياء بطينتها (٥).

__________________

(١) أي المنتسبون إلى علم الكلام ، ويعرف علم الكلام ـ كما قال أبو الخير في الموضوعات ـ هو علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها وموضوعه ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته عند المتقدمين.

وقيل : موضوعه الموجود من حيث هو موجود.

وعند المتأخرين موضوعه المعلوم من حيث ما يتعلق به من إثبات العقائد الدينية تعلقا قريبا أو بعيدا أو أرادوا بالدينية المنسوبة إلى دين نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى ملخصا.

والكتب المؤلفة فيه كثيرة ذكرها صاحب كشف الظنون.

ينظر أبجد العلوم (٢ / ٤٤٠ ـ ٤٤١)

(٢) في ب : الذي.

(٣) في أ : به.

(٤) في ب : يحيى.

(٥) الحواس : جمع حاسة وهي القوة الحساسة وهي خمس وكانت خمسا لا أكثر لأن العقل حاكم بوجود الخمس بالضرورة أما الحواس الباطنية التي هي خمس أخرى فلم يحكم العقل بوجودها بالضرورة بدليل الاختلاف في وجودها فالفلاسفة أثبتوها بأدلة تتنافى والقواعد الإسلامية وغيرهم نفوها أما أدلة الفلاسفة فمبنية على أن النفس لا تدرك الجزئيات المادية بالذات وعلى أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد أي لا يكون الواحد مبدأ لأثرين وحاصل المبنى الأول أنهم قالوا إن النفس لكونها مجردة لا ترتسم فيها صور الجزئيات وإلا لم تكن مجردة بل ترتسم في آلاتها التي هي الحواس فإدراك الجزئيات عندهم هو ارتسام صورها في الحواس وعلى ذلك لا بد من حس باطني لترتسم فيه تلك الصور والحق أن النفس ترتسم فيها صور الجزئيات وإن كان الإدراك بواسطة الحس وحيث إن الجزئيات ترتسم في النفس فلا تحتاج إلى حس باطني أما المبنى الثاني فقد قالوا فيه إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وعلى هذا لا بد من الحس الباطني فيكون إدراك المعاني الجزئية ناشئا عن مصادر مختلفة غير النفس وتلك المصادر هي الحواس الباطنية والحق أن الواحد يصدر عنه أشياء كثيرة فالنفس الناطقة يصدر عنها إدراك المادة وإدراك المعاني.

الأول من الحواس السمع : هو عند الحكماء قوة مودعة في العصب المفروش في مقعر صماخ الأذنين وأما عند أهل السنة فهو قوة خلقها الله في الأذن ووظيفة السمع إدراك الأصوات فقط بطريق وصول الهواء المتكيف بالصوت إلى صماخ الأذن والسمع سبب عادي للعلم بمعنى أن الله سبحانه يخلق العلم عند السمع لا به فليس مؤثرا في العلم كما عرفت سابقا من استناد جميع الممكنات إلى الله تعالى.

الثاني البصر : وهو عند الحكماء قوة مركزة في العصبتين المجوفتين اللتين تتلاقيان في مقدم ـ

١٠٢

وقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ).

فيه دلالة أن ليس ذكر الحكم في حال أو تخصيص الشيء في حال دلالة سقوط ذلك في حال أخرى ؛ لأنه قال : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) ، ليس فيه أنه لا يعلم ما جرحنا

__________________

ـ الدماغ على هيئة دالين ظهر كل منهما ظهر للأخرى ثم يفترقان بعد هذا التلاقي يمينا وشمالا فيسير العصب الأيمن إلى العين اليمنى والأيسر إلى العين اليسرى والتجويف الحاصل عند الملتقى هو المودع فيه تلك القوة الباصرة ويسمى مجمع النورين وأهل السنة يقولون إن البصر هو قوة خلقها الله في العينين ووظيفته إدراك المبصرات من الأضواء والألوان والأشكال والمقادير والحركات والحسن والقبح كما قال الشارح وقد بحثوا في قوله إن الحركة تدرك بالبصر وحاصل هذا البحث أن الحركة من الأعراض النسبية والأعراض النسبية أمور اعتبارية ليس لها تحقق في الخارج فلا تدرك بالبصر لأن الإدراك بالحسن فرع الوجود الخارجي أما كونها عرضا نسبيا فإن الحركة هيئة تعرض للجسم باعتبار نسبته إلى مكان وحاصل الجواب عن هذا البحث أن المتكلمين وإن أنكروا وجود الأعراض النسبية إلا أنهم قالوا الحركة من الأمور الموجودة بدليل أنها قسم من الكون وقد قالوا وجود الكون ضروري بشهادة الحس وهو ينقسم إلى أربعة أقسام حركة وسكون واجتماع وافتراق فالحركة موجودة ولزوم النسبة لها لا يمنع من وجودها فقد يكون الشيء موجودا ويتصف بالعدمي كاتصاف الموجود بالعدمي ومبنى الخلاف في كون الحركة مبصرة أو المبصر هو المتحرك على خلاف آخر ـ هو هل الأكوان الأربعة موجودة أو غير موجودة فمن قال إن الأكوان الأربعة موجودة قال إن الحركة مبصرة لأنها قسم من الأكوان ومن قال إن الأكوان غير موجودة قال إن الحركة ليست مبصرة وإنما المبصر هو المتحرك فجعل الحركات من المبصرات إنما يصح على أحد المذهبين.

الثالث : الشم : وهو عند الحكماء قوة مودعة في الزائدتين البارزتين في مقدم الدماغ وقد شبهوهما بحلمتي الثدي ووظيفته إدراك الروائح عن طريق وصول الهواء المتكيف بكيفية ذي الرائحة إلى الخيشوم الذي هو أقصى الأنف.

الرابع : الذوق : وهو عند الحكماء قوة منبثة في العصب المفروش على جرم اللسان ووظيفته إدراك الطعوم بمخالطة الرطوبة اللعابية التي في الفم بالمطعوم ووصولها إلى العصب المودع فيه تلك القوة.

الخامس : اللمس : وهو عند الحكماء قوة منبثة في جميع البدن ووظيفتها إدراك الحرارة والرطوبة واليبوسة عند تماس الحرارة والبرودة به.

وهذه الحواس الخمس كما عرفت لا يدرك بها إلا ما خصصت له فلا يدرك بالبصر إلا المرئي ولا يدرك بالسمع إلا ما خصص له من الصوت وهكذا يقال في باقي الحواس بدليل أن الحاسة لو أصابها عطل امتنع إدراك ما كان لها بحاسة أخرى فالأصم مثلا لا يدرك الصوت بحاسة البصر ولا بالذوق إذ معناه أن كل حاسة من تلك الحواس يدرك بها ما خصصت له فالله سبحانه وتعالى خصص لكل حاسة شيئا مخصوصا لا يدرك بغيرها وهل يجوز عقلا أن تتعدى كل حاسة مدركها أو يمتنع ذلك؟ خلاف وقد رجح السعد القول بالجواز وقال إن ذلك هو الحق لأن هذا التخصيص بمحض إرادة الله تعالى كما أن إدراك كل حاسة لمدركاتها بخلق الله بدون تأثير بالحواس فلا يمتنع عقلا أن يخلق الله عقيب صرف الباصرة وإدراك الأصوات أو إدراك الحلاوة والرطوبة بها ما دام المؤثر في الحقيقة هو الله تعالى.

ينظر : مذكرة الأستاذ صالح موسى شرف (٤٨ ـ ٥٢).

١٠٣

بالليل ، بل يعلم ما يكون منا بالليل والنهار جميعا ، وليس فيه أنه لا يتوفانا بالنهار وألا نجرح بالليل ، لكنه ذكر الجرح بالنهار والوفاة بالليل ؛ [لما أن الغالب أن يكون النوم بالليل والجرح بالنهار ؛ فهو كقوله ـ تعالى : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [يونس : ٦٧] ليس ألا يبصر بالليل ، لكن ذكر النهار](١) لما أن الغالب مما يبصر إنما (٢) يكون بالنهار ؛ فعلى ذلك الأول.

ثم فيه دلالة أن النائم غير مخاطب في حال نومه (٣) ؛ حيث ذكر الوعيد فيما يجرحون (٤) بالنهار ولم يذكر بالليل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ).

قال بعضهم (٥) : جرحتم ، أي : أثمتم بالنهار.

وقيل (٦) : يعلم ما كسبتم بالنهار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ).

يستدل بقوله : (يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) على الإحياء بعد الموت ؛ لأنه يذهب أرواح هذه الحواس ثم يردها إليها من غير أن يبقى لها أثر ، فكيف تنكرون البعث بعد الموت وإن لم يبق من أثر الحياة [شيء](٧)؟!

ثم القول في الجمع بعد التفرق مما الخلق يفعل ذلك ويقدر عليه ؛ نحو ما يجمع من التراب المتفرق فيجعله (٨) طينا ، ورفع البناء من مكان ، ووضعه في مكان آخر ، وغير ذلك من جمع بعض إلى بعض ، وتركيب بعض على بعض ؛ فدل أن الأعجوبة في ردّ ما ذهب كله حتى لم يبق له أثر ، لا في جمع ما تفرق ، والله أعلم.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : أن.

(٣) ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رفع القلم عن ثلاثة ... والنائم حتى يستيقظ» رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن علي وعمر.

وقوله «رفع القلم عن ثلاثة» كناية عن عدم التكليف وعبر بلفظ الرفع إشعارا بأن التكليف لازم لبني آدم إلا لثلاثة وأن صفة الرفع لا تنفك عن غيرهم ، ينظر فيض القدير للمناوي (٤ / ٣٥).

(٤) في أ : يخرجون.

(٥) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢١٢) (١٣٣١٢) عن السدي بنحوه (١٣٣١٣) عن ابن عباس (١٣٣١٦) عن قتادة وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٠) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٦) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢١٢) (١٣٣١٧) عن مجاهد وبمثله عن قتادة (١٣٣١٤) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٠) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة بنحوه.

(٧) سقط في أ.

(٨) في ب : فتجعله.

١٠٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ).

أي : يوقظكم ، ويرد إليكم أرواح الحواس.

(لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى).

أي : مسمى العمر إلى الموت.

(ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

خرج هذا على الوعيد لما ذكرنا ؛ ليكونوا على حذر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) ، وقوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).

يعلم كل ما يغيب عن الخلق ولا يخفى عليه شيء ؛ لأنه عالم بذاته لا (١) يحجبه شيء ، ليس كعلم من يعلم بغيره (٢) ، فيحول بينه وبين العلم بالأشياء الحجب والأستار ، فأما الله ـ سبحانه وتعالى ـ فعالم (٣) بذاته لا يعزب عنه شيء ، ولا يكون له حجاب عن شيء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) : فيه جميع ما يحتاج أهل التوحيد في التوحيد ؛ لأنه أخبر أنه قاهر لخلقه وهم مقهورون ، ومن البعيد أن يشبه القاهر المقهور بشيء ، أو يشبه المقهور القاهر (٤) بوجه ، أو يكون المقهور شريك القاهر في معنى ؛ لأنه لو كان شيء من ذلك لم يكن قاهرا من جميع الوجوه ، ولا كان الخلق مقهورا في الوجوه كلها ، فإذا كان الله قاهرا بذاته الخلق كله كانت (٥) آثار قهره فيهم ظاهرة ، وأعلام سلطانه فيهم (٦) بادية ؛ دل على تعاليه عن الأشباه (٧) والأضداد ، وأنه كما وصف (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١].

وقوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ).

يكون على وجهين :

أحدهما : وهو القاهر وهو فوق عباده.

الثاني : على التقديم والتأخير ؛ وهو فوق عباده القاهر.

__________________

(١) في ب : ولا.

(٢) في ب : بغير.

(٣) في ب : عالم.

(٤) في أ : والقاهر.

(٥) في ب : كان.

(٦) في ب : لهم.

(٧) في أ : الأشياء.

١٠٥

ويحتمل قوله : (فَوْقَ عِبادِهِ) : بالنصر لهم والمعونة والدفع عنهم ؛ كقوله : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ، أي : بالنصر والمعونة ، والعظمة والرفعة والجلال ، ونفاذ السلطان والربوبية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً).

أخبر أنه القاهر فوق عباده ، وأنه أرسل عليهم الحفظة ؛ ليعلموا أن إرسال الحفظة عليهم لا لحاجة له [في ذلك لما أخبر [أنه] قاهر فوق عباده ولو كان ذلك لحاجة له](١) لم يكن قاهرا ؛ لأن كل من وقعت له حاجة صار مقهورا تحت قهر آخر ، فالله ـ تعالى ـ يتعالى عن أن تمسه حاجة ، أو يصيبه شيء مما يصيب الخلق ، بل إنما أرسلهم عليهم لحاجة الخلق : إما امتحانا منه للحفظة على محافظة أعمال العباد والكتابة عليهم ، من غير أن تقع (٢) له في ذلك حاجة ، يمتحنهم على ذلك ، ولله أن يمتحن عباده بما (٣) شاء من أنواع المحن ، وإن أكرمهم ووصفهم بالطاعة في الأحوال كلها بقوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] ، وغير ذلك من الآيات.

والثاني : يرسلهم (٤) عليهم بمحافظة (٥) أعمالهم والكتابة عليهم ؛ ليكونوا على حذر في ذلك [العمل](٦) ، [وذلك في الزجر أبلغ وأكثر ؛ لأن من علم أن عليه رقيبا في عمله وفعله كان أحذر في ذلك العمل](٧). وانظر فيه ، وأحفظ له ممن لم يكن عليه ذلك ، وإن كان يعلم كل مسلم أن الله عالم الغيب لا يخفى عليه شيء ، عالم بما كان منهم وبما يكون أنه كيف يكون؟ ومتى يكون؟

ثم اختلف في الحفظة هاهنا :

قال بعضهم (٨) : هم الذين قال الله [فيهم](٩) : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : يقع.

(٣) في ب : مما.

(٤) في ب : يرسله.

(٥) في ب : على محافظة.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في ب.

(٨) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢١٤) (١٣٣٢٦) عن السدي وفي (١٣٣٢٧) عن قتادة وذكره السيوطي في الدر المنثور (٣ / ٣٠) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة ، وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن السدي.

(٩) سقط في ب.

١٠٦

(وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ. وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ. يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ. كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ. وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [الانفطار : ١ ـ ١٢] يكتبون أعمالهم ويحفظونها عليهم.

وقال آخرون : هم الذين يحفظون أنفاس الخلق ، ويعدون (١) عليهم إلى وقت انقضائها وفنائها ، ثم تقبض منه الروح ويموت ؛ ألا ترى أنه قال على أثره : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) ؛ دل على أن الحفظة ـ هاهنا ـ هم الذين سلطوا على حفظ الأنفاس ، والعد عليهم إلى وقت الموت ، والله أعلم.

ثم في قوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) دلالة خلق أفعال العباد ؛ لأنه ذكر مجيء الموت وتوفي الرسل ، وقال : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] ومجيء الموت هو توفي (٢) الرسل وتوفي الرسل هو مجيء الموت.

ثم أخبر أنه خلق الموت دل أنه خلق توفيهم ، فاحتال بعض المعتزلة في هذا وقال : إن الملك هو الذي ينزع الروح ويجمعه في [موضع](٣) ، ثم إن الله يتلفه ويهلكه. فلئن كان ما قال ، فإذن لا يموت بتوفي (٤) الرسل أبدا ؛ لأنهم إذا نزعوا وجمعوا في موضع تزداد (٥) حياة الموضع الذي جمعوا فيه ؛ لأنه اجتمع كل روح النفس في ذلك الموضع ، فإن لم يكن دل أن ذلك خيال ، والوجه فيه ما ذكرنا من الدلالة ، وهو ظاهر بحمد الله ، يعرفه كل عاقل يتأمل فيه ولم يعاند ، وبالله التوفيق.

ثم اختلف في قوله : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) :

قال بعضهم (٦) : هو ملك (٧) الموت وحده ، وإن خرج الكلام مخرج العموم بقوله : (رُسُلُنا) ، والمراد منه الخصوص ؛ ألا ترى (٨) أنه قال في آية أخرى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [السجدة : ١١] ، أخبر أنه هو الموكل والمسلط على ذلك.

__________________

(١) هكذا في الأصل ، ولعلها ويعدونها.

(٢) في ب : يتوفى.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : يتوفى.

(٥) في ب : يزداد.

(٦) ينظر تفسير البحر المحيط لأبي حيان (٤ / ١٥٢).

(٧) في ب : ذلك.

(٨) في ب : يرى.

١٠٧

وقال آخرون (١) : يتوفاه أعوان ملك (٢) الموت ، ثم يقبضه ملك الموت ويتوفاه.

وقال قائلون (٣) : يكون معه ملائكة تقبض الأنفس ، ويتوفاه ملك الموت (٤).

لكن [ذكر](٥) ذلك لا ندري أن كيف هو ،؟ ليس بنا إلى معرفة ذلك حاجة ، ولكن إلى معرفة ما ذكرنا.

وقوله : (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) فيه إخبار عن شدة طاعة الملائكة ربهم ، وأن الرأفة لا تأخذهم فيما فيه تأخير أمر الله وتفريطه ؛ لأن من دخل على من في النزع ، أخذته من الرأفة ما لو ملك حياته لبذل له ، فأخبر (٦) عزوجل أنهم لا يفرطون فيما أمروا ولا يؤخرونه ؛ لتعظيمهم أمر الله وشدة طاعتهم له ، وعلى ذلك وصفهم : (غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] ، وقال ـ عزوجل ـ : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧] ، وقال : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) [الأنبياء : ١٩].

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ).

ذكر الرد إلى الله ، وأنه مولاهم الحق ، وإن كانوا في الأحوال كلها مردودين إلى الله ، وكان مولاهم الحق في الدنيا والآخرة.

وكذلك قوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) [إبراهيم : ٢١] وكذلك قوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر : ١٦] كان الملك له في الدنيا والآخرة ، وكانوا بارزين له جميعا في الأوقات كلها ؛ لما كانوا أصحاب الشكوك ، فارتفع ذلك عنهم ، وخلص بروزهم وردهم إلى الله خالصا لا شك فيه ؛ وكذلك كان الملك [له](٧) في الدنيا والآخرة وهي الأيام كلها ، لكن نازعه (٨)

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢١٤ ـ ٢١٥) (١٣٣٢٨ ، ١٣٣٢٩) ، (١٣٣٢٣ ، ١٣٣٣٣ ، ١٣٣٣٨) عن ابن عباس.

وعن إبراهيم النخعي (١٣٣٣٠ ، ١٣٣٣٤ ، ١٣٣٣٧ ، ١٣٣٣٩ ، ١٣٣٤٠).

وعن قتادة (١٣٣٣٥ ، ١٣٣٣٦) ، وعن الربيع بن أنس (١٣٣٤١) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٠ ـ ٣١) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس ولعبد الرزاق وأبي الشيخ عن قتادة ، ولأبي الشيخ عن الربيع بن أنس.

(٢) في ب : ذلك.

(٣) في ب : آخرون.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢١٤ ـ ٢١٥) (١٣٣٣١) عن إبراهيم وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٠) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : وأخبر.

(٧) سقط في أ.

(٨) في ب : نازع.

١٠٨

غيره في الملك في الدنيا ، ولا أحد ينازعه في ذلك اليوم في الملك ، فقال : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] ؛ وعلى ذلك قوله : (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) ، كان مولاهم الحق في الأوقات كلها والأحوال ، ولكن عند ذلك يظهر لهم أنه كان مولاهم الحق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ).

يحتمل : ردوا إلى ما وعدهم وأوعد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلا لَهُ الْحُكْمُ).

يحتمل قوله : (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) : في تأخير الموت والحياة ، وقبض الأرواح ، وتوفي الأنفس.

ويحتمل [قوله](١) : (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) في التعذيب في النار والثواب والعقاب ليس يدفع ذلك عنهم دافع سواه ، ولا ينازعه أحد في الحكم.

(وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ).

عن الحسن قال : هو سريع العقاب ؛ لأنه إنما يحاسب ليعذب كما روي : «من نوقش الحساب عذب» (٢) وهو أسرع الحاسبين ؛ لأنه (٣) لا يحاسب عن حفظ ولا تفكر ، ولا يشغله شيء ، وأما غيره : فإنما يحاسب عن حفظ وتفكر وعن شغل ، فهو أسرع الحاسبين ؛ إذ لا يشغله شيء.

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)(٦٧)

قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ليس هذا على الأمر له ، ولكن على المحاجة ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) [الروم : ٤٢] ، ليس على الأمر بالسير في الأرض ، ولكن على الاعتبار بأولئك الذين كانوا من قبل ، والنظر في آثارهم وأعلامهم [أن](٤) كيف صاروا بتكذيبهم الرسل ،

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه البخاري (١٣ / ٢١٥) في كتاب الرقاق : باب من نوقش الحساب عذب (٦٥٣٦) ، ومسلم (٤ / ٢٢٠٤ ـ ٢٢٠٥) في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب إثبات الحساب (٧٩ / ٢٧٨٦).

(٣) زاد في ب : يعذب.

(٤) سقط في أ.

١٠٩

وما ذا أصابهم بذلك ؛ فعلى ذلك هذا ، فيه الأمر بالمحاجة معهم في آلهتهم : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) آلهتكم التي تعبدون من دون الله ، وتشركونها في ألوهيته وربوبيته ، أو الله الذي خلقكم؟ فسخرهم (١) حتى قالوا : [الله](٢) هو الذي ينجينا من ذلك ، فقال : (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) ، فإذا كان هو الذي ينجيكم من هذا لا آلهتكم التي تعبدونها ؛ فكذلك هو الذي ينجيكم من كل كرب ومن كل شدة.

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).

أي : لا أحد ينجيكم من ظلمات البر والبحر ؛ كقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ) ، أي : لا أحد أظلم من (٣) تخافون على آلهتكم الهلاك كما تخافون على أنفسكم؟ فلا أحد سواه ينجيكم من ذلك ومن كل كرب.

قال أبو بكر الكيساني : هم عرفوا في الدنيا أنه هو الذي ينجيهم من ذلك كله ، وهو الذي يعطي لهم ما أعطوا بما قامت عليهم الحجج ، ولم يعرفوا أنه هو الذي ينجيهم في الآخرة ويهلكهم ، وهو هكذا : عرفوا الله في الدنيا ، ولم يعرفوه في الآخرة.

ثم اختلف في ظلمات البر والبحر :

قال بعضهم (٤) : الظلمات : هي الشدائد والكروب التي تصيبهم بالسلوك في البر والبحر.

وقال آخرون (٥) : الظلمات هي الظلمات لأن أسفار البحار والمفاوز إنما تقطع بأعلام السماء ، فإذا أظلمت (٦) السماء بقوا متحيرين لا يعرفون إلى أي ناحية يسلكون ، ومن أي طريق يأخذون ، فعند ذلك يدعون الله تضرعا وخفية.

قال الحسن (٧) : التضرع : هو ما يرفع به الصوت ، والخفية : هي ما يدعي سرّا وهو من الإخفاء.

وفي حرف ابن مسعود (٨) : تدعونه تضرعا وخيفة وهي من الخوف.

__________________

(١) في ب : فسخر لكم.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : ممن.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢١٦) (١٣٣٤٦) عن قتادة بنحوه وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣١) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. وذكره البغوي في تفسيره (٢ / ١٠٣).

(٥) ينظر تفسير القرطبي (٧ / ٧) ، وتفسير الخازن (٢ / ٣٩٠).

(٦) في ب : أظلم.

(٧) ذكر ابن جرير في تفسيره (٥ / ٢١٦) ، والقرطبي (٧ / ٨) نحو هذا المعنى ، وذكر أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ١٥٤) عن الحسن قال : تضرعا أي علانية ، خفية أي نية.

(٨) ذكره القرطبي (٧ / ٨) ، وأبو حيان في البحر المحيط (٤ / ١٥٤) وقالا في الأعمش فذكراه.

١١٠

قال الكلبي : في خفض وسكون ، وتضرع إلى الله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ).

قال أبو بكر (١) لنكونن من الشاكرين ، أي : لا نوجه الشكر إلى غيرك ، والشكر ـ هاهنا ـ : هو التوحيد ، أي : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الموحدين لك من بعد ؛ لأنهم كانوا يوحدون الله في ذلك الوقت ، لكنهم إذا نجوا من ذلك أشركوا غيره في ألوهيته.

ألا ترى أنه قال : (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) بعد علمكم أن الأصنام التي تعبدونها لم تملك الشفاعة لكم ، ولا الزلفى إلى الله ؛ يذكر سفههم في عبادتهم الأوثان على علم منهم أنها لا تشفع [لهم](٢) ، ولا تملك دفع شيء عنهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ).

اختلف في نزول الآية فيمن نزلت؟

قال بعضهم : نزلت في مشركي العرب ـ وهو قول أبي بكر الأصم ـ لأنها نزلت على أثر آيات نزلت في أهل الشرك ، من ذلك قوله : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) [الأنعام : ٥٠].

وقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ ...) الآية [الأنعام : ٤٦].

وقوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ...) [الأنعام : ٦١] إلى قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [الأنعام : ٦٢] : هذه الآيات كلها نزلت في أهل الشرك ، فهذه كذلك نزلت فيهم ؛ لأنها ذكرت على أثرها ؛ ولأن سورة الأنعام نزل أكثرها في محاجة أهل الشرك ، إلا آيات منها نزلت في أهل الكتاب ، وسورة المائدة نزل أكثرها في محاجة أهل الكتاب ؛ لأنه يذكر فيها : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) [المائدة : ٥٩ ، ٦٨ ، ٧٧].

ومنهم من يقول (٣) : نزلت في أهل الإسلام ، وهو قول أبي بن كعب ، وقال : هن أربع ، فجاء منهن ثنتان بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألبسهم شيعا ، وأذاق بعضهم بأس

__________________

(١) ذكر ابن جرير في تفسيره (٥ / ٢١٦) نحو هذا المعنى.

(٢) سقط في أ.

(٣) قال الخازن في تفسيره (٢ / ٣٩١) : اختلف المفسرون فيمن عني بهذه الآية فقال قوم عني بها المسلمون من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيهم نزلت هذه الآية.

١١١

بعض (١).

أما لبس الشيع : هي الأهواء المختلفة ، (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) هو السيف والقتل ، هذان قد كانا في المسلمين ، وبقى ثنتان لا بد واقعتان (٢).

ومنهم من يقول : كان ثنتان في المشركين من أهل الكتاب ، وثنتان في أهل الإسلام ،

__________________

(١) ذكره الخازن في تفسيره (٢ / ٣٩١) ، وأبو حيان في البحر المحيط (٤ / ١٥٥) وأخرجه ابن جرير (٥ / ٢٢٠) (١٣٣٦٤) عن أبي العالية.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٢) وعزاه لابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، وأبي نعيم في الحلية من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب.

(٢) روى البخاري عن جابر رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) [الأنعام : ٦٥] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أعوذ بوجهك! (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) [الأنعام : ٦٥] قال : أعوذ بوجهك! (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) [الأنعام : ٦٥] قال : هذا أهون ، أو هذا أيسر.

قال الحافظ ابن حجر : وقد روى ابن مردويه من حديث ابن عباس ما يفسر به حديث جابر ، ولفظه : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : دعوت الله أن يرفع عن أمتي أربعا ، فرفع عنهم ثنتين ، وأبي أن يرفع عنهم اثنتين : دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض ، وألا يلبسهم شيعا ، ولا يذيق بعضهم بأس بعض ؛ فرفع الله عنهم الخسف والرجم ، وأبي أن يرفع عنهم الأخريين. فيستفاد من هذه الرواية المراد بقوله : (مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ)[الأنعام : ٦٥] ، ويستأنس له أيضا بقوله تعالى : (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ)[الإسراء : ٦٨].

وروى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه أقبل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم من العالية ، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية ، دخل فركع فيه ركعتين ، وصلينا معه ، ودعا ربه طويلا ، ثم انصرف إلينا فقال : سألت ربي ثلاثا ، فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة. سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنة ، فأعطانيها. وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق ، فأعطانيها. وسألت ربي ألا يجعل بأسهم بينهم ، فمنعنيها.

وروى الإمام أحمد من حديث أبي بصرة نحوه ، لكن قال بدل الإهلاك : ألا يجمعهم على ضلالة. وكذا الطبري من مرسل الحسن.

قال الخفاجي : فإن قلت : كيف أجيبت الدعوتان ، وسيكون خسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب؟ أي : كما رواه الترمذي وغيره؟

قلت : الممنوع خسف مستأصل لهم. وأما عدم إجابته في بأسهم ، فبذنوب منهم ، ولأنهم بعد تبليغه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونصيحته لهم ، لم يعملوا بقوله. انتهى.

وقد روى أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ ...) ، فقال : أما إنها كائنة ، ولم يأت تأويلها بعد. قال الحافظ ابن حجر : وهذا يحتمل ألا يخالف حديث جابر ، بأن المراد بتأويلها ما يتعلق بالفتن ونحوها. انتهى. أي : مما ستصدق عليها الآية ، ولما تقع بالمسلمين. فقوله : إنها كائنة ، أي : في المسلمين ، لا أنها خطاب لهم ونزوله فيهم ـ كما وهم ـ إذ يدفعه السياق والسباق وتتمة الآية كما لا يخفى.

ينظر محاسن التأويل للقاسمي (٦ / ٥٧٢ ـ ٥٧٤).

١١٢

وهو قول الحسن (١) قال : قد ظهر في أهل الإسلام الأهواء المختلفة والقتل والفتن ، وأما اللذان في أهل الشرك من أهل الكتاب : فهما (٢) الخسف في الأرض ، والحجارة من السماء.

ثم اختلف في قوله : (عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ).

عن ابن عباس (٣) ـ رضي الله عنه ـ قال : (عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) ، أي : من أمرائكم ، (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ).

أي : من سفلتكم ؛ لأن الفتن ونحوها إنما تهيج من الأمراء الجائرين (٤) ومن أتباعهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً).

قال (٥) : الأهواء المختلفة.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ).

أي : يسلط بعضهم على بعض بالقتل والعذاب.

ومن قال بأن الآية نزلت في أهل الشرك يقول : كان في أشياعهم ذلك كله ، أما العذاب من الفوق فهو (٦) الحصب بالحجارة ؛ كما فعل بقوم لوط (٧) ، ومن تحت أرجلهم وهو الخسف ؛ كما فعل بقارون (٨) ومن معه.

وقوله : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً).

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٢٣) (١٣٣٨٢). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٣) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) في ب : هو.

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢١٨) (١٣٣٥٢ ، ١٣٣٥٣) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٢) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٤) في ب : الجائرة.

(٥) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢١٨ ـ ٢١٩) (١٣٣٥٨ ، ١٣٣٥٩) عن ابن عباس. وبمثله عن مجاهد (١٣٣٥٤) ، والسدي (١٣٣٥٥) وابن زيد (١٣٣٥٧) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٢) وزاد نسبته لابن المنذر عن مجاهد.

(٦) في ب : هو.

(٧) كما في قول الله تعالى : (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ* قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ* فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ* مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود : ٨٠ ـ ٨٣].

(٨) عند قوله تعالى : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ)[القصص : ٨١].

١١٣

يقول : فرقا وأحزابا ، وكانت اليهود (١) والنصارى (٢) فرقا مختلفة ، اليهود

__________________

(١) اليهودية : ينسب اليهود إلى يهوذا ، أحد أولاد يعقوب الاثني عشر (الأسباط في القرآن الكريم) ويعقوب هو إسرائيل. ثم أصبحت كلمة يهودي تطلق على كل من يدين باليهودية.

وكان يعقوب (إسرائيل) قد هاجر هو وعشيرته من أرض كنعان (فلسطين وما إليها) إلى مصر حوالي القرن ١٧ ق. م. وكان عددهم سبعين نفسا ، تحت ضغط المجاعة والجفاف (سفر التكوين ، إصحاح ٤٦ فقرة ٢٧) واستقبلهم يوسف أحد أبنائه وكان (وزيرا) لدى فرعون مصر ، فأكرم وفادتهم ، وأقاموا في ناحية جاسان (وادي الطميلات بالشرقية) (التكوين : إصحاح ٤٧ فقرة ١١). وخلال ما يقرب من أربعة قرون من إقامتهم في مصر انقسم بنو إسرائيل (يعقوب) إلى اثنتي عشرة قبيلة كل منها نسبة إلى واحد من الأسباط الاثني عشر. وعند ما بعث موسى برسالة التوحيد إلى بني إسرائيل وفرعون مصر وقومه ق ١٤ ـ ١٣ قبل الميلاد تقريبا آمن بها بنو إسرائيل إلا قليلا منهم. وهنا نشأت الديانة اليهودية. وكان لا بد من الصدام مع فرعون وقومه ، فخرج بنو إسرائيل من مصر (البقرة : ٤٩ ، ٥٠) ، (طه ٧٧ ـ ٨٨) (إصحاح ١٣ ـ ١٤ من سفر الخروج) حوالي ١٢٨٠ ق. م. في عهد فرعون مصر رمسيس الثاني على ما يرجح.

وبعد خروج اليهود من مصر الفرعونية إلى الصحراء (سيناء) ، أغاروا بقيادة يوشع (خليفة موسى) على أرض كنعان ، واستقروا بها. وبعد وفاة سليمان انقسمت مملكة داود (أسسها عام ٩٩٠ ق. م.) إلى مملكتين : إسرائيل في الشمال ، ومملكة يهوذا في الجنوب (٩٢٢ ق. م.) ، ونشبت بينهما حروب طويلة إلى أن دهمهم بختنصر ملك بابل حين أغار على فلسطين مرتين في ٥٩٦ ، ٥٨٧ ق. م. وأخذ عددا كبيرا منهم إلى بابل ، وظلوا هناك حوالي خمسين عاما تعرف في تاريخ اليهود بالأسر البابلي. فلما تغلب كورش ملك الفرس على البابليين (٥٣٨ ق. م.) أطلق سراح الأسرى الذين عادوا إلى فلسطين ولكن دون دولة ، إذ خضعوا للفرس ، ومن بعدهم لخلفاء الإسكندر المقدوني (أنطيوخوس) ثم إلى الرومان. وفي تلك الأثناء ترك عدد منهم فلسطين إلى جهات مختلفة في أسيا وأوربا. وفي عام ١٣٥ م أخمد الرومان في عهد الإمبراطور هدريان ثورة قام به اليهود في فلسطين هدم على أثرها هيكل سليمان وأخرج اليهود من فلسطين وكان عددهم حوالي خمسين ألفا ، وبدأت رحلة الشتات.

وقبل الشتات الكبير كان اليهود الذين غادروا فلسطين إلى أوربا استوطنوا حوض نهر الراين الشمالي والأوسط ، واجتهدوا في نشر اليهودية بين الوثنيين هناك بين الجرمان والسلاف. وبعد الشتات انتشروا في آفاق كثيرة بين أجناس مختلفة في فارس وتركستان والهند والصين عن طريق القوقاز ، وفي العراق ومصر وبرقة وشمال إفريقية ، وشبه جزيرة أيبريا (إسبانيا والبرتغال) ، والجزيرة العربية حتى اليمن ، والحبشة وفيما بعد في أجزاء من إفريقيا السوداء. وقد أدى هذا إلى اعتناق عناصر وسلالات بشرية كثيرة لليهودية. وهذا التعدد العنصري في حد ذاته ينفي مقولة : إن اليهودية قومية ، كما ينفي أيضا مقولة (معاداة السامية) التي يشهرها اليهود كلما وقعوا في كارثة ؛ لأن انتشار اليهودية على ذلك النحو أوجد أجيالا تدين باليهودية ولكن ليسوا ساميين أصلا.

وفي المجتمعات التي عاش فيها اليهود قبل الشتات الكبير وبعده ، كانوا على هامش المجتمع بسبب اختلاف عقيدتهم عن الآخرين ، ومن هنا كانوا دوما أقلية منعزلة ذاتيّا تعيش في مكان خاص (حارة ـ جيتو) ، ولم يتبوءوا مراكز الحكم ، فانصرفوا إلى النشاط الاقتصادي وسيطروا على أسواق المال والتجارة. ولما بدأ عصر الدولة القومية في القرن التاسع عشر ، بدأ يهود القارة الأوربية التفكير في وطن خاص يجمعهم وينقلهم من هامش المجتمعات التي يعيشون فيها ليصبحوا قوة مركزية ، وهو الأمر الذي تم في عام ١٩٤٨ بعد تكوين المنظمة الصهيونية العالمية بمقتضى مؤتمر بازل ـ

١١٤

__________________

ـ في سويسرا عام ١٨٩٧.

ولليهود تسعة وثلاثون سفرا من أسفارهم معتمدة يطلق عليه (العهد القديم) وهي أربعة أقسام : التكوين ويختص بتاريخ العالم. والخروج ويختص ببني إسرائيل في مصر وخروجهم منها. والتثنية ويختص بأحكام الشريعة اليهودية ، وسفر اللاويين ويختص بشئون العبادات. وسفر العدد ويختص بإحصاء اليهود لقبائلهم وجيوشهم وأموالهم. أما القسم الثاني من العهد القديم فيتكون من اثني عشر سفرا خاصة بتاريخ بني إسرائيل بعد استيلائهم على أرض كنعان ، والقسم الثالث من خمسة أسفار تختص بالأناشيد والعظات ، والرابع من سبعة عشر سفرا كل منها يختص بتاريخ نبي من أنبيائهم بعد موسى. أما التلمود فهو مجموعة شروح للشرائع المنقولة شفاهة عن موسى وهما تلمودان : واحد تم تدوينه في فلسطين والثاني كتب في بابل.

ينظر الموسوعة الإسلامية ـ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية (١٤٦٧ ـ ١٤٦٨)

(٢) النصرانية : هي الديانة التي تنسب إلى أمة المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام ، والنصارى هم أمة المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام.

وقد تعددت الآراء حول السبب الذي من أجله أطلق على أتباعه أنهم نصارى ، من ذلك : ـ سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه‌السلام في دعوته.

ـ لتناصرهم فيما بينهم.

ـ أنهم نزلوا أرضا يقال لها ناصرة وهي قرية المسيح من أرض الخليل بفلسطين.

وكلمة النصارى : تطلق على أتباع المسيح عليه‌السلام الذين اتبعوه في دعوته وصدقوا بها ونصروه وأخذوها كما جاءت من الله تعالى (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)[آل عمران : ٥٢].

وكذلك أطلقت على أتباعه الذين بدلوا وغيروا وأضافوا العقائد الباطلة إلى العقيدة الصحيحة الحقة (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)[التوبة : ٣٠].

أما كلمة النصرانية فإنها أول الأمر كانت تعني الدعوة الإيمانية ثم صارت تدل عند نصارى اليوم على تلك الدعوة التي اشتملت عليها الأناجيل الأربعة (متى ، مرقس ، لوقا ، يوحنا) وكتاب أعمال الرسل. والرسائل التبشيرية التي كتبها بولس وبطرس ويوحنا وغيرهم.

وقد ولد المسيح عيسى عليه‌السلام في بيت لحم أيام الملك هيرودوس ثم رحلت أمه إلى فلسطين واستقر بها المقام مع ولدها في قرية الناصرة بالخليل في فلسطين وذلك في أيام أوغسطين قيصر أول إمبراطورية للدولة الرومانية القديمة والذي تولاها عام ١٧ ق. م.

وفي هذه الأثناء كان اليهود مشردين في الأرض ومضطهدين تحت الحكم الروماني فتولدت في نفوسهم فكرة الخلاص من الاضطهاد.

فلما ظهر عيسى عليه‌السلام آمن به بعض اليهود على أنه المخلص الذي سيعيد لهم الملك والملكوت.

وقد جاء عيسى ليصحح مفاهيم العقيدة في الإله والتي انحرفت عند اليهود من التوحيد إلى الشرك والتجسيد.

فرسالته رسالة توحيد وتنزيه وهي في حقيقة أمرها عقيدة لا شريعة وكانت رسالة خاصة باليهود فحينما دعا الحواريين الاثني عشر إلى التبشير بالنصرانية قصر مهمتهم على بني إسرائيل (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ)[الصف : ٦].

ومصادر الديانة النصرانية : ١ ـ التوراة. ٢ ـ الكتاب المقدس ويشتمل على العهدين القديم ـ

١١٥

فرقا (١) والنصارى كذلك ؛ كقوله : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) [المائدة : ٦٤] ، وقوله : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) [المائدة : ١٤].

وقوله : (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ).

هو الحرب والقتال.

وقول الحسن (٢) ما ذكرنا أنه ظهر في أهل الإسلام الأهواء المختلفة وظهر الحرب والقتل.

وأما الخسف والحصب : فلم يظهرا ؛ فهما في أهل الشرك.

ويحتمل قوله : (عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) أرسلها عليهم ؛ لأنهم قد أقروا أنه [هو](٣) رفع السماء ، فمن قدر على رفع شيء يقدر على إرساله.

وقوله : (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ).

لأنهم عرفوا أنه بسط الأرض ، ومن ملك بسط شيء يملك طيه ويخسف بهم.

__________________

ـ والجديد ، وقد تفرق أتباع عيسى عليه‌السلام إلى فرق متعددة خلال عصرين :

ـ عصر التوحيد وهو الذي نادى بعبودية عيسى لله وقد امتد هذا العصر إلى ما بعد مجمع نيقية بقليل أي ما بعد عام ٣٢٥ م ومن فرق التوحيد الأريوسيون.

ـ عصر التثليث ومن فرقه مقدونيوس النسطوريون اليعقوبيون والمارونية.

ومن الطوائف المسيحية :

ـ الكاثوليك وهو مذهب اعتنقته كنيسة روما ويرى أصحابه أن للمسيح طبيعتين ومشيئتين.

ـ الأرثوذكس وهو مذهب الكنائس الشرقية وهو مذهب يقضي بأن للمسيح طبيعة واحدة ومشيئة واحدة.

ـ والبروتستانت وتسمى كنيستهم الكنيسة الإنجيلية لأن أتباعها يتبعون الإنجيل دون غيره.

ـ النساطرة وهو مذهب فيه محاولة إلى العودة إلى التوحيد أو أقرب منه.

ينظر الموسوعة الإسلامية ـ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية (١٤٠٠ ـ ١٤٠١)

(١) وانقسم اليهود إلى أكثر من فرقة اختلفت فيما بينها حول الأخذ بأسفار العهد القديم والأحاديث الشفوية لموسى أو إنكار بعضها. وأهم هذه الفرق خمس فرق : الفريسيون (الربانيون) ، الصدوقيون ، والسامريون ، والحسديون (المشفقون) ، والقراءون (الكتابيون المتمسكون بالأسفار ويعرفون أيضا بالعنانيين نسبة إلى مؤسسها عنان بن داود). ولم يبق من هذه الفرق إلا الربانيون والقراءون وبينهما اختلافات شديدة حول الطقوس والشرائع والمعاملات. أما اليهود المعاصرون فينقسمون بين سفارديم وهم اليهود الشرقيون بما فيهم ذوو الأصول العربية والإسبان والبلقان ، وأشكنازيم وهو اليهود الغربيون.

ينظر الموسوعة الإسلامية ـ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية (١٤٦٨).

(٢) قال أبو حيان في البحر (٤ / ١٥٥) قال الحسن : بعضها للكفار بعث العذاب من فوق ومن تحت وسائرها للمؤمنين.

(٣) سقط في أ.

١١٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ).

قيل (١) : أي : نردد الآيات [ليعلم] كل مزدجره. أو يقول : كيف نصرف الآيات ليعلم كل صدقها وحقيقتها أنها من الله جاءت.

(لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) : يحتمل وجوها :

صرفها ليفقهوا ، وذلك يرجع إلى المؤمنين خاصة.

والثاني : (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) ، أي : ليلزمهم (٢) أن يفقهوا ، وقد ألزم الكل أن يفقهوا ، لكن من لم يفقه إنما لم يفقه ؛ لأنه نظر إليه بعين الاستخفاف.

والثالث : (نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي : نصرف الرسل (٣) ونبلغها (٤) إليهم على رجاء أن يفقهوا ، لكي (٥) يفقهوا ؛ إن نظروا فيها وتأملوها.

وذكر (لَعَلَّهُمْ) ؛ لأن منهم من فقه ، ومنهم من لم يفقه.

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ).

يحتمل به : القرآن ، ويحتمل : بما ذكر من الآيات ، ويحتمل : الإيمان به والتوحيد.

(وَهُوَ الْحَقُ) وكذب به قومك

وهم أحق أن يصدقوك بما جئت به وأنبأتهم ؛ لأنك نشأت بين أظهرهم ، فلم تأت كذبا قط (٦) ، ولا رأوك (٧) تختلف إلى أحد يعلمك ، فهم أحق أن يصدقوك بما جئت به وأنبأتهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ).

قال عامة أهل التأويل (٨) : الوكيل : الحفيظ ، والوكيل : هو القائم في الأمر ، أي : لست بقائم عليكم ؛ لأكرهكم على التوحيد والإيمان شئتم أو أبيتم ، ولست بحافظ على

__________________

(١) ذكره ابن جرير (٥ / ٢٢٤) بنحوه.

(٢) في ب : لزمهم.

(٣) في أ : الرسول.

(٤) في أ : يبلغها.

(٥) في أ : لكن.

(٦) وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] نادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قريش بطنا بطنا فقال : «أرأيتم لو قلت لكم إن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي»؟ قالوا : نعم ما جربنا عليك كذبا قط. رواه الشيخان.

ينظر سبل الهدى والرشاد (٢ / ٢٠٠).

(٧) زاد في ب : أن.

(٨) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٢٤) (١٣٣٨٥) عن السدي وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٧) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

١١٧

أعمالكم إنما عليّ التبليغ ؛ كقوله : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) [المائدة : ٩٩].

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) قال بعضهم (١) : لكل أمر حقيقة.

وقيل (٢) : لكل خبر غاية ينتهي إليها.

ويحتمل : أن يكون صلة قوله : (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) ؛ (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) ، أي : لست عليكم بوكيل ، لكن لكل نبإ مستقر في أن أغنم أموالكم وأسبي ذراريكم ؛ كقوله : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) [الغاشية : ٢٢ ، ٢٣].

ويحتمل قوله : (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) أي : بما كان وعد وأوعد ، والله أعلم.

وفي قوله : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لأنا نعلم أن للخلق حقيقة الفعل في القتل والحرب والأهواء المختلفة ، ثم أضاف ذلك إلى نفسه ؛ دل أن له صنعا في أفعالهم ، وليس كما تقول المعتزلة : إنه لا يملك ذلك.

وكذلك ما ذكر من إضافة تلبيس الشيع إليه رد لقولهم ؛ لأنهم يقولون : هم يختلفون ، وقد أخبر أنه هو يجعلهم شيعا ، وذلك ظاهر النقض عليهم ؛ لأنه أخبر أنه يذيق بعضهم بأس بعض ، وهم يقولون : هو لا يذيق ولكن ذلك القاتل أو الضارب أو المعذب هو يذيقهم دون رب العالمين ؛ وكذلك قوله : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) [التوبة : ١٤] ، وهم يقولون : هو لا يعذبهم ولكن الخلق يعذبونهم ؛ وكذلك قوله : (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا) [التوبة : ٥٢] ، وهم يقولون : هو لا (٣) يملك تعذيبهم بأيديهم ، وذلك رد لظاهر الآية وتركها جانبا.

قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)(٧٠)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ).

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٢٤) (١٣٣٨٧ ـ ١٣٣٨٨) عن ابن عباس ، (١٣٣٨٦) عن مجاهد. وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٧) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٢) ينظر تفسير الخازن (٢ / ٣٩٢).

(٣) في أ : هؤلاء.

١١٨

يشبه أن يكون قوله : (يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) [أن يكون](١) أي : يكفرون بها ويستهزءون بها ؛ كما قال في سورة النساء : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) [النساء : ١٤٠] فيكون خوضهم في الآيات (٢) الكفر بها والاستهزاء بها ، ويكون قوله ـ تعالى ـ : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ، أي : لا تقعد معهم ؛ كما قال : (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) [النساء : ١٤٠].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ).

يحتمل : النهي عن القعود معهم على ما ذكرنا من قوله : (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ).

ويحتمل الإعراض : الصفح عنهم وترك المجازاة لمساويهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ) [الزخرف : ٨٩] ؛ [و] كقوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) [النساء : ٦٣] وفيه الأمر بالتبليغ فينهى عن القعود معهم والأمر بالتبليغ.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) معناه ـ والله أعلم ـ : أن الشيطان إذا أنساك القعود معهم فلا تقعد بعد ذكر الذكرى ، ومعنى النهي بعد ما أنساه الشيطان ، أي : لا تكن بالمحل الذي يجد الشيطان إليك سبيلا في ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ).

قيل (٣) فيه رخصه الجلوس معهم ؛ وهو كقوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنعام : ٥٢] ثم نسخ ذلك بقوله ـ تعالى ـ : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [النساء : ١٤٠] وكان النهي عن مجالستهم ليس للجلوس نفسه ، ولكن ما ذكرنا من خوضهم في آيات الله بالاستهزاء بها [والكفر بها](٤) هو الذي كان يحملهم على ذلك ، ليس ألا يجوز أن تجالسهم (٥) ، وكذلك ما نهانا أن نسبهم ليس ألا يجوز لنا أن نسبهم ، ولكن لما كان سبنا إياهم هو الذي يحملهم على سب الله.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : آيات.

(٣) ينظر تفسير البغوي مع الخازن (٢ / ٣٩٣).

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : تجالسوهم.

١١٩

(وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

يحتمل النهي عن القعود معهم وجهين.

[أحدهما] : نهى هؤلاء عن القعود معهم لما كان أهل النفاق يجالسونهم ، ويستهزءون بالآيات ويكفرون بها ، فنهى هؤلاء عن ذلك ؛ ليرتدع أهل النفاق عن مجالستهم.

والثاني : أنه نهى المؤمنين عن مجالستهم ؛ ليمتنعوا عن صنيعهم حياء منهم ؛ لأنهم لو امتنعوا عن مجالستهم فيمنعهم ذلك عن الاستهزاء بها والكفر بها ، لما كانوا يرغبون في مجالسة المؤمنين ، فيتذكرون عند قيامهم عنهم ، فيتقون الخوض والاستهزاء ، ولا يخافون أن يعرفوا في الناس بترك مجالستهم المؤمنين ، فيحملهم ذلك على الكف عن الاستهزاء بالآيات وبرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) أي : وذر الذين اتخذوا لعبا ولهوا دينا ؛ على التقديم والتأخير (١).

والثاني (٢) : اتخذوا اللعب واللهو دينهم ؛ حتى لا يفارقوا اللعب واللهو ؛ لأن الدين إنما يتخذ للأبد ، فعلى ذلك اتخذ أولئك اللعب واللهو للأبد كالدين.

ثم هو يخرج على وجوه :

أحدها : اتخذوا دينهم عبادة ما لا ينفع ولا يضر ، ولا يبصر ولا يسمع ولا يعلم ، ومن عبد من (٣) هذا وصفه ، واتخذ ذلك دينا ـ فهو عابث لاعب.

والثاني : اتخذوا دينهم ما هوته أنفسهم ، ودعتهم الشياطين إليه ، ومن اتخذ دينه بهوى نفسه ، وما دعته نفسه إليه ـ فهو عابث لاعب.

والثالث : صار دينهم لعبا وعبثا ؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ، ومن لم يقصد بدينه الذي دان به عاقبة فهو عابث مبطل ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ

__________________

(١) التقديم : من قدم الشيء أي وضعه أمام غيره ، والتأخير نقيض ذلك. وقد عرف الزركشي التقديم والتأخير في كتابه (البرهان في علوم القرآن) فقال : (هو أحد أساليب البلاغة ، فإنهم أتوا به دلالة على تمكنهم في الفصاحة وملكتهم في الكلام وانقياده لهم ، وله في القلوب أحسن موقع وأعذب مذاق).

واختلف علماء البلاغة في هذا الفن البلاغي ، فمنهم من عده من المجاز ؛ لأنه تقديم ما رتبته التأخير كالمفعول ، وتأخير ما رتبته التقديم كالفاعل. ولكن خالفهم الزركشي فقال : (والصحيح أنه ليس منه ، فإن المجاز نقل ما وضع له إلى ما لم يوضع).

ينظر المعجم المفصل في علوم البلاغة ص (٤١١ ، ٤١٢).

(٢) في ب : الثاني.

(٣) في أ. عندهن.

١٢٠