تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

أو أن (١) يقول (٢) لهم : استعينوا بالله بالنصر لكم والظفر ، واصبروا على أذاهم والبلاء.

(إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ).

يحتمل هذا وجهين :

[يحتمل](٣) أن يخرج ذلك من موسى مخرج الوعد لهم بالنصر والظفر على الأعداء ، وجعل الأرض لهم (٤) من بعد إهلاك العدو ، وهو كما ذكر (٥) في موضع آخر : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) [القصص : ٥] الآية.

ويحتمل أن يخرج ذلك منه مخرج التصبر (٦) على الرضاء بقضاء الله ـ تعالى ـ أن الأرض له يصيرها لمن يشاء ، فاصبروا أنتم على البلاء (٧) ، وارضوا بقضائه.

(وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

قال الحسن (٨) : (وَالْعاقِبَةُ) ، أي : الآخرة للمتقين خاصّة ، وأمّا الدّنيا فإنها بالشركة بين أهل الكفر وأهل الإسلام ، يكون لهؤلاء ما لأولئك ، وأمّا الآخرة فليست للكفار إنما هي [للمؤمنين](٩) خاصّة ، وهو ما ذكر في آية أخرى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ ...) [الزخرف : ٣٣] الآية ، فعلى ذلك هذا ، والله أعلم.

وقال غيره (١٠) : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي عاقبة الأمر بالنصر ، والظفر للمتقين على أعدائهم ، وإن كان في الدفعة الأولى عليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) يخرج هذا على وجهين :

أحدهما : أن يخرج مخرج استبطاء النصر والظفر لهم ، كأنهم استبطئوا (١١) النصر

__________________

(١) في ب : وأن.

(٢) في أ : يقولوا.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : لهم الأرض.

(٥) في ب : وضع.

(٦) في ب : التصبير.

(٧) في ب : البلايا.

(٨) انظر البحر المحيط لأبى حيان (٤ / ٣٦٧).

(٩) سقط في أ.

(١٠) ذكره البغوي في التفسير (٢ / ١٨٩) وأبو حيان في البحر (٤ / ٣٦٧).

(١١) يقال أبطأ عليه : تأخر ، وأبطأ به : أخره ، واستبطأه : عده بطيئا. المعجم الوسيط (بطأ) (١ / ٦٠).

٥٤١

وإهلاك العدو والظفر عليهم ، فقال لهم موسى عند ذلك : (قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ).

والثاني : أن يخرج ذلك منهم مخرج الاعتذار لموسى لما خطر ببال موسى أنهم يقولون : إن ما أصابهم من البلايا والشدائد إنما كان لسببه ولمكانه ، فقالوا ذلك له اعتذارا منهم له أن قد أصابنا ذلك نحن من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ؛ لئلا يوهم أنهم يقولون ذلك أو يخطر بباله ذلك ، والله أعلم.

وجائز أن يكونوا قالوا ذلك على التعيير له والتوبيخ ، يقولون : لم يزل يصيبنا من الأذى لسببك ولأجلك من قبل أن تأتينا من الاستخدام ، ومن بعد ما جئتنا من أنواع الضرر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) والعسى من الله واجب ، فوعدهم إهلاك العدو واستخلافهم في الأرض.

وقال بعض أهل التأويل في قوله : (أُوذِينا) : في سببك (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا) بالرسالة ، يعنون بالأذى : قتل الأبناء واستخدام النساء (١) ، (وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) بالرسالة : من الشدائد التي أصابتهم من بعد ، لكن الأول أقرب وأشبه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).

يحتمل هذا ـ أيضا ـ وجهين :

أحدهما : أن يجعل لكم الأرض ، ويوسع عليكم الرزق يمتحنكم في ذلك ويبتليكم ، لا أنه يجعل لكم ذلك على غير امتحان تعلمون ما شئتم في ذلك.

والثاني : يمتحنكم بالشدائد والبلايا ؛ لينظر كيف تصبرون على ذلك.

ويحتمل وجها آخر وهو : أن يقول لهم : عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض ، فينظر كيف تشكرون ربكم فيما أنعم عليكم.

وقوله : (فَيَنْظُرَ) كيف الواقع لكم من [الجزاء والثواب](٢).

وقوله : (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا) : أمرهم ـ والله أعلم ـ بطلب المعونة من الله تعالى على قضاء جميع حوائجهم دينا ودنيا ، ويحتمل أن يكون على طلب التوفيق لما أمر به ، والعصمة عما حذّر عنه ، وكذلك الأمر البين في الخلق من طلب التوفيق والمعونة من الله ، والعصمة عن المنهي عنه جرت به سنة الأخيار ، وبالله المعونة (٣).

__________________

(١) في أ : الاستخدام بالنساء.

(٢) في ب : الثواب والجزاء.

(٣) في ب : التوفيق.

٥٤٢

ثم لا يصح ذلك على قول المعتزلة ؛ لأن الدعاء بالمعونة على أداء ما كلف وقد أعطى ؛ إذ على قولهم لا يجوز أن يكون مكلفا قد بقي شيء مما به أداء ما كلف عند الله ، وطلب ما أعطى كتمان للعطية ؛ وكتمان العطية كفران ، فيصير كأن الله أمر بكفران نعمه وكتمانها وبطلبها منه تعنتا ، وظن مثله بالله كفر ، ثم لا يخلو من أن يكون عند الله ما يطلب فلم يعط التمام إذا ، أو ليس (١) عنده ، فيكون طلبه استهزاء به ؛ إذ من طلب إلى آخر ما يعلم أنه ليس عنده فهو هازئ به في العرف (٢) مع ما كان الذي يطلب إما أن يكون لله ألا يعطيه مع التكليف ، فيبطل قولهم لا يجوز أن يكلف وعنده ما به الصلاح في الدين فلا يعطي ، أو ليس له ألا يعطي فكأنه قال : اللهم لا تجر ولا تظلم ومن هذا علمه بربه فالإسلام أولى به ، فهذا مع ما لا يدعو الله أحد بالمعونة ، وإلّا ويطمئن قلبه أنه لا يزلّ عند المعونة ، ولا يزيغ عند العصمة ، وليس مثله يملك الله عند المعتزلة ، ولا قوة إلا بالله.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ)(١٣٣)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ).

عن ابن مسعود (٣) ـ رضي الله عنه ـ : (بِالسِّنِينَ) قال : بالجوع ، وقيل (٤) : بالقحط.

ومجاهد : (بِالسِّنِينَ) قال : بالجوائح ونقص من الثمرات دون ذلك.

وقال القتبي : بالسنين : بالجدب (٥) ؛ يقال : أصاب الناس سنة : أي جدب.

فإن قيل : ذكر أنه أخذ آل فرعون ، وكان فيهم بنو إسرائيل فما معنى التخصيص؟

قيل : يحتمل أن يكون ذلك لهم خاصّة دون بني إسرائيل ، وإن كانوا فيهم ؛ على ما ذكر

__________________

(١) في ب : وليس.

(٢) العرف لغة : كل ما تعرفه النفس من الخير وتطمئن إليه ، وهو ضد النكر ، والعرف والمعروف : الجود.

وهو اصطلاحا : ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول ، وتلقته الطبائع بالقبول ينظر لسان العرب (عرف) ، والمصباح المنير (عرف).

(٣) أخرجه ابن جرير (٦ / ٢٩) (١٤٩٨٥) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٠٢) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن مسعود.

(٤) ذكره أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٣٦٩) وكذا البغوي في تفسيره (٢ / ١٩٠).

(٥) جدب المكان جدبا : يبس لاحتباس الماء عنه ، ينظر المعجم الوسيط (جدب) (١ / ١٠٩).

٥٤٣

في بعض القصّة أن القبط كانوا يشربون الدم وبنو إسرائيل الماء ، أو كان الجدب والنقص من الثمرات يضر آل فرعون ، ولا يضر بني إسرائيل ؛ لما أنهم كانوا يأكلون للشهوة وبنو إسرائيل للحاجة ، فمن يأكل للحاجة كان أقل حاجة إلى الطعام ممن يأكل (١) للشهوة ؛ فإذا لم يجدوا ما يأكلون للشهوة كان أضر بهم.

ألا ترى أنه قيل : «يأكل المؤمن في معى واحد والكافر لسبعة أمعاء» (٢).

أو خرج تخصيص ذلك لهم لما أن في عقد بني إسرائيل أن [لله أن](٣) يمتحنهم بجميع أنواع المحن : مرة بالشدة ومرة بالسعة ، ومن عقد القبط لا ، فأضيف إليهم ذلك لما لم يكن في عقدهم ذلك ، وإن كانوا جميعا في ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).

أي : يتعظون ، «ولعل» من الله واجب قد اتعظوا لكنهم عاندوا وكابروا ، وإلا قد لزمهم الاتعاظ.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ).

أي : الخصب والسعة (قالُوا لَنا هذِهِ) ، أي : هذا ما كنا نعرفه أبدا وما جرينا على اعتياده ، أو أن يقولوا : لنا هذه بفرعون وبعبادتنا له.

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ).

قيل (٤) : الضيق والقحط.

(يَطَّيَّرُوا بِمُوسى).

وقالوا بشؤمه (٥) ، وهذا كما قال (٦) العرب لمحمد : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ

__________________

(١) في ب : يأكله.

(٢) أخرجه البخاري (١٠ / ٦٧٣) في كتاب الأطعمة ، باب المؤمن يأكل في معى واحد (٥٣٩٦ و٥٣٩٧). ومسلم في صحيحه (٣ / ١٦٣٢) كتاب الأشربة ، باب المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء (١٨٦ / ٢٠٦٣) عن أبي هريرة بلفظ : (إن المؤمن يأكل في معى واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء) واللفظ للبخاري. وفي الباب عن ابن عمر وأبي موسى الأشعري.

(٣) في أ : الله.

(٤) انظر تفسير ابن جرير (٦ / ٣٠) وتفسير الخازن والبغوي (٢ / ٥٦٦).

(٥) الشؤم ، لغة : الشر ، ورجل مشئوم : غير مبارك ، وتشاءم القوم به ، مثل : تطيروا به ، والتشاؤم : توقع الشر. فقد كانت العرب إذا أرادت المضي لمهم تطيرت ، بأن مرت بجاثم الطير ، فتثيرها لتستفيد : هل تمضي أو ترجع؟ فإن ذهب الطير شمالا تشاءموا فرجعوا ، وإن ذهب يمينا تيامنوا فمضوا.

فنهى الشارع عن ذلك ، وقال : «لا طيرة ولا هامة».

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي.

ينظر : المصباح المنير (مادة : شؤم ، وطير).

(٦) في ب : قالت.

٥٤٤

عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) [النساء : ٧٨] كانوا يضيفون ما يصيبهم من الحسنة إلى الله ؛ لأنهم كانوا يقرون بالله ، والقبط لا فيقولون (١) ذلك من فرعون (٢) أو على الاعتياد.

فقال : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النساء : ٧٨] ؛ فعلى ذلك قال هاهنا : (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ). ثم يحتمل هذا وجوها :

قيل : جزاء تطيرهم عند الله في الآخرة.

وقيل : طائرهم وشؤمهم الذي كانوا تطيروا بموسى كان بتكذيبهم موسى ، أضاف ذلك إلى ما عنده من الآيات ؛ لأنهم بنزول تلك الآيات وإرسالها عليهم تطيروا بموسى ، [وبتجدد](٣) تلك الآيات تجدد تطيرهم وتشاؤمهم.

وقال بعضهم : قوله : (إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) ، أي : حظهم عند الله ، وكذلك (٤) قال في قوله : (أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) [الإسراء : ١٣] ، وهو كما ذكر : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] لما كذبوا تلك الآيات زاد ما نزل [بهم](٥) من الآيات من بعد رجسا إلى رجسهم ، فعلى ذلك شؤمهم وطائرهم الذي كان بتكذيبهم موسى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى) : من الطيرة (٦) ، وهو من التشاؤم ، يقال : تشاءمت بفلان ، أي : قلت : هو غير مبارك ، وتطيرت بفلان ـ أيضا ـ مثله ، ويقال : تبركت به إذا قلت : هو مبارك ، ويقال : تطيرت واطيرت منه وبه.

(أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ) ، أي : شؤمهم ذلك (٧) الذي يخافون منه هو من عند الله ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) : بأنه (٨) [كان](٩) من عند الله ، كان بتكذيبهم موسى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ).

__________________

(١) في أ : يقولون.

(٢) في أ : بل يقولون لنا من فرعون.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : فكذلك.

(٥) سقط في أ.

(٦) التطير في اللغة : التشاؤم. يقال : تطير بالشيء ، ومن الشيء : تشاءم به. والاسم : الطيرة. جاء في فتح الباري : التطير ، والتشاؤم : شيء واحد.

والمعنى الاصطلاحي لا يختلف عن اللغوي.

ينظر : مختار الصحاح مادة (طير) ، وفتح الباري (١٠ / ٢١٣).

(٧) في أ : ذاك.

(٨) في ب : أنه.

(٩) سقط في أ.

٥٤٥

قال أبو بكر الكيساني : تأويله : كل ما تأتينا به تزعم أنه آية ، تريد أن تسحرنا بها ، فما نحن لك بمؤمنين.

وقال ابن عباس ، والحسن : هو : أي ما تأتينا (بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها ...) ، الآية.

وقوله «مه» زيادة (١) ، وهو قول القتبي ، ومعناه : أي ما تأتنا.

وقال الخليل (٢) : هو في الأصل [«ما» «ما»](٣) إحداهما زيادة ، فطرحت الألف وأبدلت مكانها هاء ؛ طلبا للتخفيف.

وقال سيبويه (٤) النحوي : قوله : (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ) ، [أي](٥) : مه أي كأنهم قالوا

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٦ / ٣١) (١٤٩٩٧) عن ابن زيد بنحوه. وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٠٣) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن زيد.

(٢) الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأزدي اليحمدي ، أبو عبد الرحمن : من أئمة اللغة والأدب ، وواضع علم العروض.

وهو أستاذ سيبويه النحوي ، ولد ومات في البصرة ، وعاش فقيرا صابرا. كان شعث الرأس ، شاحب اللون ، قشف الهيئة ، متمزق الثياب ، متقطع القدمين ، مغمورا في الناس لا يعرف.

قال النضر بن شميل : ما رأى الراءون مثل الخليل ، ولا رأى الخليل مثل نفسه. له كتاب «العين» في اللغة و «معاني الحروف ـ خ» و «جملة آلات العرب ـ خ» و «تفسير حروف اللغة ـ خ» وكتاب «العروض» و «النقط والشكل» و «النغم».

وفكر في ابتكار طريقة في الحساب تسهله على العامة ، فدخل المسجد وهو يعمل فكره ، فصدمته سارية وهو غافل ، فكانت سبب موته. والفراهيدي نسبة إلى بطن من الأزد ، وكذلك اليحمدي. وفي طبقات النحويين ـ خ ـ للزبيدي : كان يونس يقول ـ الفرهودي (بضم الفاء) نسبة إلى حي من الأزد ، ولم يسم أحد بأحمد بعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قبل والد الخليل. وقال اللغوي ، في مراتب النحويين : أبدع الخليل بدائع لم يسبق إليها ، فمن ذلك تأليفه كلام العرب على الحروف في الكتاب المسمى بكتاب «العين» ؛ فإنه هو الذي رتب أبوابه ، وتوفي قبل أن يحشوه. وقال ثعلب : إنما وقع الغلط في كتاب العين ؛ لأن الخليل رسمه ولم يحشه ، وهو الذي اخترع العروض وأحدث أنواعا من الشعر ليست من أوزان العرب.

ينظر : الأعلام للزركلي (٢ / ٣١٤) ووفيات الأعيان (١ / ١٧٢) ، وإنباه الرواة (١ / ٣٤١) ، والسيرافي (٣٨).

(٣) سقط في أ.

(٤) هو : عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء ، أبو بشر ، الملقب سيبويه ، إمام النحاة وأول من بسط علم النحو ، ولد في البيضاء قرب شيراز سنة ١٤٨ ه‍ وقدم البصرة فلزم الخليل بن أحمد. ورحل إلى بغداد فناظر الكسائي. أخذ عن الخليل بن أحمد ويونس بن حبيب وعيسى بن عمر وغيرهم.

وأخذ عنه أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش وأبو علي بن المستنير المعروف بقطرب ، وغيرهم.

وسيبويه معناه بالفارسية : رائحة التفاح. وعاد إلى الأهواز فتوفي بها سنة ١٧٧ ه‍ ، وقيل سنة ١٦١ ه‍ ، وقيل سنة ١٨٠ ه‍ ، وقيل سنة ١٨٨ ه‍ ، وقيل سنة ١٩٤ ه‍. من تصانيفه : كتاب سيبويه في النحو.

ينظر : طبقات النحاة (٦٦) ، تاريخ بغداد (١٢ / ١٩٥) البداية والنهاية (١٠ / ١٧٦) نزهة الألباء في طبقات الأدبا ص (٧١) ، مفتاح السعادة (١ / ١٥٣) ، وفيات الأعيان (٣ / ١٣٣).

(٥) سقط في أ.

٥٤٦

له : مه ، أي : اسكت ، كما يقول الرجل لآخر : مه (١) ، أي ، اسكت ، «ما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين».

والسحر : هو التحيير ، وأخذ الأبصار ، ولا حقيقة له ؛ كقوله : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) [الإسراء : ١٠١] أي : متحيرا ، وقوله : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) [الأعراف : ١١٦].

ثم دل قولهم : (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أن ما قالوا : إن هذا ساحر ، وإنه سحر عن علم بالآية والنبوة له قالوا ذلك ، لا عن جهل وغفلة حيث قالوا : (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) ذلك منهم إياس من (٢) الإيمان به ، وقبول الآيات لأنهم أخبروا أنهم لا يقبلون الآيات ، ولا يصدقونه في ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ ...) إلى آخر ما ذكر.

قال أهل التأويل : [لما قالوا ذلك](٣) أرسل الله بعد السنين ونقص الثمرات الطوفان والآيات التي ذكر ، ويحتمل أن يكون هذا وإن كان مؤخرا في الذكر فهو مقدم ؛ لما قال : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ) إلى آخره. (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي : يتعظون.

ثم اختلف أهل التأويل في الطوفان :

قال بعضهم (٤) : [الطوفان](٥) : الماء والمطر حتى خافوا الهلاك ، وهو قول ابن عباس.

وعن عائشة (٦) ، قالت : «سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الطوفان ، فقال : الموت» ، فإن ثبت فهو هو.

وقيل : الطوفان : هو أنواع العذاب.

__________________

(١) «مه» : اسم فعل بمعنى : اكفف ، ومعناه الزجر والإسكات والأمر بالتوقف على ما يريد المريد ، كأن قائلا يريد الكلام بشيء أو فاعلا يريد فعلا ، فيقال له : مه ، أي : كف ولا تفعل.

ينظر : مصابيح المغاني (ص ٤٧٠) ، والصحاح (مهه) ، والصاحبي (٢٧٥).

(٢) في أ : عن.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه ابن جرير (٦ / ٣٢) (١٥٠٠٤) (١٥٠٢٨) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٠٤) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٥) سقط في ب.

(٦) أخرجه ابن جرير (٦ / ٣٢) (١٥٠٠٥) بنحوه ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٠٣) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه عن عائشة.

٥٤٧

والجراد (١) : هو المعروف.

والقمل (٢) ، قال بعضهم (٣) : هو بنات الجراد ، يقال : الدباء.

وقيل (٤) : هو الجراد الصغار التي لا أجنحة لها.

(وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ).

قيل (٥) : مفصلات ، أي معرفات ، واحدا بعد واحد ، لم يرسل آية إلا بعد ذهاب أخرى ، بعضها على إثر بعض.

وقيل : مفصلات ، أي : بينات واضحات ، ما علم كل أحد أنه [ليس من أحد](٦)

__________________

(١) الجراد معروف ، الواحدة : جرادة ، الذكر والأنثى فيه سواء ، يقال : هذا جرادة ذكر ، وهذه جرادة أنثى ، كنملة وحمامة ، قال أهل اللغة : وهو مشتق من الجرد ، قالوا : والاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جدّا ، يقال : ثوب جرد ، أي : أملس ، وثوب جرد إذا ذهب زئبره. وهو بري وبحري ، والكلام الآن في البري ، قال الله تعالى : (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) [القمر : ٧] أي في كل مكان ، وقيل : وجه التشبيه أنهم حيارى فزعون لا يهتدون ، ولا جهة لأحد منهم يقصدها ، والجراد لا جهة له فيكون أبدا بعضه على بعض. وقد شبههم في آية أخرى بالفراش المبثوث ، وفيهم من كل هذا شبه ، وقيل : إنهم أولا كالفراش حين يموج بعضه في بعض ، كالجراد إذا توجهوا نحو المحشر والداعي. والجرادة تكنى بأم عوف ، قال أبو عطاء السندي :

وما صفراء تكنى أم عوف

كأن رجيلتيها منجلان

والجراد أصناف مختلفة : فبعضه كبير الجثة ، وبعضه صغيرها ، وبعضه أحمر ، وبعضه أصفر ، وبعضه أبيض.

ينظر : حياة الحيوان (١ / ١٧٠).

(٢) القمل : معروف ، واحدته : قملة ، ويقال لها أيضا : قمال ، قاله ابن سيده : وقد قمل رأسه بالكسر قملا ، وكنية القملة : أم عقبة وأم طلحة ، ويقال للذكر : أبو عقبة ، والجمع : بنات عقبة ، وبنات الدروز ، والدروز : الخياطة ، سميت بذلك لملازمتها إياها. وقمل الزرع : دويبة تطير كالجراد في خلقة الحلم ، وجمعها : قمل ، قاله الجوهري. والقمل المعروف يتولد من العرق والوسخ إذا أصاب ثوبا أو بدنا أو ريشا أو شعرا حتى يصير المكان عفنا ، وقال الجاحظ : ربما كان الإنسان قمل الطباع وإن تغلف وتعطر وبدل الثياب ، كما عرض لعبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله تعالى عنه ـ والزبير بن العوام ـ رضي الله تعالى عنه ـ حتى استأذنا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في لبس الحرير ، فأذن لهما فيه ، ولو لا أنهما كانا في حد الضرورة لما أذن لهما فيه مع ما قد جاء في ذلك من التشديد.

ينظر حياة الحيوان (٢ / ٣٠٦ ـ ٣٠٧).

(٣) أخرجه ابن جرير (٦ / ٣٤) (١٥٠١٩) عن عكرمة ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٠٦) وعزاه لأبي الشيخ عن عكرمة ، وكذا الرازي في تفسيره (١٤ / ١٧٨).

(٤) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ١٩٢) وكذا أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٣٧٢ ـ ٣٧٣).

(٥) أخرجه ابن جرير (٦ / ٤٠) (١٥٠٤٢) عن مجاهد ، وكذا الرازي في تفسيره (١٤ / ١٧٨) وابن عادل في اللباب (٩ / ٢٨٦).

(٦) سقط في ب.

٥٤٨

وليس من عمل السحر ، ولكن آية سماوية إذ (١) لو كان سحرا لتكلفوا في دفعه ، واشتغلوا بالسحر على ما اشتغلوا بسحر العصا والحبال ، فإذ لم يتكلفوا في ذلك ، [و](٢) لم يشتغلوا بدفع ذلك ، بل فزعوا إلى موسى ليكشف ذلك عنهم ، ووعدوه الإيمان به ، وإرسال بني إسرائيل معه ، دلّ فزعهم إليه في كشف ذلك عنهم على أنهم قد عرفوا أنه ليس بسحر ، ولكنه آية أقرّوا بها أنّها ليست بسحر ، وأنها آيات إلا أنهم فزعوا عند ذلك إلى موسى فقالوا : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ)(٣) : (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ووعدوه الإيمان به ، وبعث بني إسرائيل معه إن كشف عنهم الرجز.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) اختلف فيه (٤) :

قال بعضهم : (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) ما عهد لك أنك متى دعوته أجابك.

وقيل : (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أنّا متى آمنا بك وصدّقناك كشف عنا الرجز ، فقالوا : لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل.

قوله تعالى : (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ)(١٣٧)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ).

قيل (٥) : الرجز : ألوان العذاب الذي كان نزل بهم من الطوفان والجراد والقمل

__________________

(١) في أ : أن.

(٢) سقط في أ.

(٣) زاد في أ : ما عهد لك أنك متى دعوته إلي.

(٤) وقع في الأصول تقديم وتأخير في شرح ترتيب الآيات.

(٥) أخرجه ابن جرير (٦ / ٤١ ـ ٤٢) عن كل من :

مجاهد (١٥٠٤٥ و١٥٠٤٦).

قتادة (١٥٠٤٧ و١٥٠٤٨).

ابن زيد (١٥٠٤٩).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٠٧) وزاد نسبته لعبد بن حميد وأبي الشيخ عن قتادة.

ولابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

٥٤٩

[والضفادع](١) والدم ، وما ذكر.

قالوا : (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ) يحتمل أن يكون كلما حل بهم نوع من العذاب سألوا أن يكشف عنهم ، فقالوا : لئن كشفت لنؤمنن لك ، ولنرسلن معك بني إسرائيل ، فلما كشف عنهم الرجز نكثوا ذلك ، وعادوا إلى ما كانوا من قبل.

ويحتمل أن يكون قولهم لموسى : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) : بعد ما حل بهم أنواع العذاب ، عند ذلك قالوا : (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) فلما كشف [ذلك](٢) عنهم نكثوا عهدهم ، وهو قولهم : لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن بك ، وعادوا إلى ما كانوا ، فعند ذلك كان ما ذكر من قوله : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) وقوله : (لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) : بما تدعى بأنك رسول ، (وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) : أمكن أن يكون ليس على نفس الإرسال ، ولكن على ترك الاستعباد ، أي : لا نستعبدهم (٣) بعد هذا ؛ لأنهم كانوا يستعبدون بني إسرائيل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ).

قال الحسن : قوله : (كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ) لو (٤) أطاعوا وأوفوا بالعهد الذي عهدوا [و](٥) لكنهم لما نكثوا ذلك انتقم منهم وهذا الحرف يؤدي إلى مذهب الاعتزال ؛ لأنهم يقولون : إن من قتل أو عذب تعذيب إهلاك إنما هلك قبل أجله ، وأجله الموت ، لكن هذا يصلح ممن يجهل العواقب ، وأمّا الله سبحانه وتعالى يتعالى عن ذلك أن يجعل له أجلين ؛ أحدهما : الموت ، والآخر : القتل ، ولكن جعل أجل من في علمه أنه يقتل القتل ، ومن يموت حتف أنفه الموت ، وكذلك ما روي في الخبر أن : «صلة الرحم تزيد في العمر» (٦) ، أي : من علم منه أنه يصل رحمه ، جعل عمره أزيد ممن يعلم أنه لا يصل رحمه ، لا أنه يجعل عمره إلى وقت ، ثم إذا وصل رحمه زاد ؛ لما ذكرنا أن ذلك أمر من يجهل العواقب ، وأما من يعلم ما كان وما يكون أنه لو كان كيف يكون ـ لا.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : نستعيدهم.

(٤) في أ : ولو.

(٥) سقط في أ.

(٦) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (٦ / ١٧ / ٢) في ترجمة داود بن عيسى بلفظ : «صدقة السر تطفئ غضب الرب ، وإن صلة الرحم تزيد في العمر ، وإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، وإن قول (لا إله إلا الله) تدفع عن قائلها تسعة وتسعين بابا من البلاء ، أدناها الهم» وكذا ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج (١٦٨ / ١) عن ابن عباس مرفوعا.

٥٥٠

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) يحتمل أن يكون قوله : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) ما ذكر على إثره من الغرق : (فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ).

ويحتمل أن يكون قوله : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) من الطوفان وأنواع العذاب الذي كان حل بهم ، ثم كان الإغراق من بعد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا).

يحتمل الآيات التي جاء بها موسى على وحدانية الله تعالى وربوبيته ، وهي الحجج والآيات التي تقدم ذكرها من الطوفان والجراد والقمل ، وما ذكر.

وقال الحسن : بآياتنا : ديننا.

وقوله : (وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) قيل (١) : معرضين مكذبين بها ، لا أنهم كانوا على غفلة وسهو عنها ، لكنهم أعرضوا عنها مكابرين معاندين كأنهم غافلين عنها ، وجائز أن يكون : غافلين عما يحل بهم من العقوبة بتكذيبهم.

وقوله : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا).

هو ما سبق من الوعد لهم بوراثة الأرض ، وإنزالهم فيها ، وهو قوله : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) [الأعراف : ١٢٩] ، وكقوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) [القصص : ٥] ، كان وعدهم الاستخلاف والإنزال في أرض عدوّهم ، ثم أخبر أنه أنزلهم وأورثهم على ما وعدهم بقوله : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) باستعبادهم [وقوله :](٢)(مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) قيل : فيه بوجوه :

قيل (٣) : مشارق الأرض ومغاربها : مملكة فرعون مصر ونواحيها ، ما يلي ناحية الشرق وناحية الغرب.

وقيل : كان في بني إسرائيل من بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها من نحو ذي القرنين (٤) ، وداود ، وسليمان.

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ١٩٣) وكذا أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٣٧٥).

(٢) سقط في أ.

(٣) انظر تفسير الخازن والبغوي (٢ / ٥٧٢) وتفسير البحر المحيط (٤ / ٣٧٥).

(٤) هو الإسكندر بن داري ، وفي تسميته بذلك خلاف ؛ فقيل : لأنه كان له ضفيرتان من الشعر. وقيل : لأنه دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه الأيسر فمات ثم أحياه الله تعالى. وحكى عليّ ـ رضي الله عنه ـ قصته كذا ، ثم قال : «وفيكم مثله» قالوا : فنرى أن يكون عنى نفسه ؛ لأنه ضرب ضربتين : ضربة يوم الخندق ، وضربه ثانيا ابن ملجم ، لعنه الله. وقال له النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إن لك بيتا في الجنة وإنك ذو قرنيها» أي : طرفي الجنة ، وقال أبو عبيد : أحسب أنه أراد الحسن ـ

٥٥١

وقيل : مشارق الأرض ومغاربها : أن فضلوا (١) على أهل مشارق الأرض ومغاربها ؛ كقوله : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [الجاثية : ١٦] قيل : على عالمي هذا الزمان (٢) ، ثم تفضيله إياهم على البهائم بالجوهر ، والخلقة ، وعلى الجن بالرسالة والنبوة والمنافع ، وعلى جوهرهم من بني آدم بالرسالة والحكمة والملك ؛ كقوله : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [المائدة : ٢٠].

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّتِي بارَكْنا فِيها).

قيل (٣) : أرض الشام (٤).

وقيل (٥) : أرض مصر ونواحيها.

وقيل (٦) : سماها مباركة (٧) لأنها مكان الأنبياء ـ عليهم‌السلام.

وقيل : مباركة لكثرة أنزالها وسعتها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى).

__________________

ـ والحسين.

ينظر : عمدة الحفاظ (٣ / ٣٥٧) ، ومعجم أعلام القرآن (مادة ذو القرنين) ، والنهاية (٤ / ٥١ ، ٥٢).

(١) في أ : تفضلوا.

(٢) في أ : عالمي زمانهم.

(٣) أخرجه ابن جرير (٦ / ٤٣ ـ ٤٤) (١٥٠٥٣ و١٥٠٥٤ و١٥٠٥٥) عن الحسن البصري (١٥٠٥٦ و١٥٠٥٧) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢٠٨) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن عساكر عن قتادة والحسن البصري ، ولابن عساكر عن زيد بن أسلم.

(٤) الشأم : مهموز الألف ، وقد لا يهمز ، وهو البلد المعروف ، قيل : إنه سمي بشامات هناك حمر وسود. ولم يدخلها سام بن نوح قط ، كما قال بعض الناس : إنه أول من اختطها ، فسميت به ، واسمه سام بالسين المهملة ، فعرب ، فقيل : شام ، بالشين المعجمة.

وكانت العرب تقول : من خرج إلى الشام نقص عمره ، وقتله نعيم الشام.

وسميت بالشام لتشؤّم بني كنعان بن حام إليها ، أو لأن سام بن نوح أول من نزلها ، فجعلت السين شينا ، وكان اسمها الأول : سوري. وحدها من الفرات إلى العريش طولا وعرضا من جبلي طيئ إلى بحر الروم ، بها من أمهات المدن : منبج وحلب وحماة وحمص ودمشق وبيت المقدس ، وفي سواحلها : عكا وصور وعسقلان.

ينظر : معجم ما استعجم (٣ / ٧٧٣) ، ومراصد الاطلاع (٢ / ٧٧٥).

(٥) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢١١) وعزاه لأبي الشيخ عن الليث بن سعد ، والبغوي في التفسير (٢ / ١٩٤) وأبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٣٧٥).

(٦) ذكره بمعناه السيوطي في الدر (٣ / ٢٠٩) وعزاه لابن عساكر عن كعب ، وكذا أبو حيان في البحر (٤ / ٣٧٥).

(٧) في ب : سماه مباركا.

٥٥٢

قيل : هي الجنة ، أي : تمت لهم الجنة بما صبروا ، وقيل (١) : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى) بما كان وعدهم أنه ينزلهم فيها ، ويستخلفهم ، تم ذلك الوعد [لهم](٢) وهو كما (٣) قال : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٥] تم ما وعد لهم أن يمن عليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : بما صبروا يحتمل : بما صبروا على أذى فرعون ، ويحتمل : بما صبروا من أداء ما أوجب (٤) عليهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ).

قال بعضهم : قوله : (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) : على الوقف على (وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) : معطوف على قوله : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) : وهو من العرش الذي يتخذه الملوك.

وقيل (٥) : (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) ـ أيضا ـ ، أي : أهلكنا ما كانوا يعرشون.

قال القتبي (٦) : يعرشون ، أي : يبنون ، والعرش : بيوت ، والعرش : سقوف.

وقال أبو عوسجة (٧) : (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) ، أي : أهلكنا وأفسدنا ، (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) عرش ، يعرش ويعرش يعني : يبنون من البيوت والكروم والأشجار.

وقيل في قوله : (كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) : يعني بالاستضعاف : قتل الأبناء واستحياء النساء بأرض «مصر» ، ورثهم الله ذلك.

__________________

(١) انظر تفسير ابن جرير (٦ / ٤٤) وتفسير الخازن والبغوي (٢ / ٥٧٢).

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : ما.

(٤) في ب : ما وجب.

(٥) ذكره ابن جرير (٦ / ٤٥ ـ ٤٦) ، وكذا أبو حيان في البحر (٤ / ٣٧٦).

(٦) أخرجه ابن جرير (٦ / ٤٥) (١٥٠٦٠) عن ابن عباس ، و (١٥٠٦١) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٢١٢) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس ، ولابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٧) انظر تفسير ابن جرير (٦ / ٤٤).

٥٥٣

وقيل (١) في قوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى) هي النعمة التي أنعمها (٢) على بني إسرائيل بما صبروا على البلاء حين كلفوا ما لا يطيقون من استعباد فرعون إياهم ، والكلمة التي ذكر ما ذكر في القصص من قوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٥].

قوله تعالى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)(١٤١)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ).

دل هذا على أن لله في فعل العباد صنعا وفعلا ؛ حيث أضاف ونسب المجاوزة إلى نفسه ، وهم الذين جاوزوا البحر ، دل أن له في فعلهم صنعا ، وهذا ينقض على المعتزلة حيث أنكروا خلق أفعال العباد ، وبالله المعونة والعصمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ).

العكوف (٣) : هو المقام والدوام ، وقوله : (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) ، أي : وجدوهم عكوفا على عبادة الأصنام مقيمين على ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً).

يشبه أن يكون سؤالهم إلها يعبدونه لا على الكفر بربهم والتكذيب لرسوله ، ولكن لما لم يروا أنفسهم أهلا للعبادة لله ، والخدمة له ؛ لما رأوا في الشاهد أنه لا يخدم (٤) الملوك إلا الخواص لهم ، والمقربون إليهم ، ومن بعد منهم يخدم خواصهم ، فعلى ذلك هؤلاء سألوا موسى إلها يعبدونه ؛ لما لم يروا أنفسهم أهلا لعبادة الله ، والخدمة له ؛ لتقربهم

__________________

(١) ذكره أبو حيان في البحر المحيط بنحوه (٤ / ٣٧٦).

(٢) في ب : أنعم.

(٣) وهو في اللغة : لزوم الشيء والإقبال عليه ، قال ابن سيده : في المحكم (عكف) (عكف) : يقال : عكف يعكف عكفا وعكوفا ، واعتكف : لزم المكان ، وقال الجوهري في الصحاح (عكف) : عكفه ، أي : حبسه ، يعكفه ، ويعكفه عكفا ؛ ومنه قوله تعالى (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً)[الفتح : ٢٥] ، قال : وعكف على الشيء ، يعكف ويعكف ، عكوفا ، أي : أقبل عليه مواظبا ، ومنه قوله تعالى (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ)[الأعراف : ١٣٨].

(٤) في ب : لم يخدم.

٥٥٤

عبادة تلك الأصنام إلى الله ، ويخرج ذلك مخرج التعظيم لله والتبجيل ، لا على الكفر وصرف العبادة عنه إلى غيره ، وكذلك كان عادة العرب أنهم كانوا يعبدون الأصنام لتقربهم عبادتها إلى الله زلفى ، وكذلك ما ذكر في بعض القصّة أن فرعون كان يتخذ لقومه أصناما يعبدونها ؛ لتقربهم تلك الأصنام إليه زلفى ، فعلى ذلك سؤال هؤلاء لموسى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً) ، والله أعلم.

أو كان سؤالهم ذلك لما لم يروا في الشاهد أحدا يخدم إلا لحاجة تقع له إلى ذلك ، فرأوا أن الله يتعالى (١) [عن](٢) أن يعبد ويخدم للحاجة ، و [هم] يخدمون القادة والرسل ويعبدونهم لما رأوا [أنهم] ينالون من النعم ، وأنواع المنافع من الرؤساء والكبراء ؛ لذلك كانوا يخدمونهم ، وأما أهل التوحيد فإنهم لا يرون العبادة لغير الله ؛ لأنه ما من أحد وإن بعد منزلته ومحله إلا وآثار نعم الله عليه ظاهرة حتى عرف ذلك كل أحد ، حتى لو بذل له جميع حطام (٣) الدنيا ، أو أوعد بكل أنواع الوعيد (٤) ؛ ليترك الدين الذي هو عليه ، ما تركه البتة.

وفي أمر موسى ـ صلوات الله عليه ـ خصلتان ، إحداهما : أن يعلم أن كيف يؤمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، وكيف يعامل مرتكب الفسق والمنكر يعامل على ما عامل موسى قومه باللين والشفقة ، وإن استقبلوه بالعظيم من الأمر والمناكير. والثانية : [....](٥)

ويحتمل أن يكون سؤالهم إلها يعبدونه لما أن أهل الكفر قالوا لهم : إن الرسل هم الذين أمروهم بعبادة الأصنام ؛ كقوله : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨] فعلى ما قالوا إن الرسل هم الذين أمروهم بذلك ، سألوا موسى أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة.

وقوله : (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ).

أي : أن عبادتهم لهؤلاء متبر (٦) ، أي : مهلكهم ومفسدهم.

(وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

__________________

(١) في ب : تعالى.

(٢) سقط في أ.

(٣) الحطام من كل شيء : ما يحطم منه ، وهو من الدنيا : متاعها. ينظر المعجم الوسيط (١ / ١٨٣) (حطم).

(٤) في ب : العذاب.

(٥) بياض في الأصل. وقد أشار الناسخ في هامش النسخة «ب» إلى ذلك فقال : في الأصل هكذا بياض ومقداره. سطر ، فليحرر.

(٦) التبار : الهلاك ، يقال تبره يتبره : بالغ في هلاكه. ينظر : لسان العرب (/) (تبر) ، وعمدة الحفاظ (١ / ٢٩٢).

٥٥٥

أي : باطل ما يأملون بعبادتهم هؤلاء.

وقال القتبي : التبار : الهلاك ، وقال أبو عوسجة : المتبر : المفسد ، يقال : تبرت الشيء ، أي أفسدته ، ويقال : رجل متبر ، أي مفسد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ).

يحتمل قوله : فضلكم على العالمين بما هداكم ووفقكم للهداية بما لم يوفق ولم يهد أحدا من [العالمين](١) من عالمي زمانكم.

ويحتمل قوله : (أَبْغِيكُمْ إِلهاً) دونه وقد فضلكم بما استنقذكم من استخدام فرعون وقهره إياكم وإخراجكم من يده ، وأعطاكم رسولا يبين لكم عبادة إلهكم الحق.

وقوله : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ) يقول : أما تستحيون (٢) [من] ربكم أن تسألوا إلها تعبدونه دونه ، وقد فضلكم بما ذكر من أنواع النعم ، والله أعلم ، وهو ما ذكر في (٣) قوله : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ....) الآية ، يذكرهم نعمه عليهم بما استنقذهم من فرعون وآله وأهلكهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَسُومُونَكُمْ).

قيل : يعذبونكم (سُوءَ الْعَذابِ) قتل الأبناء ، واستحياء النساء ، فذلك قوله : (يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) ، قيل (٤) في ذلك : يعني فيما أنجاكم من آل فرعون بلاء من ربكم عظيم ، يعني : نعمة من ربكم عظيمة ، ويقال : البلاء (٥) ـ بالمد ـ : هو النعمة ، وبغير المدّ مقصورا : الشدّة.

* * *

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : تستحبون.

(٣) في أ : من

(٤) انظر تفسير ابن جرير (٦ / ٤٧).

(٥) قال أبو الهيثم : البلاء يكون حسنا ويكون سيئا. وأصله المحنة ، والله تعالى يبتلي عبده بالصنع الجميل ؛ ليمتحن شكره ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره ينظر عمدة الحفاظ (١ / ٢٦٣).

٥٥٦

فهرس المحتويات

تفسير سورة الأنعام

من آية ١ إلى ٣................................................................. ٣

من آية ٤ إلى ٦................................................................ ١٧

من آية ٧ إلى ١١.............................................................. ٢٥

من آية ١٢ إلى ١٣............................................................ ٢٩

من آية ١٤ إلى ١٩............................................................ ٣٣

من آية ٢٠ إلى ٢١............................................................ ٤٢

من آية ٢٢ إلى ٢٤............................................................ ٤٤

من آية ٢٥ إلى ٢٦............................................................ ٤٥

من آية ٢٧ إلى ٣٠............................................................ ٥٢

من آية ٣١ إلى ٣٢............................................................ ٦٦

من آية ٣٣ إلى ٣٥............................................................ ٦٩

من آية ٣٦ إلى ٣٩............................................................ ٧٥

من آية ٤٠ إلى ٤٥............................................................ ٨٢

من آية ٤٦ إلى ٤٩............................................................ ٨٦

من آية ٥٠ إلى ٥٣............................................................ ٨٩

من آية ٥٤ إلى ٥٨............................................................ ٩٥

من آية ٥٩ إلى ٦٢............................................................ ٩٨

من آية ٦٣ إلى ٦٧........................................................... ١٠٩

من آية ٦٨ إلى ٧٠........................................................... ١١٨

من آية ٧١ إلى ٧٣........................................................... ١٢٤

من آية ٧٤ إلى ٧٩........................................................... ١٢٨

من آية ٨٠ إلى ٨٣........................................................... ١٤٥

من آية ٨٤ إلى ٨٧........................................................... ١٥٢

من آية ٨٨ إلى ٩٠........................................................... ١٥٥

٥٥٧

من آية ٩١ إلى ٩٤........................................................... ١٦٥

من آية ٩٥ إلى ٩٩........................................................... ١٨٠

من آية ١٠٠ إلى ١٠٣....................................................... ١٨٩

من آية ١٠٤ إلى ١٠٨....................................................... ٢٠١

من آية ١٠٩ إلى ١١٣....................................................... ٢١٣

من آية ١١٤ إلى ١١٧....................................................... ٢٢٥

من آية ١١٨ إلى ١٢١....................................................... ٢٢٩

من آية ١٢٢ إلى ١٢٥....................................................... ٢٤٨

من آية ١٢٦ إلى ١٢٧....................................................... ٢٥٥

من آية ١٢٨ إلى ١٣٢....................................................... ٢٥٦

من آية ١٣٣ إلى ١٣٥....................................................... ٢٦٣

من آية ١٣٦ إلى ١٤٠....................................................... ٢٦٥

من آية ١٤١ إلى ١٤٤....................................................... ٢٧٢

من آية ١٤٥ إلى ١٤٧....................................................... ٢٩٣

من آية ١٤٨ إلى ١٥٠....................................................... ٣٠٥

من آية ١٥١ إلى ١٥٣....................................................... ٣١٠

من آية ١٥٤ إلى ١٥٨....................................................... ٣١٩

من آية ١٥٩ إلى ١٦٠....................................................... ٣٣١

من آية ١٦١ إلى ١٦٤....................................................... ٣٣٦

آية ١٦٥.................................................................... ٣٤٢

تفسير سورة الأعراف

من آية ١ إلى ٣.............................................................. ٣٤٥

من آية ٤ إلى ٩.............................................................. ٣٥٧

آية ١٠..................................................................... ٣٦٦

من آية ١١ إلى ١٣........................................................... ٣٦٧

من آية ١٤ إلى ١٧........................................................... ٣٧٠

من آية ١٨ إلى ٢١........................................................... ٣٧٤

من آية ٢٢ إلى ٢٥........................................................... ٣٨١

من آية ٢٦ إلى ٢٧........................................................... ٣٩٣

من آية ٢٨ إلى ٣٠........................................................... ٣٩٩

من آية ٣١ إلى ٣٣........................................................... ٤٠٤

٥٥٨

من آية ٣٤ إلى ٣٦........................................................... ٤١٢

من آية ٣٧ إلى ٤١........................................................... ٤١٥

من آية ٤٢ إلى ٤٥........................................................... ٤٢٣

من آية ٤٦ إلى ٤٩........................................................... ٤٣٠

من آية ٥٠ إلى ٥٣........................................................... ٤٣٥

من آية ٥٤ إلى ٥٨........................................................... ٤٣٩

من آية ٥٩ إلى ٦٤........................................................... ٤٦٧

من آية ٦٥ إلى ٧٢........................................................... ٤٧٢

من آية ٧٣ إلى ٧٩........................................................... ٤٧٨

من آية ٨٠ إلى ٨٤........................................................... ٤٨٥

من آية ٨٥ إلى ٩٣........................................................... ٤٩١

من آية ٩٤ إلى ٩٥........................................................... ٥٠٧

من آية ٩٦ إلى ٩٩........................................................... ٥١٠

من آية ١٠٠ إلى ١٠٢....................................................... ٥١٢

من آية ١٠٣ إلى ١١٢....................................................... ٥١٥

من آية ١١٣ إلى ١٢٢....................................................... ٥٢٧

من آية ١٢٣ إلى ١٢٩....................................................... ٥٣٣

من آية ١٣٠ إلى ١٣٣....................................................... ٥٤٣

من آية ١٣٤ إلى ١٣٧....................................................... ٥٤٩

من آية ١٣٨ إلى ١٤١....................................................... ٥٥٤

٥٥٩