تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ).

كأنه قال : أوحي إليّ هذا القرآن الذي تعرفون أنه من عند الله جاء ؛ لأنه قال لهم : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] فعجزوا عن إتيان مثله ، فدل عجزهم عن إتيان مثله أنهم عرفوا أنه جاء من عند الله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) : لا ينذر بالقرآن ولكن ينذر بما في القرآن ؛ لأنه فيه أنباء ما حل بأشياعهم بتكذيبهم الرسل ، وما يحل بهم من العذاب في الآخرة بتكذيبهم الرسل ، وإلا فظاهر القرآن ليس مما ينذر به ، (وَمَنْ بَلَغَ) كأنه قال : وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ، وأنذر من بلغه القرآن ، صار رسول الله نذيرا ببلوغ القرآن لمن بلغه ، فإذا [صار](١) نذيرا به لمن بلغه وإن كان هو في أقصى الدنيا يصير هو نذيرا في أقصى الزمان ، في كل زمان ، وهو ـ والله أعلم ـ كقوله ـ تعالى ـ : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [الرعد : ٧] ، ورسول الله هاد لقومه إلى يوم القيامة.

وفي الآية دلالة أن البشارة والنذارة يكونان ببعث آخر يبشر أو ينذر ، وهو دليل لقول أصحابنا (٢) : إن من حلف : أيّ عبد من عبيدي بشّرني بكذا فهو حرّ ، فبشره [برسول ، أو بكتاب](٣) يكون بشارة (٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) فهذا (٥) في الظاهر استفهام (٦) ، ولكنه في الحقيقة إيجاب أنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ، بعد ما ظهر

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) عني بقوله «أصحابنا» السادة الأحناف أتباع الإمام أبي حنيفة النعمان وسيأتي ترجمته إن شاء الله تعالى في ص (٧٥٧).

(٣) في ب : بكتاب أو برسول.

(٤) أحكام القرآن للجصاص (١ / ٤٣).

(٥) في أ : هذا.

(٦) الاستفهام : هو طلب العلم بما في ضمير المخاطب ، وقيل : هو طلب حصول صورة الشيء في الذهن فإن كان تلك الصورة وقوع نسبة بين الشيئين أو لاوقوعها فحصولها هو التصديق وإلا فهو التصور.

والاستفهام أسلوب إنشائي طلبي يتطلب إجابة بأحد أمرين بنعم أو لا ، أو بالتعيين.

وله أدوات كثيرة كلها أسماء ما عدا أداتين منها هما : الهمزة وهل فإنهما حرفان.

فأما الهمزة فقد أوثرت بثلاثة أمور هي :

ـ التصدير : ولذلك قدمت على العاطف في قوله تعالى : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا)[البقرة : ١٠](أَفَسِحْرٌ هذا)[الطور : ١٥].

ـ طلب التعيين إذا ذكر معها المعادل نحو : أزيد عندك أم عمرو.

ـ الدخول على النفي للتقرير نحو قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) وغير التقرير نحو قولك : ألم تفعل ، لمن قال : لم أفعل. ـ

٤١

عندكم آيات وحدانيته ، وحجج ربوبيته لما عرفتم أنه خالقكم وخالق السموات والأرض ، به تعيشون وبه تحيون ، وبه تموتون ، مع ما ظهر لكم هذا أشركتم مع الله آلهة أخرى ، وليس ذلك لكم مما تشركون في عبادته وألوهيته ، وأنا لا أشهد ، وإنما أشهد أنه إله واحد وإنني بريء مما تشركون [في ألوهيته وربوبيته](١).

قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(٢١)

قوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ).

قيل (٢) : نزلت سورة الأنعام في محاجة أهل الشرك ، إلا آيات نزلت في محاجة أهل الكتاب ، إحداها هذه.

وجائز أن يكون أهل الشرك يعرفون أنه رسول كما يعرفون أبناءهم ، ويكون الكتاب هو القرآن ـ هاهنا ـ لما قرع أسماعهم هذا القرآن ، وأمروا أن يأتوا بمثله ، فعجزوا عنه ، وبما

__________________

ـ وأما هل فتنفرد بما يلي :

ـ الوقوع موقع النفي نحو : هل يهلك إلا القوم الظالمون ، أي : لا يهلك إلا القوم الظالمون.

ـ الوقوع موقع (قد) نحو قوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) ، أي : قد أتى.

ويشترك الحرفان في الوقوع موقع الأمر نحو : (أَأَسْلَمْتُمْ)[آل عمران : ٢٠] ، أي : أسلموا ـ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)[المائدة : ٩١] أي : انتهوا.

وأما أسماء الاستفهام فهي : «من» ويستفهم بها عمن يعقل نحو : من عندك زيد أم عمرو. و «ما» ويستفهم بها عما لا يعقل نحو : ما مركوبك أفرس أم بعير وعن صفات من يعقل نحو : ما زيد أطويل أم قصير. و «أي» ويستفهم بها عن بعض نحو : أي الرجلين كلمك زيد أم عمرو. و «أين» ويستفهم بها عن مكان نحو : أين كنت أفي الدار أم في المسجد. و «أيان» ويستفهم بها عن زمان مستقبل نحو : أيان سفرك أغد أم بعد غد؟ و «متى» ويستفهم بها عن زمان ماض وعن زمان مستقبل نحو : متى قدمت أمس ومتى تسافر غدا. و «كم» ويستفهم بها عن عدد نحو : كم كتابا اشتريت. و «كيف» و «أنى» ويستفهم بهما عن الحال نحو : كيف جئت ـ وأنى ظفرت بالعدو ، وقد يستفهم بأنى عن المكان والزمان نحو : أنى كنت وأنى سرت.

ويطلب بهذه الأدوات التصور ولذلك فإنها تقتضي إجابة بتعيين المسئول عنه مكانا كان أو زمانا أو عددا أو حالا.

وإذا كان الاستفهام في حقيقته طلبا للعلم بالشيء فإنه قد يخرج عن هذا المعنى لأغراض بلاغية مختلفة ذكرها علماء البلاغة في مظانها من علم المعاني.

ينظر معجم المصطلحات النحوية (١٧٩ ـ ١٨١)

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ١٦٤) (١٣١٣٤) عن قتادة بنحوه والسيوطي في الدر (٣ / ١٣) وزاد نسبته لأبي الشيخ عن السدي والرازي في تفسيره (٢ / ١٤٨ ـ ١٤٩) والبغوي في تفسيره (٢ / ٨٩).

٤٢

كانوا يختلفون إلى أهل الكتاب ، ويسألونهم عن نعته وصفته ، ويخبرونهم ، فعرف (١) أهل الشرك أنه رسول ، كما عرف أهل الكتاب بوجود نعته وصفته في كتابهم.

وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال لعبد الله بن سلام (٢) : إن الله قد أنزل على نبيّه ـ عليه‌السلام ـ بمكة : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) ، فكيف يا عبد الله المعرفة؟ فقال عبد الله : يا عمر ، لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني إذا رأيته مع الصبيان يلعب ، وأنا أشد معرفة بمحمد مني لابني ، فقال : كيف ذلك؟ فقال : أنا أشهد أنه رسول الله حق من الله ، ولا أدري ما صنع النساء ، أو ما أحدث النساء ، [وقد نعت في](٣) كتابنا. فقال [له](٤) عمر : صدقت وأصبت (٥).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً).

قال أهل التأويل (٦) : لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا ، لكن هذا ـ في الحقيقة ـ كأنه سؤال واستفهام ؛ كأنه قال : من أظلم من الظالمين ، قال : من افترى على الله كذبا ، يقال : من فعل هذا؟ قال : فلان ، أو من قال هذا؟ قال : فلان ، فهو ـ والله أعلم ـ على السؤال والاستفهام. ثم قيل الذين افتروا على الله كذبا : إن معه شريكا كقولهم : إن مع الله آلهة أخرى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ).

قيل : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل (٧) : القرآن (٨).

__________________

(١) في ب : يعرف.

(٢) هو : عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي ثم الأنصاري يكنى (أبا يوسف) وهو من ولد يوسف ابن يعقوب صلى الله عليهما. كان حليفا للأنصار وكان اسمه في الجاهلية الحصين ، فلما أسلم سماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله روى عدة أحاديث حدث عنه أنس بن مالك وزرارة بن أوفى وأبو سعيد المقبري وآخرون. وقال يزيد بن عميرة : لما احتضر معاذ قيل له : أوصنا فقال : إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما فالتمسوا العلم عند أبي الدرداء وسلمان وابن مسعود وعبد الله بن سلام الذي أسلم ؛ فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنه عاشر عشرة في الجنة» وتوفي في المدينة في خلافة معاوية سنة ٤٣ ه‍.

ينظر : الاستيعاب (٢ / ٣٩٥) ت (١٦٣٩) ، صفة الصفوة (٢ / ٢٩٦) تذكرة الحفاظ (١ / ٢٢) ، أسد الغابة (٣ / ١٧٦) ، تاريخ الإسلام (٢ / ٢٣٠).

(٣) في ب : نعته له.

(٤) سقط في أ.

(٥) ذكره الرازي في تفسيره (١٢ / ١٤٨) وابن عادل في اللباب (٨ / ٦٨).

(٦) ذكره القرطبي في تفسيره (٦ / ٢٥٨) ، وأبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٩٧).

(٧) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٩٠) ، والقرطبي في تفسيره (٦ / ٢٥٨).

(٨) زاد في ب : أنه ليس من الله.

٤٣

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).

قال بعضهم : إنه لا يفلح الظالمون بظلمهم ، لكن عندنا قوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ما داموا في ظلمهم ، أو نقول : لا يفلح الظالمون إذا ختموا وماتوا على الظلم والكفر.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٢٤)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً).

المطيع والعاصي ، والكافر والمؤمن.

(ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ).

ذكر ـ هاهنا ـ شركاءهم ، أضاف ذلك إليهم ؛ لأنهم كانوا من جنسهم وجوهرهم ، يفنون كما يفنون هم ، وذكر في آية أخرى : (شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [القصص : ٦٢] أنهم شركائي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).

قال الحسن : الآية نزلت في المنافقين (١) ، وذلك أنهم كانوا يكذبون في الدنيا فيما بينهم ، فظنوا أن يتروج (٢) كذبهم في الآخرة كما كان يتروج في الدنيا ، وسماهم مشركين ؛ لأنهم كانوا [مشركين لأنهم](٣) أشركوا في السرّ ، فقالوا : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).

وقال غيره من أهل التأويل (٤) : الآية نزلت في أهل الشرك من العرب ؛ وذلك أنهم كانوا يشركون مع الله آلهة ، وكانوا ينكرون البعث بعد الموت ، وينكرون الرسالة ، فلما أن عاينوا ذلك أنكروا أن يكونوا أشركوا غيره في ألوهيته وربوبيته.

وقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا).

أي : لم يكن افتتانهم في الدنيا بافترائهم على الله الكذب وإشراك غيره معه ، وتكذيبهم آيات الله ، إلا أن قالوا في الآخرة : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).

وذكر في [بعض](٥) القصة (٦) أن المشركين في الآخرة لما رأوا كيف يتجاوز الله عن

__________________

(١) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٤) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس بنحوه.

(٢) في ب : تروج.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه بنحوه ابن جرير (٥ / ١٦٧) (١٣١٤٤) (١٣١٤٥) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٤) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٥) سقط في ب.

(٦) أخرجه ابن جرير (٥ / ١٦٨) (١٣١٥٠) عن سعيد بن جبير بنحوه وذكره القرطبي في تفسيره (٦ / ٢٥٨ ـ ٢٥٩).

٤٤

أهل التوحيد ، قال (١) بعضهم لبعض : إذا سئلنا فقولوا : إنا كنا موحدين ، فلما جمعهم الله وشركاءهم فقال : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) في الدنيا بأنهم معي شريك.

(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ).

قال أهل التأويل (٢) : معذرتهم وجوابهم إلا (٣) الكذب حين سئلوا فقالوا : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) تبرءوا من ذلك.

ثم قال الله : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ) : في الآخرة ، (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) :

من الشرك في الدنيا.

قيل (٤) : لما أنكروا أن يكونوا مشركين في الدنيا ختم الله على ألسنتهم ، وشهدت الجوارح عليهم بالشرك.

وقيل : انظر كيف كذبوا على أنفسهم ، يقول : كيف صار وبال كذبهم عليهم؟!.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ) قيل (٥) : واشتغل عنهم.

(ما كانُوا يَفْتَرُونَ) يقول : يكذبون.

وأصله : أنه يذكر نبيه شدة تعنتهم وسفههم أنهم كيف يكذبون عند معاينة العذاب ، فإذا كانوا بنأي منه وبعد كانوا أشدّ تكذيبا وأكثر تعنتا ؛ لأنهم يطلبون الرد إلى الدنيا بقولهم (فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) ، فقال : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام : ٢٨].

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)(٢٦)

__________________

(١) في ب : فقال.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ١٦٦) (١٣١٤١) ، (١٣١٤٢) عن قتادة ، وفي (١٣١٣٧) عن معمر قال قال قتادة : مقالتهم ، وقال معمر وسمعت غير قتادة يقول : معذرتهم.

وفي (١٣١٣٨) ، (١٣١٣٩) عن ابن عباس قال : قولهم ، كلامهم.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٤) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٣) زاد في أ : أن.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ١٦٨) (١٣١٤٣) (١٣١٥٢) عن ابن عباس وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٤) وزاد نسبته لابن المنذر.

(٥) ينظر تفسير الخازن (٢ / ٣٦٦).

٤٥

وقوله عزوجل : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) كانوا يستمعون إليه ليجادلوه ، على ما ذكر ، (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) دل هذا أنهم كانوا يستمعون إليه للمجادلة معه والخصومة.

وقيل في بعض الحكايات : إن الناس كانوا ثلاث فرق في أخبار الرسل والأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ : منهم من يستمع للجمع والاستكثار.

ومنهم من يستمع ليأخذ عليهم سقطاتهم وما يجري على لسانهم من الخطأ.

ومنهم من يستمع ليأخذ الحق منه ويترك الباقي ، ولكن هؤلاء كانوا يستمعون إليه ليخاصموه في ذلك وليجادلوه ؛ ليعرف قومهم أنهم يستمعون إليه ، ويعرفون ما يقول ليصدوا بذلك أتباعهم.

والثاني : أنهم يستمعون ويحاجون في ذلك ليعرفوا أنهم أهل حجاج وعلم ليصدوهم عنه.

ثم يحتمل أن يكونوا أهل نفاق ؛ لأنهم كانوا يرون ويظهرون الموافقة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويضمرون الخلاف له.

ويحتمل أن يكونوا أهل الشرك ، أي : رؤساؤهم ؛ ليستمعوا إليه ، ويجادلوه فيما يستمعون إليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً).

أخبر أن على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا.

وقال : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٨].

نفى عنهم ذلك لما لم ينتفعوا بذلك كله ، وإن لم يكونوا ـ في الحقيقة ـ صما ، ولا بكما ، ولا ما ذكر ، لما لم ينتفعوا بما أنشأ فيهم من السمع والبصر والعقل ، فنفى عنهم ذلك.

ثم قوله تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً).

لا يخلو إضافة ذلك إلى نفسه من أن يكون خلق منهم فعل الكفر ، أو خلق الظلمة التي في قلوبهم ، يعني ظلمة الكفر ؛ لأن ظلمة الكفر تستر وتغطي كل شيء ، ونور الإيمان ينير منه كل شيء ، فإضافة الفعل إليه لا تخلو من أحد هذين الوجهين ، إما لخلق فعل الكفر منهم ، ففيه دلالة خلق أفعالهم ، وإما لخلق ظلمة الكفر في قلوبهم. وفيه ردّ قول المعتزلة لإنكارهم خلق فعل العباد (١).

__________________

(١) وهي مسألة معروفة بخلق أفعال العباد ، مسألة الجبر والاختيار من المسائل التي نوقشت بشدة بين مفكري الإسلام الذين انقسموا فيها إلى فرق شتى ، واختلفوا تبعا لفهم كل منهم لها ، فمن قائل ـ

٤٦

__________________

ـ بالجبر ، وقائل بالحرية التامة ، ووسط هذه المعارك نجد من يحاول جمع الفرق المتنازعة على كلمة سواء ويمكن أن نرد الخلاف حول المسألة إلى أربعة مذاهب :

الأول : مذهب المعتزلة : وهو أن العبد فاعل ومحدث لأفعاله الاختيارية ، فأفعال العباد من حركات وسكنات واقعة من جهتهم بإقدار الله لهم على هذه الأحداث ، وعلى ذلك فإن من قال : إن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله ، فقد أخطأ ، فقدرة الله لا تتعلق بأفعال العباد من حيث الإيجاد والنفي.

استدل المعتزلة من العقل فقالوا أدلتهم : «لو كان الله تعالى هو الخالق لأفعال العباد لوجب كونهم مضطرين إليها ، وألا يكون بين ما يكتسبه العبد وما يضطر إليه فرق. وفي علمنا بالفرق بينهما دلالة على فساد كل قول يسقط الفرق الذي علمناه».

وكذا قالوا «لو كان الله تعالى هو الخالق لفعل العباد لما استحقوا الذم على القبيح والمدح على الحسن ، وذلك لأن المدح والذم على فعل الغير لا يصح ، ولا فرق بين من اعتقد حسن ذلك وبين من اعتقد ذم الجماد والأعراض ومدحها لما يقع منه تعالى من الأفعال».

واستدلوا من القرآن بقوله تعالى (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ...) [الملك : ٣] ووجه استدلالهم من الآية أنها تنفي التفاوت عن خلقه سبحانه ، وهذا من أكبر الأدلة على أنه سبحانه لم يخلق أفعال العباد لما فيها من تفاوت كبير.

الثاني : مذهب الجبرية : وهو نفي القدرة والاستطاعة عن الإنسان في سائر أعماله ، وأن الأفعال مخلوقة لله تعالى فينا لا تعلق لنا بها أصلا ، لا اكتسابا ولا إحداثا وإنما نحن كالظرف لها.

وكأن مذهب الجبرية يأتي في مقابل مذهب المعتزلة ، فهما على النقيض.

الثالث : مذهب الأشاعرة : ويرى الأشاعرة أن أفعال العباد واقعة بقدرة الله تعالى وحدها وليس للعبد فيها أدنى تأثير ، فهي مخلوقة لله من حيث الإبداع والإحداث وللعبد فيها الكسب.

ويفسرون حدوث الأفعال من العبد بأن الله سبحانه وتعالى قد أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا ، فإذا لم يوجد مانع أوجد فعله المقدور مقرونا بهذه القدرة والاختيار وهم هنا يثبتون للعبد في أفعاله الكسب ، ومعناه كما يقول الإمام أبو الحسن الأشعري : «الفعل القائم بمحل قدرة العبد».

فالأشعري يرى أن الإنسان يقدره الله على إحداث الفعل عند مباشرته ، فيقع الفعل عند هذه القدرة لا بها. ومن هنا يرى أنه ليس لهذه القدرة تأثير في إيجاد الفعل.

ويختلف بعض الأشاعرة مع الأشعري في مفهوم الكسب ، فذهب الباقلاني إلى أن أفعال العباد من حيث هي أفعال واقعة بقدرة الله ، ومن حيث هي صفات واقعة بقدرة العباد ، فمثلا : الصلاة من حيث هي فعل واقعة بقدرة الله ، ومن حيث تخصيصها واقعة بقدرة العبد.

وعلى ذلك فالباقلاني يتفق مع الأشعري في أن الفعل واقع بقدرة الله من حيث هو فعل ويختلف معه في القول بأنه واقع بقدرة العبد من حيث هو صفة.

وذهب الجويني : إلى القول بأن لقدرة العبد تأثيرا في وجود المقدور ، لكن ليس باستقلال ، بل إن هذه القدرة تستند إلى سبب ، وهذا السبب يستند إلى سبب ، وهكذا حتى ينتهي الأمر إلى مسبب الأسباب.

فهو يختلف عن إمام المذهب ، حيث جعل لقدرة العبد أثرا في إحداث الفعل.

وذهب الأسفرائيني : إلى أن فعل العبد واقع بقدرة الله وقدرة العبد معا.

ومع هذا الاختلاف بين الأشاعرة فإنه يبقى اتفاقهم على أن الفعل واقع بقدرة الله وللعبد فيه ـ

٤٧

__________________

ـ الكسب.

والأشاعرة بهذا يقفون موقفا وسطا بين المعتزلة والجبرية.

أدلتهم : ساق الأشاعرة الكثير من الأدلة النقلية والعقلية :

أولا : الأدلة النقلية :

استدلوا من النقل بالقرآن الكريم والأحاديث النبوية :

فمن القرآن الكريم :

ـ قوله ـ تعالى ـ : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)[الأنعام : ١٠٢].

ووجه استدلالهم من الآية أنها تدل على أن الله ـ تعالى ـ خالق كل شيء ، ولما كانت أفعال العباد أشياء فوجب كونه خالقا لها.

ـ قوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)[الصافات : ٩٦].

ووجه الدلالة : أن الله ـ تعالى ـ خلق العباد وخلق الأشياء التي يصنعونها فخلقه شامل للعبد وما يكتسبه.

ومن الأحاديث النبوية :

ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خالق كل صانع وصنعته».

ووجه الدلالة ، أن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء ، فهو الخالق للإنسان وما يفعل.

ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : في دعائه «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» فقيل : يا رسول الله ، أتخاف علينا وقد آمنا بك وبما حدثت به؟! فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها هكذا وأشار إلى السبابة والوسطى يحركهما».

ووجه الدلالة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرجع أمر الهداية والإضلال إلى الله ، فمعنى هذا أن ما يفعله العبد يكون بتقدير الله ، فدل ذلك على أن أفعال العبد مخلوقة لله.

ثانيا : الأدلة العقلية :

قالوا «إن فعل العبد ممكن ، وكل ممكن مقدور لله تعالى ، لشمول قدرة الله تعالى لجميع الكائنات الممكنات ، ففعل العبد مقدور لله تعالى فلو كان مقدورا للعبد أيضا على وجه التأثير للزم اجتماع مؤثرين على أثر واحد وهو ممتنع.

وقالوا كذلك «خالق الشيء لا بد أن يكون قادرا على إعادته مع علمنا بأن الواحد منا لا يقدر على كسبه ، وهذا دليل على أن ابتداء وجود كسبه كان بقدرة غير قدرته وهي قدرة الله تعالى».

وقالوا أيضا : «إن الأمة مجمعة على صحة تضرع العبد إلى الله تعالى أن يرزقه الإيمان والطاعة ويجنبه الكفر والمعصية ، ولو لا أن الكل بخلق الله تعالى لما صح ذلك ، إذ لا وجه لحمله على سؤال الإقدار والتمكين لأنه حاصل ، أو التقرير والتثبيت لأنه عائد إلى الحصول في الزمان الثاني وذلك عندهم بقدرة العبد.

الرابع : مذهب الماتريدية :

اتفق الماتريدية مع الأشاعرة في القول بأن أفعال العباد واقعة بقدرة الله تعالى ولهم فيها الكسب ، إلا أنهم اختلفوا مع الأشاعرة في معنى الكسب.

فالماتريدية ذهبوا إلى «إثبات أن للعبد قدرة وإرادة لها أثر في الفعل ، لكن لا أثر لها في الإيجاد والإحداث وإنما أثرها ينصب على وصف الفعل بكونه طاعة أو معصية ، فهذه القدرة متمثلة في القصد والاختيار للفعل ، وعلى أساس هذا القصد وذاك الاختيار يخلق الله للعبد القدرة على الفعل ، وعليه تكون نتيجة الفعل. ـ

٤٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً).

قيل : الوقر : هو الثقل في السمع (١) ، يقال : وقرت أذنه ، توقر وقرا ، فهي موقورة ، وأما الوقر فهو [الكفر في قلوبهم](٢).

__________________

ـ فالماتريدية يرون أن للعبد اختيارا في أفعاله والتي يترتب عليها المدح والذم في العاجلة والثواب والعقاب في الآجلة ، ولم يمنعوا أن تضاف الأفعال إلى الله تعالى ؛ لأنه هو الذي وصف نفسه بهذه الصفة على الحقيقة وما عداه مخلوق.

أدلة الماتريدية : استدل الماتريدية على صحة مذهبهم بأدلة نقلية وعقلية :

أولا : الأدلة النقلية :

استدل الماتريدية من النقل بالكتاب والسنة :

ـ فمن الكتاب قوله ـ تعالى ـ : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ)[فصلت : ٤٠].

ـ وقوله ـ تعالى ـ : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ)[الحج : ٧٧].

ـ وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ)[الملك : ١٣].

ووجه الدلالة من الآيات أنها تدل على أن أفعال العباد واقعة بقدرة حادثة منها ، وهذه القدرة يخلقها الله تعالى مقارنة للفعل لا سابقة عليه ولا متأخرة عنه.

ثانيا : الأدلة العقلية :

استدل الماتريدية من المعقول ، فقالوا : «إن كل واحد منا يعرف بطريق الضرورة الفرق بين ما هو فيه مختار وله فيه عمل ، وبين ما هو فيه مضطر ، فمن سوى بين الأمرين كالمجبرة فإن بطلان قوله لا يحتاج إلى برهان».

وقالوا : «إن العبد يقدر بإقدار الله له ، فلا يمكن أن يقدر بإقدار من ليست له القدرة عليه كما لا يجوز أن يعلم بإعلام من لا علم له به ، ومعلوم أن فاقد الشيء لا يعطيه فلا يمكن لأحد أن يقدر غيره على شيء لم يقدر هو عليه.

وقد ثبتت قدرة الله عليه وعلى ما يقدره الله عليه ، فمحال وجود الفعل بغير قدرته مما يدل على أنه تعالى خالق ذلك الفعل ولا خالق سواه.

وخلاصة القول في المسألة أن العبد مسير ومخير ، مسير في الأمور الخارجة عن قدرته ، ومخير فيما هو واقع تحت قدرته.

وأن العبد في الأفعال الاختيارية الواقعة تحت قدرته يوقع الأفعال بإرادة الله ومشيئته ، وأن إرادة الله ومشيئته لا تعني الإجبار ، بل تعني أن فعل العبد لا يتأخر وقوعه ولا يتقدم عن تقدير الله له.

ويعضد هذا القول منهج القرآن الكريم في هذه المسألة ، فهو تارة ينسب الأفعال تحت قدرة العبد ، فيقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ)[البقرة : ١٩٧] ويقول : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً)[النساء : ١١٠] وتارة يجعل أفعال العباد خاضعة لمشيئة الله وإرادته ، فيقول ـ سبحانه وتعالى ـ : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)[الإنسان : ٣٠] ولا تنافي بين الأمرين. والله أعلم. ينظر المغني للقاضي عبد الجبار (٨ / ١٩٣) ، الأصول الخمسة ص (٣٣٤) ، والملل والنحل (١١٤) ، والفرق بين الفرق (٢١١).

(١) ذكره ابن جرير في تفسيره (٥ / ١٦٩) ، والرازي في تفسيره (١٢ / ١٥٤) ، وعزاه لابن السكيت وابن عادل في اللباب (٨ / ٨٠ ـ ٨١).

(٢) في ب : الحمل.

٤٩

وقال أبو عوسجة : الوقر : الصدع في العظم أيضا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها).

يحتمل كل آية : آية وحدانيته ، وربوبيته ، وقدرته على البعث ، وآية رسالته ونبوته.

ويحتمل : كل آية سألوا أن يأتي بها ؛ يقول : وإن أوتيت بكل آية سألوك لا يؤمنون بك بعد ذلك أبدا ، كقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان : ٢١] ، ونحو ذلك مما سألوا من الآيات ؛ يقول : إنك وإن جئت بما سألوك من الآيات لا يؤمنون بك ، ولا يصدقونك ، يقولون : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [أي ما هذا إلا أساطير الأولين](١) قيل (٢) : أحاديث الأوّلين ، والأسطورة : الكتاب ، يقولون ذلك تعنتا منهم ؛ لأنهم كانوا يعرفون أنه حق ، وأنه ليس بكلام البشر ؛ لأنهم عجزوا عن إتيان مثله ، ولو كان هو مفترى على ما قالوا لقدروا هم على أن يأتوا بشيء مثله ، حيث قيل لهم : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] فعلموا بعجزهم عن إتيان مثله أنه ليس من كلام البشر ، وأنه سماوي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) [ينهون الناس عن طريقته ومتابعته وينأون عنه](٣) أي : يتباعدون عنه [و](٤) ينهون غيرهم عن اتباعه ويتباعدون هم.

ويحتمل ما ذكر في القصّة (٥) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ١٧٠) (١٣١٥٩) عن ابن عباس وبنحوه عن السدي (١٣١٦٠) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٥) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس ولعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر عن قتادة بنحوه.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) قال الزهري وابن إسحاق : فلما بادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه ، حتى ذكر آلهتهم وعابها قال العتقي : وكان ذلك سنة أربع. فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا لخلافه وعداوته إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون. وحدب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه ، ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمر الله مظهرا لأمره لا يرده عنه شيء.

فلما رأت قريش أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه ولم يسلمه لهم ، مشي رجال من أشرافهم إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب ، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فإما أن تكفه وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه. فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا وردهم ردا جميلا ، فانصرفوا عنه.

ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه ثم سرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا وأكثرت قريش من ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينها فتذامروا فيه وحض بعضهم بعضا ـ

٥٠

فاجتمعت قريش عنده ليريدوا بالنبي سوءا قال أبو طالب وأنشد فيه :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسد (١) في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة (٢)

وابشر وقرّ بذاك منك عيونا

فدعوتني وزعمت أنك ناصحي (٣)

ولقد صدقت وكنت ثمّ أمينا

وعرضت دينا قد علمت بأنه

من خير أديان البرية دينا

لو لا الملامة (٤) أو حذاري سبّة(٥)

لوجدتني سمحا بذاك مبينا

كان ينهى الناس عن أذى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتباعد هو عنه فلا يتبع دينه ، فنزل هذا.

__________________

ـ عليه. ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا له : يا أبا طالب إن لك سنا وإن لك شرفا ومنزلة فينا ، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ، أو كما قالوا له ثم انصرفوا عنه.

فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ولا خذلانه ، فأرسل خلفه فقال : يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا ـ للذي كانوا قالوا له ـ فأبق على نفسك وعليّ ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.

فظن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بدا لعمه فيه بداء وأنه خاذله ومسلمه ، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته ، ثم استعبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما ولى ناداه أبو طالب : اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت ؛ فو الله لا أسلمك لشيء أبدا. ثم قال أبو طالب :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسد في التراب دفينا

فامض لأمرك ما عليك غضاضة

وابشر وقر بذاك منك عيونا

ودعوتني وزعمت أنك ناصحي

فلقد صدقت وكنت ثم أمينا

لو لا الملامة أو حذاري سبة

لوجدتني سمحا بذاك مبينا

قال في الروض : خص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشمس باليمين لأنها الآية المبصرة وخص القمر بالشمال لأنه الآية الممحوة ، وخص صلى‌الله‌عليه‌وسلم النيرين حين ضرب المثل بهما لأن نورهما محسوس ، فالنور الذي جاء به من عند الله ، وهو الذي أرادوه على تركه ، هو أشرف لا محالة من النور المذكور. قال الله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ)[التوبة : ٣٢] فاقتضت بلاغة النبوة لما أرادوه على ترك النور الأعلى أن يقابله بالنور الأدنى وأن يخص أعلى النيرين وهي الآية المبصرة بأشرف اليدين وهي اليمين ، بلاغة لا مثلها وحكمة لا يجهل اللبيب فضلها. ا. ه.

ينظر سبل الهدى والرشاد (٢ / ٤٣٦ ـ ٤٣٧).

(١) أوسد : أوضع. ينظر سبل الهدى (٢ / ٤٤٠) ، لسان العرب [وسد].

(٢) غضاضة : نقصان. ينظر لسان العرب [غضض].

(٣) في أ : ناصح.

(٤) الملامة : العذل. ينظر لسان العرب [لمم]

(٥) في ب : لو لا الدمامة أو أحاذر سبة ، والسّبة بالضم : العار. ينظر : لسان العرب (سب).

٥١

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) [أي لا يشعرون](١) أنهم بذلك يسعون في هلاك أنفسهم.

قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)(٣٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ).

عن الحسن قال : سترى إذ وقفوا على النار (٢).

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : ولو ترى إذ عرضوا على النار (٣) [وكذلك في : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) ، إذ عرضوا على ربهم](٤). ولو لا ما روي عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وقفوا : عرضوا على النار ، وإلا يجوز أن يحمل قوله : (إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) ، أي : عند النار ، أو في النار «على» مكان «عند» ، أو مكان (٥) «في» ، وذلك جائز في اللغة (٦) ، ولكن ما روي عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ اقنعنا عن ذلك.

ثم يحتمل ـ والله أعلم ـ أن يكون هذا صلة [قوله](٧)(إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥] [كأنه يقول : ولو ترى يا محمد إذ وقفوا على النار لرحمتهم ؛ لما كان منهم من القول فيك (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ* إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)](٨) وهكذا الواجب

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه بنحوه ابن جرير (٥ / ١٧٢) (١٣١٧٣ ـ ١٣١٧٥ ـ ١٣١٧٨) عن ابن عباس ، وعن القاسم بن مخيمرة (١٣١٧٦ ـ ١٣١٧٧) ، (١٣١٧٩) ، والبيهقي في الدلائل (٢ / ٣٤٠ ـ ٣٤١).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٥) وزاد نسبته للفريابي وعبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد ابن حميد ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس ، ولابن أبي شيبة وابن المنذر وأبي الشيخ عن القاسم بن مخيمرة ، والبغوي في تفسيره (٢ / ٩١).

(٣) في ب : ربهم.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : لمكان.

(٦) وهي المسماة بالظرفية ، نحو (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) [القصص : ١٥] أي في حين (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ...) [البقرة : ١٠٢] أي في زمن ملكه. ينظر الإتقان في علوم القرآن للجلال السيوطي (٢ / ٢٣٨).

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

٥٢

على كل أحد أن يرحم عدوه إذا كان عاقبته النار والتخليد فيها ، وألا يطلب الانتقام منه بما كان منه بمكانة ، وأن يقال : ولو تراهم إذ وقفوا على النار من الذل والخضوع لرحمتهم بما كان منهم من التكبر والاستكبار في الدنيا ، وهو كقوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الآية [السجدة : ١٢] ، أخبر عن ذلهم وخضوعهم في الآخرة بما كان منهم في الدنيا من الاستكبار والاستنكاف ؛ فعلى ذلك يخبر نبيّه عمّا يصيبهم من الذلّ بتكبرهم في الدنيا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

تمنوا عند معاينتهم العذاب العود والرد إلى الدنيا. ثم فيه دليلان :

أحدهما : أنهم عرفوا أن ما أصابهم [إنما أصابهم](١) بتكذيبهم الآيات وتركهم الإيمان ، حيث قالوا : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا).

والثاني : أن الإيمان هو التصديق الفرد (٢) لا غير ؛ لأنهم إنما فزعوا عند معاينتهم العذاب فتمنوا (٣) الرد والعود إلى الدنيا (٤) ؛ لأن يكونوا من المؤمنين ، [و] لم يفزعوا إلى شيء آخر من الخيرات ـ دل أن الإيمان هو التصديق الفرد لا غير ، وأنه ضد التكذيب ، والتكذيب هو فرد فعلى ذلك التصديق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ).

قيل فيه وجوه (٥) :

قال بعضهم : قوله ـ تعالى ـ : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) [الأنعام : ٢٥] إنما (٦) نزل في المنافقين ، يدل على ذلك قوله : (بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) ، وهو سمة أهل النفاق أنهم كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين ، ويضمرون الخلاف ، ويخفون العداوة لهم.

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) رؤساؤهم كانوا عرفوا في الدنيا أنه رسول ، وأن ما (أنزل) (٧) عليه هو من ربه (٨) ، وعرفوا أن البعث حق ، لكنهم أخفوا ذلك على أتباعهم ، وستروه ، ثم ظهر ما كانوا يخفون على أتباعهم.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : : المفرد.

(٣) في ب : : تمنوا.

(٤) في ب : إلى الإيمان.

(٥) في ب : بوجوه.

(٦) في أ : إنها.

(٧) في ب : نزل.

(٨) في ب : الله.

٥٣

وقيل : قوله : (بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) وذلك أنهم حين قالوا : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣].

وقوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) ، [يحتمل قوله (وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) أي : حبسوا إذ لو وقف حبس (١)](٢) ، والنار لا يوقف عليها ، بل يكون فيها ما قال ـ عزوجل ـ : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر : ١٦] وقال : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف : ٤١] ويحتمل الوقف عندها قبل الدخول في حال الحساب للمساءلة ؛ كقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ ...) الآية [الصافات : ٢٢](وَلَوْ تَرى) أي : لو ترى ذلهم وخضوعهم ، كقوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) [السجدة : ١٢] ولم يذكر (٣) جواب «لو» ، وقد يترك جواب (لو) لما يعلم ربما [يعلم] بالتأمل أو بالذكر ؛ كقوله : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) [النور : ١٢] بمعنى ظننتم ، أو على ما ذكر في موضع آخر ؛ نحو قوله : (قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) وكذلك قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ)(٤) [النور : ١٠] وغير ذلك ، فلعل معناه : لو ترى ذلهم بعد استكبارهم لرحمتهم على ما هم عليه ، ولهان عليك التصبر لأذاهم ، ولأشفقت عليهم.

ويحتمل قوله : ولو ترى ما ينزل بهم من نقمة الله ، ويحل بهم من عذابه ، لعلمت أن القوة لله جميعا ، وأنه بحلمه ورحمته يملي لهم ويسترجعهم ؛ كقوله : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [البقرة : ١٦٥].

ويحتمل أن يكون جوابه فيما ذكر من تمنيهم العود ، وندامتهم على ما سلف منهم ، وشدة تلهفهم على صنيعهم لرأيت ذلك أمرا عظيما (٥) ، وجزاء بالغا ، لما يكون (٦) ما ينزل بهم أعظم عندك مما تلقى منهم.

وقد يخرج الخطاب لرسول الله على تضمن تنبيه كل مميز وتبصير كل متأمّل ، والله أعلم.

__________________

(١) ذكره ابن جرير (٥ / ١٧٤) وبمعناه ذكره الرازي في تفسيره (١٢ / ١٥٧ ـ ١٥٨) وابن عادل في اللباب (٨ / ٩٠) ، والبغوي في تفسيره (٢ / ٩٢).

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : يبين.

(٤) زاد في أ : إنما يجيب ل «لو». وفي ب : إنما يجب ل «لو».

(٥) في ب : كافيا.

(٦) زاد في ب : أو يكون.

٥٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ).

قيل (١) : إلى الدنيا.

وقيل : إلى المحنة من حيث لا يحتمل كون الدنيا بعد كون الآخرة ، لكن هذا تكلف تحقيق مراد قوم ظهر سفههم ، ولعله ليس عندهم هذا التمييز ، أو يقولون سفها كما قالوا كذبا بقوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

وقوله ـ عزوجل ـ (بِآياتِ رَبِّنا).

قال الحسن : بدين ربنا.

وقال قوم : بحجج ربنا (٢) ، فيكون في الآية اعتراف أنهم على التعنت كذبوا في الأوّل لا على الجهل ، وإن كان ثم آيات عاندوها ، وهم قوم قد سبق من الله الخبر عنهم مما فيه العناد منهم ؛ كقوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] ، وذلك يدل على تعنتهم في القول ؛ ليتخلصوا عما بلوا بجميع ما يحتمل وسعهم ، لا أن ذلك كذلك في قلوبهم ؛ لذلك ـ والله أعلم ـ قال الله ـ تعالى ـ (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

ثم دل قوله : (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أنهم قد عرفوا أن الإيمان هو التصديق لوجهين :

أحدهما : أنهم جعلوا الإيمان مقابل التكذيب ؛ ليعلم أنه التصديق.

والثاني : أنهم ذكروا الآيات ، والآيات يكذب بها ويصدق لا أن يعمل.

وبعد ، فإن الذي في حد إمكان الإتيان مما فات هو التصديق ؛ إذ مشكلة الغير لو توهم الأمر ليوجد ما سبق من الترك والتصديق لو أمر ، فهو لما سبق من التكذيب على أنه أجمع ألا يؤمر من آمن بقضاء شيء مما فات ، فثبت أنهم أرادوا به التصديق ، وفيه [أنه](٣) اسم لذلك حتى عرفه أهله وغير أهله معرفة واحدة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) [قيل فيه بوجوه فقال بعضهم : إنه](٤) يخرج على أوجه :

أحدها : على أن الآية في أهل النفاق أظهرت ما قد أضمروا من الكفر.

والثاني : أن تكون الآية في رؤساء الكفرة العلماء بالبعث ، وبأن الرسل تكون من

__________________

(١) ذكره ابن جرير (٥ / ١٧٤) ، والرازي في تفسيره (١٢ / ١٥٨) ، وابن عادل في اللباب (٨ / ٩٠).

(٢) ذكره ابن جرير (٥ / ١٧٤).

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

٥٥

البشر ، وألّا شريك لله ، فبدا للأتباع ما كان الرؤساء يخفون في الدنيا.

ويحتمل : وبدا لهم من صنيعهم ما قد أسروه وأضمروه في أنفسهم ظنوا أنه لا (١) يطلع على ذلك أحد ، وذلك كقوله : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) [الطارق : ٩] ، وقوله : (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) [العاديات : ١٠] وغير ذلك.

ويحتمل : ما كانوا يخفون من الخلق ، أو بدا لهم ذلك بالجزاء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ رُدُّوا) أي : إلى ما تمنوا أن يردّوا إليه.

(لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ).

أخبر الله عن علمه بما قد أسروه في ذلك الوقت إنما كان في علمه أن يكون ، وإن كان من حكمه ألا يردوا في ذلك [و] أن الآية لا تضطر (٢) صاحبها ، ولا قوة إلا بالله.

وقال قوم : إن الخلود يلزم في النار بما (٣) هم في علم الله أنهم يلزمون ما هم عليه لو مكثوا للأبد.

وقال قوم : لم يجز لزوم العذاب بما يعلم الله من العناد من أحد لو امتحن بلا محنة ولا خلاف ، فعلى ذلك أمر الخلاف ، لكن الآية في خاص منهم ، وهم الذين اعتدوا [وعاندوا](٤) الحق بعد الوضوح ، على ما ذكر في كثير من الكفرة أنهم لا يؤمنون أبدا ، ثم أمهلهم على ذلك ، وهذا يبين أنه ليس يمنع الإعادة لما يعودون له لو كان يحتمل في الحكمة الإعادة (٥) ؛ إذ قد أمهل وأبقى على العلم بذلك ، فعلى ذلك الإفادة ، لكنه أخبر عن تعنتهم.

ثم ظنت المعتزلة أن الله لو علم أنهم يؤمنون لردهم إلى ذلك [و] إذ بين أنهم لا يؤمنون فيستدلون بهذا على أنه ليس لله قبض روح من يعلم أنه لو لم يقبضه يؤمن يوما من الدهر وقد بينا نحن أن ذلك لا يجب ، وإن كان أولئك في علم الله لن يعودوا إلى ذلك بما قد يترك في الدنيا من يعلم أنه يلزم الكفر ، وينجي عن المهالك من يعلم أنه يعود ، ثم قد يترك من يعود إلى الكفر على وجود ما به النجاة عنه ، والله أعلم.

وبعد ، فإن الله ـ تعالى ـ قال : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٢٧] فبين أنه لم يبسط لئلا يبغوا ، وقال : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ

__________________

(١) في أ : ألا.

(٢) في أ : يضطر.

(٣) في ب : مما.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : الإفادة.

٥٦

يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ ...) الآية [الزخرف : ٣٣] ، ثم قد جعل لكثير ممن ضل بهم قوم نحو الفراعنة ولكثير منهم وقد بغوا في الأرض ؛ إذ لو لم يكن البسط لفرعون لم يكن ليدعي الألوهية لكن الأول : طريق الفضل يفضل به ، والثاني : طريق العدل وما يجوز في الحكمة ، فعلى ذلك الإمهال ، يبين لك ما كان الله يأمر بقتل من لعله يؤمن لو أمهل بما ندب إلى القتال ، ولا يحتمل أن يأمر في قتل من ليس له قبض روحه ، وقد يبقى من به يهلك ويضل ، وإن قبض كثيرا منهم بما يضل به لو أبقى ؛ كما قال : (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) [الكهف : ٨٠] ، والله أعلم.

وظنت الخوارج بهذه الآية أن كل من يرتكب كبيرة (١) يظهر منه كذبه فيما وعد أنه لا

__________________

(١) قال الإمام النووي ـ رضي الله عنه ـ في شرحه على صحيح مسلم : قال بعض العلماء : كل ما نص الله تعالى عليه أو رسوله وتوعد عليه أو رتب حدا أو عقوبة فهو كبيرة ويلحق به ما في معناه من المفسدة ، وفي الصحيح أنه جعل قبلة الأجنبية صغيرة.

وقد اختلف العلماء في حد الكبيرة وتمييزها من الصغيرة على عدة آراء كالتالي : الأول : أن كل شيء نهى الله تعالى عنه فهو كبيرة وبهذا قال الأستاذ أبو إسحاق الأسفرائيني الفقيه الشافعي الإمام في علم الأصول والفقه وغيره وحكى القاضي عياض هذا المذهب عن المحققين وهو مرويّ عن ابن عباس رضي الله عنه. الثاني : وهو رواية أخرى أن : الكبائر كل ذنب ختمه الله تعالى بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب ونحو هذا عن الحسن البصري.

الثالث : أن الكبيرة هي : كل ما وعد الله عليه بنار أو حد في الدنيا.

الرابع : وإليه ذهب أبو حامد الغزالي في البسيط أن الضابط الشامل المعنوي في ضبط الكبيرة إن كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف وحذار ندم كالمتهاون بارتكابها والمتجرئ عليها اعتيادا فهي كبيرة ، وما يحمل على فلتات النفس أو اللسان وفترة مراقبة التقوى ولا ينفك عن تندم يمتزج به تبغيض التلذذ بالمعصية فهذا لا يمنع العدالة وليس هو كبيرة.

الخامس : أن كل ذنب كبر وعظم عظما يصلح معه أن يطلق عليه اسم الكبير ووصف بكونه عظيما على الإطلاق فهذا حد الكبيرة قاله أبو عمرو بين الصلاح في فتاويه الكبيرة ، ثم بين أن للكبيرة أمارات منها : إيجاب الحد ، ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ، ومنها وصف فاعلها بالفسق نصا ومنها اللعن. والسادس : ذكره الشيخ أبو محمد محمد بن عبد السلام في كتابه القواعد : أنك إذا أردت معرفة الفرق بين الصغيرة والكبيرة فاعرض مفسدة الذنب على إحدى الكبائر المنصوص عليها فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو ربت عليه فهي من الكبائر ، فمن شتم الرب أو رسوله أو استهان بالرسل أو كذب واحدا منهم أو ضمخ الكعبة أو ألقى المصحف في القاذورات فهو من أكبر الكبائر ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة ... إلى آخر ما ذكر. السابع : أن حد الكبيرة غير معروف بل ورد الشرع بوصف أنواع من المعاصي بأنها كبائر وأنواع بأنها صغائر وأنواع لم توصف وهي مشتملة على صغائر وكبائر ؛ وهذا ما صححه الإمام المفسر أبو الحسن الواحدي رحمه‌الله.

ثم إن الحكمة في عدم بيان بعض الذنوب هل هي من الصغائر أم من الكبائر أن يكون العبد ممتنعا من جميعها مخافة أن تكون من الكبائر.

وقال العلماء : الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة وروى عن ابن عباس وعن عمر وغيرهما : لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار ومعناه أن الكبيرة تمحى بالاستغفار والصغيرة تصير كبيرة ـ

٥٧

__________________

ـ بالإصرار.

وحد الإصرار ـ كما قال ابن عبد السلام ـ : هو أن تتكرر منه الصغيرة تكرارا يشعر بقلة مبالاته بدينه. انظر : شرح النووي على صحيح مسلم (١ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠) والإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد للجويني ص ٣٩٢.

وقد وقع خلاف بين العلماء في الكبيرة من حيث عددها ، على مذاهب :

الأول : أن الكبائر تسع ، هي الشرك بالله ، وقتل النفس بغير حق ، وقذف المحصنة ، والزنى ، والفرار عن الزحف ، والسحر ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين المسلمين ، والإلحاد في الحرم ؛ وهذا هو المروي عن ابن عمر رضي الله عنهما. وقد اعترض عليه بأن الانحصار في التسع غير صحيح ؛ لأنه إن أريد بالشرك بالله مطلق الكفر فالسحر داخل فيه ، وعلى ذلك تكون الكبائر ثمانية وإن أريد بالشرك اعتقاد الشريك في الألوهية فتكون هناك أنواع من الكفر غير داخلة في الشرك مثل اتخاذ الولد أو الزوجة وإثبات التحيز وغير ذلك من الأمور المكفرة ، وهي من الكبائر قطعا ، مع أن العدد لا يشملها ، وعلى هذا تكون الكبائر أكثر من تسع.

وقد أجيب عن هذا بأن المراد بالشرك مطلق الكفر ، والمراد من السحر تعلمه وتعليمه لا العمل به لأنه كفر ، أما تعلمه وتعليمه فمن الكبائر ، ويؤيد ذلك رواية أبي طالب المكي التي عدت السحر من كبائر اللسان ، وليس في اللسان إلا التعلم والتعليم.

وقد أشكل هذا الجواب بأن تعلم السحر أمر مطلوب ، أمر به الشارع الحكيم ، فقد ورد الأمر بتعلم السحر والنهي عن العمل به ، فكيف يتفق هذا مع القول بأن تعلم السحر وتعليمه من الكبائر؟

وأجيب عن هذا الإشكال بأنه إن صح الأمر بتعلم السحر ، فإن المراد من الأمر بتعليمه التمكن من دفع أذاه ، وأما تعليمه وتعلمه لا لهذا الغرض فهو كبيرة ، وهذا كله إذا كان العمل بالسحر كفرا على ما صرح به الزمخشري وحكى الاتفاق عليه ، ولكن يقال : إن العمل بالسحر مع اعتقاد أنه غير مؤثر لا يكون كفرا بل كبيرة ، وهذا معقول ، وعلى ذلك يصح أن يراد بالسحر العمل به الخالي من اعتقاد التأثير ويكون كبيرة والعد صحيحا.

الثاني : أن الكبائر عشر ، التسع المذكورة في رواية ابن عمر يزاد عليها أكل الربا وهذا مروي عن أبي هريرة رضي الله عنه.

الثالث : أن الكبائر اثنتا عشرة ، العشر المتقدمة ويزاد عليها السرقة وشرب الخمر وهذا مروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه سماعه وروايته.

وقد اختلف ـ أيضا ـ في حكم مرتكب الكبيرة على مذاهب :

الأول : أن الكبيرة لا تخرج العبد من الإيمان ولا تدخله في الكفر وهو مذهب أهل السنة والجماعة.

الثاني : أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين أي أنه ليس بمؤمن ولا بكافر ، وهو مذهب المعتزلة.

الثالث : أن صاحب الكبيرة منافق ، وهو مذهب الحسن البصري.

الرابع : أن مرتكب الكبيرة كافر ، وهو مذهب الخوارج.

وفيما يلي أدلة كل فريق :

أولا : أدلة المذهب الأول : استدل أهل السنة والجماعة على أن الكبيرة لا تخرج العبد من الإيمان وتدخله في الكفر بثلاثة أدلة هي :

الدليل الأول : أن الإيمان هو التصديق فقط ، فلا يخرج العبد المؤمن عن الاتصاف به إلا بما ينافي هذا التصديق ومجرد الإقدام على الكبيرة لغلبة شهوة أو حمية أو أنفة أو كسل ، خصوصا إذا ـ

٥٨

__________________

ـ اقترن به خوف العقاب ، ورجاء العفو والعزم على التوبة لا ينافي هذا التصديق وقد اعترض على هذا الدليل بأنه مبني على مذهب أهل السنة والجماعة في المراد بالإيمان حيث ذهبوا إلى أن الإيمان هو التصديق فقط ، ومن ثم بنوا على هذا الرأي مذهبهم في الكبيرة.

والمخالف لا يقر ابتداء برأي أهل السنة في المقصود بالإيمان ، وبالتالي فهو لا يقر بما ينبني عليه من حكم مرتكب الكبيرة.

وقد أجيب عن هذا الاعتراض : بأنه إن كان الدليل مبنيا على رأي يخالف رأي الخصم ـ فإن هذا لا يضر الدليل طالما أنه بني على رأي راجح ، يجب أن يلتزم به المخالف لقوة أدلته.

ومن ثم كان ينبغي على الخصم التسليم بأن المقصود بالإيمان هو التصديق فقط ، لقوة الأدلة القاطعة بذلك ، ثم بعد ذلك يكون هذا الدليل حجة عليه.

هذا وقد سبق لنا بيان اختلاف العلماء في المراد بالإيمان بما يغني عن إعادة الكلام فيه ثانيا.

هذا كله إذا كانت الكبيرة تفعل بغير استحلال واستخفاف ، وإلا كانت مخرجة عن الإيمان قطعا عند السني أيضا ؛ لأنه لا نزاع في أن التصديق خفي لكونه في القلب ، والشارع جعل له أمارات تدل عليه وأمارات تدل على نفيه ، فهناك من المعاصي ما جعله الشارع أمارة على نفي التصديق كسجود لصنم وإلقاء مصحف في قاذورة والتلفظ بكلمات الكفر ، فكل ذلك يدل على نفي التصديق ، فلو فعلت الكبيرة على وجه يفهم منه عدها حلالا ، كانت أمارة على التكذيب وإذا قال فاعلها هي حلال كان تكذيبا صراحا وكفرا صريحا.

الدليل الثاني : قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى)[البقرة : ١٧٨] وقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا)[التحريم : ٨] وقوله (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)[الحجرات : ٩].

ووجه الاستدلال بهذه الآيات أن هذه الآيات تتناول معاصي هي من الكبائر ، ومع ذلك ، فإنها تطلق على مرتكبيها اسم الإيمان.

والدليل على أن المعاصي التي تتحدث عنها هذه الآيات من الكبائر أن الآية الأولى تتحدث عن القصاص ، وهو لا يكون إلا عن قتل وهو كبيرة. وفي الآية الثانية أمر المؤمنين بالتوبة وهي لا تطلب إلا في كبيرة.

وفي الآية الثالثة قال (اقْتَتَلُوا) والضمير راجع للمؤمنين فدل على أنهم مؤمنون مع الاقتتال الذي هو كبيرة.

وقد نوقش هذا الاستدلال بأنه يحتمل أن يكون الخطاب في الآية الأولي والثانية للمؤمنين المبرءين الذين لم يقع منهم الذنب : والمعنى يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص لو فرض قتل ، ويا أيها الذين آمنوا توبوا لو وقع منكم ذنب ، فالوصف بالإيمان قبل حصول الذنب. وعلى ذلك لا يعلم من الآيتين أنهم بعد الذنب مؤمنون ، ومثل ذلك يقال في الآية الثالثة (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : لو فرض ووقع اقتتال بين فريقين فأصلحوا بينهما.

والحقيقة أن هذا التأويل تأويل بعيد ، وهو ضعيف أيضا من جهة أنه يلزم منه أن يعود الضمير عليهم بعد ارتكابهم لهذه المعاصي ، فيظل اسم الإيمان شاملا لهم ، برغم ما تكبده من عناء في التأويل.

الدليل الثالث : إجماع الأمة من عصر النبي إلى عهدنا هذا على أن من مات من أهل القبلة من غير توبة يصلى عليه ويدعى له ويستغفر له ، بعد اتفاق الأمة على أن ذلك لا يجوز لغير المؤمن.

وقد نوقش هذا الدليل بأمرين :

أحدهما : أن هذا الدليل لا يلزم المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن مرتكب الكبائر في منزلة بين المنزلتين فهو ليس بمؤمن ولا بكافر ؛ وعليه فإن الإجماع المذكور لا يحتج به عليهم ؛ لأنه إجماع بخصوص الكافر ، وهم لم يصلوا بمرتكب الكبيرة إلى هذا الحد. ـ

٥٩

__________________

ـ الثاني : نفي الإجماع ؛ حيث ثبت خلاف الحسن البصري في ذلك ، ومن المعلوم : أن المسألة لو كانت مجمعا عليها لما خالف فيها البصري رحمه‌الله ؛ لعلمه بحرمة خرق الإجماع.

وقد أجيب عن الاعتراض الأول : بأن السلف المجمعين كانوا لا يقرون بالواسطة بين المؤمن والكافر ولا يعرفونها ، فهناك مؤمن وكافر ، والأشياء التي تفعل شرعا لمؤمن لا يجوز أن تفعل لغيره الذي هو الكافر وأما كون أن هناك منزلة بين المنزلتين فهو أمر لا يقرون به ولا يعرفونه.

وأجيب عن الاعتراض الثاني : بأن الحسن البصري لم يخالف هذا الإجماع ؛ لأن الحسن لم يثبت الواسطة بين الإيمان والكفر المطلق فهو لا يقول بالمنزلة بين المنزلتين حتى يكون مخالفا للإجماع المنعقد على نفيها ، وإنما يقول بالواسطة بين الكفر الصريح والإيمان ، وهي الكفر المضمر.

وخلاصة هذا الأمر أن الحسن البصري لا يقول إلا بالواسطة بين مطلق الكفر والإيمان ، وإنما يقول بالواسطة بين الكفر الصريح والإيمان. والإجماع قائم على نفي الأولى دون الثانية ، إذ هي موجودة في الإسلام وكانت في عهد الرسول عليه‌السلام موجودة بكثرة من المنافقين.

أدلة المذهب الثاني : استدل المعتزلة القائلون بأن صاحب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر ، فهو في منزلة بين المنزلتين بدليلين هما :

الدليل الأول : أن الأمة أجمعت على أن مرتكب الكبيرة فاسق ، ثم اختلفوا بعد هذا الإجماع ، فمنهم من قال : مؤمن ، ومنهم من قال : كافر ، ومنهم من قال : منافق ، فأخذ المعتزلة بالمتفق عليه وتركوا المختلف فيه وقالوا هو فاسق ليس بمؤمن ولا كافر ولا منافق.

وقد أجيب عن هذا الدليل بأمرين :

أحدهما : أن زعمكم أنكم قد أخذتم بالمجمع عليه وهو أنه فاسق ؛ ليس بصحيح بل إنكم لم تقتصروا على المجمع عليه ، فشمل قولكم الأمرين : المجمع عليه وهو الفسق ، والمختلف فيه وهو قولكم : إنه ليس بمؤمن ولا كافر ولا منافق ، أما لو كان مذهبكم أنه فاسق فقط لكنتم قد أخذتم المتفق عليه ؛ لأن الجميع متفقون على تسميته فاسقا ، وإن اختلفوا أيضا في معناه ، فالسني يقول : أي عاص ، والخارجي يقول : أي كافر ، والحسن يقول : أي منافق.

الجواب الثاني : أن دليلكم يبطل بمخالفته للإجماع على عدم وجود واسطة بين مطلق الكفر والإيمان.

الدليل الثاني : استدل المعتزلة على مذهبهم ثانيا بأن قالوا : إن صاحب الكبيرة لا هو مؤمن ولا كافر ، أما كونه غير مؤمن فلقوله تعالى (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً)[السجدة : ١٨] وقوله عليه‌السلام : «لا إيمان لمن لا أمانة له» ، «ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» ووجه الدلالة من هذه النصوص أنها تدل على أن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن حيث قابل الله المؤمن بالفاسق ؛ فدل على أن الفاسق غير مؤمن ، وهو فاسق بالإجماع ، ولأن كلا من الحديثين يدل على سلب الإيمان عنه.

وأما كون صاحب الكبيرة غير كافر فيدل عليه ما ثبت بالتواتر من أن المسلمين في كل زمن وعصر كانوا يدفنون صاحب الكبيرة في مقابر المسلمين ولا يقتلونه ولا يجرون عليه أحكام المرتد.

وقد أجاب أهل السنة عن هذا الدليل : بأننا نتفق معكم على عدم كفر مرتكب الكبيرة ؛ لذا فإننا نسلم لكم دليلكم عليه ، أما قولكم بأن صاحب الكبيرة غير مؤمن ، فغير صحيح ، وما استدللتم به من النصوص لا ينهض لمدعاكم ؛ لأنكم قد أسأتم فهمها لأن المراد بالفاسق في الآية الكافر لا صاحب الكبيرة ، والكفر من أعظم الفسوق ، وهو الذي يقابل الإيمان ، والقاعدة الأصولية تقرر أن المطلق يحمل على الفرد الأكمل ، ولا شيء أعظم في الفسق من الكفر. ـ

٦٠