تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

أن يكون صلة قوله : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ثم قوله : كذلك](١)(جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) ، قال الحسن : إن من حكم الله أن بعث رسلا ، وأن كل من اتبع رسله يكون وليا له ، ومن عصى رسله يكون عدوا له ، هذا حكم الله في الكل.

وقال جعفر بن حرب والكعبي وغيرهما من المعتزلة : إن قوله : (جَعَلْنا) ، أي : خلينا بينهم وبين ما اختاروا من الكفر والعداوة ، يقال : جعل فلان كذا إذا كان مسلطا على ذلك ، وهو يقدر أن يمنعه عن ذلك ؛ ويصير التأويل على قول المعتزلة ، أي : لم نجعل لكل نبي عدوّا ؛ ولكن هم جعلوا أنفسهم أعداء لكل نبي.

وقلنا نحن : إن قوله : (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) ، أي : خلقنا لكل نبي عداوة كل عدو ، والجعل من الله : هو الخلق ؛ كقوله : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) [الأنبياء : ٣٢].

وقوله : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) [الإسراء : ١٢].

وقوله : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) [الزخرف : ١٠].

كل جعل أضيف إلى الله فهو خلق ؛ فعلى ذلك قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) ، أي : خلقنا لكل نبي عداوة كل عدو ، ولو كان الحكم على ما قال الحسن ، وما قال أولئك من التخلية لكان يجوز أن يضاف فعل الكفر وفعل الضلال إلى الله ، وذلك بعيد.

والثاني : لم يوفق لهم فعل الولاية ؛ لما علم منهم أنهم يختارون فعل العداوة على فعل الولاية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً).

اختلف فيه :

قال بعضهم (٢) : الشياطين كلهم يكونون من الجن ، ثم إنهم يوحون (٣) إلى الإنس ؛ فيكونون هم الذين يدعون الخلق إلى معصية الله ؛ فيكون من الجن وحيا إلى الإنس ، ومن الإنس إلى الخلق قولا ودعاء.

وقال بعضهم : يكون من الجن شياطين ، [ومن الإنس شياطين](٤) تدعو (٥) شياطين

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣١٤) (١٣٧٦٩ ، ١٣٧٧١) عن السدي بنحوه ، و (١٣٧٧٠) عن عكرمة بنحوه ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٧٣ ـ ٧٤) وعزاه لابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ عن ابن عباس بنحوه ، وينظر تفسير البغوي ، والخازن (٢ / ٤٣١).

(٣) في ب : يرجعون.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : يدعو.

٢٢١

الجن ـ الجن إلى معصية الله [وهكذا من دعا آخر إلى معصيته والكفر به ، ويدعو شياطين الإنس الإنس إلى ذلك ، يدعو كل فريق قومه إلى معصية الله ، وهكذا من دعا آخر إلى معصية الله](١) فهو شيطان ، وكذلك كبراء الكفرة ورؤساؤهم الذين كانوا يدعون أتباعهم وسفلتهم إلى الكفر والضلال بالله ؛ فهم شياطينهم (٢) ؛ ألا ترى (٣) أنه قال : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) [الأنعام : ١٢٣].

وقوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) [البقرة : ١٦٦].

[وقوله](٤) : (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) [الأعراف : ٣٨].

وغيره من الآيات ؛ أن كلّ من دعا غيره [إلى] معصية الله والكفر به ، فهو شيطان.

والشيطان هو البعيد من رحمة الله ؛ شطن أي : بعد.

وقيل : إن إبليس وكّل [شياطين الإنس](٥) يضلونهم ويدعونهم إلى معصية الله ، ووكّل شياطين بالجن يضلونهم (٦). وهو تأويل الأول.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [أي : يزين بعضهم لبعض القول غرورا](٧) يغرون به.

قال القتبي ـ رحمه‌الله ـ : زخرف القول غرورا : ما زين به (٨) وحسن وموه.

وقال واصل (٩) : الزخرف (١٠) : الذهب ؛ ويقال : [زخرف الشيء ، أي : حسنه](١١).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : شياطين.

(٣) في أ : يرى.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : شياطين بالإنس.

(٦) ينظر تخريج الأثر السابق.

(٧) سقط في ب.

(٨) في أ : منه.

(٩) واصل بن عطاء : البليغ الأفوه أبو حذيفة المخزومي ، مولاهم البصري الغزال ، وقيل ولاؤه لبني ضبة.

مولده سنة ثمانين بالمدينة ، وكان يلثغ بالراء غينا ، فلاقتداره على اللغة وتوسعه يتجنب الوقوع في لفظة فيها راء كما قيل : وخالف الراء حتى احتال للشعر

وهو وعمرو بن عبيد رأسا الاعتزال ، طرده الحسن عن مجلسه لما قال : الفاسق لا مؤمن ولا كافر ، فانضم إليه عمرو ، واعتزلا حلقة الحسن ، فسموا المعتزلة قال شاعر : ـ

٢٢٢

قال أبو عوسجة (١) : الوحي أن يحى بعينه أو بشفتيه ، وهي إشارة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) قال بعضهم : [لو شاء](٢) ربك خلقهم خلقا لم يركب فيهم الشهوات والحاجات حتى أطاعوه ولم يعصوا ؛ كما خلق الملائكة لم يركب [فيهم](٣) الشهوات والحاجات والأماني ، فلم يعصوه.

وقالت المعتزلة : لو شاء ربك لأعجزهم وقهرهم ؛ حتى لا يقدروا على معصية الله والكفر به فآمنوا واهتدوا.

[وعندنا](٤) أنه لو شاء ربك لهداهم لاهتدوا (٥) ، لكن لما علم منهم أنهم يختارون الضلال على الهدى شاء ألا يهديهم. وقد ذكرنا قبح تأويلهم الآية في غير موضع (٦).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) هذا يخرج على الوعيد لهم ؛ كقوله : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) [الحجر : ٣] وكقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] أي :

__________________

 ـ وجعلت وصلي الراء لم تلفظ به

وقطعتني حتى كأنك واصل

وقيل لواصل تصانيف. وقيل : كان يجيز التلاوة بالمعنى. وهذا جهل.

قيل : مات سنة إحدى وثلاثين ومائة. وقيل : عرف بالغزال لترداده إلى سوق الغزل ليتصدق على النسوة الفقيرات.

جالس أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ، ثم لازم الحسن ، وكان صموتا ، طويل الرقبة جدّا ، وله مؤلف في التوحيد ، وكتاب (المنزلة بين المنزلتين).

ينظر سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي (٥ / ٤٦٤ ـ ٥٦٥) ، معجم الأدباء (١٩ / ٢٤٣) ، وفيات الأعيان (٦ / ٧ ، ١١) ، تاريخ الإسلام (٥ / ٣١٠) ، ميزان الاعتدال (٤ / ٣٢٩) ، مرآة الجنان (١ / ٢٧٤) ، لسان الميزان (٦ / ٢١٤) ، الفرق بين الفرق (١١٧).

(١٠) الزخرف : الزينة ، وأصله الذهب ، ثم أطلق على كل ما يتزين به لأنه الأصل في الزينة. وقيل : الزخرف كمال حسن الشيء ، يقال : زخرفته زخرفة.

وقوله تعالى : (زُخْرُفَ الْقَوْلِ)[الأنعام : ١١٢] أي ما يزين به ورقش بالباطل ، وإليه نحا ابن الرومي بقوله :

في زخرف القول تزيين لباطله

والحق قد يعتريه سوء تعبير

تقول : هذا أجاج النحل تمدحه

وإن ذممت تقل : قيء الزنابير

ينظر : عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ (٢ / ١٥٥).

(١١) بدل ما بين المعقوفين في ب : زخرفت الشيء ، أي : حسنته.

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣١٥ ـ ٣١٦) (١٣٧٧٨) عن عكرمة وبنحوه (١٣٧٨٠) و (١٣٧٨١) عن مجاهد بنحوه ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٧٤) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي نصر السجزي في الإبانة وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : فاهتدوا.

(٦) وذلك عند تفسيره لسورة البقرة آية (٢). ـ

٢٢٣

ذرهم وما يختارون ؛ فإنك تراهم في العذاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) قيل (١) : ولتميل قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة إلى زخرف القول الذي كان يوحي ويلقي شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض (وَلِيَرْضَوْهُ) لما كان الذي أوحى وألقى بعضهم إلى بعض من زخرف القول الذي يوافق هواهم ، وكل من ظفر بما يوافق هواه (٢) فإنه يرضى به ؛ كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) [يونس : ٧] لأنهم كانوا لا يؤمنون بالآخرة ولا يرجون لقاءه وكانت (٣) همتهم هذه الدنيا ورضوا بها واطمأنوا فيها.

ويحتمل قوله : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ) أي : إلى الكتاب (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ؛ أي : ليس ميل قبول منهم له ، ولكن ميل طلب الطعن فيه ، وهكذا كانت [همة](٤) أولئك الكفرة ، وعادتهم طلب الطعن فيه ، والأول أشبه.

ثم إن كان زخرف القول الذي أوحى بعضهم إلى بعض من كبرائهم وعظمائهم ، فقد أشرك ـ تعالى ـ هؤلاء وأولئك في الكذب الذي كان منهم كان من الكبراء الدعاء إلى ذلك ، ومن الأتباع الرضا والإجابة ، وكان منهم التزيين والزخرفة ، ومن الأتباع القبول والرضا به ، فقد اشتركوا (٥) جميعا في ذلك الكذب ، والقول (٦) : الغرور.

وقوله : (وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) اختلف فيه :

قال قائلون : قوله : (وَلِيَقْتَرِفُوا) يعني : هؤلاء الأتباع (ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) أي : ليكتسبوا هؤلاء الأتباع من الكذب ما كان أولئك يكتسبون من الكذب.

وقيل : (وَلِيَقْتَرِفُوا) أولئك المتبوعون من الكذب (ما هُمْ) يعني : هؤلاء الأتباع (مُقْتَرِفُونَ) من القول الغرور والزخرف.

ثم اختلف في الاقتراف : قال بعضهم (٧) : الاكتساب ؛ اكتساب كلّ شيء.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣١٧) (١٣٧٨٥ ، ١٣٧٨٦) عن ابن عباس وبمعناه عن السدي (٣١٧٨٧).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٧٤) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

ولابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن السدي.

(٢) في أ : هواهم.

(٣) في أ : وكان.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : أشركوا.

(٦) في أ : كالقول.

(٧) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣١٧) (١٣٧٨٩) عن ابن عباس بنحوه وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٧٤ ـ ٧٥) وعزاه للطستي وابن الأنباري.

٢٢٤

وقال قائلون : الاقتراف هو موافقة (١) الذنب والإثم والله أعلم.

قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(١١٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) :

كان أولئك الكفرة دعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حكم يحكم بينهم في منازعة وقعت بينهم ؛ إما في الرسالة وإما في الكتاب ، فقال (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفغير الله أبتغي حكما» ثم بين فقال : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) كيف أبتغي حكما غير الله وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ، ما تعلمون أنه من عند الله نزل (٣) عجز الخلائق عن إتيان مثله.

ثم اختلف في قوله : (مُفَصَّلاً) [قيل مفصلا](٤) بالحجج والبراهين ما يعرف كل عاقل لم يكابر عقله أنه من عند الله نزل.

وقيل (٥) : مفصلا بالأمر ، والنهي ، والتحليل ، والتحريم ، فيقول [كيف](٦) أبتغي حكما غير ما أنزل الله ، وقد أنزل كتابا مفصلا مبينا ، [فيه ما يحل وما يحرم ، وما يؤتى وما يتقى ، فلا حاجة تقع إلى غير الله.

وقيل : مفصلا بالوعد والوعيد وما يكون له عاقبة ؛ لأن العمل الذي يكون للعاقبة يكون فيه وعد ووعيد](٧).

وقيل (٨) : مفصلا مفرقا ؛ أي : أنزله بالتفاريق لم ينزله مجموعا جملة ، ما يقع بمسامع

__________________

(١) في أ : موافق.

(٢) في ب : وقال.

(٣) في أ : منزل.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر تفسير البغوي مع الخازن (٢ / ٤٣٣) ، والبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (٤ / ٢١٢).

(٦) سقط في أ.

(٧) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٨) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ١٢٥) ، وأبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٢١٢).

٢٢٥

كل أحد علم ذلك وبيانه ، فأنى تقع (١) بي الحاجة إلى حكم غيره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) اختلف فيه :

قيل (٢) : الذين آتيناهم الكتاب أي : أهل التوراة ، والإنجيل يعلمون أنه منزل من ربك بالحق.

وقيل (٣) : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) ؛ يعني : من أعطى هذا الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ؛ لما (٤) عجزوا عن إتيان مثله وتأليفه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).

يحتمل : [لا تكونن من الممترين](٥) : أنهم قد غيروا ما في كتابهم من الأحكام ومن نعتك وصفتك.

ويحتمل : فلا تكونن من الممترين : أنه من عند الله نزل ، مع علمه أن رسوله لا يكون من الممترين ؛ ليعلم الخلق أنه إذا نهى رسوله عن مثل هذا ، فغيره أحق.

أو أن يخاطب (٦) من طلب حكم غيره ، ويقول (٧) : لا تكونن من الممترين أنه من عند الله نزل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً).

قيل (٨) : صدقا في الأنباء والوعد ، وعدلا في الأحكام.

تمت أنباؤه بالصدق وأحكامه بالعدل ؛ حتى يعرف كل أحد صدق أنبائه وعدل أحكامه.

وقيل : وتمت كلمة (٩) ربك صدقا وعدلا بالحجج والبراهين ؛ لما يعرف كل من تأمل فيها ونظر صدقها وعدلها : أنها من الله.

__________________

(١) في أ : يقع.

(٢) ذكره ابن جرير بنحوه (٥ / ٣١٨) ، وأبو حيان في البحر (٤ / ٢١٢) ، والبغوي في تفسيره (٢ / ١٢٥).

(٣) ذكره أبو حيان في البحر (٤ / ٢١٢) ونسبه لعطاء بنحوه.

(٤) في ب : بما.

(٥) بدل ما بين المعقوفين في أ : لا تكون.

(٦) في ب : أن تخاطب.

(٧) في ب : تقول.

(٨) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣١٩) (١٣٧٩٣) عن قتادة بنحوه وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٧٥) وعزاه لعبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٩) في ب : كلمات.

٢٢٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) هذا تفسير التمام : أنها تمت تماما لا يرد عليها النقص (١) ولا الجور ولا الخلف (٢) ، ليس ككلمات الخلق (٣) ؛ أنها تبدل وتنقص (٤) وتمنع ؛ لما يكون فيها من النقصان والفساد ، فإنها تبدل وتنقص ويعجزون عن وفاء ما وعدوا ، ويمنعون عن ذلك ، فالله يتعالى عن أن يبدل كلماته ، أو يمنع عن وفاء ما وعد وأنبأ ؛ إذ يجوز في حكمه.

ويجوز أن يستدل بقوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) لقول أصحابنا ؛ حيث قالوا (٥) : من قال لامرأته : (أنت طالق (٦) أتم الطلاق وأعدل الطلاق) فإنه يقع بما وافق السنة ، ليس يرجع ذلك إلى [التمام وإلى] العدد ؛ لأنه أخبر أن تمت كلمته صدقا وعدلا ، والموافق للسنة هو الحق وهو العدل (٧).

ويحتمل الاستبدال لكلماته (٨)(لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي : لا مبدل لوعده ووعيده ؛ يكون ما وعد وأوعد.

ويحتمل : لا مبدل لحججه وبراهينه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ السَّمِيعُ) أي : السميع بما ألقى الشياطين (٩) وأوحى بعضهم إلى بعض (الْعَلِيمُ) بأفعال هؤلاء وإجابتهم إياهم وأهل التأويل يصرفونه إلى خاص من القول ؛ وبعضهم (١٠) يقولون : إن قوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) هو قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة : ١٣].

وقال آخرون : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعاه أهل الكفر إلى عبادة الأوثان.

ولكن هو يرجع ـ والله أعلم ـ إلى كل نبأ ووعد ووعيد وكل خبر يخبر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) في

__________________

(١) في أ : النقض.

(٢) الخلف : اسم من الإخلاف وهو معروف ، ينظر المعجم الوسيط (١ / ٢٥١) [خلف].

(٣) زاد في ب : الخلق.

(٤) في أ : وتنقض.

(٥) في أ : قال.

(٦) سقط في أ.

(٧) ينظر المبسوط (٦ / ١٣٥).

(٨) زاد في ب : أي.

(٩) في أ : الشيطان.

(١٠) في أ : بعضهم.

٢٢٧

الآية (١) دلالة أن أكثر أهل الأرض كانوا ضلالا ، [وعباد الأوثان ، والأصنام](٢) ؛ لأنه قال : (أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُضِلُّوكَ) لأنهم إلى (٣) الضلال كانوا يدعونه.

ثم الخطاب وإن كان لرسول الله في الظاهر ، فهو لكل (٤) مؤمن ؛ إذ معلوم أن رسوله لا يطيعهم فيما [يدعونه إلى عبادة الأوثان في الأرض](٥).

وفيه أن في الأرض كان من يعبد الله وكان على دين الأنبياء والرسل.

وقوله : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ذكر في القصة أن أهل الكفر دعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عبادة الأوثان ، ويقولون : إنهم يعبدون الله في الحقيقة ؛ كقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ويقولون (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] كأنهم يعبدون الأوثان ويرتكبون الفواحش ويقولون الله أمرنا بها فأخبر رسوله : أنك لو أطعت هؤلاء إلى ما يدعونك من عبادة هذه الأصنام [أضلوك عن سبيل الله ؛ لأنهم لا يعبدون هذه الأصنام](٦) إلا ظنّا يظنون ؛ كقوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي : (ما يتبعون إلا الظن) (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) ما هم إلا يكذبون (٧) على الله في قولهم : إن ذلك يقربهم إلى الله زلفى ، وقولهم : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨].

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) يعلم من يزيغ ويضل عن سبيله (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ، ويعلم من يهتدي به.

وفي قوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ). دلالة [على أنه](٨) على علم منه بالضلال والتكذيب بعث الرسل إليهم وأرسل الكتب ، لا عن جهل منه ، لكن صار بعث ما بعث من الرسل والكتب إليهم حكمة على علم منه بما يكون منهم ؛ لأنه إنما يبعث لمكان المرسل (٩) إليهم ولحاجتهم.

__________________

(١) في أ : والآية.

(٢) في ب : الأصنام والأوثان.

(٣) في أ : أي أهل.

(٤) في أ : كل.

(٥) بدل ما بين المعقوفين في ب : يدعون هم إليه.

(٦) سقط في أ.

(٧) في أ : يكذبونك.

(٨) سقط في ب.

(٩) في أ : الرسل.

٢٢٨

قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)(١٢١)

قوله ـ عزوجل ـ : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) صرف أهل التأويل (١) الآية إلى أهل الكفر وقالوا : ما بالكم تأكلون ذبائحكم التي ذبحتم ولا تأكلوا ما ذبح الله وذكاه (٢) صرفوا الخطاب به إلى أهل الشرك.

والأشبه أن يصرف الخطاب [به](٣) إلى أهل الإسلام ؛ لأنه ذكر في آخره (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) [ومثل هذا لا يذكر في أهل الشرك إنما ذكر لخطاب أهل الإسلام ، كقوله : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)](٤) [البقرة : ٢٢٨] وقوله : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٢٧٨] ونحوه من الآيات.

فعلى ذلك : الأشبه أن يصرف الخطاب بها إلى أهل الإسلام ؛ كأنّ قوما من أهل الإسلام منعوا أنفسهم عن التناول من هذه الذبائح (٥) واللحوم ، فنهوا عن ذلك ؛ [من](٦)

__________________

(١) ينظر تفسير ابن جرير (٥ / ٣٢٠) ، وتفسير الخازن مع البغوي (٢ / ٤٣٤) ، وتفسير القرطبي (٧ / ٤٨).

(٢) أصل التذكية في الوضع : الإتمام. يقال : ذكيت النار : أتممت اشتعالها. والذكا (مقصورا) تمام إيقاد النار. وبلغت الدابة الذكاء : أي السن. والذكاء : تمام الفهم ، وسرعة القبول.

والتذكية أيضا التطهير ، والتطييب.

ذلك أصل المادة في وضع اللغة. والمناسبة ثمة قوية بينه وبين اصطلاح الفقهاء.

فذكاة الحيوان تتميم وتطهير وتطييب ، ومن ذلك ما قال : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ)[المائدة : ٣] : إلا ما ذبحتم على التمام.

وهل الذبح إلا تطهير يفصل بين حد الميتة المحرمة والطعام الطيب الحلال؟

وفي اصطلاح الفقهاء : هي السبب لإباحة أكل لحم حيوان غير محرم.

ينظر لسان العرب (ذكي) والقاموس المحيط (ذكي) ، والشرح الصغير بهامش بلغة السالك (١ / ٣١٢) ، وحاشية ابن عابدين على الدر المختار (٥ / ١٩٥).

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) الذبائح جمع ذبيحة ـ وهي الحيوان المذبوح ـ مأخوذة من الذبح ـ بفتح الذال ـ وهو مصدر ذبح يذبح كمنع يمنع.

ويطلق الذبح في اللغة على الشق وهو المعنى الأصلي ، ثم استعمل في قطع الحلقوم من باطن عند النصيل ، وهذا المعنى ذكره صاحب اللسان ، والحلقوم هو مجرى النفس ـ بفتح الفاء ـ والمراد بالباطن مقدم العنق ، والنصيل ـ بفتح النون وكسر الصاد ـ مفصل ما بين العنق والرأس تحت اللحيين. ـ

٢٢٩

نحو ما روي في بعض القصة (١) : «أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هموا أن يخصوا أنفسهم وألا (٢) يعطوا أنفسهم شهواتهم وألا [يتناولوا شيئا](٣) من الطيبات ، فنهوا عن ذلك.

وقيل : فيهم نزل قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٨٧] فيشبه أن يكون قوله : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١١٨] فيهم أو لما علم أن قوما من المتقشفة والمتزهدة (٤) يحرمون ذلك على أنفسهم ، فنهوا عن ذلك.

فإن كان ما قال أهل التأويل فهو ـ والله أعلم ـ كأنه قال : فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ، بما تعلمون [أن](٥) الخلق والأمر له ، وقد أنشأ لكم (٦) من الآيات

__________________

ـ وللذبح في الاصطلاح ثلاثة معان :

الأول : القطع في الحلق ، وهو ما بين اللبة واللحيين من العنق ، و (اللبة) بفتح اللام هي الثغرة بين الترقوتين أسفل العنق.

و (اللحيان) مثنى اللحى بفتح اللام وهما العظمان اللذان يلتقيان في الذقن ، وتنبت عليهما الأسنان السفلى.

والفقهاء يريدون هذا المعنى حين يقولون مثلا : (يستحب في الغنم ونحوها الذبح) أي أن تقطع في حلقها لا في لبتها.

الثاني : القطع في الحلق أو اللبة وهذا أعم من الأول لشموله القطع في اللبة ، والفقهاء يريدون هذا المعنى حينما يقولون : إن الحياة المستقرة هي ما فوق حركة المذبوح وهي الحركة الشديدة التي يتحركها الحيوان حينما يقارب الموت بعد القطع ، سواء أكان ذلك القطع في حلقه أم في لبته ومن ذلك قوله تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)[المائدة : ٣] فإنه يشمل ما قطع في حلقه وما قطع في لبته.

الثالث : ما يتوصل به إلى حل الحيوان سواء أكان قطعا في الحلق أم في اللبة من حيوان مقدور عليه ، أم إزهاقا لروح الحيوان غير المقدور عليه بإصابته في أي موضع كان من جسده بمحدد أو بجارحة معلمة.

وهذا المعنى أعم من سابقيه.

ينظر : القاموس المحيط ولسان العرب والمصباح المنير (ذبح) ، والمفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني مادة : (ذبح) ، بدائع الصنائع (٥ / ٥١ ، ٦٠).

(٦) سقط في أ.

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ١٠ ـ ١٣) (١٢٣٤١ ، ١٢٣٤٢ ، ١٢٣٤٤ ، ١٢٣٥٥) عن عكرمة ، (١٢٣٤٠) ، عن ابن عباس ، (١٢٣٥٠ ، ١٢٣٥١) (١٢٣٤٠) عن أبي مالك ، (١٢٣٤٣) عن إبراهيم ، (١٢٣٤٥) عن أبي قلابة ، (١٢٣٤٦ ، ١٢٣٤٨) عن قتادة ، (١٢٣٤٩) عن السدي. وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٤٨) وعزاه لابن سعد عن أبي قلابة ، ولابن مردويه عن ابن عباس ، ولابن المنذر وأبي الشيخ عن عكرمة.

(٢) في ب : ولا.

(٣) في أ : يتناول.

(٤) في أ : والمترصدة.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : وقد أنشأكم.

٢٣٠

ما تعلمون [به] ذلك ، فكيف تحرمون ما ذكر اسم الله عليه ، ثم أمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه ، وعاتب من ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه بقوله : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [١١٩] ولم يبين بم وبأي وجه بالذبح أو بغيره؟ وكذلك قوله : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة : ٥] ولم يبين من أي وجه ، لكن الناس اتفقوا على صرف ذلك إلى الذبح ، فكان الذبح مضمرا فيه ؛ كأنه قال : كلوا (١) مما ذبح بذكر اسم الله عليه ، وما لكم ألا تأكلوا مما ذبح بذكر اسم الله عليه.

ثم لا يخلو اتفاقهم بمعرفة ذلك : إما أن عرفوا ذلك بالسماع من رسول الله ، أو عرفوا ذلك بنوازل [الأحكام](٢) ؛ إذ ليس في الآية بيان ذلك.

فكيفما كان ، ففيه دلالة نقض قول من يقول بأن من عرف نوازل الأحكام أو كان عنده رواية ، فترك [روايته](٣) يفسّق ؛ لأنه لما لم يذكر هاهنا النوازل ولا السماع دل أنه لا يفسق ؛ إذ كان قوله : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ذكر لمكان قول الثنوية (٤) ؛ لأنهم

__________________

(١) في ب : فكلوا.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) الثنوية : فرقة من الكفرة يقولون باثنينية الإله ، قالوا : نجد في العالم خيرا كثيرا وشرّا كثيرا ، وإن الواحد لا يكون خيرا شريرا بالضرورة ، فلكل منهما فاعل على حدة وتبطله دلائل الوحدانية.

ثم المانوية والديصانية من الثنوية قالوا : فاعل الخير هو النور ، وفاعل الشر هو الظلمة ؛ وفساده ظاهر لأنهما عرضان ، فيلزم قدم الجسم وكون الإله محتاجا إليه ، وكأنهم أرادوا معنى آخر سوى المتعارف فإنهم قالوا النور حي عالم قادر سميع بصير.

والمجوس منهم ذهبوا إلى أن فاعل الخير هو يزدان ، وفاعل الشر هو أهرمن ، ويعنون به الشيطان ، كذا في شرح المواقف ، في مبحث التوحيد.

وفي الإنسان الكامل في باب سر الأديان ذهب طائفة إلى عبادة النور والظلمة لأنهم قالوا إن اختصاص الأنوار بالعبادة لهؤلاء أولى فعبدوا النور المطلق حيث كان فسموا النور يزدان والظلمة أهرمن ، وهؤلاء هم الثنوية ، فهم عبدوا الله سبحانه من حيث نفسه تعالى لأنه سبحانه جمع الأضداد بنفسه ، فشمل المراتب الحقية والخلقية ، وظهر في الوصفين بالحكمين وفي الدارين بالنعتين ، فما كان منه منسوبا إلى الحقيقة الإلهية ، فهو الظاهر في الأنوار ، وما كان منه منسوبا إلى الحقيقة الخلقية ، فهو عبارة عن الظلمة فعبدت النور لهذا السر الإلهي والجامع للوصفين والضدين.

ثم ذهب طائفة إلى عبادة النار لأنهم قالوا مبنى الحياة على الحرارة الغريزية وهي معنى ، وصورتها الوجودية هي النار فهي أصل الوجود وحدها فعبدوها وهؤلاء هم المجوس ، فهم عبدوا الله سبحانه من حيث الأحدية ، فكما أن الأحدية مفنية لجميع المراتب والأسماء والصفات كذلك النار فإنها أقوى الأسطقسّات وأرفعها لا يقاربها طبيعة إلا وقد تستحيل إلى النار لغلبة قوتها ، فلهذه اللطيفة عبدت النار.

ينظر : الموسوعة الإسلامية (ص ٤٤٥ / ٤٤٦).

٢٣١

يحرمون الذبائح ويقولون : ليس من الحكمة إيلام من لا ذنب له. أو ذكر لمكان قول من يقول : إنكم أكلتم ما تذبحون بأيديكم ولا تأكلون ما تولى الله قتله (١).

__________________

(١) اهتدى الإنسان بفطرته منذ خلق إلى ضرورة ذبح الحيوان ؛ لاتخاذه طعاما ، إلا أن طائفا ألم ببعض الرءوس في بعض عصور الوثنية فنشأت طائفة من الغلاة تستنكر إزهاق روح الحيوان لاتخاذه طعاما ، وزعموا أن في ذلك لونا من التعذيب لا يتفق مع سمو الإنسانية.

نقل إلينا ذلك كثير من المفسرين عند تفسير قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ)[المائدة : ١].

قال صاحب روح المعاني : في الآية رد على المجوس فإنهم حرموا ذبائح الحيوانات وأكلها ، قالوا : لأن ذبحها إيلام والإيلام قبيح ، خصوصا إيلام من بلغ في العجز إلى حيث لا يقدر أن يدفع عن نفسه والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم ، وزعموا أن إيلام الحيوانات إنما يصدر من الظلمة دون النور ... ولما أشكل على البكرية من المسلمين الجواب عن هذه الشبهة على أصولهم واعتقدوا ورود الأمر بالذبح عن الله تعالى زعموا أن البهائم لا تتألم ، وكذلك الأطفال الذين لا يعقلون.

ولا يخفى أن ذلك مصادم للبديهة ، ولا يقصر عن إنكار حياة المذكورين وحركاتهم وحسهم وإدراكهم.

وقال المعتزلة : لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقا ، بل إنما يقبح إذا لم يكن مسبوقا بجناية ولا ملحقا بعوض ، وهاهنا الله سبحانه وتعالى يعوض هذه الحيوانات في الآخرة بأعواض شريفة ، وحينئذ يخرج الذبح من أن يكون ظلما.

قالوا : والذي يدل على صحة ما قلناه ما تقرر في العقول من أنه يحسن تحمل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة كما في الفصد والحجامة لطلب الصحة وكذلك القول في الذبح.

وهو مردود ؛ لأن الوارد أنها تبعث ـ على قول ـ ليقتص للمظلوم منها من الظالم ثم يقال لها : [كوني ترابا] وأجاب أهل السنة : بأن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في خالص ملكه فلا اعتراض عليه. والتحسين والتقبيح العقليان قد طوي بساط البحث فيهما في علم الكلام ، وكذا القول بالنور والظلمة.

وقال بعض المحققين : لما كان الإنسان أشرف أنواع الحيوانات ، وبه تمت نسخة العالم ، لم يقبح عقلا جعل شيء مما دونه غذاء له ، مأذونا بذبحه ، وإيلامه ؛ اعتناء بمصلحته ، حسبما تقتضيه الحكمة التي لا يحلق إلى سرها طائر الأفكار.

وقال الإمام السرخسي : إن بعض العراقيين زعم أن الذبح محظور عقلا ؛ لما فيه من إيلام للحيوان. وهذا باطل ؛ فقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتناول من اللحم قبل مبعثه ، ولا يظن أنه كان يتناول ذبائح المشركين ؛ لأنهم كانوا يذبحون باسم الأصنام ، فعرفنا أنه كان يذبح ويصطاد بنفسه ، وما كان يفعل ما هو محظور عقلا كالظلم والكذب والسفه ؛ فإنه لا يجوز أن يظن أنه فعل ذلك قط.

مما تقدم يعلم أن كلا ممن حظر الذبح أو أحله جعل مناطه العقل أو السمع. ومعلوم أن العقل والشرع لا يحظران ما يعود على الناس بالنفع ، وفي تذكية الحيوان منافع جمة ؛ حيث ينتفع بأكل لحوم بعضها ، وبجلود البعض الآخر في اللباس ، والفراش ، والزينة. وهذا غاية إكرام الله تعالى لبني آدم ؛ حيث سخر له ما في الأرض جميعا ، لينتفع به في حاجاته الكثير ، وأباح له ألذ النعم وأجلها.

ولو تركت بهيمة الأنعام من غير حل ذبحها ، لنتجت وتكاثرت واستنفذت قوت الإنسان فتأكل ـ

٢٣٢

__________________

ـ الحرث والنسل.

أما دعوى هؤلاء : أن الذبح إيلام ، والإيلام قبيح ... فيحسن بنا أن نبسط فيها ما أجمل قبل فنقول :

لسنا ننكر أن في الذبح إيلاما ما ، ولكنّ في كثير مما يصيبنا من حوادث دنيانا آلاما ، تثقل أو تخف على حسب ما يلابسها من ظروف الزمان والمكان ، فالحرب إيلام ، والمرض إيلام ، وفي العلاج منه إيلام ، وفي وضع الحامل إيلام ، ولا تخلو لحظة في حياة الكائن الحي من ألم دفين يستشعره في باطنه أو ظاهر يصرح لسانه بالشكوى منه والتوجع له. والحكم على الأشياء يختلف بقياسها إلى غيرها ، والنظر في مقدماتها ونتائجها ، فقد يكون الألم في وقت ما شديدا ، فإذا قيس إلى غيره كان شيئا هينا لا يعبأ به ولا يشتكي منه.

والآن فلننظر أي الألمين أخف أثرا :

ذبح الحيوان بأيسر وسيلة ، أو تركه يعبث ويفسد ويزاحم الإنسان ـ سيد الكون ـ في قوته ومعاشه وداره؟

وبوجه آخر : أيهما أهون : أن يموت الحيوان ذبيحا بشفرة ماضية ، أو أن يموت الإنسان ـ سيد الكون ـ جوعان ، مهزولا ، لا طاقة له بالعمل واحتمال مشقات الحياة؟

ووجه ثالث : ما دام نظام الطبيعة القائمة أنه لا بد من آكل ومأكول ، فأيما خير : أن يكون الإنسان آكلا أو مأكولا؟

على أننا لو توسعنا في تلك القاعدة التي يزعم بها أولئك :

أن في الذبح إيلاما ، وأن الإيلام قبيح ... لو توسعنا في هذه القاعدة ، لجاز لقائل من بعد أن يقول : إن النبات كائن حي ـ وإنه لكذلك ـ وإن في قطعه إيلاما ، وإن في أكله إيلاما ، وإن الإيلام قبيح ..

وما ذا بعد ذلك إلا أن يقال : ما أقبح أن يؤكل النبات.

وهل توقد النار إلا من الحطب؟ فمن أين لنا النار والحرارة والدفء إن نحن أشفقنا على الغصن اليابس والهشيم الجاف.

ويقول أبو العلاء المعري :

خفف الوطء ما أظن أديم ال

أرض إلا من هذه الأجساد

وأبو العلاء حرم اللحم حياته ، فمن له وقد أشفق على الحيوان أن يأكله آكل ، وعلى تراب الأرض أن يطأه واطئ.

من له أن يعلم ... أو من لي بأن أعلم : أين تراب الأجساد من عهد نوح ، هل هو إلا ذرات متطايرة في الهواء ، أو لبنة من لبنات قائمة في بناء أو كومة من سماد في أصل نبات.

إلا أن قانون الطبيعة صارم ، فما دامت في الدنيا نار ونور فلا بد من حطب يشتعل وندع بعد ذلك كلّا لدعواه ، فليزعم من يزعم أن الحيوان قد ذبح جزاء على ما قدم من عمل ، أو أنه مجزي على هذه التضحية في الآخرة ، فسواء كان هذا أو ذاك ، وسواء أكان يحس أم لا ، فليس يعنينا شيء من ذلك ما دامت هذه شريعة الكون الذي برأه الله تعالى ورتب له نظامه على قدر منه وتدبير حكيم. هذا وقد ثبتت مشروعية التذكية بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول.

فمن الكتاب قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ)[المائدة : ٣].

ووجه الدلالة أن حكم ما بعد الاستثناء يخالف ما قبله وقد حرم الله تعالى الميتة وما عطف عليها ـ

٢٣٣

ثم قوله : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [١١٨] وقوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) أباح ـ عزوجل ـ من الأنعام ما ذكر اسم الله عليه ، وحظر ما لم يذكر اسم الله عليه ، ونهى عن أكله بقوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [١٢١] وبقوله : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [المائدة : ٣] جعل المهلّ لغير الله ميتة حراما ، وجعل المذكور اسم الله [عليه](١) ذكيّا حلالا ؛ فدل أن التسمية شرط في أكل (٢) الذبيحة (٣) ؛

__________________

ـ ثم استثنى من الحرمة المذكى فيكون حلالا.

ومنه قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ)[المائدة : ٥] وقد تقدم من معاني التذكية (التطييب) فالمذكى من الطيبات.

ومنه قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)[المائدة : ٢].

وأدنى درجات صفة الأمر الإباحة.

وقال تعالى (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً)[المائدة : ٩٦].

جعل التحريم مغيّا بغاية فاقتضى الإباحة فيما وراء تلك الغاية.

ومن السنة ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث بديل بن ورقاء يصيح في فجاج منى : (ألا إن الذكاة في الحلق واللبة).

ومنها ما روي عن أبي ثعلبة الخشني أنه جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : (يا رسول الله إنا بأرض صيد أصيد بقوسي ، وأصيد بكلبي المعلم ، وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلم فأخبرني ما ذا يصلح لي فقال عليه الصلاة والسلام «أما ما ذكرت أنكم بأرض صيد فما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل».

إلى غير ذلك من أحاديث.

وقد انعقد الإجماع في كافة العصور على إباحة التذكية لم يخالف في ذلك أحد من المسلمين.

أما المعقول : فقد سبق أن اللحم عنصر ضروري في غذاء الإنسان وذلك لاشتماله على عناصر أساسية منها المواد الزلالية والمواد الدهنية فإذا خلا منها أو من أحدهما الطعام كان غذاء ناقصا.

فلا بد إذا أن يتخذ الحيوان طعاما ولا وسيلة إلى ذلك إلا بتذكيته ، فالتذكية تحصل منفعة الغذاء لمن هو المقصود من الحيوانات وهو الآدمي فيكون ذلك سببا مباحا.

هذا وقد اختلفت الأمم في الوسيلة التي يزهق بها الحيوان قبل أكله ، ولا يزال كثير من أهل الديانات الأخرى يخالفون الإسلام في وسيلته. فلما ذا آثر الشارع الإسلامي ـ في الأحوال الطبيعية ـ أن تكون الذكاة في الحلق أو اللبة؟

هنا مناط العقل وحكمة التشريع.

ينظر : كتاب الذكاة لعبد الله حمزة ص ٨ ـ ١٣.

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : حل.

(٣) أجمع الفقهاء على مشروعية التسمية عند الذبح ، وعند الإرسال ، والرمي إلى الصيد.

ولكنهم اختلفوا في كونها شرطا في حل الأكل : فذهب الشافعي وأصحابه إلى أنها سنة ، فلو تركها عمدا أو سهوا حل الصيد والذبيحة ، وهي رواية عن مالك وأحمد. وروي ذلك عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وعطاء ، وسعيد بن المسيب والحسن ، وجابر بن زيد ، وعكرمة ، وأبي رافع ، وطاوس ، وإبراهيم النخعي ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وقتادة. ـ

٢٣٤

__________________

ـ وذهب أبو حنيفة ـ رحمه‌الله تعالى ـ إلى أن التسمية شرط للإباحة مع الذكر دون النسيان ، فإن تركها عمدا ، فالذبيحة ميتة. وهو مذهب جماهير العلماء ، والصحيح من مذهب مالك ـ رضي الله عنه ـ والمشهور عن أحمد في الذبيحة.

وقال أهل الظاهر : إن تركها عمدا ، أو سهوا لم يحل. وهو الصحيح عن أحمد في الصيد. وروي عن ابن سيرين ، وعبد الله بن عياش ، وعبد الله بن عمر ، ونافع ، وعبد الله بن يزيد الخطمي ، والشعبي ، وأبي ثور.

وقد احتج القائلون بالسنية : بالكتاب والسنة والقياس :

أما الكتاب : فمنه قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ)[المائدة : ٣]. ووجه الدلالة : أن الله سبحانه وتعالى أباح المذكى ، ولم يذكر التسمية. فلو كانت التسمية شرطا ، لما تركها وأباح المذكاة بدونها.

فإن ورد على هذا أن الحيوان لا يكون مذكى إلا بالتسمية. قلنا : الذكاة في اللغة : الشق ، والفتح.

وقد وجدا. ومنه قوله تعالى (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ)[المائدة : ٥] أباح الله سبحانه وتعالى لنا ذبائحهم ، وهم لا يسمون عليها غالبا.

وأما السنة : فمنها ما روي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن قوما جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : «يا رسول الله إن قوما حديثي عهد بالجاهلية يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لم يذكروا فنأكل منها؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سموا وكلوا».

حديث صحيح رواه البخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، بأسانيد صحيحة كلها.

وأما دعوى الإرسال ، كما قال مالك ، والدار قطني ، وكثير : فيجاب عنها بوصل البخاري له ، وبأن الحكم للواصل إذا زاد عدد من وصل على من أرسل ، واحتف بقرينة تقوي الوصل كما هنا إذ عروة معروف بالرواية عن عائشة ، ففيه إشعار بحفظ من وصله عن هشام دون من أرسله.

ووجه الدلالة : أن التسمية لو كانت من شرائط الحل ، لما أمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأكل ، عند وقوع الشك فيها ؛ كما لو عرض الشك في نفس الذبح ، فلم يعلم : هل وقعت الذكاة المعتبرة أو لا؟

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سموا وكلوا» المراد بها : التسمية المستحبة عند أكل كل طعام ، وشرب كل شراب.

وهذه التسمية قد نابت عن التسمية عند الذبح.

فلو كانت التسمية عند الذبح شرطا ، لما نابت هذه التسمية ـ وهي سنة ـ عنها.

ومنها : ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اسم الله على قلب كل مسلم سمى أو لم يسم».

وكون الذكر في قلبه في حالة العمد أظهر منه في حالة النسيان.

فإن قيل : إن هذا الحديث مخصص بالناس ؛ لما روي أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : يا رسول الله ، أرأيت الرجل يذبح وينسى أن يسمي الله فقال عليه الصلاة والسلام «اسم الله على قلب كل مسلم».

فأجاب عنه النووي بأن هذا : حديث منكر مجمع على ضعفه. وقد أخرجه البيهقي من حديث أبي هريرة ، وقال : منكر لا يحتج به.

وأما المعقول : فلأن التسمية لو كانت شرطا للحل ، لما سقطت بعذر النسيان. نظير هذا اشتراط الطهارة للصلاة ؛ فإنها لما كانت شرطا لم تجز صلاة من نسي الطهارة.

ولو سلم القول باشتراطها ، فالملة أقيمت مقامها.

وهذا ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ سئل عن متروك التسمية ناسيا ، فقال : «يحل تسمية ملته».

وفي إقامة الملة مقام التسمية ، لا فرق بين العمد والنسيان. وأيضا : لو كانت التسمية من شرائط ـ

٢٣٥

__________________

ـ الحل : لكانت مأمورا بها. ولا فرق في المأمورات بين العمد والنسيان ، كقطع الحلقوم والمريء في الذبح ، وكالتكبير والقراءة في الصلاة. وإنما يقع الفرق بينهما في المزجورات : كالأكل والشرب في الصوم ؛ لأن موجب النهي : الانتهاء. والناسي يكون منتهيا اعتقادا.

فأما موجب الأمر فهو الائتمار ، والتارك ناسيا أو عامدا لا يكون مؤتمرا.

وأيضا : فلأن التسمية هنا ؛ لاستصلاح الأكل ، فكانت ندبا لا حتما : كالطبخ والخبز.

ثم فيما هو المقصود ـ وهو الأكل ـ التسمية فيه ندب ، وليست بحتم. فهذا ـ وهو طريق إليه ـ أولى.

استدل الجمهور من الحنفية والمالكية ، وغيرهم : بالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب : فقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)[الأنعام : ١٢١].

والاستدلال بالآية من وجهين :

أحدهما : أن هذا نهي ، ومطلق النهي ؛ للتحريم.

والثاني : أنه سمى أكل ما لم يذكر اسم الله عليه فسقا. بقوله عزوجل : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) ، ولا فسق إلا بارتكاب المحرم.

وقالوا : إن ظاهر الآية ، وإن كان يقتضي شمولها لمتروك التسمية نسيانا ، إلا أن الشارع جعل الناسي ذاكرا لعذر من جهته. وفي ذلك رفع للحرج ؛ لأن الإنسان كثير النسيان. ولو أريد بالآية هذا الظاهر ، لجرت المحاجة ، وظهر الانقياد ، وارتفع الخلاف في الصدر الأول ؛ لأن ظاهر ما يدل عليه اللفظ لا يخفى على أهل اللسان ، وفي ذلك من الحرج ما لا يخفى ، والحرج مدفوع ، كما هو مقرر في الشريعة (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج : ٧٨]. فوجب حمل الآية على حالة العمد ؛ دفعا للتعارض.

على أن الناسي ليس بتارك للتسمية ، بل هي في قلبه ؛ لما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تسمية الله في قلب كل مسلم» وحينئذ يكون متروك التسمية سهوا ليس مما لم يذكر اسم الله عليه.

ونوقش هذا الاستدلال : بأن النهي في الآية مخصوص بما إذا ذبح على اسم النصب.

يدل على ذلك :

أولا : قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ).

وهذا على وجه التحقيق والتأكيد ، لا يصح في حق أكل ما لم يذكر اسم الله عليه عمدا أو سهوا ، إذ لا فسق بفعل ما هو محل الاجتهاد. وقد أجمع المسلمون على أنه لا يفسق آكل ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية.

ثانيا : قوله تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ)[الأنعام : ١٢١].

وهذه المناظرة إنما كانت في مسألة الميتة ؛ لما روي أن قوما من المشركين قالوا للمسلمين : «تأكلون ما تقتلونه ، ولا تأكلون ما يقتله الله»؟

يقصدون بما قتل الله : ما مات حتف أنفه.

وثالثا : قوله تعالى : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)[الأنعام : ١٢١].

معناه والله أعلم : أنكم لو رضيتم بهذه الذبيحة التي ذبحت على اسم الأوثان ، فقد رضيتم بألوهيتها وذلك يوجب الشرك.

قال الإمام الشافعي ـ رضي الله تعالى عنه ـ «فأول الآية وإن كان عاما بحسب الصيغة ، إلا أن آخرها لما حصلت فيه هذه القيود الثلاثة علمنا أن المراد من ذلك العموم هو هذا الخصوص».

قالوا : ومما يؤكد هذا المعنى قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) إذ لا يصح أن يكون معطوفا على النهي ـ

٢٣٦

__________________

ـ قبله ؛ لأن عطف الخبر على الإنشاء ضعيف ، إن لم يكن ممنوعا.

ويكون قوله : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) قيدا في النهي ، فصار هذا النهي مخصوصا بما إذا كان الأكل فسقا.

ثم طلبنا في كتاب الله تعالى : أنه متى يكون الأكل فسقا؟ فوجدناه مفسرا في آية أخرى (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) فصار الفسق في هذه الآية مفسرا بما أهل لغير الله به ، وإذا كان كذلك كان قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) مخصوصا بما أهل لغير الله به.

وأجاب بعض الشافعية : بحمل النهي على كراهة التنزيه جمعا بين الأدلة.

أما السنة : فمنها ما روي عن عدي بن حاتم أنه قال : قلت يا رسول الله إني أرسل كلابي المعلمة ، فيمسكن علي ، وأذكر اسم الله؟ فقال : «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه ثم كل» رواه البخاري ومسلم.

وله روايات أخرى كهذه كلها تدل على وجوب ذكر اسم الله ـ تعالى ـ عند الرمي ، والإرسال.

ومنها : ما روي عن أبي ثعلبة الخشني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال : «وما صدت بقوسك فاذكر اسم الله عليه ثم كل ، وما صدت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله عليه ثم كل».

وأجاب الشافعية عن حديثي عدي وأبي ثعلبة : بأن الأمر فيهما محمول على الندب من أجل أنهما كانا يصيدان على مذهب الجاهلية ، فعلمهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر الصيد : فرضه ومندوبه ؛ لئلا يواقعا شبهة من ذلك ، وليأخذا بأكمل الأمور فيما يستقبلان.

وأما الذين سألوا عن الذبح في حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ السابق ، فإنهم قد سألوا عن أمر وقع ، ليس لهم فيه قدرة على الأخذ بالأكمل ، فعرفهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأصل الحل فيه ، وقال لهم «سموا وكلوا».

أما الإجماع : فقالوا في تقريره : لا خلاف فيمن كان قبل الشافعي في حرمة متروك التسمية عامدا ، وإنما الخلاف بينهم في متروك التسمية ناسيا : فمن مذهب ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه يحرم ، ومن مذهب علي وابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ أنه : يحل بخلاف متروك التسمية عامدا.

ولهذا قال أبو يوسف والمشايخ ـ رحمهم‌الله ـ : إن متروك التسمية عامدا لا يسع فيه الاجتهاد ، ولو قضى القاضي بجواز بيعه : لا ينفذ ؛ لكونه مخالفا للإجماع.

قال الألوسي : والحق أن المسألة اجتهادية ، وثبوت الإجماع غير مسلم ، ولو كان ما كان خرقه الإمام الشافعي ـ رحمه‌الله تعالى ـ والاستدلال على مدعاه لا يخلو عن متانة.

واستدل لأهل الظاهر بظواهر الأدلة السالفة من الكتاب والسنة ؛ فإن ظاهرهما يدل على حرمة متروك التسمية عمدا كان أو نسيانا ، وقالوا : في وجه الدلالة فيما روي عن رافع بن خديج أنه قال : قلت يا رسول الله إنا نلقى العدو غدا وليست معنا مدى ، أفنذبح بالقصب؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا».

قالوا : إنه علق الإذن بمجموع الأمرين : الإنهار ، والتسمية. والمعلق على شيئين لا يكتفى فيه إلا باجتماعهما ، وينتفي بانتفاء أحدهما.

وأما وجهة الإمام أحمد ـ رحمه‌الله ـ في الفرق بين الذبح والصيد فهي : أن الذبح وقع في محله ، فجاز أن يتسامح فيه ، بخلاف الصيد.

هذا وقد أشاد ابن حزم بمذهب الظاهرية وقال : إن ما سواه باطل لم يقم عليه دليل ، وادعى أنه لا يعرف للشافعي دليلا ، وضعف الروايات التي استدل بها الحنفية وقال : لا يصح الاستدلال بها.

وبعد : فهذه هي المذاهب الثلاث بأدلتها ، والناظر إليها يرى أن كلا قد أشاد برأيه ، ودعم دليله ، ـ

٢٣٧

لأنها لو لم تكن شرطا في حل الذبيحة لم يكن المهلّ به لغير اسم الله ميتة حراما ، ولأنه سمى ما لم يذكر اسم الله عليه فسقا ، والفسق هو الخروج عن أمر الله ؛ كقوله : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف : ٥٠] أي : خرج ؛ فدل أن التسمية شرط فيها.

ولهذا يحل لنا ذبائح أهل الكتاب إذا سمعناهم يذكرون اسم الله عليه ، وإن كانوا ما (١) يذكرون في الحقيقة غير الله ؛ لأنهم لا يعرفون الله حقيقة ، ولكن إذا ذكروا اسم الله عليه تحل لنا (٢).

ولا يحل ذبائح أهل الشرك ؛ لأن أهل الشرك لا يرون الذبائح رأسا ؛ يذهبون مذهب الزنادقة (٣) ، والزنادقة لا يرون الذبائح ؛ يقولون لنا : إنكم تقولون : إن ربكم رحيم حكيم ، وليس من الحكمة والرحمة أن يأمر أحدا بذبح آخر ويقتله ؛ فيأكلون الميتة ولا يرون أكل الذبيحة ، ويقولون : ليس هذا أمر من كان موصوفا بالرحمة أو بالحكمة.

[لكنا نقول : إن كراهة الذبح والنفور عنه نفور طبع وكراهته كراهة طبع لا كراهة العقل.

فما يكرهه الطبع وينفر عنه يجوز أن يباح لما يعقب نفعا في المتعقب نحو ما يباح الافتصاد والحجامة والتداوي بأدوية كريهة لنفع يعقب ويتأمل ، وإن كان الطبع يكرهه وينفر عنه وليس هو مما يقبحه العقل إنما لا يجوز أن يباح بفعل ويؤمر به مما يقبحه العقل ويكرهه.

__________________

ـ وناقش كل واحد أدلة الآخر. ولا يخفى أن الأدلة المحرمة لمتروك التسمية ظاهرة في ذلك ، والأدلة المبيحة الصحيحة قد فتت في عضدها ، وأنزلتها من مكانها فالاحتياط والورع لهما الحكم الفصل في هذه المسألة.

والله سبحانه وتعالى أعلم. ينظر كتاب الذكاة لعبد الله حمزة ص (٨٠ ـ ٨٧).

(١) في أ : لا.

(٢) ذكر جميع الفقهاء إجماع أهل العلم على إباحة ذبائح أهل الكتاب ، وقالوا : إن خلاف الشيعة لا يعتد به ؛ لأنه لا يعتد بهم في الإجماع.

(٣) الزنادقة فرقة مبطلة متصلة بالمجذوبين ، والزنديق بالكسر وسكون النون وكسر الدال (الثنوي القائل بإلهين منهما يكون النور والظلمة ويسميهما (يزدان) و (أهرمن) ، فيسمي خالق الخير (يزدان) وخالق الشر (أهرمن) يعني الشيطان ، وهو الذي لا يؤمن بالحق تعالى وبالآخرة ، وهو الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر ، وقد قال البعض : إنه معرب (زن دين) أي : من يكون له دين النساء ، والصحيح المعنى الأول وهو معرف (زندي) أي من يؤمن (بالزند) كتاب زرادشت ، والقائل بيزدان وأهرمن.

ويقول في شرح المقاصد : إن الزنديق كافر لأنه مع وجود الاعتراف بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكون في عقائده كفر وهذا بالاتفاق.

ينظر : كشاف اصطلاحات الفنون (٣ / ١١٧).

٢٣٨

وأما كراهة الطبع ونفوره فإنه يجوز أن يباح لما ذكرنا ويرتفع ذلك بالعادة ؛ فعلى ذلك الذبح كراهته كراهة الطبع لا كراهة العقل ونفوره](١)

والثاني : أن هذه الأشياء كلها إنما خلقت لنا وسخرت لمنافعنا لم تخلق لأنفسها ، فإذا كان كذلك يحل لنا ذبحها والتناول منها بأمر الذي أنشأها لنا وسخرها لنا.

وبعد ، فإن [من](٢) مذهبهم أن العالم إنما كان بامتزاج النور والظلمة ، والروح من النوراني والجسم من الظلماني ففي الذبح استخراج الروح ورده إلى أصله ؛ إذ من قولهم : إنه يرجع كل إلى أصله في العاقبة ، على ما كان في الأول.

[وأما الجواب عما](٣) قاله أهل الشرك : «أكلتم ما ذبحتم أنتم وتركتم ذبيحة الله» فوجهان :

أحدهما : ما قاله أهل التأويل : أن الخلق له وله الحكم عليهم ؛ فأحل لهم هذا وحرم عليهم هذا.

والثاني : تعبدنا بذكر اسمه عليها ؛ فصار [فيما ذكر](٤) اسم الله إقامة عبادة تعبدنا بها ، وفيما لم يذكر لم يكن عبادة ؛ لذلك (٥) حل لنا ما كان في ذلك إقامة عبادة ، ولم يحل لنا ما لم يكن فيها إقامة عبادة والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) هو في الظاهر أمر ، لكن الأمر الذي يرجع إلى شهوات النفس ولذاتها فإنه يخرج على وجهين :

إما أن يخرج على بيان ما يحل ، أو (٦) النهي عما لا يحل ؛ فهاهنا خرج على بيان ما يحل وتحريم ما لا يحل ؛ كأنه قال : كلوا مما ذكر اسم الله عليه ، ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ).

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين أثبتناه من ب ؛ لأن ما ورد في أمضطرب السياق ونذكره هنا لزيادة التأكيد.

ورد في أ : لكنا نقول : إن كراهة الذبح والنفور عنه نفور طبع وكراهته كراهة طبع يكرهه وينفر عنه ، وليس هو مما يقبحه العقل أن ما لا يجوز أن يباح فعل ويؤمر به مما يقبحه العقل ويكرهه العقل وأما كراهة الطبع ونفوره ، فإنه يجوز أن يباح لما ذكرنا ، ويرتفع ذلك بالعادة فعلى ذلك الذبيحة كراهته كراهة العقل ونفوره. ا. ه.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : جواب.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : كذلك.

(٦) في أ : و.

٢٣٩

هو صلة قوله : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أي : ما لكم ألا تأكلوا وقد بيّن (١) لكم ما حرم عليكم من الميتة والدّم ولحم الخنزير.

(إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) [لأن أهل الشرك والزنادقة كانوا لا يرون أكل الذبيح ، ويأكلون الميتة والدم فلهم خرج الخطاب (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وقد بين لكم ما حرم عليكم ، وهو الميتة والدم : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)](٢).

قال الحسن (٣) : له أن يتناول (٤) من الميتة حتى يشبع ؛ لأنه أحل له التناول (٥) ، وعلى قولنا : لا يحل له الشبع (٦) ؛ لأنه إنما أحل عند الاضطرار (٧) [وهو غير مضطر إلى](٨)

__________________

(١) في أ : تبين.

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٢٢) (١٣٧٩٧) عن قتادة بنحوه ، والسيوطي في الدر (٣ / ٧٧) ، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٤) في أ : يتنزل له.

(٥) وعلى هذا مذهب المالكية فجوزوا للمضطر أن يأكل من الميتة حتى يشبع بل ويتزود منها ، فقد جاء في التاج والإكليل على مختصر خليل «ونص الموطأ قال مالك : من أحسن ما سمعت في الرجل يضطر إلى الميتة أنه يأكل منها حتى يشبع ويتزود منها ، فإن وجد عنها غنى طرحها وحجة مالك رحمه‌الله أن المضطر ليس ممن حرمت عليه الميتة فإذا كانت حلالا له أكل منها ما شاء حتى يجد غيرها فتحرم عليه.

ينظر : التاج والإكليل (٣ / ٢٣٣).

(٦) وعلى ذلك الأئمة الثلاثة ، غير أن للمذهب الحنبلي روايتين :

الأولى : لا يباح لأن الآية دلت على تحريم الميتة واستثنى ما اضطر إليه ، فإذا اندفعت الضرورة لم يحل له الأكل كحالة الابتداء لأنه بعد سد الرمق غير مضطر فلم يحل له الأكل للآية.

والرواية الثانية : يباح له الشبع لما روى جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة فنفقت عنده ناقة فقالت له امرأته : اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله فقال حتى أسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله فقال : «هل عندك غني يغنيك؟» قال : لا قال : «فكلوها» ، ولم يفرق ولأن ما جاز سد الرمق منه جاز الشبع منه كالمباح.

ويرى ابن قدامة التفريق بين ضرورة مستمرة وأخرى يرجى زوالها وقال يحتمل أن يفرق بين ما إذا كانت الضرورة مستمرة وبين ما إذا كانت مرجوة الزوال ، فما كانت مستمرة كحالة الأعرابي الذي سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاز الشبع ؛ لأنه إذا اقتصر على سد الرمق عادت الضرورة إليه عن قرب ، ولا يتمكن من البعد من الميتة مخافة الضرورة المستقبلة ويفضي إلى ضعف بدنه ، وربما أدى ذلك إلى ضعف بدنه ، وربما أدى ذلك إلى تلفه بخلاف التي ليست مستمرة فإنه يرجو الغنى عنها بما يحل له.

ينظر المغني : (١١ / ٧٣ ـ ٧٤).

(٧) جاء في لسان العرب : الاضطرار الاحتياج إلى الشيء وقد اضطره إليه أمر والاسم الضرة.

ثم قال والضرورة كالضرة ورجل ذو ضارورة وضرورة أي ذو حاجة وقد اضطر إلى الشيء أي ألجئ إليه. ـ

٢٤٠