تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

إن للدنيا معنيين : ظاهرا وباطنا ، فيكون للظاهر (١) غرور من كان نظره [إلى الظاهر](٢) يغره ، ولها باطن ومن نظر إلى ذلك الباطن يعظه.

أما ظاهرها : من تزيينها ، وزخرفها فالكافر نظر إلى ظاهرها فاغتر بها.

وأما باطنها : فهو انتقالها من حال إلى حال وزوالها وفناؤها فمن نظر إلى ذلك اتعظ به ويعلم معناها ويعرف أنه لم يخلق (٣) لهذه ولكن لعاقبة تتأمل. ثم إضافة الغرور إليها ، أي : يكون منها ما لو كان ذلك من ذي عقل وذهن كان ذلك غرور.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ).

هذا اعتراف بما كان منهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ).

يحتمل قوله : (ذلِكَ) ما تقدم من قوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) ، وقوله ـ عزوجل ـ : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) ، ونحوهما من الآيات التي ذكر فيها العذاب.

ويحتمل ذلك إشارة إلى الهلاك الذي كان بالأمم الخالية : أن لم يكن يهلك القرى بظلم ظلموا أنفسهم إهلاك تعذيب واستئصال إلا بعد [ما](٤) يقدم الوعيد لهم في ذلك وسؤال (٥) كان منهم بالعذاب ، ولا يهلك ـ أيضا ـ وهم غافلون عن الظلم والعصيان ، لا أنه لا يسعه ؛ ولكن سنة فيهم ألا يهلك إلا بعد تقدم ما ذكرنا ؛ لئلا يحتجوا فيقولوا : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [القصص : ٤٧] ، وإن لم يكن لهم الاحتجاج بذلك لما مكن لهم وركب فيهم ما به يعرفون (٦) أنه لم يخلقهم ليتركهم سدى ؛ ولكن خلقهم لعاقبة ، لكن سنته قد مضت في الأمم الماضية : [أنه](٧) لا يهلك قوما إهلاك تعذيب واستئصال إلا بعد ما يسبق منه وعيد وإنذار ، والعلم لهم بالظلم ، وظهور العناد منهم والمكابرة ، والسؤال بالعذاب سؤال تعنت ، وذلك منه فضل ورحمة ، لا أنه لا يسعه ذلك.

__________________

(١) في أ : الظاهر.

(٢) في أ : إليه.

(٣) في ب : لم تخلق.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : سؤالهم.

(٦) في ب : ما يعرفون.

(٧) سقط في أ.

٢٦١

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا).

استدل بعض الناس (١) بظاهر هذه الآية أن الجن لهم ثواب بالطاعات (٢) وعقاب بالمعاصي ؛ لأنه أخبر أن لكل [منهم](٣) درجات مما عملوا ، وإنما تقدم ذكر الفريقين جميعا بقوله : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) ، وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) [وقوله](٤)(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) : ذكر ما كان من الفريقين جميعا من المعاصي والجرم ؛ فعلى ذلك قوله : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ) : راجع إلى الفريقين جميعا ، لكل درجات منهم : إن عملوا خيرا فخير ، وإن [عملوا](٥) شرا فشر [وبه](٦) قال أبو يوسف ومحمد ـ رحمهما‌الله ـ واحتجوا لأبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ أن قوله : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ) إنما ذكر على أثر آيات كان الخطاب بها للكفرة دون المؤمنين ؛ فعلى قوله : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) يكون لهم هذا الوعيد خاصة ، ويكون قوله : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ) ، أي : دركات ومراتب (٧) من العذاب والعقاب ؛ مما عملوا من المعاصي والتكذيب للرسل ، ولأن الثواب لزومه لزوم فضل ومنّة ، والعذاب توجبه الحكمة ؛ لأن في الحكمة أن يعاقب من عصاه وخالف أمره وأمّا الثواب فوجوبه الفضل ؛ لأنه كان من الله إلى الخلق من النعم والإحسان [ما لو حمدوا كل حمدهم](٨) ما قدروا على أن يؤدوا شكر واحد من ذلك ، فتكون طاعتهم شكرا لما أنعم عليهم ، فإذا كان كذلك لا يكون لأعمالهم ثواب إلا بالبيان من الله ، كما لا يقال للملائكة : إن لهم ثوابا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) ، يحتمل (٩) وجهين :

وما ربك بغافل عن أعمالهم التي يعملونها في معصية الله ـ تعالى ـ ولكن يؤخر تعذيبهم ؛ رحمة منه ، وهو كقوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ ...) الآية [إبراهيم : ٤٢].

والثاني : عن علم بأعمالهم ، وصنيعهم خلقهم ، لا عن جهل ، لكن خلقهم على علم

__________________

(١) ذكره أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٢٢٧)

(٢) في أ : الطاعات.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

(٧) في ب : فضائل.

(٨) في أ : ما لو جهدوا كل جهدهم.

(٩) في أ : ويحتمل.

٢٦٢

بذلك ؛ لما كان ضرر أعمالهم ومنافعها ترجع إليهم لا إليه.

قوله تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(١٣٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) ، هذا يرد على الثنوية مذهبهم ؛ لأنهم يقولون : إنه إنما خلق الخلائق لمنافع نفسه ؛ لأنه ليس بحكيم من فعل فعلا لا يقصد منفعة نفسه ، فأخبر ـ عزوجل ـ أنه غني بذاته ، وإنما يقصد غيره المنفعة [بفعله لحاجة تقع له](١) ، وضرورة تصيبه [يقصد بالفعل](٢) قصد قضاء الحاجة ودفع الضرورة عن نفسه.

فأمّا الله ـ سبحانه وتعالى ـ فهو (٣) الغني بذاته ، إنما خلق الخلائق لمنافع أنفسهم ، وهو غني عن خلقه على ما أخبر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُ).

يحتمل : غني عن تعذيب أولئك الكفرة ، أي : لا لمنفعة له في تعذيبهم يعذبهم أو لحاجة له ؛ ولكن الحكمة توجب ذلك. أو أن يكون صلة قوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام : ١٣٠].

يقول : لم يرسل إليكم ، ولا امتحنكم بالذي امتحنكم لحاجة نفسه أو لمنفعة له ؛ إذ هو غني بذاته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذُو الرَّحْمَةِ).

يحتمل وجهين :

يحتمل : ذو الرحمة فلا يعجل عليهم بالعقوبة.

والثاني : ذو الرحمة لما خلق الخلائق ، وجعل لبعض ببعض الانتفاع بهم والاستمتاع ، وإنما خلقهم لمنافع أنفسهم.

ويحتمل قوله : (ذُو الرَّحْمَةِ) : من قبل رحمته صار أهلا لها ، فأما من لم يقبل رحمته فإنه ذو انتقام منه.

__________________

(١) في أ : لحاجة تقع له بفعله.

(٢) في أ : بقصد الفعل.

(٣) في ب : هو.

٢٦٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ).

لأنه غني بذاته لم يخلقكم لمنافع نفسه أو لحاجته ، إن شاء أذهبكم واستخلف غيركم ، ولو كان خلقه الخلق لمنافع نفسه لكان لا يذهب بهم ويستخلف [من](١) بعدهم ما يشاء.

(كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ).

يخبر عن غناه عنهم ، وعن سلطانه ، وقدرته أنه يقدر على إهلاككم واستئصالكم وإنشاء قوم آخرين.

كأن خلق الخلائق من جواهر مختلفة لا توالد فيهم ، ثمّ جعل في الآخر التوالد والتناسل ويستخلف بعض من بعض بالتوالد والتناسل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ).

من الوعد والوعيد.

أو أن يكون قوله : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ) : من النصر لرسوله والمعونة له لآت وكائن.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ).

قيل (٢) : بفائتين ربكم.

وقيل (٣) : وما أنتم سابقين (٤) الله بأعمالكم الخبيثة حتى لا يجزيكم الله بها. وأصله : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) ، أي : لا تعجزون ربكم عن تعذيبكم وعقوبتكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ).

قيل (٥) : على جديتكم.

وقيل (٦) : على منازلكم وجدتكم.

ولكن تأويله ـ والله أعلم ـ : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي : ما أنتم عليه ، ثم يحتمل هذا وجوها :

يحتمل (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) ، أي : على ما أنتم عليه من أمر الدين ، (إِنِّي عامِلٌ) : على ما أنا عليه من أمر الدين ؛ كقوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦].

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ١٣٢) ، وأبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٢٢٨).

(٣) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ٨٨) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس.

(٤) في ب : بسابقين.

(٥) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ٨٨) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، ولأبي الشيخ عن أبي مالك بنحوه.

(٦) ينظر تفسير البحر المحيط لأبي حيان (٤ / ٢٢٩).

٢٦٤

ويحتمل أن يكونوا هموا أن يمكروا برسول الله ؛ فقال (١) : امكروا بي إني ماكر (٢) بكم ؛ كقوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) [الأنفال : ٣٠].

ويحتمل أن يكونوا يطلبون الدوائر والهلاك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكيدونه ؛ كقوله : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) [هود : ٥٥] هذه الكلمة تستعمل في انتهاء المكابرة غايتها (٣) وجود المعاندة غايتها بعد الفراغ من الحجج والآيات ؛ كقوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).

يحتمل فسوف تعلمون من تكون له العاقبة.

ويحتمل : فسوف تعلمون بالهلاك من كان محقّا بالوعيد.

أو سوف تعلمون من المحق بما أوعد وخوف.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يحتمل : لا يفلح الظالمون](٤) ، ما داموا في ظلمهم.

ويحتمل : أن يكون ذلك في قوم مخصوصين.

ويحتمل : في الآخرة : لا يفلح الظالمون.

قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)(١٤٠)

__________________

(١) في ب : فيقال.

(٢) في أ : ما أمكر.

(٣) في ب : نهايتها.

(٤) سقط في أ.

٢٦٥

قوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ ...) الآية ، يخبر ـ عزوجل ـ عن سفههم من وجوه :

أحدها : أنهم كانوا يجعلون لله نصيبا مما كان لله في الحقيقة مع علمهم أن الله هو الذي أنشأ لهم تلك الأشياء وهو ذرأها ، ثم يجعلون لله في ذلك نصيبا [وللأصنام نصيبا](١) يسفههم لأنهم إذا علموا أن الله هو الذي ذرأ لهم تلك الأشياء وأنشأها لهم ، فإليه الاختيار في جعل ذلك لا إليهم [إذ علموا](٢) أنهم إنما يملكون هم بجعل (٣) الله لهم ، وهو المالك عليها حقيقة.

والثاني : ما يبين سفههم ـ أيضا ـ أنهم يجعلون لله في ذلك نصيبا وللأصنام نصيبا من الثمار والحروث وغيرها ، ثم إذا وقع [شيء](٤) مما جعلوا لله وخالط ما جزّءوا (٥) وجعلوه لشركائهم تركوه ، وإذا خالط شيء مما جعلوا لشركائهم ، ووقع فيما جعلوه لله أخذوه وردوه على شركائهم وانتفعوا به ، وتركوا الآخر للأصنام إيثارا للأصنام عليه ، وإعظاما لها.

أو إذا زكا نصيب الأصنام ونما ، ولم يزك (٦) نصيب الله ، ولم ينم (٧) تركوا ذلك للأصنام ، ويقولون : لو شاء الله لأزكى نصيبه ، وإذا زكا الذي كانوا يجعلون لله ، ولا يزكو نصيب الأصنام أخذوا نصيب الله فقسموه بين المساكين وبين الأصنام نصفين.

يسفههم ـ عزوجل ـ بصنيعهم (٨) الذي يصنعون ويبين عن جوهرهم بإيثارهم الأصنام ، وإعظامهم إياها ، والتفضيل في القسمة والتجزئة ، مع علمهم أن الله هو الذي ذرأ ذلك وأنشأه (٩) لهم ، وأن الأصنام التي أشركوها في أموالهم وعبادتهم لله لا يملكون من ذلك شيئا.

وذلك منهم سفه وجور ؛ حيث أشركوا في أموالهم وعبادتهم مع الله أحدا لا يستحق بذلك شيئا ، وهو كما جعلوا لله البنات ، وهم كانوا يأنفون عن البنات ، كقوله : (وَإِذا بُشِّرَ

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : يجعل.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : جزاء.

(٦) في أ : يترك.

(٧) في أ : يتمنوا.

(٨) في ب : في صنيعهم.

(٩) في أ : وأنشأ.

٢٦٦

أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ...) الآية [النحل : ٥٨] : وقال : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) [الطور : ٣٩] وقال : (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم : ٢٢] تأنفون أنتم عن البنات وتضيفونهن إليه؟! فهو إذا جور وظلم ؛ فعلى ذلك تفضيل الأصنام في القسمة وإيثارهم إياها على الله ، وإشراكهم مع الله ، مع علمهم أنه كان جميع ذلك بالله ، وهو أنشأه لهم ـ جور وسفه.

ثم أخبر أنهم : (ساءَ ما يَحْكُمُونَ).

أي بئس الحكم حكمهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، أي : كما زين لهم جعل النصيب للأصنام [و](١) التجزئة لها ، وصرف ما خلق الله لهم عنه إلى الأصنام كذلك زين لهم قتل أولادهم.

أو كما زين لهم تحريم ما أحل الله لهم من السائبة (٢) والوصيلة (٣) والحامي (٤) كذلك زين لهم شركاؤهم قتل أولادهم.

وأصله : أن الشفقة التي جعل الله في الخلق لأولادهم [و](٥) الرحمة التي جبلت طبائعهم عليها تمنعهم عن قتلهم ، وخاصة أولادهم الضعفاء والصغار ، وكذلك الشهوة

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) السائبة : هي الناقة التي تنتج خمسة أبطن ، فتترك فلا تركب ولا يحمل عليها ولا ترد عن ماء ولا مرعى. وقيل : هي الناقة التي يقول ربها : إن قدمت سالما من سفري أو شفيت من مرضي فناقتي سائبة. فلا ينتفع بها ولا ترد عن ماء ولا علف. ويعتقون العبد ويقولون : هو سائبة ، فلا يعقل أحدهما الآخر ولا يرثه. وقيل : يكون ولاؤه لمعتقه ، ويضع ماله حيث يشاء وأصله من تسيب الدواب ، وهو انبعاثها. يقال : سابت الحية تسيب ، وانسابت تنساب انسيابا. وسابت الدابة تسيب سيوبا ، وساب الماء : جرى ، والمصدر : السيب ، ويعبر به عن العطاء فيقال : أفاض عليه سيبه ، أي رزقه ، وذلك على الاستعارة. وفي الحديث : «وفي السيوب الخمس» قال أبو عبيد : السيوب : الركاز. ولا أراه أخذ إلا من السيب ، وهو العطية. وفي الحديث : «لو سألتنا سيابة أعطيناكها» ، السيابة : البلحة ، والجمع سياب. ومنه سمي الرجل سيابة.

ينظر النهاية (٢ / ٤٣٢) ، وعمدة الحفاظ (٢ / ٢٧٩).

(٣) قيل : هي الأنثى التي تولد من الشاة مع ذكر ، فيقولون : وصلت أخاها ، فلا يذبحونها. وقيل : كانت الشاة إذا ولدت ستة أبطن عناقين عناقين ، وولدت في السابع عناقا وجديا قالوا : وصلت أخاها ، فأحلوا لبنها للرجال وحرموه على النساء ، قاله أبو بكر. وقال ابن عرفة : كانوا إذا ولدت الشاة ستة أبطن نظروا فإن كان السابع ذكرا ذبحوه ، وأكل منه الرجال والنساء. وإن كانت أنثى تركت في الغنم. وإن كانت أنثى وذكرا قالوا : وصلت أخاها ، فلم يذبحوها ، وكان لحمها حراما على النساء.

ينظر عمدة الحفاظ (٤ / ٣٦٥ ـ ٣٦٦).

(٤) قيل : هو الفحل يضرب عشرة أبطن ، يقولون : قد حمى ظهره ، فلا يركب ولا يحمل.

ينظر عمدة الحفاظ (١ / ٥٢٧)

(٥) سقط في أ.

٢٦٧

التي خلق فيهم تمنعهم عن تحريم ما أحل الله لهم ، لكن [زين لهم ذلك](١) شركاؤهم ، وحسنوا عليهم تحريم ما أحل لهم وقتل أولادهم ، فما حسن عليهم الشركاء وزين لهم من تحريم ما أحل لهم وقتل أولادهم غلب على الشفقة التي جبلت فيهم ، والشهوة التي خلق ومكن فيهم.

ثم اختلف في شركائهم (٢) :

قال بعضهم (٣) شركاؤهم : شياطينهم التي تدعوهم إلى ذلك.

وقيل (٤) : شركاؤهم : كبراؤهم ورؤساؤهم الذين يستتبعونهم.

[ثم](٥) يحتمل : قتل الكبراء أولادهم ؛ تكبرا منهم وتجبرا ؛ لأنهم كانوا يأنفون عن أولادهم الإناث ، وقتل الأتباع ؛ مخافة العيلة والفقر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيُرْدُوهُمْ).

قيل (٦) : ليهلكوهم ، إنهم كانوا يقصدون في التحسين والتزيين الإرداء والإهلاك ، وإن كانوا يرونهم في [ذلك](٧) الشفقة ، وكذلك كانوا يقصدون بالتزيين تلبيس الدين عليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ).

يحتمل : وجوها :

قال بعضهم : لو شاء الله لأهلكهم فلم يفعلوا ذلك.

وقيل : لأعجزهم ومنعهم عن ذلك ؛ كقوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) [يس : ٦٦].

وقيل : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) ، أي : لأراهم قبح فعلهم ؛ حتى لم يفعلوا.

وأصله : أنه إذا علم منهم أنهم يفعلون ما فعلوا ويختارون ما اختاروا من التزيين ولبس (٨) الدين عليهم شاء ما فعلوا واختاروا ، [وقد](٩) ذكرنا ذلك في غير موضع.

__________________

(١) في ب : ذلك زين لهم.

(٢) في ب : الشركاء.

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٥٢) (١٣٩١٢) و (١٣٩١٣) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٣ / ٨٩) وعزاه لابن المنذر وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٤) ذكره أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٢٣١).

(٥) سقط في أ.

(٦) ذكره الرازي في تفسير بنحوه (١٣ / ١٦٩) ، وابن عادل في اللباب (٨ / ٤٥٧).

(٧) سقط في أ.

(٨) في أ : وليس.

(٩) سقط في أ.

٢٦٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ).

أي : ذرهم ولا تكافئهم بافترائهم على الله.

ويحتمل : ذرهم وما يفترون ؛ فإن الله يكافئهم ولا يفوتون.

ويحتمل : ذرهم وما يفترون ؛ فإن ضرر ذلك الافتراء عليهم ، ليس علينا ولا عليك ، والله أعلم بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ).

قيل : هذه الآية صلة قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) هذا الذي جعلوا للشركاء هو الحجر الذي ذكر في هذه الآية ؛ لأنهم كانوا [لا](١) ينتفعون بذلك ويحرمونه ، وهو حجر.

وأصل الحجر : المنع ، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال (٢) : الحجر : ما حرموا [أنفسهم](٣) من أشياء : من الوصيلة ، والسائبة ، والحامي ، وتحريمهم ما حرموا من أشياء : كانوا يحلون أشياء حرمها الله ، ويحرمون أشياء أحلها الله في الجاهلية من الحرث والأنعام.

وفي حرف [أبي](٤) وابن عباس (٥) ـ رضي الله عنهما ـ : (حَرَجٍ) ، على تأخير الجيم وتقديم الراء.

وعن الحسن (٦) : (حِجْرٌ) ، برفع الحاء.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه ابن جرير بنحوه (٥ / ٣٥٥) (١٣٩٢١) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٨٩) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

(٥) وقرأ أبي بن كعب ، وعبد الله بن العباس ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن الزبير ، وعكرمة ، وعمرو بن دينار ، والأعمش : «حرج» بكسر الحاء وراء ساكنة مقدمة على الجيم ، وفيها تأويلان :

أحدهما : أنها من مادة الحرج وهو التضييق.

قال أبو البقاء : وأصله (حرج) بفتح الحاء وكسر الراء ، ولكنه خفف ونقل ؛ مثل (فخذ) في (فخذ).

قال شهاب الدين : ولا حاجة إلى ادعاء ذلك ، بل هذا جاء بطريق الأصالة على وزن (فعل).

والثاني : أنه مقلوب من حجر ، قدمت لام الكلمة على عينها ، ووزنه (فلع) ؛ كقولهم : (ناء) في (نأى) ، و (معيق) في (عميق) ، والقلب قليل في لسانهم.

ينظر اللباب (٨ / ٤٦٠).

(٦) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٣٩) وعزاه لابن الأنباري.

٢٦٩

وأصل الحجر : المنع ، ممنوع : محجور ، يقال : حجرت عليه ، أي : منعته ، والحجر أيضا : موضع بمكة ، والاحتجار : الاستئثار ، وهو أن يأخذ (١) الشيء ولا يعطي (٢) منه أحدا شيئا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ).

قال بعضهم : قوله : (إِلَّا مَنْ نَشاءُ) ، يعني : لا يطعمها إلا من يشاء الله [بزعمهم](٣) ؛ لأنهم كانوا يحرمون أشياء ويأتون [أشياء](٤) فواحش ، فيقولون : إن الله أمرهم بذلك ؛ كقوله في الأعراف : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨].

وقال بعضهم (٥) : قوله (إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ) يعني : الذين سنوا لهم ، أي : لا يطعمها إلا من يشاء أولئك الذين سنوا ذلك ، وحرموا ذلك على نسائهم ؛ على ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن شئت قد ذكرت لكم أول من بدل دين إسماعيل ، وبحر البحيرة والسائبة» (٦).

فعلى ذلك أضافوا المشيئة إلى أولئك الذين سنوا لهم ذلك ، وحرموا على إناثهم وأحلوا لذكورهم (٧).

وقال بعضهم (٨) قوله : (إِلَّا مَنْ نَشاءُ) هؤلاء الرجال ، كانت مضافة إلى الرجال دون النساء ، وفي ذلك تسفيه أحلامهم ؛ لأنهم [كانوا](٩) ينكرون الرسالة لما كان يحرمون من الطيبات ، ثم يتبعون الذي حرم عليهم الطيبات التي أحلها الله لهم [لأنهم ينكرون الرسالة

__________________

(١) في ب : تأخذ.

(٢) في ب : تعطي.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) قال الخازن في تفسيره (٢ / ٤٥٢) يعني يأكلها خدام الأصنام والرجال دون النساء ، وقال أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٢٣٣) وهم الرجال دون النساء أو سدنة الأصنام.

(٦) أخرجه أحمد (١ / ٤٤٦) عن ابن مسعود بلفظ : «إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر رأيته يجر أمعاءه في النار».

وفي الباب عن ابن عباس أخرجه الطبراني في الكبير (١٠ / ٣٩٨) ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (١ / ١١٨) وقال : وفيه صالح مولى التوأمة وضعف بسبب اختلاطه ، وابن أبي ذئب سمع منه قبل اختلاطه وهذا من رواية ابن أبي ذئب عنه.

(٧) في أ : الذكور.

(٨) ينظر ما سبق.

(٩) سقط في أ.

٢٧٠

لما كان](١) من البحيرة ، والسائبة ، ونحوهما.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) هو ما ذكر من البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحامي ، وهو الحجر الذي ذكر في هذه الآية ، يجعلون تلك الأشياء لشركائهم ، لا ينتفعون بها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا).

قيل فيه بوجوه :

قيل : (لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) ، أي : لا ينتفعون بها ؛ ليعرفوا أنعم الله ؛ ليشكروا الله عليها.

وقيل (٢) : (لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) ، أي : لا يذبحون للأكل ، ولا يذكرون اسم الله عليها.

ويحتمل (٣) : لا يذكرون اسم الله عليها وقت الركوب ؛ كما يذكر اسم الله عليها وقت الركوب ، وهو قوله : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) [الآية](٤) [الزخرف : ١٣] ؛ لأنهم كانوا لا يركبونها ؛ ولكن يسيبونها.

وقيل (٥) : لا يحجون عليها.

والأول كأنه أقرب : كانوا لا ينتفعون بها ؛ ليعرفوا نعم الله ، ويشكروه عليها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ).

بأن الله أمرهم بذلك ، وهو حرم عليهم ، وهو أحل ؛ فذلك هو الافتراء على الله ، أو بما أشركوا شركاءهم في عبادة الله وفي نعمه.

(وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا).

قيل : هو صلة قوله : (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) ، يحرمون على النساء ،

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٥٦) (١٣٩٣٢) عن السدي بنحوه وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٩٠) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٥٦) (١٣٩٣٤) عن ابن زيد بنحوه وانظر اللباب لابن عادل (٨ / ٤٦٠) ، وتفسير البغوي (٢ / ١٣٤).

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٥٦) (١٣٩٢٩) ، (١٣٩٣٠) ، (١٣٩٣١) عن أبي وائل.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٩٠) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن أبي وائل.

٢٧١

ويحلون للرجال ، يعني إذا ولدوا حيّا [كان ينتفع](١) بذلك رجالهم دون نسائهم ، وإذا ولدوا ميتا اشتركوا فيه الإناث والذكور [و](٢) يذكر في هذا كله سفه أولئك في صنيعهم ، ويذكر في قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) إلى آخر [منته و](٣) نعمه التي أنعم عليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ).

أي : افتراءهم على الله ، وتحريمهم ما أحل الله لهم ، وتحليلهم ما حرم عليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ).

أخبر أنهم قد خسروا بقتلهم الأولاد ، وتحريمهم ما أحل لهم ورزقهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ). وبالله الهداية والرشاد.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(١٤٤)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ).

ذكر هذا ـ والله أعلم ـ مقابل ما كان منهم من تحريم ما أحل الله لهم ورزقهم من الحرث ، والزرع ، والأنعام ، والانتفاع بها ، فقال : أنشأ جنات وبساتين من تأمل فيها وتفكر ، عرف أن منشئها مالك حكيم مدبر ؛ لأنه ينبتها ويخرجها من الأرض في لحظة ما لو اجتمع الخلائق على تقديرها : أن كيف خرج؟ وكم خرج؟ وأي قدر ثبت؟ ما قدروا على ذلك ؛ كقوله : (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) [الحجر : ١٩] ، ويخرج من الورق (٤)

__________________

(١) في ب : كانوا ينتفعوا. والصواب ما أثبتناه.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : الفرد.

٢٧٢

والثمار على ميزان واحد : ما لو جهدوا كل الجهد أن يعرفوا الفضل والتفاوت بين الأوراق والثمار ما قدروا ، وما وجدوا فيها تفاوتا. ويخرج ـ أيضا ـ كل عام من الثمار والأوراق ما يشبه العام الأول ؛ فدل ذلك كله أن منشئها ومحدثها مالك حكيم ، وضع كل شيء موضعه ، وأن ما أنشأ [أنشأ](١) لحكمة وتدبير لم ينشئها عبثا ؛ فله الحكم والتدبير في الحل والحرمة والقسمة ، ليس لأحد دونه حكم ولا تدبير في التحريم والتحليل : (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) [النحل : ١١٦] ، وهذا لهذا وهذا لهذا ؛ إنما ذلك إلى مالكها ؛ فخرج هذا ـ والله أعلم ـ مقابل ما كان منهم من قوله : (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ) [الأنعام : ١٣٨] ، [وقوله : (هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ)](٢)(وَهذا لِشُرَكائِنا) [الأنعام : ١٣٦] ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ) [الأنعام : ١٣٨] ، وغير ذلك من الآيات التي كان فيها ذكر تحكمهم على الله ، وإشراك أنفسهم في حكمه.

ثم اختلف في قوله : (مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) :

قيل (٣) : معروشات : مبسوطات ما ينبت (٤) منبسطا على وجه الأرض ، (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) : ما يقوم بساقه ، لا ينبسط على الأرض.

وقيل : معروشات : ما يتخذ له العريش ، من نحو العرجون (٥) والقرع (٦) وغيره ، وغير معروشات : ما لا يقع الحاجة إلى العرش ؛ من نحو : النخيل والأشجار المثمرة ، وهما واحد.

وقيل : على القلب ، معروشات : ما تقوم بساقها ، وغير معروشات : ما لا ساق لها ، والله أعلم. وتعريشه ما ذكر على أثره.

(وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ).

منها ما يكون متشابها في اللون مختلفا في الأكل والطعم ، ومنها ما يكون مختلفا في

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) ذكره البغوي والخازن في تفسيرهما (٢ / ٤٥٤) ونسباه لابن عباس وكذا أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط (٤ / ٢٣٨).

(٤) في أ : ما تنبت.

(٥) العرجون : ما يحمل التمر ، ويطلق على العذق وهو من النخل كالعنقود من العنب. ينظر المعجم الوسيط (١ / ٥٩٢) (عرجن).

(٦) جنس نباتات زراعية من الفصيلة القرعية ، فيه أنواع تزرع لثمارها ، وأصناف تزرع للتزيين ، واحدته : قرعة ، وأكثر ما تسميه العرب : الدباء. ينظر المعجم الوسيط (٢ / ٧٢٨) (قرع).

٢٧٣

اللون والمنظر متشابها في الطعم والأكل ؛ ليعلموا أن منشئها واحد ، وأنه حكيم أنشأها على حكمة ، وأنه مدبر : أنشأها عن تدبير ، لم ينشئها عبثا.

[و](١) من الناس من يقول (٢) : إن قوله : (مُتَشابِهاً) في الذي ذكر ، وهو الرمان (٣) والزيتون (٤) ؛ لأن ورقهما متشابه ، والثمرة مختلفة.

ومنهم من يقول : فيهما وفي غيرهما ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ).

كأنه قال : كلوا من ثمره إذا أثمر ، ولا تحرّموا ؛ خرج على مقابلة ما كان منهم من التحريم ، أي كلوا منها ، ولا تحرموا ؛ ليضيع ويفسد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ).

ذكر ـ عزوجل ـ الإيتاء مما يحصد بعد ذكر النخيل ، والزرع ، والزيتون ، والرمان ، حبّا وغير حب ، وما يقع فيه الكيل وما لا يقع ، مجملا عاما ولم يفصل بين قليله وكثيره.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر تفسير البغوي والخازن (٢ / ٤٥٤).

(٣) هو شجر مثمر من الفصيلة الآسية التي تشمل الآس ، والغوافة ، والقرنفل ، والأوكالبتوس وغيرها.

وثمرته الرمانة وهي مستديرة صلبة القشرة. في داخلها جيوب ذات بذور كثيرة ، وزهره أحمر جميل يسمى (الجلنار) وهذا معرب كلمة (كلنار) الفارسية التي معناها (ورد الرمان) وثمرته أنواع : حلو وحامض ومز ، ومنه ذو نوى ، وبغير نوى.

عرف الرمان منذ القديم ، وذكر في كتابات قديمة كثيرة ، وشوهدت صوره منقوشة على جدران المعابد القديمة وغيرها.

قيل : أصله من قرطاجة ، أو من غربي جنوب آسية ، وزرع في إيران قديما ، وكان مزروعا في حدائق بابل المعلقة ، وفي بعض المناطق الحارة والجافة ، ونقل إلى أوربة ومنطقة البحر المتوسط في عصور متأخرة.

ينظر معجم النباتات ص ٢٤٥.

(٤) هو شجر مثمر زيتي من الفصيلة الزيتونية يعتبر من أقدم النباتات التي عرفها الإنسان وغرسها واستثمرها ، واستخرج زيتها الثمين واستعمله في الأكل والدواء وغيرهما.

عرفته مصر في القرن السابع عشر قبل المسيح ، وورد ذكره في كتابات صينية قبل خمسة آلاف سنة ، وذكر كثيرا في التوراة وفي الأناجيل ، وفي المخطوطات الإغريقية والرومانية وفي الشعر العربي القديم وذكره في القرآن الكريم في سبع سور ، ووصفت الزيتونة بأنها (شجرة مباركة) وروي عن النبي قوله «كلوا الزيت وادهنوا به ، فإنه من شجرة مباركة» وتغنى به شعراء العرب ، منهم ابن وكيع القائل :

انظر إلى زيتوننا

فيه شفاء المهج

بدا لنا كأعين

شهل وذات دعج

مخضرة زبرجد

مسودة من سبج

ينظر معجم النباتات ص ٢٦٥.

٢٧٤

ففيه دلالة وجوب الصدقة والعشر في قليل ما تخرج الأرض وكثيره (١).

__________________

(١) فرض الله سبحانه وتعالى الزكاة في أنواع كثيرة ، زكاة عروض التجارة ، وزكاة الإبل ، وزكاة البقر ، وزكاة الأغنام ، وزكاة الزروع والثمار ، وهكذا ، وحدد لكل نوع من هذه الأنواع مقدارا معينا.

ويهمنا هنا أن نتحدث عن زكاة الزروع والثمار ، من حيث أدلة ثبوتها ، ومقدارها.

أولا : أدلة ثبوت زكاة الزروع والثمار :

ثبتت زكاة الزروع بالكتاب والسنة والإجماع :

من الكتاب :

١ ـ قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأنعام : ١٤١] ووجه الدلالة من الآية أن قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ) أي الله سبحانه وتعالى هو الذي أبدع هذه الجنات والثمار والزروع المختلفة الأنواع والأشكال والروائح والطعوم والألوان ، التي ينتفع بها الإنسان والحيوان (مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) المعروشات هي ما انبسط على الأرض وانتشر. مما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه ، كالكرم والبطيخ والقرع ، والعريش عيدان تصنع كهيئة السقف فتمسكه. وغير المعروشات هو ما قام على ساق واستغنى باستوائه وقوة ساقه عن التعريش كالنخل والشجر (مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) أي ثمره الذي يؤكل منه في الهيئة والطعم (مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي متشابها في المنظر وغير متشابه في المطعم ، أو متشابها بعض أفرادهما في اللون أو الطعم أو الهيئة وغير متشابه في بعضها ، قوله : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) أي أدوا زكاته المفروضة يوم قطعه وجذاذه.

٢ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ)[البقرة : ٢٦٧] ووجه الدلالة أن النفقة تطلق على الزكاة ، فيأمرنا الله سبحانه وتعالى بأن ننفق ونزكي من جياد أو من حلال ما نكسبه من الأموال ومن طيبات ما تخرجه لنا الأرض من الثمرات والزروع ، وأن تلك الزكاة يجب إخراجها يوم الحصاد والجذاذ كما هو مقتضى قوله تعالى (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ).

ومن السنة :

١ ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فيما سقت الأنهار والغيم العشور ، وفيما سقي بالسانية نصف العشور» ووجه الدلالة من الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدد زكاة ما يسقى من الأنهار والأمطار ، وما يسقى بآلة ، سواء كان زرعا أم ثمرا ، بالعشر في الأول ، ونصف العشر في الثاني.

٢ ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر) ، لكن لفظ النسائي وأبي داود وابن ماجه (بعلا) بدل (عثريا) ووجه الدلالة من الحديث جلية كما في الحديث الأول.

وهذه النصوص من الكتاب والسنة بعمومها تقتضي وجوب الزكاة في كل ما تخرجه لنا الأرض ، لا فرق بين زرع وزرع ، ولا بين ثمر وآخر فالكل تجب فيه الزكاة حتى الحطب والحشيش كما مال إليه إمام الظاهرية أبو سليمان داود بن علي وجمهور أصحابه متمسكين في ذلك بظواهر النصوص ، ولا فرق في ذلك بين القليل والكثير ، إلا فيما يحتمل الكيل فلا تجب الزكاة فيه حتى يبلغ خمسة أوسق فصاعدا.

وعن مجاهد وحماد بن أبي سليمان وعمر بن عبد العزيز وإبراهيم النخعي إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض ، قل أو كثر.

وقال أبو حنيفة وزفر : تجب الزكاة في كل ما تخرجه الأرض ، ويقصد بزراعته استغلال الأرض ـ

٢٧٥

وكذلك قوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة : (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) [البقرة : ٢٦٧].

وحديث معاذ ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «في كل ما أخرجت الأرض العشر ، أو نصف العشر» (١).

وحديث ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كتب إلى أهل اليمن (٢) بذلك (٣).

__________________

ـ عادة ، فلا عشر عندهما في نحو حطب وحشيش وتبن وبذر بطيخ وقصب فارسي ، لأنه لا يقصد بهذه الأشياء استغلال الأرض ونماؤها عادة ، لأن الأرض لا تنمو بها بل تفسد ، وأما لو اتخذ الأرض مشجرة أو مقصبة أو منبتا للحشيش ، فإن الزكاة تجب في الخارج منها ، لأنه غلة وافرة قصد بها استغلال الأرض ، ولعموم الآيات والأحاديث السابقة.

ثانيا : الحق الواجب (مقدار زكاة الزروع والثمار) :

وضحت السنة ما أجمله القرآن في الحق الواجب في زكاة الثمار والزروع ، ففي الحديثين السابقين تحديد لمقدار هذه الزكاة ، وهو أنه العشر أو نصف العشر ، فإن كان قد سقي بماء السماء مطر أو ثلج أو برد أو طل أو سقي من العيون والأنهار الجارية أو كان عثريا وهو الذي يشرب بعروقه وهو المعروف بالبعلي ، فزكاته عشر الخارج منه وإن كانت الزروع والثمار قد سقيت بالسواني وهي الدواب أو سقيت بالنضح كنضح الرجال بالآلة والمراد ما كان سقيه بتعب ومئونة ، ففيه نصف الشعر ، وهذه التفرقة بين ما سقي بتعب ومئونة. وبين ما سقي بلا تعب ولا مئونة ، حكمتها واضحة جلية ، وهو أن زيادة المؤنة والمشقة تقتضي الرفق والتخفيف.

قال النووي : وهذا متفق عليه ، وإن وجد ما يسقى بالنضح تارة ، وبالمطر أخرى ، فإن كان ذلك على جهة الاستواء وجب ثلاثة أرباع العشر ، وهو قول أهل العلم ـ قال ابن قدامة : لا نعلم فيه خلافا. وإن كان أحدهما أكثر ، كان حكم الأقل تبعا للأكثر عند أحمد والثوري وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي ، وقيل : يؤخذ بالتقسيط ، ويحتمل أن يقال : إن أمكن فصل كل واحد منهما أخذ بحسابه ، وعن ابن القاسم صاحب مالك : العبرة بما تم به الزرع ولو كان أقل.

ينظر المفصل في الفقه الإسلامي وتاريخه ص (٣٣٠ : ٣٣٣).

(١) أخرجه النسائي (٥ / ٤٢) كتاب : الزكاة ، باب : ما يوجب العشر وما يوجب نصف العشر ، وابن ماجه (١ / ٥٨١) كتاب : الزكاة ، باب : صدقة الزروع والثمار ، حديث (١٨١٨) ، والبيهقي (٤ / ١٣١) كتاب : الزكاة ، باب : قدر الصدقة فيما أخرجت الأرض عن أبي وائل ، عن مسروق ، عن معاذ بن جبل ، قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اليمن ، وأمرني أن آخذ مما سقت السماء ، وما سقي بعلا العشر ، وما سقى بالدوالي ، نصف العشر.

(٢) بالتحريك ، قيل سميت اليمن لتيامنهم إليها لما تفرقت العرب من مكة ، كما سميت الشام لأخذهم الشمال ، والبحر محيط بأرض اليمن من المشرق إلى الجنوب ، ثم راجعا إلى الغرب يفصل بينها وبين باقي جزيرة العرب خط يأخذ من بحر الهند إلى بحر اليمن عرضا في البرية من المشرق إلى جهة الغرب. ينظر مراصد الاطلاع (٣ / ١٤٨٣).

(٣) أخرجه البخاري (٣ / ٣٤٧) كتاب الزكاة : باب العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري ، الحديث (١٤٨٣) ، وأبو داود (٢ / ٢٥٢) كتاب الزكاة : باب صدقة الزرع ، حديث (١٥٩٦) ، والترمذي (٢ / ٧٥) كتاب الزكاة : باب ما جاء في الصدقة فيما يسقى بالأنهار وغيرها ، حديث (٦٣٥) والنسائي (٥ / ٤١) كتاب الزكاة : باب ما يوجب العشر ، وما يوجب نصف العشر ، وابن ـ

٢٧٦

وما روي عن أنس ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [أنه](١) قال : «فيما أخرجت الأرض ـ قليله وكثيره ـ العشر» (٢).

وخبر معاذ ، قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اليمن ، فأمرني أن آخذ [من كل حالم](٣) دينارا ، أو عدله معافريّا (٤) ، وأمرني أن آخذ من كل أربعين مسنة (٥) ، ومن كل ثلاثين تبيعا (٦) ، ومن كل ما سقت السماء العشر ، وما سقي بالديالي (٧) نصف العشر (٨).

__________________

ـ ماجه (١ / ٥٨١) كتاب الزكاة : باب صدقة الزروع والثمار ، حديث (١٨١٧) ، وابن الجارود (ص ١٢٨) كتاب الزكاة ، حديث (٣٤٨) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ٣٦) كتاب الزكاة : باب زكاة ما يخرج من الأرض ، والبيهقي (٤ / ١٣٠) كتاب الزكاة : باب قدر الصدقة فيما أخرجت الأرض ، وابن خزيمة (٤ / ٣٧) رقم (٢٣٠٧) ، (٢٣٠٨) ، والطبراني في (الصغير) (٢ / ١١٤) ، والبغوي في (شرح السنة) (٣ / ٣٤٥) ، كلهم من طريق الزهري عن سالم ، عن أبيه مرفوعا بلفظ : «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريّا العشر ، وما سقي بالنضح نصف العشر».

(١) سقط في ب.

(٢) ذكره الحافظ في تلخيص الحبير (٢ / ٣٢٩) وعزاه ليحيى بن آدم في الخراج (ص / ١١٦ رقم ٣٧١) من طريق أبان عن أنس بلفظ (فرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما سقت السماء العشر ، وفيما سقي بالدوالي والسواقي والقرب والناضح نصف العشر)

(٣) في ب : من حاكم.

والمراد الجزية وأراد بالحالم : من بلغ الحلم وجرى عليه حكم الرجال ، سواء احتلم أو لم يحتلم. ينظر النهاية في غريب الحديث (١ / ٤٣٤).

(٤) هي برود باليمن منسوبة لأولاد معافر بن يعفر بن مالك بن الحارث بن مرة بن أدد بن هميسع بن عمرو بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ ، وقيل في نسبهم إنهم من حمير.

ينظر مجموع بلدان اليمن وقبائلها (٤ / ٧١١) ، النهاية في غريب الحديث (٣ / ٢٦٣).

(٥) هي التي ألقت أسنانها ، ثنيتها ورباعيتها ، ودخلت الخامسة وهو أقصى أسنان البقر ، وقال الأزهري : والمسنة : التي قد صارت : ثنية وتجذع البقرة في السنة الثانية وتثني في السنة الثالثة فهو ثني والأنثى ثنية ، وهي التي تؤخذ في أربعين من البقر وقال في تهذيب اللغة : وليس معنى أسنانها : كبرها كالرجل ولكن معناه : طلوع ثنيتها. ينظر النهاية (٢ / ٤١٢) ، اللسان (٤ / ٢١٢٢) (سنن).

(٦) التبيع ولد البقرة وهو الذي يتبع أمه ينظر النظم المستعذب في غريب المهذب (١ / ١٤٥) ، المعجم الوسيط (١ / ٨٢).

(٧) الآلة التي تديرها الدابة ليستقى بها. ينظر المعجم الوسيط (١ / ٣٠٥) (دول).

(٨) أخرجه يحيى بن آدم القرشي في كتاب : الخراج (٦٨) ، وأبو عبيد في «الأموال» (ص : ٣٤ ـ ٣٥) حديث (٦٤) ، وعبد الرزاق (٤ / ٢١ ـ ٢٢) كتاب : الزكاة ، باب : البقر ، حديث (٦٨٤١) ، وابن أبي شيبة (٣ / ١٢٦ ـ ١٢٧) كتاب : الزكاة ، باب : في صدقة البقر ما هي ، وأبو داود الطيالسي (١ / ٢٤٠) كتاب : الجهاد ، باب : ما جاء في الجزية ، حديث (٢٠٧٧) ، وأحمد (٥ / ٢٣٠) ، وأبو داود (٢ / ٢٣٤ ـ ٢٣٥ ـ ٢٣٦) كتاب : الزكاة ، باب : في زكاة السائمة ، حديث (١٥٧٦ ـ ١٥٧٧ ـ ١٥٧٨) ، والترمذي (٢ / ٦٨) كتاب : الزكاة ، باب : ما جاء في زكاة البقر ، حديث (٦٢٣) ، والنسائي (٥ / ٢٦) كتاب : الزكاة ، باب : زكاة البقر ، وابن ماجه (١ / ٥٧٦) كتاب : الزكاة ، باب : صدقة البقر ، حديث (١٨٠٣) ، وابن الجارود (ص : ٣٧٢) ، باب : الجزية ، حديث (١١٠٤) ، والدار قطني (٢ / ١٠٢) كتاب : الزكاة ، باب : ليس في الخضراوات صدقة ، حديث (٢٩) ، ـ

٢٧٧

__________________

ـ والحاكم (١ / ٣٩٨) كتاب : الزكاة ، باب : زكاة البقر ، والبيهقي (٤ / ٩٨) كتاب : الزكاة ، باب : كيف فرض صدقة البقر ، و (٩ / ١٩٣) كتاب : الجزية ، باب : كم الجزية ، وابن خزيمة (٤ / ١٩) رقم (٢٢٦٨) ، وابن حبان (٧٩٤ ـ موارد) من طريق الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اليمن ، وأمرت أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة ، ومن كل أربعين مسنة ، ومن كل حالم دينارا ، أو عدله ثوب معافر.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي ، وكذلك صححه ابن حبان ، وشيخه ابن خزيمة ، فأخرجه في الصحيح.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، قال : ورواه بعضهم عن سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث معاذا إلى اليمن ، وهذا أصح.

وقال البيهقي (٩ / ١٩٣) كتاب : الجزية ، باب كم الجزية ، قال أبو داود ـ في بعض نسخ السنن ـ هذا حديث منكر ، بلغني عن أحمد أنه كان ينكر هذا الحديث إنكارا شديدا.

قال البيهقي : إنما المنكر رواية أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن مسروق عن معاذ فأما رواية الأعمش عن أبي وائل عن مسروق : فإنها محفوظة قد رواها عن الأعمش جماعة منهم : سفيان الثوري ، وشعبة ، ومعمر ، وجرير ، وأبو عوانة ، ويحيى بن سعيد ، وحفص بن غياث ، وقال : بعضهم عن معاذ ، يعني عن مسروق عن معاذ ، وقال : بعضهم عن مسروق أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن ، وأما حديث الأعمش عن إبراهيم فالصواب كما أخبرنا أبو محمد الحسن ابن علي بن المؤمل ، فأسند عن يعلى بن عبيد ثنا الأعمش عن شقيق عن مسروق والأعمش عن إبراهيم ، قالا : قال معاذ ... ، فذكر الحديث. ثم قال : هذا هو المحفوظ ، حديث الأعمش عن أبي وائل عن مسروق ، وحديثه عن إبراهيم منقطع ليس فيه ذكر مسروق ، وقد رويناه عن عاصم ابن أبي النجود عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وللحافظ ابن حجر كلام وجيه حول هذا الحديث ، فقال في «التلخيص» (٢ / ١٥٢) : ورجح الترمذي ، والدارقطني في «العلل» الرواية المرسلة ، ويقال : إن مسروقا أيضا لم يسمع من معاذ ، وقد بالغ ابن حزم في تقرير ذلك ، وقال ابن القطان : هو على الاحتمال ، وينبغي أن يحكم لحديثه بالاتصال على رأي الجمهور ، وقال ابن عبد البر في «التمهيد» : إسناده متصل صحيح ثابت ، ووهم عبد الحق فنقل عنه أنه قال : مسروق لم يلق معاذا ، وتعقبه ابن القطان بأن أبا عمر إنما قال ذلك في رواية مالك عن حميد بن قيس عن طاوس عن معاذ ، وقد قال الشافعي : طاوس عالم بأمر معاذ ، وإن لم يلقه ؛ لكثرة من لقيه ممن أدرك معاذا ، وهذا مما لا أعلم من أحد فيه خلافا ، انتهى.

وقد رواه الدار قطني من طريق المسعودي عن الحكم أيضا عن طاوس ، عن ابن عباس قال : لما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاذا. وهذا موصول ، لكن المسعودي اختلط ، وتفرد بوصله عنه بقية بن الوليد ، وقد رواه الحسن بن عمارة عن الحكم أيضا لكن الحسن ضعيف ، ويدل على ضعفه قوله فيه : إن معاذا قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليمن فسأله ، ومعاذ لما قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قد مات ، ورواه مالك في «الموطأ» من حديث طاوس عن معاذ أنه أخذ من ثلاثين بقرة تبيعا ، ومن أربعين بقرة مسنة ، وأتي بما دون ذلك ، فأبى أن يأخذ منه شيئا ، وقال : لم نسمع فيه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا حتى ألقاه ، فتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يقدم معاذ بن جبل ، قال ابن عبد البر : ورواه قوم عن طاوس عن ابن عباس عن معاذ ، إلا أن الذين أرسلوه أثبت من الذين أسندوه ، قلت : ورواه البزار والدار قطني من طريق ابن عباس ، بلفظ : «لما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاذا إلى اليمن ـ

٢٧٨

إلى هذا كله يذهب أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ ويوجب الصدقة في قليل الخارج من الأرض وكثيرة (١).

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل الحق الذي ذكره الله في قوله : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) :

قال قوم (٢) : هي صدقة سوى الزكاة ؛ واحتجوا بأن الآية مكية (٣) ، وأن الزكاة فرضت

__________________

ـ أمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا ، أو تبيعة جذعا ، أو جذعة ـ الحديث ـ لكنه من طريق بقية عن المسعودي ، وهو ضعيف كما تقدم ، وقال البيهقي : طاوس وإن لم يلق معاذا إلا أنه يماني ، وسيرة معاذ بينهم مشهورة.

(١) وهو قول للشعبي وللنخعي في رواية.

ينظر : أحكام القرآن للجصاص (١ / ١٨٥) شرح المهذب (٥ / ٤٨٧).

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٦٤ ـ ٣٦٥) (١٣٩٨٨) عن محمد بن جعفر عن أبيه ، (١٣٩٩٣) عن عطاء ، (١٣٩٩٦ ، ١٤٠٠١) عن مجاهد.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٩٣) وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر عن الشعبي ، ولابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن أبي العالية.

(٣) قال ابن العربي في كتابه الناسخ والمنسوخ : الذي علمناه على الجملة من القرآن أن منه مكيّا ومدنيّا ، وسفريّا وحضريّا ، وليليّا ونهاريّا وسمائيّا وأرضيّا ، وما نزل بين السماء والأرض ، وما نزل تحت الأرض في الغار.

وقال ابن النقيب في مقدمة تفسيره : المنزل من القرآن على أربعة أقسام : مكي ، ومدني ، وما بعضه مكي وبعضه مدني ، وما ليس بمكي ولا مدني.

اعلم أن للناس في المكي والمدني اصطلاحات ثلاثة :

أشهرها : أن المكي ما نزل قبل الهجرة ، والمدني ما نزل بعدها ؛ سواء نزل بمكة أم بالمدينة ، عام الفتح أو عام حجة الوداع ، أم بسفر من الأسفار. أخرج عثمان بن سعد الرازي بسنده إلى يحيى ابن سلام ، قال : ما نزل بمكة وما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فهو من المكي ، وما نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أسفاره بعد ما قدم المدينة فهو من المدني ، وهذا أثر لطيف يؤخذ منه أن ما نزل في سفر الهجرة مكي اصطلاحا.

الثاني : أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة ، والمدني ما نزل بالمدينة. وعلى هذا تثبت الواسطة ، فما نزل بالأسفار لا يطلق عليه مكي ولا مدني. وقد أخرج الطبراني في الكبير من طريق الوليد بن مسلم ، عن عفير بن معدان ، عن ابن عامر عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة : مكة ، والمدينة ، والشام» قال الوليد : يعني بيت المقدس. وقال الشيخ عماد الدين بن كثير : بل تفسيره بتبوك أحسن.

قلت : ويدخل في مكة ضواحيها كالمنزل بمنى وعرفات والحديبية ، وفي المدينة ضواحيها كالمنزل ببدر وأحد وسلع.

الثالث : أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة ، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة ، وحمل على هذا قول ابن مسعود الآتي.

قال القاضي أبو بكر في الانتصار : إنما يرجع في معرفة المكي والمدني إلى حفظ الصحابة والتابعين ، ولم يرد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك قول ؛ لأنه لم يؤمر به ، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة ، وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ ، فقد يعرف ـ

٢٧٩

بالمدينة (١) ، وهي منسوخة بآية الزكاة.

وقال قوم (٢) : هي الزكاة ، فإن نسخ إنما نسخ قدرها ، لم ينسخ الحق رأسا ؛ لأنهم كانوا يتصدقون بالكل ، فما (٣) نسخ إنما نسخ بآية الزكاة قدرها.

ألا ترى أنه قال في [آية](٤) أخرى : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).

والإسراف في اللغة (٥) هو المجاوزة عن الحدّ الذي حد له كقوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا

__________________

ـ ذلك بغير نص الرسول. انتهى.

وقد أخرج البخاري عن ابن مسعود أنه قال : «والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله تعالى إلا وأنا أعلم فيمن نزلت ، وأين نزلت».

وقال أيوب : سأل رجل عكرمة عن آية من القرآن فقال : نزلت في سفح ذلك الجبل ـ وأشار إلى سلع. أخرجه أبو نعيم في الحلية.

ينظر الإتقان في علوم القرآن (١ / ٣٧ ـ ٣٨).

(١) اختلف في أول فرض الزكاة فذهب الأكثرون إلى أنه وقع بعد الهجرة ، وادعى ابن خزيمة في صحيحه أن فرضها كان قبل الهجرة. واحتج بقول جعفر للنجاشي : «ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام» ويحمل على أنه كان يأمر بذلك في الجملة ، ولا يلزم أن يكون المراد هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول.

قال : ومما يدل على أن فرض الزكاة وقع بعد الهجرة اتفاقهم على أن صيام رمضان إنما فرض بعد الهجرة ، لأن الآية الدالة على فرضيته مدنية بلا خلاف ، وثبت من حديث قيس بن سعد قال : «أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ، ثم نزلت فريضة الزكاة فلم يأمرنا ولم ينهانا ، ونحن نفعله».

ينظر فتح الباري (٣ / ٢٦٦) ، وروضة الطالبين للنووي (١٠ / ٢٠٦).

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٦٢ ـ ٣٦٤) (١٣٩٦٥ ، ١٣٩٨٥ ، ١٣٩٨٦) عن الحسن البصري ، (١٣٩٦٦) عن أنس ، (١٣٩٦٩ ، ١٣٩٧٤) عن ابن عباس ، (١٣٩٧٠) عن جابر بن زيد ، (١٣٩٧٢) عن سعيد ابن المسيب ، (١٣٩٧٦ ، ١٣٩٧٧ ، ١٣٩٨٠) عن قتادة (١٣٩٨٣) عن الضحاك.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٩٤) وعزاه لابن أبي حاتم والنحاس وابن عدي والبيهقي في سننه عن أنس بن مالك ، ولابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، ولابن أبي شيبة وأبي داود في ناسخه والبيهقي عن طاوس.

(٣) في ب : فإن.

(٤) سقط في أ.

(٥) الإسراف : تجاوز الحد في سائر الأفعال ، إلا أنه غلب في الإنفاق. ويقال باعتبارين : باعتبار القدر ، وباعتبار الكيفية. ومنه قول سفيان : «ما أنفقت في غير طاعة الله فهو سرف وإن كان قليلا» وقال إياس بن معاوية : «الإسراف : ما قصر به عن حق الله تعالى» وهو ضد القصد. ويقال : فلان مسرف وفلان مقتصد. وقوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر : ٥٣] يتناول الإسراف في الإنفاق وفي سائر الأعمال. وقوله تعالى : فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [الإسراء : ٣٣] نهي عما كانت الجاهلية تفعله من قتل غير القاتل ، بألا يرضى إلا بقتل من هو أشرف منه ، أو بقتل عدد كثير مكان الواحد.

وقيل : سرفه فيه أن يعدل عن طريق القصاص بأن يستحق حز رقبته فيعدل إلى ما هو أشق. وقيل : هو نهي عن المثلة ، والكل جائز. وقوله تعالى : (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) ـ

٢٨٠