تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

أَلِيمٌ) ، وفي مواضع أخر : (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) [هود : ٦٤] ، فهذا يدل على أنه إنما أراد بالعذاب الأليم عذاب الدنيا لا عذاب الآخرة ؛ لأنه قد يأخذهم عذاب الآخرة بكفرهم ، فالوعيد بأخذ العذاب لهم عذاب الدنيا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) قد ذكرنا تأويله في قصة هود.

(وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ).

قيل : أنزلكم فيها تتخذون من سهولها (١) قصورا.

(وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً)(٢) يذكرهم ـ عزوجل ـ ما أنعم عليهم من سعة المال ، وبسط الرزق لهم ، وما خصهم من اتخاذ البيوت من الجبال دون غيرهم من الناس ، خص هؤلاء بسعة الرزق وبسط الأموال ، وقوم هود بالقوة والبطش ، بقوله : (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) [الأعراف : ٦٩] وقال في آية أخرى : (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت : ١٥] وقال : (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) [الشعراء : ١٣٠] ، كان خصهم بفضل القوة والبطش والطول من بين غيرهم (٣) ، وهؤلاء بسعة الأرزاق لهم وبسط الأموال ، (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) [الأعراف : ٦٩] من السعة في الأموال والبسط ، وبما جعلكم خلفاء من بعد عاد ، وبما أقدركم على (٤) اتخاذ البيوت من الجبال لم يقدر على مثله أحد ؛ لأن غيرهم من الخلائق إنما ينتفعون بالجبال على ما هي عليها ، وأما هم فقد مكّن لهم على نحتها واتخاذها بيوتا.

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

أي : اذكروا نعمته (٥) ، ولا تشركوا في عبادتكم غيره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ).

قد ذكرنا أن الملأ من قومه هم كبراؤهم وسادتهم ، استكبروا عليه لما رأوه دون أنفسهم في أمر الدنيا ، فلم يتبعوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ).

__________________

(١) السهل : أرض منبسطة لا تبلغ الهضبة. ينظر المعجم الوسيط (١ / ٤٥٨) (سهل).

(٢) في أ : وتنحتون من الجبال بيوتا. وهي غير الآية التي معنا.

(٣) في ب : من غيرهم.

(٤) في أ : من.

(٥) في ب : نعمه.

٤٨١

فيه دلالة أن من المستضعفين من قومه من لم يكن آمن ؛ حيث خص لمن آمن منهم.

وفيه : أن أوّل من اتبع الرسل هم الضعفاء ، وكذلك كان الأتباع للرسل جميعا الضعفاء.

وقولهم : (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) ، قول هؤلاء الذين آمنوا بصالح وصدقوه في رسالته لم يخرج في الظاهر جواب ما سألوا ؛ لأنهم قالوا : (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) ، إنما سألوهم عن علمهم برسالته ، لم يسألوهم عن إيمانهم به ، فهم إنما أجابوا عن غير (١) ما سئلوا في الظاهر ، لكن يجوز أن يكنى بالعلم عن الإيمان ، فكأنهم (٢) قالوا لهم : تؤمنون بصالح وتصدقونه؟ لأن العلم بالشيء قد (٣) يقع بلا صنع ، والإيمان لا يكون إلا بصنع منهم ؛ فكأنهم إنما سألوهم عن الإيمان به ؛ لذلك قالوا : (إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ).

والثاني : كأنهم قالوا : بل علمنا أنه مرسل من ربه ، وإنا بما أرسل به مؤمنون.

وفيه : دلالة أن من مكن له من العلم بأسباب جعلت له يصل بها إلى العلم ، لم يعذر (٤) بجهله في ذلك بعد ما أعطي أسباب العلم ؛ حيث قالوا : أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه ، أي : لا تعلمون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) فيه دلالة [أن](٥) الإيمان : هو التصديق في اللغة ، والتكذيب : هو ضد ما يكون به التصديق ؛ حيث أجابوا بالتكذيب لإيمانهم به ؛ لقولهم : (إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) فهؤلاء لم يعرفوا جميع الطاعات إيمانا على ما عرفه بعض الناس ، إنما عرفوه تصديقا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ).

أضاف هاهنا العقر إليهم جميعا ، وفي موضع آخر أضاف إلى الواحد بقوله (٦) : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) [القمر : ٢٩] ، وفي سورة (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) [الشمس : ١] كذلك أضاف إلى الواحد : (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) [الشمس : ١٢] لكن فيما (٧) كان مضافا إليهم

__________________

(١) في أ : غيرها.

(٢) في أ : فكأنما.

(٣) في أ : فيه.

(٤) في أ : يقدر.

(٥) سقط في أ.

(٦) في ب : لقوله.

(٧) في أ : فيما إلى.

٤٨٢

جميعا يحتمل أن تولى واحد منهم عقرها بمشورتهم جميعا ، ومعونتهم ، وتدبيرهم ، وتراضيهم على ذلك ، فأضيف إليهم ذلك (١) لاجتماعهم على ذلك ، وإلى الواحد فيما تولى جرحها ومنعها عن السير ، ففيه دلالة لمذهب أصحابنا (٢) أن قطاع الطريق إذا تولى بعضهم القتل ، وأخذ الأموال ، ولم يتول بعضهم يتشاركون جميعا : من تولى منهم ، ومن لم يتول في حكم قطاع الطريق بعد أن يكون بعضهم عونا لبعض ، وكذلك إذا اجتمع قوم على قتل واحد ، فتولى بعضهم القتل ولم يتول بعض بعد أن كانوا في عون أولئك ، فإنهم يقتلون جميعا ، وعلى ذلك يخرج قول عمر ـ رضي الله عنه ـ حيث قال : «لو تمالأ عليه أهل صنعاء (٣) لقتلتهم» (٤) وأهل صنعاء إذا اجتمعوا لا سبيل للكل أن يتولوا قتله ، فدلّ أنه على العون والنصر لبعضهم بعضا فيتشاركون جميعا في القصاص على ما تشارك أولئك جميعا في العذاب : من تولى عقرها ومن لم يتول ، بعد أن كان ذلك العقر بمعونتهم ، وبتراضيهم (٥) على ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ).

إنما أخذهم العذاب لما استعجلوا منه العذاب ، وكذبوه فيما يوعدهم العذاب ويعدهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ).

العتو : هو النهاية في التمرّد (٦) ، والخلاف لأمره على العلم منهم بالخلاف لا على

__________________

(١) في أ : لذلك.

(٢) وهم أصحاب مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان كما تقدم في الجانب الدراسي.

(٣) وقال الهمداني في صفة الجزيرة : مدينة صنعاء هي أم اليمن وقطبها ؛ لأنها في الوسط فيها ، ما بينها وبين عدن كمثل ما بينها وبين حد اليمن من أرض نجد والحجاز ، وكان اسمها في الجاهلية أزال وتقول العرب :

لا بد من صنعا وإن طال السفر

وينسب إلى صنعاء صنعاني مثل بهراء وبهراني لأنهم رأوا النون أخف من الواو وخولان لا تنسب إليها إلا على بنية الأصل صنعاوي ، وكلهم يقول في ساكن الكدراء كدراوي ولا يقولون كدراني.

وصنعاء أقدم مدن الأرض ؛ لأن سام بن نوح الذي أسسها.

ينظر : مجموع بلدان اليمن (٣ / ٤٨٥).

(٤) أخرجه البيهقي في الكبرى (٨ / ٤٠ ـ ٤١) في كتاب : الجنايات ، باب : النفر يقتلون الرجل.

(٥) في ب : وتراضيهم.

(٦) العتو : أشد الفساد وأصله : النبو عن طاعة الآمر. يقال : عتا يعتو عتوا وعتيا. وقيل : العتو : المبالغة في ركوب المعاصي والتمرد فيها ، والعاتي : من اتصف بذلك فلم تنفع فيه موعظة ولم ينجع فيه إنذار. وقوله : (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) ، أي متجاوزة حدها الأول. وكل أمر شديد. ـ

٤٨٣

الغفلة والجهل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ).

قيل (١) : الزلزلة.

وقيل (٢) : الصيحة ، وقال في آية أخرى [فأخذتهم الصيحة](٣) [وقال فى آية أخرى] : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) [الذاريات : ٤٤] ، والقصة في ذلك كله واحد ، فجائز أن يكون ذلك واحدا ، وإن اختلفت ألفاظه ، وهو عبارة عن العذاب ، وجائز أن تكون الصيحة لما صيح بهم صعقوا جميعا فماتوا ، وهو واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ).

قيل (٤) : ميتين و [قيل](٥) لازقين بالأرض قد ماتوا وذهبوا ، ويقال : جثم الطائر (٦) : إذا لزق بالأرض ، يقال : أجثمته ، أي : ألزقته بالأرض ، والمجثمة (٧) يقال : طائر يشد جناحاه

__________________

ـ قوله : (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) أي حالة لا سبيل إلى إصلاحها بالنسبة لضعفي ومداواته إلى رياضته وهي الحالة المشار إليها بقول الشاعر :

ومن العناء رياضة الهرم

وقيل : عتيا : طويلا. يقال : ليل عات ، أي : طويل. وأنشد لجرير :

وحط المنقري بها فحطت

على أم القفا والليل عات

وكل من انتهى شبابه يقال فيه : عتا عتوّا وعتيّا وعتيّا ، بمعنى يبس جلده ، وهو كناية عن طول العمر لأن ذلك يلازمه.

ينظر : عمدة الحفاظ (٣ / ٣٦ ، ٣٧).

(١) انظر تفسير الخازن والبغوي (٢ / ٥٣٨).

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٥٣٩) (١٤٨٣٨) ، (١٤٨٣٩) ، (١٤٨٤١) عن مجاهد ، وفي (١٤٨٤٠) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٨٤) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٥٣٩) (١٤٨٤٢) عن ابن زيد ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٨٤) وعزاه لعبد ابن حميد عن قتادة.

(٥) سقط في أ.

(٦) الجثوم : البروك ، وأصله في الطائر ؛ يقال : جثم الطائر ، إذ قعد ولطئ بالأرض. وقيل : الجثوم في الناس والطير بمنزلة البروك في الإبل.

وجثمان الإنسان : شخصه قاعدا. ورجل جثمة وجثّامة كناية عن النئوم والكسلان والمجثمة : هي المصبورة ، أي : دابة تربط وتجعل عرضا. فقوله تعالى : (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) أي : باركين على ركبهم. وقيل : ملقى بعضهم فوق بعض. ينظر عمدة الحفاظ (١ / ٣٥٤).

(٧) المجثمة : ـ بفتح الجيم وتشديد الثاء المثلثة ـ هي التي تلقى على الأرض مربوطة وتترك حتى تموت روى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن الجلّالة وعن المجثمة وعن الخطفة.

ينظر : حياة الحيوان (٢ / ٣٨٠).

٤٨٤

ورجلاه ، ثم يوضع بالأرض ، ثم يرمي بالنبل حتى يموت ، يقال : جثمت الطائر ، أي : شددت رجليه وجناحيه.

يقال : جثم يجثم جثما : إذا فعل ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ).

أي : أعرض عنهم ، وخرج من بينهم حين علم أن العذاب ينزل بهم.

وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ، والنصيحة ما ذكرنا أن كل من دلّ آخر على ما به نجاته وسعى على دفع البلاء والهلاك (١) عنه ، فهو ناصح له ، فعلى ذلك صالح وغيره من الرسل قد دلوا قومهم على ما به نجاتهم ، وسعوا على دفع الهلاك عنهم ، لكنهم لم يقبلوا النصيحة منهم.

قوله تعالى : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)(٨٤)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ).

ذكر في غيره من الأنبياء دعاءهم قومهم إلى عبادة الله ووحدانيته ، على ما قال نوح : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف : ٥٩] وكذلك قال هود ، وصالح ، وشعيب (٢) ، وغيرهم من الأنبياء ، ولم يذكر في لوط ذلك هاهنا ، ولا يحتمل أن لم يكن منه الدعاء إلى ما كان من غيره من الأنبياء إلى توحيد الله وعبادته قبل النهي عن

__________________

(١) في ب : الهلاك والبلاء.

(٢) هو شعيب بن ميكائيل بن تسخر بن مدين بن إبراهيم الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن قتيبة وجدة أم شعيب : بنت لوط صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال الثعلبي : وكان يقال لشعيب : خطيب الأنبياء ، وعمي في آخر عمره. قال قتادة : بعثه الله تعالى رسولا إلى أمتين (مدين) وأصحاب (الأيكة).

وعن ابن عباس ، أن شعيبا كان كثير الصلاة ، قالوا : فلما طال تمادى قومه في كفرهم وغيّهم وعنادهم بعد المعجزة ، وكثرة المراجعة ، وأيس من فلاحهم ، دعا الله تعالى عليهم فقال : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ)[الأعراف : ٨٩] فأجاب الله تعالى دعاءه ، وأهلكهم بالرّجفة ، وهي الزلزلة ، فأصبحوا في دارهم جاثمين هلكى ، وأهلك أصحاب (الأيكة) بعذاب الظلة.

قال السمعاني في (الأنساب) : قبر شعيب عليه‌السلام في (حطين) ، وهي قرية بساحل (الشام) قاله النووي ؛ وهذا الذي قاله السمعاني مشهور معروف عند أهل بلادنا ، وعلى قبره بناء ، وعليه وقف ويقصده النّاس من المواضع البعيدة للزيارة والتبرك ؛ وبالله التوفيق. ينظر : تهذيب الأسماء (١ / ٢٤٦).

٤٨٥

الفواحش ، والتعيير عليها ، وهو ما ذكر في آية أخرى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ...) [الشعراء : ١٦٠ ـ ١٦٣] لأنه (١) كان من الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ دعاء قومهم إلى عبادة الله ، ووحدانيته أولا ، ثم النهي عما ارتكبوا من الفواحش والمعاصي ، والتعيير عليها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) قوله : (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ) يحتمل أن يكون منهم ما كان من سائر الأقوام تقليد الآباء في العبادة لغير الله ؛ كقولهم : (أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) [الأعراف : ٧٠] وقولهم : (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٢] و (مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] وقوله : (بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) [الشعراء : ٧٤] ونحو ما قالوا ؛ فعلى ذلك من قوم لوط للوط لما دعاهم إلى عبادة الله ، ووحدانيته ، فأجابوه بما أجاب الأقوام لأنبيائهم من التقليد لآبائهم ؛ فقال : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) ، أي : تعملون أنتم أعمالا لم يعملها آباؤكم ، ولا تقلدون آباءكم في تركها من نحو ما ذكر من إتيان الفاحشة ، فقال : (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) يعيرهم ، ويسفه أحلامهم في إتيان ما يأتون من الفاحشة التي لم يسبقهم أحد من العالمين ، على علم منهم أن ذلك فاحشة.

ألا ترى أنهم قالوا : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) دل هذا القول على أن ما يأتون من الفواحش يأتون على علم منهم أنها فواحش ؛ حيث قالوا : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ).

ثم قوله : (الْفاحِشَةَ) لما في العقل والشرع ؛ لأن ما حرم من المحرمات على الخلق ، وأحل (٢) المحللات [محنة](٣) منه لهم على ذلك ، ثم جعل فيما أحل لهم من الأطعمة (٤)

__________________

(١) في أ : الآية.

(٢) في أ : أهل.

(٣) سقط في أ.

(٤) أطعمة جمع مفرده طعام والطعام : مصدر ، فعله طعم.

يقال : طعم يطعم طعما وطعاما إذا شبع ، ويقال : طعم الشيء وطعم من الشيء ، إذا أكله بمقدم فمه وثناياه.

ويقال : طعم الشيء : إذا ذاقه ، ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى : (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي)[البقرة : ٢٤٩].

والطعام : اسم يطلق على كل ما يؤكل وما به قوام البدن ، كما يطلق على كل ما يتخذ منه القوت من الحنطة والشعير والتمر.

ويطلقه أهل الحجاز والعراق الأقدمون على القمح خاصة ، والطعام : اسم لما نضب عنه البحر فنبت ومن ذلك قول الله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ)[المائدة : ٩٦] وطعام البحر ما نضب عنه الماء من السمك فأخذ من غير صيد.

هذا لغة ، ويستعمل الفقهاء كلمة «طعام» بمعان مختلفة تبعا لاختلاف موطنها ، فيستعملون الطعام ـ

٤٨٦

والأشربة (١) والاستمتاع (٢) بالنساء والجواري دواما لهذا العالم ؛ لأنهم لو تركوا التناول من ذلك لهلكوا ، فإذا هلكوا انقطع هذا العالم لما ينقطع نسلهم ، ثم ركب فيهم الشهوات (٣)

__________________

ـ في الكفارة والفدية ويقصدون به «القوت» كالحنطة والذرة والأرز والتمر واللبن.

ويستعملون الطعام في الربا ويقصدون به «مطعوم الآدميين» الذي يشمل ما يطعم للتغذية كالقمح والماء وما يطعم للتأدم كالزيت. وما يطعم للتفكه كالتفاح ، وما يطعم للتداوي والإصلاح كالحبة السوداء والملح.

وقد يطلقون لفظ الأطعمة على كل ما يؤكل وما يشرب مما ليس بمسكر ، ويقصدون من ذلك ما يمكن أكله أو شربه على سبيل التوسع ولو كان مما لا يستساغ ولا يتناول عادة كالمسك وقشر البيض.

أما المسكرات فإنهم يعبرون عنها بلفظ الأشربة.

ينظر : لسان العرب (طعم) ، وتبيين الحقائق (١ / ٣٢٧) ، وكشاف القناع (٤ / ١١٢).

(١) جاء في تعريفات الجرجاني : «الأشربة جمع شراب ، وهو ـ في اللغة ـ كل مائع رقيق يشرب ولا يتأتى فيه المضغ ، حلالا كان أو حراما».

والأشربة في اصطلاح الفقهاء يراد بها الأشربة المحرمة سواء أكان تحريمها محل اتفاق أو اختلاف من المائعات المحرمة.

والشراب عندهم يشمل ما اتفق على حرمته ؛ ولذا قال بعض العلماء : المتبادر من الشراب في عرف الفقهاء ما حرم أو اختلف في حرمته بشرط كونه مسكرا.

ينظر : التعريفات للجرجاني ص (١٧) ، وكشاف اصطلاحات الفنون (١ / ٧٣٢).

(٢) استمتاع : مصدر فعله استمتع المزيد ـ بالهمزة والسين والتاء ـ والسين والتاء تزادان على الفعل لأغراض من أهمها : إفادة المعالجة والطلب ، فالمستمتع طالب للمتعة قاصد إليها ، فمادته الأصلية متع.

وقد جاء في القاموس المحيط أنه يقال : متع الرجل بالشيء متعا ومتعة ـ بالضم ـ إذا ذهب به.

والمتعة بالضم والكسر ـ : اسم للتمتيع كالمتاع ، وأن تتزوج امرأة تتمتع بها أياما ثم تخلي سبيلها ، وأن تضم عمرة إلى حجك. وقد تمتعت واستمتعت ، ومتعة المرأة : ما وصلت به بعد الطلاق وقد متّعها تمتيعا.

وجاء في مختار الصحاح : أنه يقال : قد متع الرجل بالشيء أي : انتفع به من باب قطع ، والمتاع : المنفعة والسلعة والأداة وما تمتعت به من الحوائج قال الله تعالى : (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ) ويقال : أمتعه الله بكذا أبقاه وأنسأه إلى أن ينتهي شبابه كمتعه ، وأمتع بماله وتمتع به واستمتع به بمعنى ، والاسم المتعة ومنه متعة النكاح ، والطلاق والحج ؛ لأنها انتفاع.

ينظر : القاموس المحيط (متع) ، ومختار الصحاح (متع) ، والمعجم الوسيط (متع).

تابع ص ٢٢١

(٣) جمع شهوة ، والشهوة لغة : اشتياق النفس إلى الشيء ، والجمع : شهوات. وشيء شهي ، مثل لذيذ ، وزنا ومعنى.

واشتهاه وتشهاه : أحبه ورغب فيه.

وفي الاصطلاح : توقان النفس إلى المستلذات.

وقال القرطبي : الشهوات عبارة عما يوافق الإنسان ويشتهيه ويلائمه ولا يتقيه.

وفي إعطاء النفس حظها من الشهوات المباحة مذاهب ، حكاها الماوردي :

أحدها : منعها وقهرها ؛ كيلا تطغى. ـ

٤٨٧

والحاجات التي تبعثهم على التناول مما (١) أحل لهم ليدوم هذا العالم ؛ لأنه [ما] أحل (٢) لهم للشهوة خاصة ، ولكن لما ذكرنا فأخبر أن ما يأتون هم هو فاحشة ؛ لما ليس إتيانهم إياها (٣) إلا لنفس قضاء الشهوة ، إذ ليس في ذلك دوام العالم وبقاؤه ، فهو في العقل فاحش محرم ، وإن لم يرد فيه النهي (٤) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) الإسراف : هو الإكثار من الشيء ، والمجاوزة عن الحدّ ؛ كقوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان : ٦٧] القتر (٥) : هو التضييق ، والإسراف : هو الإكثار ، حيث قال :

__________________

ـ والثاني : إعطاؤها ؛ تحيلا على نشاطها وبعثا لروحانيتها.

والثالث : قال ـ وهو الأشبه ـ : التوسط ؛ لأن في إعطاء الكل سلاطة ، وفي المنع بلادة.

ينظر : القاموس المحيط (شهو) والمصباح المنير (شهو) ، وكشاف اصطلاحات الفنون (٣ / ٧٨٨) ، وتفسير القرطبي (١١ / ١٢٥) ، وعميرة على شرح المنهاج (٤ / ٢٦٤) ، ونهاية المحتاج (٨ / ١٥٤) ، وحاشية الجمل (٥ / ٢٧٩).

(١) في أ : ما.

(٢) في أ : أهل.

(٣) في أ : آباءهم.

(٤) اللواطة ليست أقل ضررا من الزنى ، وربما كانت أكثر ضررا منه ؛ فهي ليس فيها اختلاط الأنساب ، ولكن فيها قطع الأنساب رأسا ؛ فهي أبلغ في الضرر ، وينقص النسل بمقدار اعتماد الناس على هذا الأمر الفظيع.

ومرتكب اللواط إن كان متزوجا فسد ما بينه وبين زوجه وساءت حال أولاده.

وإن الزوجة لتغار من هذا الأمر أضعاف ما تغاره لو كان زوجها معاشرا لأخرى.

وحالة اللائط الصحية مرذولة أكثر من الزاني ، فنجده دائما مصفر اللون ضعيف البنية ، وقلما يخلو من أمراض الزهري والسيلان ، وحالته المالية أسوأ وأسوأ ؛ فهو عنوان الفقر والبؤس والشقاء ، وحالته بين الناس لا تحتاج إلى بيان فهو محتقر في أعين الناس ، والزاني ليس محتقرا بالنسبة إليه ، واللائط قذر باعتبار وظيفته.

فالرجل العادي يستقذر أن يرى من يمتخط أو يبصق ، ولكن هذا الرجل لا يبالي بما هو أقذر من ذلك.

ولقد سئل بعضهم : لما ذا لا تأتون الذكران؟

فقال : إني لأكره العذرة وهي ملقاة على الأرض ، فكيف ألج عليها في وكرها؟!

والمفعول به يحيق به ما حاق بالفاعل بل هو أذل نفسا ، وأرذل قدرا وأوسخ عرضا.

وكيف لا يسخر منه الناس وقد رضي وظيفة المرأة وظيفة له ، فهو يفترش كما تفترش المرأة؟!

وقديما كان ملوك حمير يأتون من يطمع في الملك ؛ حتى لا يكون له من الشهامة ما يطمعه في الملك.

ومجمل القول هو أن الزواج هو الحصن الحصين من الوقوع في مهاوي الرذيلة ، فإن لم يتيسر فالصوم أعظم وقاية ، وبذلك يكون المسلم قد حفظ نفسه ، وأمته.

ينظر حد الزنى ، ليوسف البرديسي.

(٥) القتر : التضييق ؛ يقال : قترت الشيء وأقترته وقترته ، أي : ضيقت الإنفاق فيه. ورجل قتور ومقتر. ـ

٤٨٨

(وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان : ٦٧] فإذا كان الإسراف هو الإكثار من الشيء ، فكأن لوطا سماهم مسرفين لما أكثروا من ذلك النوع من الفواحش ، وجاوزوا الحد ، والله أعلم.

ويحتمل قوله : (قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) وجوها ثلاثة :

أحدها : ما ذكرنا من إكثار الفعل.

والثاني : مسرفون ؛ لما ضيعوا ما أنعم الله عليهم ؛ حيث أعطى لهم الأزواج فضلا منه ونعمة ، حيث أخبر : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) [الروم : ٢١] وكقوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) [النحل : ٧٢] ونحوه [منّ جلّ وعلا بما](١) جعل لهم من الأزواج ، ثم هم لم يشكروه على ما أنعم عليهم ، بل ضيعوها ، وجعلوها في غير ما جعل هو لهم ، فذلك إسراف منهم.

والثالث : الإسراف : هو المجاوزة عن الحد الذي جعل لهم ، فهم قد جاوزوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ).

قوله : (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا).

كذا كان من قومه أجوبة ليس على أنه لم يكن منهم من أول الأمر إلى آخره هذا ، ولكن لم يكن من جواب قومه وقت ما نهاهم عما ارتكبوا من الفواحش وعيّرهم عليها إلا ما ذكر : (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) لما ينهاهم ويعيرهم على ذلك ، ويحتمل ما قال أهل التأويل (٢) : (يَتَطَهَّرُونَ) : من أدبار الرجال (٣).

__________________

ـ و «قتور» صيغة مبالغة ؛ قال تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) [الإسراء : ١٠٠] وفيه تنبيه على ما جبل عليه الإنسان من البخل ، وعليه قوله تعالى : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) [النساء : ١٢٨].

وقوله تعالى : (وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ)[البقرة : ٢٣٦] أي : وعلى الفقير الذي ضيق عليه رزقه ، كقوله : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ)[الطلاق : ٧] قيل : وأصل ذلك من القتار ، وهو الدخان من الشواء والعود ، فكأن المقتر والمقتّر هو المتناول من الشيء قتاره ، وأصله : التضييق في النفقة.

ينظر عمدة الحفاظ (٣ / ٣١٨).

(١) في أ : ما.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٥٤١) (١٤٨٤٧) عن ابن عباس ، وفي (١٤٨٤٤ ، ١٤٨٤٥ ، ١٤٨٤٦) عن مجاهد ، وانظر الدر المنثور (٣ / ١٨٦).

(٣) اتفق الفقهاء على تحريم الإتيان في دبر الرجال ، وهو ما يسمى باللواط ، وقد ذمه الله تعالى في كتابه المجيد ، وعاب من فعله ، فقال :

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) [الأعراف : ٨٠ ـ ٨١]. وقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لعن الله من عمل عمل قوم لوط» ثلاثا. ـ

٤٨٩

وقيل (١) : يتحرجون عن ذلك ، ويعيبون عليهم ، في ذلك.

والثاني : ما كان جواب قومه لبعضهم إلا أن قالوا أخرجوهم وأما للوط كان منهم له أجوبة (٢) ؛ كقوله : (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا) كذا ، وقال في آية أخرى : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ) [العنكبوت : ٢٩] ، هذا فيما بينهم وبين لوط ؛ [و] الأول فيما بينهم قال بعضهم لبعض : (أَخْرِجُوهُمْ) ، أو لاختلاف المشاهد والمجالس.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ).

الغابر : الغائب ، يقال : غبرت ، أي : غبت (٣) ، أي : كانت من الغائبين عن لوط وأهله وقت العذاب.

وقيل (٤) : من الغابرين ، أي : من الباقين في العذاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً).

اختلف فيه ؛ قال بعضهم (٥) : قلبت قرية (٦) لوط ، وجعل عاليها سافلها على ما ذكر في الآية (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) [الحجر : ٧٤] ، ثم أمطر على من كان غاب منهم (٧) الحجارة.

وقال بعضهم : قلبت القرية (٨) فأمطرت على أهلها كالمطر.

وقال آخرون (٩) : قلبت الأرض وأمطر عليها حجارة من سجيل تسوى الأرض ، أو كلام نحو هذا.

ثم العذاب في الأمم لم يأتهم في الدنيا بنفس الكفر ، ولكن لما كان منهم من استحلال أشياء حرمت (١٠) عليهم ، ومن قتل الأنبياء ، وأذاهم ، والمكابرات التي كانت (١١) منهم

__________________

ـ ينظر : ابن عابدين (٣ / ١٥٥ ، ١٥٦) ، جواهر الإكليل (٣ / ٢٨٣ ، ٢٨٥) ، حاشية القليوبي (٤ / ١٢٤ ، ١٧٩) المغني (٨ / ١٨٧) كشاف القناع (٦ / ٩٤).

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٥٤١) (١٤٨٤٨) عن السدي.

(٢) في أ : عنهم لأجوبة.

(٣) في أ : غيبت.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٥٤٢) (١٤٨٥٠) عن قتادة ، والبغوي في تفسيره (٢ / ١٨٠).

(٥) انظر تفسير الخازن والبغوي (٢ / ٥٤٧).

(٦) في أ : قريات.

(٧) في أ : عنهم.

(٨) في أ : القريات.

(٩) انظر البحر المحيط لأبي حيان (٤ / ٣٣٨).

(١٠) في ب : حرم.

(١١) في أ : كان.

٤٩٠

بعد علمهم أنهم على باطل وعناد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ).

هذا الخطاب جائز أنه ليس لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصّة ، ولكن لكل أحد أمر بالنظر فيما حل بالأمم السالفة ؛ بتكذيبهم الرسل ، وعنادهم ؛ ليكونوا على حذر من صنيعهم ، لئلا يحل بهم ما حل بأولئك.

وجائز أن يكون الخطاب لرسوله خاصّة ، فإن كان له فكأنه أمره أن ينظر في عاقبة المجرمين ليرحمهم ، ولا يدعو عليهم بالهلاك والعذاب.

قوله تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ)(٩٣)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً).

هو ما ذكرنا فيما تقدم ، أي : أرسلنا شعيبا إلى مدين رسولا.

وقوله : (أَخاهُمْ) قد ذكرنا فيما تقدم الأخوة وأنها تكون لوجوه : أخوة النسب ، وأخوة الجوهر ، وأخوة المودة والخلة (١) ، وأخوة الدين ، فلا تحتمل أخوة الأنبياء أولئك أخوة الدين والمودة ، لكن تحتمل أخوة الجوهر والنسب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ).

__________________

(١) في ب : وأخوة الخلة والمودة.

٤٩١

قد ذكرنا ـ أيضا ـ أن الرسل إنما جاءوا ، وبعثوا بالدعاء إلى توحيد الله ، والعبادة له ، وأن لا معبود يستحق العبادة سواه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).

قال بعضهم : كانت نفس شعيب بينة وحجة لقومه لكنا لا نعلم ذلك ، غير أنا نعلم أنه كانت معه آيات وبراهين ، لكن الله لم يبين لنا ذلك ، ونفس محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت حجة وبينة بالأعلام التي جعلت له في نفسه ؛ من ذلك الختم الذي كان بين كتفيه (١) ، والنور الذي

__________________

(١) اختلف في صفة خاتم النبوة على أقوال كثيرة متقاربة المعنى.

أحدها : أنه مثل زرّ الحجلة.

روى الشيخان عن السائب بن يزيد ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : قمت خلف ظهر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة.

الثاني : أنه كالجمع. روى مسلم عن عبد الله بن سرجس ـ بفتح المهملة وسكون الراء وكسر الجيم بعدها مهملة ـ رضي الله تعالى عنه ، قال : نظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند نغض كتفه اليسرى جمعا عليه خيلان كأمثال الثآليل.

الثالث : أنه كبيضة الحمامة.

روى مسلم والبيهقي عن جابر بن سمرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : رأيت خاتم النبوة بين كتفي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مثل بيضة الحمامة يشبه جسده.

وروى أبو الحسن بن الضحاك عن سلمان ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : رأيت الخاتم بين كتفي النبي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مثل بيضة الحمامة.

الرابع : أنه شعر مجتمع.

روى الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححه وأبو يعلى والطبراني من طريق علباء ـ بكسر المهملة وسكون اللام بعدها موحدة ـ ابن أحمر ـ بحاء مهملة وآخره راء ـ عن أبي يزيد عمرو ابن أخطب ، بالخاء المعجمة ، الأنصاري ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «ادن فامسح ظهري». فدنوت ومسحت ظهره ، ووضعت أصابعي على الخاتم. فقيل له : ما الخاتم؟ قال : شعر مجتمع عند كتفه.

ورواه أبو سعيد النيسابوري بلفظ : شعرات سود.

الخامس : أنه كالسلعة.

روى الإمام أحمد وابن سعد والبيهقي من طرق عن أبي رمثة ـ بكسر الراء وسكون الميم فثاء مثلثة ـ رضي الله تعالى عنه ، قال : انطلقت مع أبي إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فنظرت إلى مثل السّلعة بين كتفيه.

السادس : أنه بضعة ناشزة.

روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : الخاتم الذي بين كتفي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بضعة ناشزة.

وفي لفظ عند البخاري في التاريخ والبيهقي : لحمة ناتئة. ولأحمد : لحم ناشز بين كتفيه.

السابع : أنه مثل البندقة.

روى ابن حبان في صحيحه من طريق إسحاق بن إبراهيم قاضي سمرقند : حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال : كان خاتم النبوة على ظهر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مثل البندقة من لحم ، مكتوب فيها : محمد رسول الله. ـ

٤٩٢

__________________

ـ قال الحافظ أبو الحسن الهيثمي في «موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان» بعد أن أورد الحديث : اختلط على بعض الرواة خاتم النبوة بالخاتم الذي كان يختم به الكتب. انتهى.

وبخط تلميذه الحافظ على الهامش : البعض المذكور هو إسحاق بن إبراهيم قاضي سمرقند.

وهو ضعيف.

وذكر الحافظ ابن كثير نحو ما قال الهيثمي.

الثامن : أنه مثل التفاحة.

روى الترمذي عن أبي موسى ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : كان خاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مثل التفاحة.

التاسع : أنه كأثر المحجم.

روى الإمام أحمد والبيهقي عن التنوخي ـ رضي الله تعالى عنه ـ رسول هرقل ـ رضي الله في حديثه الطويل قال : فإذا أنا بخاتم في موضع غضروف الكتف مثل المحجمة الضخمة.

العاشر : أنه كشامة سوداء تضرب إلى الصفرة.

روي عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ قالت : كان خاتم النبوة كشامة سوداء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متراكبات كأنها عرف الفرس ، رواه أبو بكر بن أبي خيثمة من طريق صبح بن عبد الله الفرغاني : حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد.

الحادي عشر : أنه كشامة خضراء محتضرة في اللحم ، قليلا.

نقله ابن أبي خيثمة في تاريخه عن بعضهم.

الثاني عشر : أنه كركبة عنز.

روى الطبراني وأبو نعيم في المعرفة عن عباد بن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : كان خاتم النبوة على طرف كتف النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الأيسر كأنه ركبة عنز ، وكان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يكره أن يرى الخاتم.

سنده ضعيف.

الثالث عشر : أنه كبيضة حمامة مكتوب في باطنها : الله وحده لا شريك له. وفي ظاهره : توجه حيث شئت فإنك منصور.

رواه الحكيم الترمذي وأبو نعيم ، قال في المورد : وهو حديث باطل.

الرابع عشر : أنه كنور يتلألأ.

رواه ابن عائذ بعين مهملة ومثناة تحتية وذال معجمة.

الخامس عشر : أنه ثلاث شعرات مجتمعات.

ذكره أبو عبد الله محمد القضاعي ـ بضم القاف وبضاد معجمة وعين مهملة ـ رحمه‌الله تعالى في تاريخه.

السادس عشر : أنه عذرة كعذرة الحمامة. قال أبو أيوب : يعني قرطمة الحمامة.

رواه ابن أبي عاصم في سيرته.

السابع عشر : أنه كتينة صغيرة تضرب إلى الدهمة.

روي ذلك عن عائشة ، رضي الله عنها.

الثامن عشر : أنه كشيء يختم به.

روى ابن أبي شيبة عن عمرو بن أخطب أبي زيد الأنصاري ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : رأيت الخاتم على ظهر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال هكذا بظفره. كأنه يختم.

التاسع عشر : أنه كان بين كتفيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كدارة القمر ، مكتوب فيها سطران : ـ

٤٩٣

كان في وجه من كان في صلبه وقت كونه فيه ، والضوء الذي روي أنه كان وقت

__________________

ـ السطر الأول : لا إله إلا الله. وفي السطر الأسفل : محمد رسول الله. رواه أبو الدحداح أحمد بن إسماعيل الدمشقي ـ رحمه‌الله تعالى ـ في الجزء الأول من سيرته. قال في «المورد» و «الغرر» : وهو باطل بين البطلان.

العشرون : أنه كبيضة نعامة. روى ابن حبان في صحيحه عن جابر بن سمرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : رأيت خاتم النبوة بين كتفيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كبيضة النعامة يشبه جسده.

قال الحافظ أبو الحسن الهيثمي في موارد الظمآن : روي هذا في حديث الصحيح في صفته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولفظه : «مثل بيضة الحمامة» ، وهو الصواب.

قال الحافظ : تبين من رواية مسلم «كركبة عنز» أن رواية ابن حبان غلط من بعض الرواة.

قال صاحب سبل الهدى : ورأيت في إتحاف المهرة للحافظ شهاب الدين البوصيري ـ رحمه‌الله تعالى ـ بخطه : كركبة البعير. وبيض لاسم الصحابي ، وعزاه لمسند أبي يعلى وهو وهم من بعض رواته كأنه تصحف عليه «كركبة عنز» ب «ركبة بعير».

ثم رأيت ابن عساكر روى الحديث في تاريخه من طريق أبي يعلى ، وسمى الصحابي : عباد بن عمرو.

وقال الحافظ في الإصابة : في سنده من لا يعرف. قال الشامي الصالحي : وقد تقدم عنه في الثاني عشر أنه كركبة عنز. ولم أظفر به في مجمع الزوائد للهيثمي.

الحادي والعشرون : أنه غدة حمراء.

روى أبو الحسن بن الضحاك عن جابر بن سمرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : كان خاتم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ غدة حمراء مثل بيضة الحمامة.

واختلف في موضع الخاتم من جسده ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

ففي صحيح مسلم : أنه عند نغض كتفه الأيسر.

وفي رواية شاذة عن سلمان : أنه عند غضروف كتفه اليمنى.

قال الشامي عزا هذه الرواية السيوطي في الخصائص الكبرى والسخاوي في جمع طرق قصة سلمان من رواية أبي قرة الكندي عنه ، لدلائل البيهقي ، ولم أر ذلك في نسختين منها ، لا في الكلام على خاتم النبوة ولا في قصة سلمان ، فكأنه في موضع آخر غيرهما.

الثاني : قال العلماء : هذه الروايات متقاربة في المعنى ، وليس ذلك باختلاف ، بل كل راو شبه بما سنح له ، فواحد قال : كزر الحجلة ، وهو بيض الطائر المعروف أو أزرار البشخاناه. وآخر : كبيضة الحمامة. وآخر كالتفاحة ، وآخر بضعة لحم ناشزة. وآخر لحمة ناتئة. وآخر : كالمحجمة. وآخر : كركبة العنز. وكلها ألفاظ مؤداها واحد وهو قطعة لحم.

ومن قال : شعر ؛ فلأن الشعر حوله متراكب عليه كما في الرواية الأخرى.

قال أبو العباس القرطبي في «المفهم» : دلت الأحاديث الثابتة على أن خاتم النبوة كان شيئا بارزا أحمر عند كتفه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الأيسر ، إذا قلل قدر بيضة الحمامة ، وإذا كبر قدر جمع اليد.

وذكر نحوه القاضي ، وزاد : وأما رواية جمع اليد فظاهرها المخالفة ، فتتأول على وفق الروايات الكثيرة ، ويكون معناها : على هيئة جمع الكف ، لكنه أصغر منه في قدر بيضة الحمامة.

الثالث : قال السهيلي ـ رحمه‌الله تعالى ـ : والحكمة في كون الخاتم عند نغض كتفه الأيسر أنه معصوم من وسوسة الشيطان ، وذلك الموضع منه يوسوس لابن آدم.

قال الشامي : روى أبو عمر بسند قوي عن عمر بن عبد العزيز ـ رحمه‌الله تعالى ـ أن رجلا سأل ربه أن يريه موضع الشيطان من ابن آدم ، فأري جسدا ممهى يرى داخله من خارجه ، ورأى ـ

٤٩٤

ولادته (١) ، والغمام الذي أظله وقت غيبته عن أهله ، وحفظه نفسه عن جميع ما كان يتعاطاه قومه من عبادتهم الأصنام وتعاطيهم الفواحش ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بريئا من ذلك كله ،

__________________

ـ الشيطان في صورة ضفدع عند كتفه حذاء قلبه له خرطوم كخرطوم البعوضة ، وقد أدخله في منكبه الأيسر إلى قلبه يوسوس إليه ، فإذا ذكر الله تعالى العبد خنس.

قال السهيلي : والحكمة في وضع خاتم النبوة على جهة الاعتبار أنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما ملئ قلبه إيمانا ختم عليه كما يختم على الوعاء المملوء مسكا أو درا ، فجمع الله تعالى أجزاء النبوة لسيدنا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتممه وختم عليه بختمه ، فلم تجد نفسه ولا عدوه سبيلا إليه من أجل ذلك الختم ؛ لأن الشيء المختوم محروس ، وكذلك تدبير الله تعالى لنا في هذه الدار ، إذا وجد أحدنا الشيء بختمه زال الشك وانقطع الخصام فيما بين الآدميين ؛ فلذلك ختم رب العالمين في قلبه ختما يطمئن له القلب ، وألقى فيه النور ونفذت قوة القلب فظهر بين كتفيه كالبيضة.

الرابع : قال الحافظ : مقتضى الأحاديث أن الخاتم لم يكن موجودا عند ولادته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وإنما وضع لما شق صدره عند حليمة ، وفيه تعقب على من زعم أنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولد به ، وهو قول نقله أبو الفتح بلفظ : قيل : ولد به ، وقيل : حين وضع. ونقله مغلطاي عن ابن عائذ.

قال الحافظ : وما تقدم أثبت.

قال الشامي : وصححه في «الغرر».

ومقتضى أحاديث الختم أنه تكرر ثلاث مرات :

الأولى : وهو في بلاد بني سعد.

والثاني : عند المبعث.

والثالثة : ليلة الإسراء.

ينظر : سبل الهدى والرشاد (٢ / ٦٣ ـ ٧٠) والخصائص الكبرى (١ / ١٤٧) ودلائل النبوة للبيهقي (١ / ٢١٢ ـ ٢١٤) وشرح شمائل الترمذي (١ / ٧١) والروض الأنف (١ / ١٠٩).

(١) عن أبي العجفاء ـ رحمه‌الله تعالى ـ مرسلا قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «رأت أمي حين وضعتني سطع منها نور فضاءت له قصور بصرى».

وعن عثمان بن أبي العاص ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليلة ولدته ، قالت : فما شيء انظر إليه من البيت إلا نورا ، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول : ليقعن عليّ ، فلما وضعته خرج منها نور أضاء له البيت والدار حتى جعلت لا أرى إلا نورا.

وعن العرباض بن سارية ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «إني عند الله لخاتم النبيين ...» الحديث ، وفيه : «رؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يرين ، وإن أم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رأت حين وضعته نورا أضاءت له قصور الشام».

وروى الإمام أحمد وابن سعد بسند حسن عن أبي أمامة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قلت : يا رسول الله ، ما كان بدء أمرك؟ قال : «دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى بن مريم ، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام».

وفي خروج هذا النور معه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين وضعته إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض وزال به ظلمة الشرك منها. كما قال الله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)[المائدة : ١٦].

قال الإمام أبو شامة ـ رحمه‌الله تعالى ـ : وقد كان هذا النور الذي ظهر وقت ولادته ـ صلى الله ـ

٤٩٥

ولم يؤخذ عليه كذب قط ، وقد كان نشأ بين أظهرهم ، وغير ذلك من الأعلام التي كانت في نفسه ظاهرة لقومه ، فلو لم يكن له آيات غيرها ، لكانت واحدة منها كافية لمن لم يكابر ، فكيف وقد كانت له آيات حسّية وعقلية سوى ما ذكرنا تقهر المنصفين على قبولها!

ويحتمل قوله : (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : حجة على أنه رسول أو على توحيد الله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) وذكر في هود في قصته : (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) [هود : ٨٥] ، وليس في قوله : (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) أنهم كانوا لا يوفون [ولكن فيما ذكر](١) في سورة هود.

(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ).

ودل قوله : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أن الأشياء ملك لهم ، وإن كانت في قبض أولئك ، وفي أيديهم ، ثم يحتمل الأمر بإيفاء (٢) الكيل والميزان وجوها :

أحدها : لما كانوا أمناء ؛ لئلا تذهب عنهم تلك الأمانة التي كانت لهم في قومه.

والثاني : لئلا يظلموا الناس في منع حقوقهم وأموالهم.

والثالث : للربا ، كأن ما منعوا منه من الكيل والوزن ربا لهم ، يدل على ذلك قوله : (بِالْقِسْطِ) [هود : ٨٥] ذكر العدل ، فلو كان يجوز تلك الزيادة والنقصان إذا طابت أنفسهم بالزيادة والنقصان ، لكان لا معنى لذكر القسط فيه ؛ لأن من زاد آخر على حقه لم يمنع عن ذلك ، ولم يذم ، دل النهي عن ذلك على أنه للربا ما منعوا [عن ذلك](٣) والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها).

أي : بعد أن جعلها لكم صالحة لمعاشكم ومقامكم فيها ، أو بعد ما أمر وبين لكم ما به صلاحكم وصلاح دينكم ، أو بعد ما أرسل من الرسل ما بهم صلاح الأرض وأهلها.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ).

__________________

ـ عليه وسلم ـ قد اشتهر في قريش وكثر ذكره فيهم ، وإلى ذلك أشار عمه العباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ حيث قال في حقه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وزاده شرفا وفضلا ـ :

وأنت لما ولدت أشرقت ال

أرض وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضّياء وفي الن

نور وسبل الرشاد نخترق

ينظر : سبل الهدى والرشاد (١ / ٤١١ ـ ٤١٣).

(١) سقط في أ.

(٢) الإيفاء لغة : هو أخذ صاحب الحق حقه كاملا دون أن يترك منه شيئا.

ينظر : القاموس المحيط ولسان العرب [وفي].

(٣) سقط في أ.

٤٩٦

قال بعض أهل التأويل : قوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) ، أي : وفاء الكيل والميزان خير لكم من النقصان ؛ لما ينمو ذلك الباقي ويزداد ، فذلك خير لكم من النقصان الذي تمنعون ، فلا ينمو شيئا ، وهو كقوله : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) [هود : ٨٦].

ويحتمل : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، أي : أمنكم في الآخرة خير لكم من نقصان الكيل والميزان في الدنيا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ).

يحتمل ما قاله أهل التأويل : إن كبراء أهل الشرك ورؤساءهم كانوا يقعدون في الطرق أناسا يصدون الذين يأتون شعيبا للإيمان من الآفاق (١) والنواحي (٢) ، ويكون [معنى](٣) قوله : (مَنْ آمَنَ بِهِ) على هذا التأويل ، أي : من أراد أن يؤمن به.

ويحتمل قوله : (وَلا تَقْعُدُوا) ليس على القعود نفسه ، ولكن على المنع من إقامة الشرائع التي شرع الله لشعيب ؛ كقول إبليس : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف : ١٦] ، ليس هو على القعود نفسه ، ولكن على المنع ؛ يمنعهم عن صراطه المستقيم ، فعلى [ذلك](٤) قوله : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) كانوا يمنعون من آمن به عن إقامة الشرائع (٥) والعبادات التي دعوا إلى إقامتها ، ويوعدون على ذلك

__________________

(١) أي : النواحي ، جمع : أفق ، نحو : عنق وأعناق. وقيل : الواحد : إفق ، نحو : حمل وأحمال. قال :

تهمى تصب أفقا من بارق تشم

يروى : أفقا ، وإفقا ، والبيت على القلب أصله : تهمي تصب بارقا من أفق ، أي : من أي جهة وناحية ، والنسب إليه : أفقي.

والآفق : الذاهب في الآفاق ، وبه شبه الذي بلغ النهاية في الكرم ، فقيل له : آفق ؛ لأنه ذهب في آفاق الكرم. والآفاقي : هو الضارب في الآفاق للتكسب.

والإفك : صرف الشيء عما يحق أن يكون عليه. قال تعالى : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)[فاطر : ٣] أي : تصرفون عن وجه الصواب. ومنه قيل للرياح العادلة عن مهابها : مؤتفكات ، أي : مصروفات عن مهابها. وقال الشاعر :

إن تك عن أحسن المروءة مأ

فوكا ففي آخرين قد أفكوا

ورجل مأفوك ، أي : مصروف العقل.

وقوله : (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ)[الذاريات : ٩] أي يصرف عن الحق من صرف في سابق علم الله تعالى.

ينظر : عمدة الحفاظ (١ / ١٠٦ ، ١٠٧) ، والنهاية (١ / ٥٦).

(٢) الناحية : الجانب والجهة. ينظر المعجم الوسيط (٢ / ٩٠٨).

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

(٥) الشريعة في اللغة : الطريق الموصلة إلى الماء والمورد العذب الذي ترده الشاربة ويستقى منه إذا كان ـ

٤٩٧

ويخوفونهم ؛ فعلى هذا التأويل يكون معنى قوله : (مَنْ آمَنَ بِهِ) على وجود الإيمان ،

__________________

ـ عدّا لا ينقطع سهل التناول. يقال : شرع إبله إذا أوردها شريعة الماء فشربت ولم يستق لها. وفي المثل : أهون السقي التشريع ، أي : أسهل السقي الذي لا يحتاج إلى كلفة لإخراج الماء هو التشريع.

قال في لسان العرب : والشّرعة والشريعة في كلام العرب : مشرعة الماء ، وهي مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها ويستقون ، وربما شرعوها دوابهم حتى تشرعها وتشرب منها ، والعرب لا تسميها شريعة حتى يكون الماء عدّا لا انقطاع له ، ويكون ظاهرا معينا لا يسقى بالرّشا ، وإذا كان من السماء والأمطار فهو الكرع.

وفي اللسان أيضا قال : والشريعة والشراع والمشرعة : المواضع التي ينحدر إلى الماء منها. قال الليث وبها سمي ما شرع الله للعباد : شريعة ، من الصوم والصلاة والحج والنكاح وغيره.

والشرعة ـ بالكسر ـ بمعنى : الشريعة ، كما في الآية الكريمة : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً)[المائدة : ٤٨] والمنهاج في الآية قيل : هو بمعنى الشرعة ، وقيل : الشريعة : ابتداء الطريق ، والمنهاج : الطريق المستمر.

ونقل ابن كثير في تفسير الآية عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً) قال : سبيلا (وَمِنْهاجاً) قال : سنة.

والأقرب : أن الشرعة غير المنهاج كما روي عن ابن عباس ، رضي الله عنهما. فليسا بمعنى واحد ؛ لأن الشيء لا يعطف على نفسه من كل وجه ، والأصل في العطف أن يفيد التغاير. ومن قال : إن معناهما واحد ، قال : اللفظ إذا اختلف أتي به بألفاظ يؤكد بها القصة.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه‌الله ـ : وقد جاء في الشعر ما ذكر أنه عطف لاختلاف اللفظ فقط ، كقوله :

وألفى قولها كذبا ومينا

ومن الناس من يدعي أن مثل هذا جاء في كتاب الله كما يذكرونه في قوله : (شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) ، وغاية ما يذكر الناس اختلاف معنى اللفظ ، كما ادعى بعضهم أن من هذا قوله :

ألا حبذا هند وأرض بها هند

وهند أتى من دونها النأي والبعد

فزعموا أنهما بمعنى واحد ، واستشهدوا بذلك على ما ادعوه من أن الشرعة هي المنهاج ، فقال المخالفون لهم : النأي أعم من البعد ؛ فإن النأي كلما قل بعده أو أكثر ، كأنه مثل المفارقة ، والبعد إنما يستعمل فيما كثرت مسافة مفارقته.

و «الشرع» مصدر : شرع يشرع ، على وزن : منع. ومعنى «شرع» في اللغة : سن ، كقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣].

قال الأزهري : معنى «شرع» : بين وأوضح ، مأخوذ من شرع الإهاب.

والشرع كما أنه في الأصل مصدر «شرع» فقد جعل اسما للطريق النّهج البين. قال في المفردات عند كلمة «شرع» : الشرع : نهج الطريق الواضح ، يقال : شرعت له طريقا ، والشرع مصدر ، ثم جعل اسما للطريق النهج فقيل له : يشرع وشرع وشريعة. واستعير ذلك للطريقة الإلهية ، وبهذا يظهر أن الشرع بمعنى الشريعة ، وأن الشريعة تطلق على ما شرع الله لعباده كما مر في بعض كتب اللغة. والله أعلم.

ومعنى الشريعة في الاصطلاح ـ كما عرفها ابن حزم ـ هي ما شرعه الله ـ تعالى ـ على لسان نبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في الديانة وعلى ألسنة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ قبله ، والحكم منها للناسخ. ـ

٤٩٨

وعلى التأويل الأول يكون : من أراد أن يؤمن به ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَبْغُونَها عِوَجاً).

قيل : تلتمسون لها أهل الزيغ (١).

وقيل (٢) : تبغون هلاكا للإسلام ، وإبطالا.

وقيل (٣) : تبغون السبيل عوجا عن الحق ، وكله واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ).

يحتمل [وجهين](٤) : إذ كنتم قليلا في العدد ، فكثر عددكم زمن لوط ، كأنهم إنما توالدوا من بقية آل لوط.

ويحتمل : إذ كنتم قليلا في الأموال والسعة في الدنيا فكثركم ، أي : كثر لكم الأموال ووسع عليكم الدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).

أمر بالنظر فيما حل بالأمم الخالية بإفسادهم في الأرض ، وتكذيبهم الرسل ؛ لأن من نظر في ذلك ، وتفكر فيما حل (٥) بهم منعه ذلك عن الفساد في الأرض والتكذيب للرسل ؛ إذ علم أن ما حل بهم إنما حل بهم لما ذكر ، والله أعلم.

كأنه أمر بالنظر في الأسباب التي صار [بها](٦) من تقدمهم أهل فساد ، ونزل بهم الهلاك لينزجروا عن مثل صنيعهم ، وإلا كانوا عند أنفسهم أهل صلاح لا أهل فساد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا).

__________________

ـ ينظر : رسالة الشرائع السابقة ومدى حجيتها في الشريعة الإسلامية للدكتور / عبد الرحمن بن عبد الله الدويش ، ولسان العرب (٨ / ١٧٦) ، الإحكام في أصول الأحكام (١ / ٤٢١) ، بغية الوعاة (١ / ٢٤٨) الفتاوى (٧ / ١٧٧).

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٥٤٥) (١٤٨٦٢ و ١٤٨٦٣) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٩٠) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٥٤٥) (١٤٨٦٥) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٩٠) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن السدي.

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٥٤٥) (١٤٨٦٤) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٩٠) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : ما حل.

(٦) سقط في ب.

٤٩٩

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : كان قوم شعيب قليلا حين أدرك ذلك [شعيب](١) ، وقوم آخرون معه يقول لهم ذلك شعيب عليه‌السلام ، وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به ، وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا يا معشر المؤمنين ، (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) : يقضي عليهم بالهلاك ، ولم يكن شعيب أمر بالقتال.

وقال بعضهم : قوله : (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ) ، يعني المؤمنين ، (آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) : من العذاب ، (وَطائِفَةٌ) : يعني الكفار ، (لَمْ يُؤْمِنُوا) : بالعذاب ، (فَاصْبِرُوا) : يا معشر الكفار ، (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) : في أمر العذاب في الدنيا ، (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) ويحتمل غير هذا ، وذلك أنهم كانوا يعبدون الأصنام ، ويقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣٠] ، ويقولون : الله أمرهم بذلك في أشياء يفعلونها ، ويقول هؤلاء : إنّ الذي نحن عليه هو الذي أمرنا الله بذلك ، فيقول لهم : اصبروا حتى يحكم الله بيننا بأنه بما ذا أمر : بالذي عليه الكفار ، أم بالذي (٢) نحن عليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) قد ذكرنا في غير موضع (٣) أن الملأ من قومه هم كبراؤهم ورؤساؤهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (اسْتَكْبَرُوا) [أي استكبروا](٤) عن الخضوع والطاعة لمن هو دونهم عندهم ؛ لأنهم كانوا يضعفون شعيبا فيما بينهم ويزدرونه كقولهم له : (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) [هود : ٩١] ثم لم يروا الأمر بالخضوع لمن هو دونهم في أمر الدنيا عدلا ، وهم إنما أخذوا من إبليس اللعين وإياه قلدوا حيث قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) [الأعراف : ١٢] حين أمر بالسجود لآدم ، ولم ير اللعين الأمر بالخضوع لآدم من الله عدلا ، فعلى ذلك هؤلاء لم يروا الخضوع لمن دونهم عندهم عدلا ؛ فاستكبروا عليه ، فكفروا لذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ).

قال الحسن : لنخرجنك ، أي : لنقتلنك ، والذين آمنوا معك من قريتنا.

وقال غيره : لنخرجنك : الإخراج نفسه ، أي : نخرجنك ومن معك من المؤمنين من قريتنا إن لم تتبع ديننا ، وقد كان منهم للأنبياء المعنيين جميعا التوعد بالقتل والإخراج

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : أو الذي.

(٣) ينظر تفسير آية (٢٤٦) من سورة البقرة.

(٤) سقط في أ.

٥٠٠