تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

حيث تناول منها ، في صدر الكتاب على قدر ما حفظنا (١).

قوله تعالى : (فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ)(٢٥)

قوله ـ عزوجل ـ : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ).

قال أبو عوسجة : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) ، أي : أوردهما (٢) ، يقال : دلاني فلان بحبل غرور (٣) ، أي : أنه زين [لك](٤) القبيح حتى يرتكبه ، وأصل التدلية من الدلو ، وهو من الدعاء ، أي : دعاهما بغرور ، ودعاؤه (٥) إياهما بغرور ، هو (٦) قوله : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ

__________________

(١) قال المصنف في أول التفسير : جائز أن يكون آدم ـ عليه‌السلام ـ طمع أن يكونا ملكين ؛ بأن يجعل على ما عليه صنيعهم من العصمة أو الاكتفاء بذكر الله وطاعته عن جميع الشهوات.

والله قادر على أن يجعل البشر على ذلك. وذلك على ما يوجد فيهم من معصوم ومخذول ، ليعلم أن الخلقة لا توجب شيئا مما ذكر. ولا قوة إلا بالله.

ثم الأصل أن معرفة موت البشر وما عنه خلق كل شيء إنما هو سمعي ليس هو حسي ، ولا في الجوهر دليل الفناء ولله أن يميت من شاء ويبقي من شاء.

(٢) في ب : ردهما.

(٣) الغرور : مصدر حذف فاعله ومفعوله ، والتقدير : بغروره إياهما. وقوله : «فدلاهما» يحتمل أن يكون من التدلية ، من معنى : دلّى دلوه في البئر ، والمعنى : أطمعهما.

قال أبو منصور الأزهري : لهذه الكلمة أصلان :

أحدهما : أن يكون أصلها أن الرجل العطشان يدلي رجله في البئر ليأخذ الماء ، فلا يجد فيها ماء ، فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه ، يقال : دلاه : إذا أطمعه.

قال أبو جندب :

أحص فلا أجير ومن أجره

فليس كمن تدلى بالغرور

أو أن تكون من الدال ، والدالة ، وهي الجرأة ، أي : فجرّأهما ، قال :

أظن الحلم دل علي قومي

وقد يستجهل الرجل الحليم

وعلى الثاني يكون الأصل : دللهما ، فاستثقل توالي ثلاثة أمثال ، فأبدل الثالث حرف لين كقولهم : تظنّيت ، في : تظننت ، وقصّيت أظفاري ، في : قصّصت. وقال :

تقضي البازي إذا البازي كسر

ينظر : اللباب (٩ / ٦٠ ، ٦١) ، وتفسير الرازي (١٤ / ٤١) ، والدر المصون (٣ / ٢٥٠).

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : دعاء.

(٦) في أ : وهو.

٣٨١

الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) ، وقوله : (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ).

وقوله : (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما).

فإن قيل : كيف خصّ السوءة بالذكر ، ومنته في اللباس في كل البدن لا في السوءة خاصة؟ وكذلك قوله : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) [الأعراف : ٢٦] ذكر منته فيما أنعم علينا من ستر العورة [وذلك في العورة](١) ، وفي غيرها من البدن في دفع البرد والحرّ وغير ذلك؟!

قيل : لأن كشف العورة مستقبح في الطبع والعقل جميعا ، وأما كشف غيرها من البدن فليس هو بمستقبح في الطبع ولا في العقل ، وربما يبدي المرء لغيره من البدن سوى العورة عند الحاجة ، ويستر عند غير الحاجة ، وأما العورة فإنه لا يبديها (٢) إلا في حال الضرورة ؛ لذلك كان ما ذكر.

أو أن يقال : إن المفروض من الستر هو قدر الضرورة ، والآخر يلبسه (٣) : إما بحق التجمل ، وإما بحق دفع البرد والحرّ والأذى ؛ لذلك [كان](٤) تخصيصه بالذكر ، وإلا المنة والنعمة عظيمة في لباس غيره من البدن.

فإن قيل : إن الله كنى عن الجماع مرة باللمس (٥) ومرة بالغشيان (٦) ، وعن الخلاء بالغائط (٧) ، وهو المكان الذي تقضى (٨) فيه الحوائج ، وكذلك جميع ما لا يستحسن ذكره

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : لا يبدي.

(٣) في أ : يليه.

(٤) سقط في أ.

(٥) في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) [النساء : ٤٣] وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة : ٦].

(٦) في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الأعراف : ١٨٩].

(٧) في سورة النساء آية ٤٣ والمائدة آية ٦ المتقدم ذكرهما.

(٨) في ب : يقضي.

٣٨٢

مصرحا فإنما ذكره بالكناية ، وهاهنا ذكر السوءة في العورة؟!

قيل (١) : السوءة والعورة هما كناية ، لم يذكر الفرج ولا الذكر والدبر ؛ فهو كناية.

والثاني في ذكر تخصيص السوءة ؛ وذلك أن قصد الشيطان إنما كان إلى إبداء عورتهما لا غير.

ألا ترى أن ذلك لم يجعل لغير البشر عورة تستر ؛ ولذلك خصّ الستر بالقبر إذا مات يقبر ؛ لأجل عورته ، ولا يقبر غيره من الدواب إذا هلك ، ولا يستر في حال حياته ؛ فخرج ذكر تخصيص السوءة لما ذكرنا أن اللعين قصد بذلك قصد إبداء عورتهما لا غير.

ألا ترى أنه قال : (لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) كان قصده إلى ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَطَفِقا يَخْصِفانِ).

قال أبو عوسجة (٢) : طفقا ، أي : أخذا ، تقول طفقت أفعل كذا ، أي : أخذت ، والخصف (٣) : الخياطة في النعل والخف ، وهو مستعار هاهنا.

وقال مجاهد : يخصفان ، أي : يرفعان كهيئة الثوب.

وقيل : يخصفان : يغطيان (٤).

ثم قوله : (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ).

إما حياء أحدهما من الآخر أو حياء من الله تعالى ؛ ولهذا نقول : إنه يكره للرجل في الخلوة (٥) أن يكشف عورته ويبديها ، وعلى ذلك (٦) روي في الخبر أنه قال : «فالله أحق أن

__________________

(١) انظر تفسير الخازن والبغوي (٢ / ٤٩١).

(٢) ذكره بمعناه السيوطي في الدر (٣ / ١٤٠) وعزاه لابن أبي حاتم عن محمد بن كعب.

(٣) الخصف : تطبيق بعض جلود النعل على بعض ، فاستعير لفعلهما ذلك بورق الجنة على بدنهما لما زال عنهما لباسهما. قيل : هو ورق التين. وفي شعر العباس ـ رضي الله عنه ـ يمدح سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

من قبلها طبت في الظلال وفي

مستودع ، حيث يخصف الورق

يشير إلى أنه كان من حين كان أبوه آدم وأمه حواء في الجنة. وقيل : معنى الآية يجعلان عليهما خصفة وهي الأوراق. ومنه قيل لجلال الثمر : خصفة. وخصفت الخصفة : نسجتها. قلت : والخصفة : هي الحصير المفترش. وكسا تبّع الكعبة خصفا فلم يقبله. والخصف : غلاظ جدّا.

وعبر بالخصافة عن الرزانة فقيل : فلان خصيف العقل ضد سخيفه ، والخصيف من الطعام. قيل : وحقيقته : ما جعل من اللبن ونحوه من خصفة فيتلون بلونها.

ينظر : عمدة الحفاظ (١ / ٥٨٥) ، واللسان مادة (خصف) ، والنهاية (٢ / ٣٨).

(٤) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٤٠) وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي ولابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد ، وأخرجه بن جرير بمعناه (٥ / ٤٥٢) (١٤٤٠٥) عن مجاهد.

(٥) الخلوة في اللغة : من : خلا المكان والشيء ، يخلوا خلوّا وخلاء ، وأخلي المكان : إذا لم يكن فيه أحد ولا شيء فيه ، وخلا الرجل ، وأخلي : وقع في مكان خال لا يزاحم فيه. ـ

٣٨٣

يستحيا منه» أو حياء أحدهما من الآخر ؛ لما بدت لكل واحد منهما عورة صاحبه ؛ ولهذا كره أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ أن ينظر الرجل إلى فرج زوجته ، والمرأة إلى فرج زوجها.

أو لما وقع بصر كل واحد منهما على عورته ؛ فذلك يكره ـ أيضا ـ أن ينظر المرء إلى فرجه.

ألا ترى (١) أنه قال : (لِيُبْدِيَ لَهُما) ولم يقل : ليبديهما ؛ فهذا يدل على أنه لا ينبغي أن ينظر إلى فرج زوجته ، ولا الزوجة إلى فرجه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ...) الآية.

يحتمل قوله : (وَناداهُما رَبُّهُما) وحيا أوحى إليهما على يدي ملك ؛ كقوله : (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢] أضاف إلى نفسه ؛ لما ينفخ فيه بأمره ؛ فعلى ذلك هذا.

أو إلهاما (٢) ؛ ألهمهما (٣) كقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص : ٧].

[وكقوله](٤) : (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) [طه : ٣٨ ـ ٣٩].

وكقوله (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل : ٦٨] ونحوه ؛ وإنما هو إلهام.

__________________

ـ وخلا الرجل بصاحبه وإليه ومعه ، خلوا وخلاء وخلوة : انفرد به واجتمع معه في خلوة ، وكذلك : خلا بزوجته خلوة.

والخلوة : الاسم ، والخلو : المنفرد ، وامرأة خالية ، ونساء خاليات : لا أزواج لهن ولا أولاد ، والتخلي : التفرغ ، يقال : تخلى للعبادة ، وهو «تفعّل» من الخلو.

ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا المصطلح عن معناه اللغوي.

ينظر : لسان العرب (خلو) ، المصباح المنير (خلو) ، والبدائع (٢ / ٢٩٣) ، والصاوي على الشرح الصغير (١ / ٣١٣) ، والمجموع (٤ / ١٥٥) وما بعدها ، شرح منتهى الإرادات (٣ / ٧) ، وشرح صحيح مسلم للنووي (٢ / ١٩٨).

(٦) في ب : وعلى هذا.

(١) في ب : يرى.

(٢) في أ : وألهمهما.

(٣) الإلهام لغة : مصدر ألهم ، يقال : ألهمه الله خيرا ، أي : لقنه إياه ، والإلهام : أن يلقي الله في النفس أمرا يبعث على الفعل أو الترك ، وهو نوع من الوحي يخص الله به من يشاء من عباده.

وعند الأصوليين : إيقاع شيء في القلب يطمئن له الصدر ، يخص به الله سبحانه بعض أصفيائه.

وقد عد الأصوليون الإلهام نوعا من أنواع الوحي إلى الأنبياء ، وفي كتاب التقرير والتحبير عن الإلهام من الله لرسوله : أنه إلقاء معنى في القلب بلا واسطة ، مقرون بخلق علم ضروري أن ذلك المعنى منه تعالى.

ينظر : لسان العرب (لهم) ، وشرح الكوكب المنير ص (٣٢٥) ، وشرح جمع الجوامع (٢ / ٣٣٩ ، ٣٤١) ، وكشاف اصطلاحات الفنون : باب اللام فصل الميم ، وجمع الجوامع (٢ / ٣٥٦).

(٤) سقط في ب.

٣٨٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣].

حيث أوقعناها (١) في الشدائد وكد العيش.

والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) ، قال الحسن (٢) هن الكلمات التي تلقاها آدم (٣) من ربه ؛ بقوله (٤) : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٣٧] ، قال آدم ما

__________________

(١) في ب : أوقعنا.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٥٤) (١٤٤١٧) عن الضحاك ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٤٠) وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن والضحاك.

(٣) أبو البشر ، ويقال : أبو محمد ، خلقه الله ـ عزوجل ـ بيده ، وأسجد له ملائكته ، وأسكنه جنّته ، واصطفاه وكرم ذريته ، وعلّمه جميع الأسماء ، وجعله أول الأنبياء ، وعلّمه ما لم يعلّم الملائكة المقربين ، وجعل من نسله الأنبياء والمرسلين والأولياء والصديقين ؛ قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً ...) [آل عمران : ٣٣] الآية ، وقال تعالى (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [البقرة : ٣١] الآية.

وثبت في صحيح مسلم ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله ـ تعالى ـ خلقه يوم الجمعة» واشتهر في كتب الحديث والتواريخ أنه عاش ألف سنة.

وروينا في «تاريخ دمشق» في حديث طويل ، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أنا أشبه النّاس بأبي آدم ـ عليه‌السلام ـ وكان أبي إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشبه النّاس بي خلقا وخلقا».

فأما اشتقاق اسمه : فقال الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي : قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : سمي آدم ؛ لأنه خلق من أديم الأرض ، وقال : وهكذا قاله أهل اللغة فيما حكاه الزّجّاج.

قال الزجاج : قال أهل اللغة : آدم مشتقّ من أديم الأرض ؛ لأنه خلق من تراب ، وأديم الأرض وجهها.

قال : وقال النضر بن شميل : سمي آدم ؛ لبياضه ، وهذا كله تصريح منهم بأن آدم اسم عربي مشتقّ ؛ وإلا فالعجمي لا اشتقاق له.

قال أبو البقاء : آدم وزنه أفعل ، والألف فيه مبدلة من همزة ، وهي فاء الفعل ؛ لأنه مشتق من : أديم الأرض ، أو من الأدمة.

قال : ولا يجوز أن يكون أصله فاعلا ، بفتح العين ؛ إذ لو كان كذلك لانصرف ؛ كعالم وخاتم ، والتعريف وحده لا يمنع الصّرف ، وليس هو بعجميّ ، هذا كلام أبي البقاء.

وقال الإمام أبو منصور موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي في كتابه «المعرب» : أسماء الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ كلها أعجمية ، نحو : إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وإلياس وإدريس وأيوب ، إلا أربعة : آدم وصالحا وشعيبا ومحمدا ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

قال أبو إسحاق الزّجّاج : اختلفت الآيات فيما بدئ به خلق آدم : ففي موضع خلقه الله ـ تعالى ـ من تراب ، وفي موضع من طين لازب ، وفي موضع من حمأ مسنون ، وفي موضع من صلصال. قال : وهذه الألفاظ راجعة إلى أصل واحد ، وهو التراب الذي هو أصل الطين ، فأعلمنا الله ـ عزوجل ـ أنه خلقه من تراب جعل طينا ، ثم انتقل فصار كالحمإ المسنون ، ثم انتقل فصار صلصالا كالفخّار. ولقد أحسن الزجاج ، رحمه‌الله.

قال الإمام أبو إسحاق الثعلبي في قول الله ـ عزوجل ـ إخبارا أن إبليس قال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)[الأعراف : ١٢] ـ : قال الحكماء : أخطأ عدوّ الله في تفضيله النّار على الطين ؛ لأن ـ

٣٨٥

ذكر في الآية ، وكذلك [قال نوح](١) : (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) [هود : ٤٧] ، وقال إبراهيم : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [إبراهيم : ٤١] ، وقال نوح : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) [نوح : ٢٨] ، بعضه خرج على الأمر ، وبعضه على السؤال ، وكله على الدعاء والسؤال ليس على الأمر ، وإن خرج ظاهره مخرج الأمر ؛ لأن الأمر ممن هو دونه لمن فوقه [دعاء وسؤال ، وممن هو فوقه لمن دونه](٢) أمر ، لو أن ملكا من الملوك [إذا أمر بعض خدمه بأمر أو بعض رعيته فهو أمر](٣) وإذا أمره بعض خدمه أو رعيته ـ الأمير ـ شيئا ، فهو ليس بأمر ، ولكنه سؤال ودعاء ؛ فعلى ذلك دعاء الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ربهم.

فإن قيل : إن الرسل سألوا ربهم المغفرة لزلاتهم ، فلا يخلو : إما أن أجيبوا في ذلك ، أو لم يجابوا ؛ فإن لم يجابوا فيما سألوا ، فهو عظيم ، وإن أجيبوا في ذلك ـ والمغفرة في اللغة (٤) : الستر ـ كيف ذكرت زلاتهم في الملأ إلى يوم القيامة؟

قيل : لوجوه :

__________________

ـ الطين أفضل منها من أوجه :

أحدها : أن من جوهر الطين الرّزانة والسّكون والوقار والحلم والأناة والحياء والصبر ؛ وذلك سبب توبة آدم وتواضعه وتضرّعه ؛ فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية. وجوهر النار الخفّة والطّيش والحدّة والارتفاع والاضطراب ؛ وذلك سبب استكبار إبليس ؛ فأورثه اللعنة والهلاك.

والثاني : أن الجنة موصوفة بأن ترابها مشك ، ولم ينقل أن فيها نارا.

الثالث : أنها سبب العذاب بخلاف الطّين.

الرابع : أن الطّين مستغن عن النار ، وهي محتاجة إلى مكان ، وهو التراب.

الخامس : أن الطّين سبب جمع الأشياء ، وهي سبب تفريقها ، وبالله التوفيق.

ينظر : تهذيب الأسماء واللغات (١ / ٩٥ ـ ٩٧).

(٤) الغفر : الستر والتغطية ، ومنه المغفر ؛ لأنه يستر الرأس. وقيل : هو إلباس الشيء ما يصونه عن الدنس ، ومنه قيل : اغفر ثوبك في الوعاء واصبغ ثوبك ، فإنه أغفر للوسخ. والغفارة بمعنى المغفر.

وأنشد للأعشى :

أو شطبة جرداء تض

بر بالمدجج ذي الغفاره

ومنه حديث عمر ـ رضي الله عنه ـ : أنه لما حصب المسجد ، قال له رجل : لم فعلت هذا؟ فقال : لأنه أغفر للنخامة ، أي : أستر لها.

قال بعضهم : فمعنى مغفرة الله هو صونه للعبد أن يمسه العذاب.

ينظر : عمدة الحفاظ (٣ / ٢٠٠ ، ٢٠١).

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : كقوله.

٣٨٦

أحدها : [أنهم](١) لما ارتكبوا تلك الزلات عظم ذلك عليهم ، واشتغلت قلوبهم بذلك ؛ لعظيم (٢) ما ارتكبوا عندهم ، لم يخطر ببالهم عند سؤالهم المغفرة ستر ذلك على الناس ، وكتمانها عنهم بعد أن أجاب الله بالتجاوز عنهم في ذلك.

أو أن يقال : أراد بإفشاء ذلك وإظهاره (٣) إيقاظ غيرهم وتنبيههم (٤) في ذلك ؛ ليعلموا أن الرسل مع جليل قدرهم ، وعظيم منزلتهم عند الله لم يحابهم في العتاب والتوبيخ بما ارتكبوا ؛ فمن دونهم أحق في ذلك.

أو أن ذكر ذلك ؛ ليعلموا أنه ليس بغافل عن ذلك ، ولا يخفى عليه شيء ، والله أعلم بذلك.

وقوله : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) ، وقال : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١] ، وقال : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : ١١٥] ، فأعلمنا الله ـ عزوجل ـ أن آدم نسي أمر ربّه ؛ فقال قوم من أهل العلم : أكل آدم من الشجرة وهو ناس لنهي الله إياه عن أكلها ، وكان أكله منها ظلما منه لنفسه وعصيانا لربّه ، وإن كان فعل ذلك ناسيا.

ثم إن الله تفضل على أمة محمد ؛ فرفع عنهم في الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (٥).

وقال قوم (٦) يعني قوله : (فَنَسِيَ) أي : ترك أمر ربه من غير نسيان ، وقالوا : هذا كقول الله : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧].

ولا ندري كيف كان ذلك.

وقال بعض أهل العلم : إن الخطأ والنسيان في الأحكام موضوع (٧) بهذا الحديث ، فيقال : فما تقولون في قتل الخطأ (٨) : هل فيه الدية والكفارة (٩)؟ وما تقولون في رجل

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : لعظم.

(٣) في ب : وإظهارها.

(٤) في ب : تنبيها.

(٥) ورد حديث في معناه أخرجه ابن ماجه (٢٠٤٥) ، والعقيلي في الضعفاء (٤ / ١٤٥) ، والبيهقي (٧ / ٣٥٦ ـ ٣٥٧) عن ابن عباس.

(٦) أخرجه ابن جرير (٨ / ٤٦٥) (٢٤٣٧٧) (٢٤٣٧٨) عن ابن عباس ومجاهد بنحوه.

(٧) أي : مرفوع ومحط عنه. ينظر : المعجم الوسيط (١ / ١٠٣٩).

(٨) يقول الله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ...) [النساء : ٩٢] إلى أن قال : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) [النساء : ٩٢ ، ٩٣]. ـ

٣٨٧

أفسد متاع رجل وأحرقه ناسيا أو مخطئا؟

فإن قالوا : ذلك لازم عليه ؛ قيل فكيف قلتم : إن الحديث جاء في الأحكام ، وأنتم توجبون الضمان؟

وقال بعضهم وجه الحديث عندنا : أن الأمم قبل أمتنا كانت مأخوذة بالخطإ والنسيان فيما بينها وبين ربها ، فرفع الله تعالى الحرج عن هذه الأمة في ذلك ؛ تفضلا منه علينا من بين الأمم ، فأما الغرامات (١) والضمانات (٢) في الأحكام التي بين الناس [فهي لازمة لهم] خطأ فعلوا أو عمدا ، والله أعلم.

وفي قوله : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) دلالة النقض (٣) على المعتزلة ؛ لأنهم

__________________

ـ فبين سبحانه وتعالى أن القتل في ذاته جريمة منكرة ليس من شأن المؤمن أن يقدم عليها ، ولا من طبعه الميل إليها ، وأنه إن فعل ذلك إنما يفعله عن كره منه ، وعلى غير قصد ، وأنه في هذه الحالة عليه أن يخرج رقبة من ذل العبودية تتمتع بنسيم الحرية ، بدل تلك الرقبة التي فارقت الحياة الدنيا ، فإن كان معسرا عاجزا عن تحرير تلك الرقبة ، فعليه أن يصوم شهرين متتابعين تهذيبا لنفسه ، وإشعارا لها بما وقع منها من التقصير ؛ لعل الله يغفر لها ما فرط من ذنب ، إنه غفور رحيم.

وهذه الآيات بظاهرها تفيد أن الكفارة إنما تجب في قتل الخطأ دون العمد ؛ إذ القاتل عمدا جعل الله جزاءه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما.

ومن هنا اتفقت كلمة الفقهاء على وجوب الكفارة في قتل الخطأ.

ينظر : الشرح الكبير (٩ / ٢٥٤) ، والمحلى (١٠ / ٢٥٩) ، والزيلعي (٦ / ١٠) ، والمغني (٩ / ٦٧٠) ، والمهذب (٢ / ٢٣٩) ، وينظر الكفارات لحسن علي حسنين الكاشف.

(٩) لكفارة القتل نوعان :

أحدهما : تحرير رقبة مؤمنة.

وثانيهما : صيام شهرين متتابعين.

ولا ثالث لهما في رأي جمهور الفقهاء ؛ لأن الله ذكرهما فقط ولم يذكر غيرهما فكان ذلك مشعرا بأن الإطعام ليس مشروعا فيها.

وذهب الشافعي في قول له ، وأحمد في رواية عنه : إلى أن لها نوعا ثالثا هو : إطعام ستين مسكينا ؛ قياسا على كفارة الظهار ، والمعروف من مذهبيهما خلاف ذلك.

ينظر : الخطيب على المنهاج (٤ / ١٠٨) ، والمغني (٩ / ٦٧١).

(١) الغرامات ، جمع : غرامة.

وهي في اللغة : ما يلزم أداؤه ، وكذلك المغرم والغرم ، والغريم : المدين وصاحب الدين أيضا ، وفي الحديث في الثمر المعلق : «فمن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه».

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي.

ينظر : لسان العرب (غرم) والقاموس المحيط (غرم).

(٢) من معاني الضمان في اللغة : الالتزام والغرامة ، وفي الاصطلاح عند الجمهور هو : التزام دين أو إحضار عين أو بدن. والعلاقة بين الغرامة والضمان : أن الضمان أعم من الغرامة.

ينظر : لسان العرب (ضمن) والقاموس المحيط (ضمن) ، وحاشية القليوبي (٢ / ٣٢٣).

(٣) وحد النقض : انتفاء الحكم عما ادعي له من العلة. وقيل : وجود العلة مع فقد ما ادعي من حكمها.

وقيل : إبراء العلة حيث لا حكم. ينظر : الكافية في الجدل (ص ٦٩).

٣٨٨

يقولون : الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر (١). ثم من قوله : إن الرسل والأنبياء معصومون عن الكبائر ، فزلة آدم [لا شك أنها صغيرة لما ذكرنا ، ثم قال : إن لم يغفر لكان من الخاسرين فإذا لم يكن له أن يعذبه فيصير وكأنه قال أجرمت وخطئت علينا لتكونن من الخاسرين ، وفائدة تقدير آدم](٢) وحواء (٣) أن يكونا من الملائكة

__________________

(١) ينظر الفرق بين الفرق (١ / ١٥٤) منهاج السنة النبوية (٣ / ٩٠).

(٢) سقط في أ.

(٣) هذه القصة جاء ذكرها في القرآن الكريم في مواضع عدة ، منها في سورة الأعراف هذه ، ومنها في سورة طه : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢٠ ، ١٢١] ، وجاء في سورة البقرة بعد نداء الله تعالى لآدم وأمره له أن يسكن الجنة هو وزوجه ، وإباحة الأكل له من كل شيء فيها ما عدا شجرة الخلد التي حظر عليه الأكل منها ـ : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ٣٦ ، ٣٧] ... إلى غير ذلك من الآيات الواردة في المواضع الأخرى.

وكلام المعارضين للعصمة في هذه الآيات من أوجه ستة كل واحد منها يلزم منه معصية آدم : فالوجه الأول أن قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)[طه : ١٢١] إخبار منه تعالى بأن آدم وقع منه العصيان ، وهو من الكبائر ؛ بدليل قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً)[الجن : ٢٣] والغواية المترتبة على العصيان فى الآية تؤكد ذلك ؛ لأنها اتباع الشيطان ؛ لقوله تعالى : (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ)[الحجر : ٤٢].

والوجه الثاني : قوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى)[طه : ١٢٢] ولا شك أن التوبة تكون مسبوقة بالذنب ؛ لأن معناها الندم على ما فرط من الذنوب والعزم على عدم العود ، وحينئذ فيكون آدم قد فعل ذنبا ثم ندم على اقترافه ، وعزم على ألا يعود فتاب الله تعالى عليه وهداه.

الوجه الثالث : أن قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ)[البقرة : ٣٥] صريح في النهي عن الأكل منها ، وآدم قد خالف وأكل منها ؛ فيكون قد خالف النهي وارتكب المنهي عنه ، ومخالفة النهي معصية.

الوجه الرابع : قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) فيه ترتّب كونهما من الظالمين على تقدير الأكل منها ، وقد أكلا منها بصريح الآية ؛ فكانا من الظالمين ، ولا شك أن الظلم معصية.

الوجه الخامس : قول الله تعالى حكاية عن آدم وحواء : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)[الأعراف : ٢٣] فيه اعتراف منهما أنهما ظلما أنفسهما ، والظلم ذنب ثم الخسران الذي ترتب على الظلم لو لا المغفرة يدل على أنه كبيرة.

الوجه السادس : قوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ)[البقرة : ٣٦] يدل دلالة صريحة على أن إخراج آدم وحواء من الجنة كان بإزلال الشيطان لهما وإغوائه إياهما ومقاسمته لهما إنه لمن الناصحين ، واستحقاق إخراجهما بسبب غواية الشيطان يدل على أن الذنب الصادر منهما كبيرة.

هذه هي أوجه المخالفين ، وظاهر أن جميع ما ذكروه من الأوجه يدور حول قصة أكل آدم من الشجرة بعد نهيه عنها ، وتسمية هذا معصية وتوبة آدم وقبول الله تعالى لتوبته. ولبيان الرد عليهم فيها ـ

٣٨٩

__________________

ـ نقول : إن ما وقع من آدم ـ عليه‌السلام ـ وهو أكله من الشجرة كان قبل نبوته ؛ وذلك لأن آدم حين ذاك كان في الجنة ولا أمة له ، وكيف يكون نبي بلا أمة؟! واعترض على هذا من وجهين :

أولهما : قوله تعالى : (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ...)[الأعراف : ١٩] إلخ ، يدل على أن آدم إذ ذاك كان نبيا ؛ لأنه أوحي إليه بهذه الآية ، ولا يصح الرد على هذا بأن الوحي لا يستلزم النبوة بدليل قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ)[القصص : ٧] وبعيد أن تكون امرأة نبيا ؛ لأنا نقول : إن المفهوم ما ورد في قصة آدم هو إسماعه الكلام المنظوم في اليقظة وهو المسمى بالوحي الظاهر ، وهو من خصائص الأنبياء ، أما إلقاء الكلام في الروع حال اليقظة أو إسماع الكلام المنظوم في المنام فهو الوحي له ، والإيحاء إلى أم موسى كان من هذا القبيل.

وثانيهما : قولكم : إن آدم كان في الجنة ولا أمة ، ممنوع ؛ لأن حواء أمة له ، ولا ينفعكم القول بأن الإرسال إلى الواحد غير معهود ؛ لأنا نقول : إن غير المعهود هو الإرسال إلى الواحد فقط ؛ لأن تعريف النبي بقولهم : هو من قال الله له : أرسلناك إلى الناس أو إلى أمة كذا ، لا يحتم أن يكون الناس المرسل إليهم موجودين في ابتداء الإرسال.

هذا ما اعترض به ، ولكن ما نقله الغزي يشهد لما قلناه من أن آدم لم يكن حال الواقعة رسولا ، وعبارة اللباب ـ كما نقلها الغزي ـ : لو كان آدم ـ عليه‌السلام ـ رسولا قبل الواقعة لكان رسولا من غير مرسل إليه ؛ لأنه لم يكن في الجنة بشر سوى حواء ، وكان الخطاب لها بدون واسطة آدم ـ عليه‌السلام ـ كما هو ظاهر من قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) ، والملائكة رسل الله فلا يحتاجون إلى رسول آخر ، وحيث ثبت أن هذه الواقعة كانت قبل نبوة آدم فلا تصادم إلا مذهب الكثيرين من المعتزلة الذين يذهبون إلى أن الأنبياء معصومون مطلقا قبل النبوة وبعدها ، ومما يؤيد أيضا كون هذه الواقعة قبل نبوة آدم قوله تعالى :

(فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) [طه : ١٢١ ـ ١٢٢] ؛ لأن الاجتباء للنبوة عقب «ثم» المفيدة للترتيب مع التراخي والمهلة ، فهذه الواقعة بلا ريب كانت قبل النبوة.

وقد ذهب بعضهم إلى أن قصة أكل آدم من الشجرة كانت بعد بعثته ، وهؤلاء يذهبون في الرد على من خالف في العصمة مذاهب أخرى :

فمنهم من قال : إن الأكل من الشجرة كان على سبيل النسيان ، بدليل قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)[طه : ١١٥]. وقد اعترض [على] هذا بأن إبليس ذكّر آدم أمر النهي بقوله : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ)[الأعراف : ٢٠] ، ومع هذا التذكير يمتنع النسيان. وقد أجيب عنه بأنه يجوز أن يكون وقت التذكير غير وقت النسيان حتى يتجه قوله تعالى : (فَنَسِيَ) ، ولكن عتاب الله لآدم وحواء بقوله : (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ)[الأعراف : ٢٢] واعترافهما بأنهما ظلما أنفسهما وطلبهما للمغفرة والرحمة ، كل ذلك ينافي النسيان ، ومنهم من أجاب بأن آدم كان متذكرا للنهي ، ولكنه قد تناول من الشجرة متأولا ، والتأويل من وجوه :

الأول : أن آدم ـ عليه‌السلام ـ فهم من قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ)[الأعراف : ١٩] أن المنهي عنه : الشخص لا النوع ، بأن يكون آدم ـ عليه‌السلام ـ كف عن شجرة لشخصها ظنها المرادة بالنهي عن الأكل منها ، وتناول من شجرة أخرى تشترك معها في نوع واحد ، ولا تعدّ في ذلك ، فإن كان هذا كما يشار بها إلى الشخص قد يشار بها إلى النوع كقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به». ـ

٣٩٠

لأن الملك [كما ذكرنا أنه] لا يفتر عن العبادة ، ولا يعصي ... ربه ، ولا يحتاج إلى شيء من المؤنة ، ومن قرأ : ملكين ؛ لأن الملك يكون نافذ الأمر والنهي (١) في مملكته ، وذلك مما يرغب فيه.

أو أن يكون [أراد](٢) بذلك ؛ ليشغلهما عن نهي ربهما ؛ حتى ينسيا ذلك فيتناولا من تلك الشجرة على ما فعلا وفيما ذكر الخلود لأنه ليس بشيء ألذ ولا أشهى من الحياة.

والأشبه أن يقال : إنه لم ينسيا نهي الله إياهما عن التناول منها ولكن نسيا قوله : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة : ٣٥] ؛ لذلك تناولا ، ولو ذكرا قوله : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) ما تناولا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ).

__________________

ـ ومما ذكر من وجوه التأويل : أن النهي ليس نصا في التحريم ، بل هو ظاهر فيه ، ويكون للتنزيه ؛ فيجوز أن آدم عليه الصلاة والسلام وجد عنده دليل يصرف النهي عما هو ظاهر فيه ، هذا ما يمكن أن يقال في جواب المتشبثين بقصة أكل آدم من الشجرة ، وفيه الكفاية.

وقد يتمسك في معصية آدم بآية الأعراف : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)[الأعراف : ١٨٩] ، وبيان تمسكهم بهذه الآية ـ على ما في «مفاتيح الغيب» للإمام الرازي ـ : أنهم يفسرون النفس الواحدة بآدم وأن زوجها المخلوقة منها هي حواء ، وحيث كان هذا فيكون الضمير في (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما)[الأعراف : ١٩٠] ، عائدا إليهما ، ويقتضي ذلك صدور الشرك منهما.

والجواب : أننا لا نسلم أن النفس الواحدة هي آدم ، وليس في الآية ما يدل عليه ، بل المراد بالنفس الواحدة : قصي وأن زوجته من جنسه ، يعني عربية ، يسكن إليها ، فلما آتاهما الله تعالى ما طلبا من الولد الصالح جعلا له شركاء فيما آتاهما ، بأن سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد الدار وعبد قصي ، والضمير في قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الأعراف : ١٩٠] لهما ولأعقابهما.

واعتمد هذا الجواب الإمام الرازي ولم يلتفت إلى سواه ، وأجاب غيره بعد تسليم كون مرجع الضمير إلى آدم وزوجه : أن ذلك كان قبل النبوة ، ولكن هذا الجواب معترض بما تقدم من أن الأنبياء معصومون من الكفر مطلقا قبل النبوة وبعدها. وأجيب عنه بأن الشرك المفهوم من الآية ليس هو المعهود وهو الشرك في الألوهية ، بل تسمية ولدهما عبد الحارث بوسوسة من الشيطان ، يدل عليه ما ورد عن سمرة بن جندب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما ولدت حواء طاف بها إبليس ، وكان لا يعيش لها ولد ، فقال لها : سميه عبد الحارث ؛ فإنه يعيش ، فسمته بذلك فعاش» ، فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره وليس ذلك كفرا ، بل هو ذنب يجوز صدوره قبل النبوة.

ينظر : عصمة الأنبياء (١٨ ـ ٢٤).

(١) في ب : والقول.

(٢) سقط في أ.

٣٩١

عن ابن عباس (١) ـ رضي الله عنهما ـ قال : آدم وحواء وإبليس والحية. وقال الحسن : آدم ووسوسة الشيطان لأن من قوله : إن الشيطان لم يكن في السماء ، إنما وسوس آدم وحواء من بعد ؛ فالأمر بالهبوط [لوسوسة الشيطان](٢) ؛ ولذلك بقيت في أولاده إلى يوم القيامة.

وقال بعضهم : دل قوله : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) على أن الأمر بالهبوط إنما كان من السماء وكانوا في السماء.

ثم قوله : (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) كأن الأمر بالهبوط لم يكن معا ؛ لأن إبليس أمر بالهبوط حين أبى السجود وآدم وحواء حين تناولا من الشجرة ، ثم جمعهم في الأمر بالهبوط ؛ ليعلم أن ليس في الجمع بالذكر دلالة وجوب الحكم والأمر مجموعا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (اهْبِطُوا) لا يفهم منه الهبوط من الأعلى.

ألا ترى أنه قال في آية أخرى : (اهْبِطُوا مِصْراً) [البقرة : ٦١] أي انزلوا فيه.

وقوله : (عَدُوٌّ) ، وهو عدو لنا إما بالكفر ، وإما بالسعي (٣) في هلاكنا ، وكل من يسعى في هلاكنا فهو عدو لنا ونحن عدو له (٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ).

قيل (٥) : إلى منتهى آجالكم ، وإبليس : إلى النفخة الأولى. ويشبه أن يكون هذا ليس على التوقيت ، ولكن على الدوام والقرار فيها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) [الأعراف : ٢٥].

قيل (٦) : الأرض [فيها](٧) تعيشون ، وفيها تموتون عند انقضاء آجالكم ، ومنها تخرجون في القيامة.

قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٥٤) (١٤٤١٨) عن السدي ، و (١٤٤١٩) عن أبي صالح ، ذكره الرازي في التفسير (١٤ / ٤٢) ، وابن عادل في اللباب (٩ / ٦٥).

(٢) في ب : لوسوسته.

(٣) في ب : بما يسعى.

(٤) في ب : أعداء له.

(٥) ذكره بمعناه أبو حيان في البحر (٤ / ٢٨٢).

(٦) ذكره ابن جرير (٥ / ٤٥٥) ، والبغوي في تفسيره (٢ / ١٥٤).

(٧) في ب : في الأرض.

٣٩٢

عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)(٢٧)

قوله ـ عزوجل ـ : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ).

قال ابن عباس (١) ـ رضي الله عنه ـ والحسن : أنزلنا ماء القراح من السماء ليتخذ منه اللباس ما يواري عوراتهم ، ويتخذ منه الطعام والأشياء التي بها قوام أنفسهم.

ويحتمل قوله : (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) أنزل الماء والأسباب التي بها يتخذ اللباس والأطعمة والأشربة ، والعلم في ذلك الماء والأسباب ، والعلم بذلك ، وإلا ما عرف الخلق أن كيف يتخذ ذلك لباسا والأطعمة والأشربة.

وفيه دليل إثبات الرسالة ؛ لأنهم لم يعرفوا ذلك إلا بوحي من السماء.

أو أن يكون قوله : (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) ، أي : جعل لكم وأنشأ لكم ما تتخذون منه اللباس والطعام والشراب ليس على الإنزال ، ولكن على أن جعل لكم ذلك ؛ كقوله : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) [غافر : ٧٩].

وقوله : (جَعَلَ لَكُمْ) [النحل : ٨٠] ، أي : أنشأ لكم (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) [النحل : ٨١] ، وهو أن خلق لنا ذلك.

وفيه دليل خلق أفعال الخلق ؛ لأنه إنما صار طعاما بفعل من العباد [لا](٢) أنه أنزل من السماء هكذا ، ثم أخبر أنه جعل ذلك لنا ، دل أنه خلق فعل الخلق فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرِيشاً) ، قال بعضهم (٣) : مالا.

وقال بعضهم (٤) : معاشا.

وقال القتبى (٥) : الريش والرياش : ما ظهر من اللباس ، وريش ما ستر به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِباسُ التَّقْوى).

في حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : (وَلِباسُ التَّقْوى) ، بالرفع على الابتداء (٦) أي

__________________

(١) ذكره أبو حيان في البحر (٤ / ٢٨٣) ولم ينسبه لأحد.

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٥٧) (١٤٤٣٣) عن ابن عباس وعن مجاهد (١٤٤٣٤ ، ١٤٤٣٥) ، وعن السدي (١٤٤٣٦) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٤١).

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٥٧) (١٤٤٤٠) عن معبد الجهني وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٤١ ـ ١٤٢).

(٥) ذكره ابن جرير (٥ / ٤٥٧) ، والبغوي في تفسيره (٢ / ١٥٥) ولم ينسبه لأحد ، وأبو حيان في البحر (٤ / ٢٨٣).

(٦) وبه قرأ أبي وعبد الله بن مسعود ، والأعمش. ينظر : البحر المحيط (٤ / ٢٨٣) ، وتفسير القرطبي (٧ / ١٨٥) ، والكشاف (٢ / ٥٩) ، والمعاني للفراء (١ / ٣٧٥).

٣٩٣

لباس التقوى خير ، ومن نصبه (١) ـ أيضا ـ فإنما ينصبه على الجواب لما تقدم ؛ وإلا الحق فيه الرفع (٢).

ثم اختلف فيه أهل التأويل قال الحسن : لباس التقوى : الدين.

وقال أبو بكر الأصم : القرآن.

__________________

(١) نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وأبو جعفر ، والحسن ، والشنبوذي. ينظر إتحاف الفضلاء (٢٢٣) ، والإعراب للنحاس (١ / ٦٠٦) ، والإملاء للعكبري (١ / ١٥٧) ، والبحر المحيط (٤ / ٢٨٣) ، والتبيان للطوسي (٤ / ٤٠٦) ، والتيسير للداني (١٠٩) ، وتفسير الطبري (١٢ / ٤٠١) ، وتفسير القرطبي (٧ / ١٨٥).

(٢) وأما الرفع فمن خمسة أوجه :

أحدها : أن يكون «لباس» مبتدأ ، و «ذلك» مبتدأ ثانيا ، و «خير» خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول ، والرابط هنا اسم الإشارة ، وهو أحد الروابط الخمسة المتفق عليها. وهذا الوجه هو أوجه الأعاريب في هذه الآية الكريمة.

الثاني : أن يكون «لباس» خبر مبتدأ محذوف ، أي : وهو لباس ، وهذا قول أبي إسحاق ، وكأن المعنى بهذه الجملة التفسير للباس المتقدم ، وعلى هذا فيكون قوله «ذلك» جملة أخرى من مبتدأ وخبر.

وقدره مكي بأحسن من تقدير الزجاج فقال : «وستر العورة لباس التقوى».

الثالث : أن يكون «ذلك» فصلا بين المبتدأ وخبره ، وهذا قول الحوفي ، ولا نعلم أن أحدا من النحاة أجاز ذلك ، إلا أن الواحدي قال : ومن قال : إن ذلك لغو ، لم يكن على قوله دلالة ؛ لأنه يجوز أن يكون على أحد ما ذكرنا.

قال شهاب الدين : فقوله «لغو» هو قريب من القول بالفصل ؛ لأن الفصل لا محل له من الإعراب على قول جمهور النحويين من البصريين والكوفيين.

الرابع : أن يكون «لباس» مبتدأ ، و «ذلك» بدل منه ، أو عطف بيان له ، أو نعت ، و «خير» خبره ، وهو معنى قول الزجاج وأبي علي ، وأبي بكر بن الأنباري ، إلا أن الحوفي قال : وأنا أرى ألا يكون «ذلك» نعتا ل «لباس التقوى» ؛ لأن الأسماء المبهمة أعرف مما فيه الألف واللام ، وما أضيف إلى الألف واللام ، وسبيل النعت أن يكون مساويا للمنعوت ، أو أقل منه تعريفا ، فإن كان قد تقدم قول أحد به فهو سهو.

قال شهاب الدين : أما القول به فقد قيل ـ كما ذكرته ـ عن الزجاج والفارسي وابن الأنباري ، ونص عليه أبو علي في الحجة أيضا ، وذكره الواحدي.

وقال ابن عطية : «هو أنبل الأقوال».

وذكر مكي الاحتمالات الثلاثة : أعني كونه بدلا ، أو بيانا ، أو نعتا ، ولكن ما بحثه الحوفي صحيح من حيث الصناعة ، ومن حيث إن الصحيح في ترتيب المعارف ما ذكر من كون الإشارات أعرف من ذي الأداة ، ولكن قد يقال : القائل بكونه نعتا لا يجعله أعرف من ذي الألف واللام.

الخامس : جوز أبو البقاء أن يكون «لباس» مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : ولباس التقوى ساتر عوراتكم. وهذا تقدير لا حاجة إليه.

ينظر : اللباب (٩ / ٦٩ ، ٧٠) ، ومعاني القرآن للزجاج (٢ / ٣٦٢ ، ٣٦٣) ، والمشكل (٢ / ٣٠٩) ، والدر المصون (٣ / ٢٥٣ ، ٢٥٤) ، والإملاء (١ / ٢٧١).

٣٩٤

وقيل (١) : العفاف.

وقيل (٢) : الحياء.

وقيل (٣) : الإيمان ، فكله واحد (٤) ، أي : كل ما ذكر من لباس التقوى خير من اللباس الذي ذكر ؛ لأن الدين والإيمان والقرآن والحياء يزجره ويمنعه من المعاصي (٥) فهو خير لأنه لباس في الدنيا والآخرة ؛ لأن المؤمن التقي العفيف الحيي لا يبدو له عورة ، وإن كان عاريا من الثياب [وأن الفاجر لا يزال](٦) تبدو (٧) منه عورته ، وإن كان كاسيا من الثياب ، لا يتحفظ في لباسه ؛ [فلباس](٨) التقوى خير ، وهو كقوله (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) [البقرة : ١٩٧] هذا التأويل للقراءة التي تقرأ بالرفع : (وَلِباسُ التَّقْوى) على الابتداء.

وأمّا من قرأ بالنصب فهو رده إلى قوله : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) ، ثم أنزلنا عليكم ـ أيضا ـ لباسا تتقون به الحرّ والبرد والأذى ؛ فيكون فيه ذكر لباس سائر البدن ، وفي الأول ذكر لباس العورة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ).

يحتمل قوله : (ذلِكَ) الذي اتخذ منه اللباس والأطعمة والأشربة من آيات الرسالة ؛ لأن كل ذلك إنما عرف بالرسل بوحي من السماء ، وهو ما ذكرنا أن فيه دليل إثبات الرسالة.

ويحتمل ذلك من آيات الله أي : من آيات وحدانية الله وربوبيته ؛ لما جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض مع بعد ما بينهما ؛ دل ذلك أن منشئهما ومدبرهما واحد ؛ لأنه لو كان تدبير اثنين ، ما اتسق تدبيرهما ؛ لاتصال منافع أحدهما بالآخر.

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ١٥٥) ونسبه لابن عباس.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٥٨) (١٤٤٤٦ ، ١٤٤٤٧) عن معبد الجهني ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٤١ ـ ١٤٢) وزاد نسبته لعبد بن حميد وأبي عبيد والحكيم الترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن معبد الجهني. وذكره أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٢٨٤) ، والبغوي في تفسيره (٢ / ١٥٥).

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٦١) (١٤٤٥٤) عن السدي ، و (١٤٤٥٥) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٤٢) ، وعزاه لابن جرير عن السدي ، وذكره أبو حيان في البحر (٤ / ٢٨٤) ونسبه لابن جريج.

(٤) في ب : وكله واحد.

(٥) في ب : عن المعاصي.

(٦) سقط في أ.

(٧) في ب : يبدو.

(٨) سقط في أ.

٣٩٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).

أي : لعلهم يوفقون للتذكير ، ولعلهم يتقون ، أي : لعلهم يوفقون للتقوى ، ولعلهم يوفقون للشكر لأنه حرف شك هذا يحسن أن يقال ، والله أعلم ، أو نقول : لكي يلزمهم التذكر والتشكر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ).

قال بعضهم : خاطب به أهل مكة في تكذيبهم رسول الله ومخالفتهم أمره في ألّا يخرجكم من الأمن (١) والسعة ، كما أخرج أبويكم من دار الأمن والسعة.

وقال بعضهم : قوله : (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) أي : احذروا دعاءه إلى ما يدعوكم إليه ؛ فإنه يمنع عنكم في الآخرة الكرامة والثواب ؛ كما أخرج أبويكم من دار الكرامة والمنزلة.

وقال أهل التأويل (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) ، أي : لا يضلنكم الشيطان ويغويكم ، كما فعل بأبويكم : أخرجهما من الجنة.

وقال آخرون : قوله : (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) بما تهوى أنفسكم ، ومالت إلى شهواتها وأمانيها ، كما أخرج أبويكم من الجنة بما [هوته أنفسهما ، واشتهاؤهما](٢) يحذرهم اتباع هوى النفس وشهواتها وأمانيها ؛ فإن السبب (٣) الذي به كان إخراجهما هو هوى النفس وأمانيها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما).

يحتمل قوله : (يَنْزِعُ) [أي : نزع](٤) عنهما لباسهما وهذا في القرآن كثير يفعل بمعنى فعل.

ويحتمل على الإضمار ؛ كأنه قال : أراد أن ينزع عنهما لباسهما ؛ ليريهما سوءاتهما ، وقد ذكر أن المفروض من الستر هو ستر العورة لا غير ، احتيج إليه أو لم يحتج ، وأمّا غيره من الستر فإنما هو لدفع الأذى من الحرّ والبرد [أو للتجمل](٥) والمفتون بالشيء هو المشغوف به والمولع به.

يقول : لا يمنعنكم عن دخول الجنة ، كما أخرج أبويكم من الجنة (٦) ، وكان قصده ما

__________________

(١) في أ : الأرض.

(٢) في ب : هوت به أنفسهما واشتهتها.

(٣) في ب : فإن سبب.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) زاد في أ : هو.

٣٩٦

ذكر من نزع اللباس وإبداء العورة وهو ما ذكر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ).

قيل (١) : قبيله : جنوده وأعوانه ، حذرنا إبليس وأعوانه ؛ بما يروننا ولا نراهم ، فإن قيل : كيف كلفنا محاربته ، وهو [بحيث لا نراه وهو يرانا ومثله في غيره من الأعداء لا يكلفنا محاربة من لا نراه أو لا نقدر القيام بمحاربته وليس في وسعنا القيام بمحاربة من لا نراه قيل إنه لم يكلفنا محاربة أنفسهم ، إذ لم يجعل](٢) له السلطان على أنفسنا وإفساد مطاعمنا ومشاربنا وملابسنا ، ولو (٣) جعل لهم لأهلكوا أنفسنا وأفسدوا (٤) غذاءنا ، إنما جعل له السلطان في الوساوس فيما يوسوس في صدورنا ، وقد جعل لنا السبيل إلى معرفة وساوسه بالنظر والتفكر ، نحو قوله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ...) [الأعراف : ٢٠٠] الآية ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) [المؤمنون : ٩٧] ، وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) [الأعراف : ٢٠١] علمنا ما به ندفع وساوسه وهمزاته (٥) ، وجعل (٦) لنا الوصول إلى دفع وساوسه بحجج وأسباب جعلت لنا ، فهذا يدل على أن الله يجوز أن يكلفنا بأشياء لم يعطنا أسباب تلك الأشياء ، بعد أن جعل في وسعنا الوصول إلى تلك الأسباب ، وإن لم يكن [لنا] وقت التكليف تلك الأسباب ، من نحو : الأمر بالصلاة ، وإن لم نكن على الطهارة (٧) ؛ إذ جعل في وسعنا الوصول إلى الطهارة ، ونحو الأمر بأداء الزكاة ، وإن لم

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ١٥٥) وأبو حيان في البحر (٤ / ٢٨٤).

(٢) بدل ما بين المعقوفين في أ : إن لم نجعل.

(٣) في ب : وإن.

(٤) في ب : وأهلكوا.

(٥) الهمز كالعصر ، ومنه : همزت الشيء في كفي ، أي : عصرته. ثم عبر به عن الاغتياب. والهمزة : الكثير الهمز كالهماز في قوله : (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)[القلم : ١١]. وعن ابن الأعرابي : الهماز : المغتاب بالغيب ، واللماز : المغتاب بالحضرة ، قال الشاعر :

وإن اغتيب فأنت الهامز اللمزة

وعن شهر بن حوشب عن ابن عباس في تفسيره قال : هو المشاء بالنميمة ، المفرق بين الجماعة ، المغري بين الأحبة. قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ)[المؤمنون : ٩٧] أي : نزغاتهم وما يوسوسون به. وأصله من الهمز ، وهو الدفع. ومنه الحديث : «أما همزه فالموتة» وقال أبو عبيد : الموتة : الجنون ، سماه همزا ؛ لأنه حصله من النخس والغمز. وكل شيء غمزته فقد دفعته.

ينظر : عمدة الحفاظ (٤ / ٣٠٠ ، ٣٠١).

(٦) في ب : وبأسباب جعل.

(٧) الطهارة في اللغة : النظافة ، يقال : طهر الشيء ، بفتح الهاء وضمها ، يطهر بالضم ، طهارة فيهما ، والاسم : الطهر ، بالضم. وطهره تطهيرا ، وتطهر بالماء ، وهم قوم يتطهرون أي : يتنزهون من ـ

٣٩٧

يكن وقت الأمر من نؤدي إليه حاضرا ، أو نحو (١) الأمر بالحج (٢) وغيره من العبادات ، وإن كان لا يصل إلى أداء ما افترض عليه إلا بعد أوقات مع احتمال الشدائد ، وهذا يرد ـ أيضا ـ على من يقول : إنه لا (٣) يلزم الأوامر والمناهي من جهلها ، ولا يكلف إلا بعد العلم بها ؛ لأنه يتكلف (٤) حتى لا يلزمه فرض من فرائض الله وعبادة من عباداته ؛ لأنه لا يكسب أسباب العلم ؛ لئلا يلزمه ذلك ، فهذا بعيد محال ، والوجه فيه ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ).

اختلف أهل الاعتزال فيه ؛ قال أبو بكر الأصم : الجعل من الله على وجوه :

أحدها : السبب أي (٥) : أعطينا لهم السبب الذي به صاروا أولياء لهم ، كما يقول الرجل (٦) لآخر : جعلت لك الدار والعبيد والمال ، وهو لم يجعل له ذلك ، ولكن أعطاه ما به صار ذلك ، وهو إنما أعطاه سبب ذلك ؛ فيضاف ذلك إليه ؛ فعلى ذلك ما أضاف الجعل إليه ؛ لما أعطاه السبب.

وقال جعفر بن حرب (٧) : «الجعل» هو التخلية ، خلى بينهم وبين أولئك ؛ فأضاف ذلك إليه بالجعل ، كما يقال للرجل : جعلت عبدك قتالا ضرابا ، إذا خلى بينه وبين ما يفعله ، وهو قادر على منعه ؛ [عن ذلك](٨) فعلى ذلك فبما أضاف الجعل إلى نفسه : هو أن خلى بينهم وبين أولئك ، يعلمون ما شاءوا.

__________________

ـ الأدناس ، ورجل طاهر الثياب ، أي : منزه.

وفي الشرع : هي عبارة عن غسل أعضاء مخصوصة بصفة مخصوصة.

وعرفت أيضا بأنها : زوال حدث أو خبث ، أو رفع الحدث أو إزالة النجس ، أو ما في معناهما أو على صورتهما.

وقال المالكية : إنها صفة حكمية توجب للموصوف بها جواز استباحة الصلاة به ، أو فيه ، أو له.

فالأولان يرجعان للثوب والمكان ، والأخير للشخص.

ينظر : مختار الصحاح مادة (طهر) ، والتعريفات للجرجاني ص (١٤٢) ، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص (١١) ، وكفاية الأخيار للحصني ص (٦) ، وكشاف القناع (١ / ٢٤) ، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي (١ / ٣٤).

(١) في أ : ونحو.

(٢) في ب : بالحجج.

(٣) في ب : أن لا.

(٤) في أ : بتكليف.

(٥) في أ : الذي.

(٦) في ب : تقول لرجل.

(٧) ينظر : تفسير الرازي (١٤ / ٤٦).

(٨) سقط في أ.

٣٩٨

وقال الحسن : من حكم الله أن من عصى يكون عدوّا له ، ومن أطاع يكون وليّا له ، ومن أطاع الشيطان فهو وليه ، ومن عصاه يكون عدوّا له ؛ فكذا (١) حكم الله ـ تعالى ـ في كل من أطاعه يكون وليّا له ، ومن عصاه يكون عدوّا له.

وقال غيرهم من المعتزلة قوله : (جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) ، أي : وجدناهم كذلك أولياء لهم.

ولكن لو جاز إضافة ذلك إلى الله ـ تعالى ـ كما ذكر هؤلاء ـ لجاز إضافة ذلك إلى الأنبياء ؛ لأنه قد كان منهم التخلية في ذلك ، والتسمية لهم بذلك ، والحكم على ما قال الحسن (٢) ، فإذا لم يجز إضافة ذلك إليهم ؛ دل أنه قد كان من الله في ذلك صنع لم يكن ذلك من الأنبياء ، وهو أن خلق منهم فعل الولاية لهم ؛ لما علم منهم أنهم يختارون ولايتهم ويتولونهم ؛ كقوله : (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) [النحل : ١٠٠] ، وبالله العصمة والنجاة.

قوله تعالى : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)(٣٠)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً).

قال ابن عباس (٣) ـ رضي الله عنه ـ : كل معصية فاحشة ، والفاحشة : كل ما عظم فيه النهي ، فإذا ارتكبوا ذلك فهو فاحشة.

وقال مجاهد (٤) : فاحشتهم أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة.

وقال غيره (٥) من أهل التأويل : الفاحشة هو ما حرموا من الحرث والأنعام والبنات ، وغيره من نحو السائبة والحامي وغيره ، لكن الفاحشة ما ذكرنا : أن كل ما عظم النهي فيه والزجر فهو فاحشة ، والفاحشة هو ما عظم من (٦) الأمر ، يعرف ذلك بوجهين :

__________________

(١) في ب : هذا.

(٢) في أ : الوجود فليحرر.

(٣) ذكره بمعناه البغوي في تفسيره (٢ / ١٥٥) ، وأبو حيان في تفسيره (٤ / ٢٨٦).

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٦٣) (١٤٤٦٧) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٤٣) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٥) ذكره أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٢٨٦).

(٦) في ب : فيه.

٣٩٩

أحدهما : يعظم ذلك في العقل ، والثاني : بالسمع يرد فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها).

ادعوا في ذلك أمر الله ورضاه به ، ويقولون : لو لم يرض بذلك ولم يأمر ، لكان ينكلهم وينتقم منهم ، يعنون آباءهم ، فاستدلوا بتركهم وما فعلوا على أن الله قد كان رضي بذلك ، وأمرهم أن يفعلوا ذلك (١) ؛ فدل تركه إياهم على ذلك على أنه قد أمرهم بذلك ، ورضي عنهم ؛ كمن يخالف في الشاهد ملكا من الملوك في أمره ونهيه ، فإنه ينكله على ذلك وينتقم منه ؛ إذا كان قادرا على ذلك ، فإذا لم يفعل ذلك به دل ذلك منه على الرضا به ؛ فعلى ذلك الله : لما لم ينتقم منهم ولم ينكلهم ، دل ذلك على الرضا والأمر به.

والثاني : كأنهم أخذوا ذلك من المسلمين لما سمعوا من المسلمين قالوا : «ما شاء الله كان» ظنوا أن ما كان من آبائهم كان بأمر من الله ورضاه ، لم يفصلوا بين المشيئة والأمر : المشيئة والإرادة [هي](٢) صفة فعل كل فاعل يفعله على الاختيار ، نحو أن يقال : شاء فعل كذا ، أو (٣) أراد أمر كذا ، ولا يجوز أن يقال : أمر نفسه بكذا ، أو نهى نفسه عن كذا.

وأما قولهم : إن لم ينكل آباءهم ، ولم ينتقم منهم بما فعلوا ، دل أنه رضي بذلك ، فيقال : إن فيهم من فعل على خلاف فعلهم وغير صنيعهم ضد ما فعل أولئك ، ثم لم يفعل بهم ذلك ؛ فهل دلّ ذلك على الرضا منه بذلك؟ فإن قلتم : بلى [فقد](٤) رضي بفعلين متضادين.

وإن قلتم : لا فكيف دلّ ذلك في أولئك على الرضا والأمر ، ولم يدل فيمن فعلوا بخلاف فعلهم ؛ فهذا تناقض؟! وقد ذكرناه فيما تقدم ، والله أعلم.

قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ). لهم يا محمد.

(إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

إن الله أمر بهذا وحرم هذا ، وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) [الفحشاء](٥) : هو ما ذكرنا ما عظم النهي فيه ، أو كل ما يشتد فيه النهي ويغلظ أو يكثر هو الفحشاء.

ألا ترى أنه يقال لكل شيء يكثر : فحش ، من نحو الكلام وغيره أنه إذا خرج عن حدّه

__________________

(١) في ب : إذا فعلوا بذلك.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : و.

(٤) في أ : قادرا ، وسقط في ب.

(٥) سقط في أ.

٤٠٠