تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ).

وقال في آية أخرى : (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) [الشعراء : ٣٤] ، يحتمل أن يكون فرعون قال للملإ : إن هذا كذا ، ثم قال الملأ لقومه : إن هذا لساحر عليم ، أراد ـ والله أعلم ـ تلبيس ما أتى به موسى من الآية على قومه ، وأراد بقوله : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) [الشعراء : ٣٥] إغراء قومه عليه.

والسحر عندنا (١) هو من آيات الرسالة ولو كان ما أتى [به](٢) موسى سحرا كان ذلك

__________________

(١) السحر ـ بالكسر وسكون الحاء المهملة ـ هو فعل يخفى سببه ويوهم قلب الشيء عن حقيقته ، كذا قال ابن مسعود.

وفي «كشف الكشاف» : السحر في أصل اللغة الصرف ، حكاه الأزهري عن الفرّاء ويونس ، وقال : وسمّى السحر سحرا ؛ لأنه صرف الشيء عن جهته ، فكأن الساحر لما أرى الباطل حقّا ، أي : في صورة الحق ، وخيل الشيء على غير حقيقته ـ فقد سحر الشيء عن وجهه ، أي صرفه.

وذكر عن الليث أنه عمل يتقرب به إلى الشيطان ومعونة منه ، وكل ذلك الأمر كينونة السحر ، فلم يصل إلىّ تعريف يعوّل عليه في كتب الفقه.

والمشهور عند الحكماء منه غير المعروف في الشرع ، والأقرب أنه الإتيان بخارق عند مزاولة قول أو فعل محرم في الشرع ، أجرى الله سبحانه سنته بحصوله عنده ابتداء ، فإن كان كفرا في نفسه كعبادة الكواكب ، أو انضم معه اعتقاد تأثير من غيره تعالى كفّر صاحبه ، وإلا فسّق وبدّع.

نقل في الروضة عن كتاب الإرشاد لإمام الحرمين : أن السحر لا يظهر إلا على فاسق ، كما أن الكرامة لا تظهر إلا على متّق ، وليس له دليل من العقل إلا إجماع الأمة ، وعلى هذا تعلمه حرام مطلقا وهو الصحيح عند أصحابنا ؛ لأنه توسل إلى محظور عنه للغنى. انتهى.

وفي البيضاوي في تفسير قوله تعالى : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)[البقرة : ١٠٢] المقصود بالسحر : ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان ، مما لا يستقل به الإنسان ، وذلك لا يحصل إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس ، فإن التناسب شرط في النظام والتعاون ، وبهذا يميز الساحر عن النبي والولي.

وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية ، أو يريه صاحب خفة اليد فغير مذموم ، وتسميته سحرا على التجوز ، أو لما فيه من الدقة ؛ لأن السحر في الأصل موضوع لما خفي سببه ، انتهى.

وفي الفتاوى الحمادية : السحر نوع يستفاد من العلم بخواص الجواهر وبأمور حسابية في مطالع النجوم ، فيتخذ من تلك الجواهر هيكل مخصوص على صورة الشخص المسحور ويترصد له في وقت مخصوص في المطالع ، وتقرن به كلمات يتلفظ بها من الكفر والفحش المخالف للشرع ، ويتوصل في تسميتها إلى الاستعانة بالشياطين ، وتحصل من مجموع ذلك ـ بحكم إجراء الله العادة ـ أحوال غريبة في الشخص المسحور. انتهى.

وكونه معدودا من الخوارق مختلف فيه.

وقال الحكماء : السحر مزج قوى الجواهر الأرضية بعضها ببعض.

قال الإمام فخر الدين الرازي في «التفسير الكبير» : اعلم أن السحر على أقسام :

القسم الأول : سحر الكلدانيين والكسدائين الذين كانوا في قديم الدهر ، وهم قوم يعبدون الكواكب ، ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادة ـ

٥٢١

__________________

ـ والنحوسة ، وهم الذين بعث الله تعالى عليهم إبراهيم عليه‌السلام مبطلا لمقالتهم ، ورادّا عليهم في مذاهبهم وعقائدهم.

والقسم الثاني من السحر : سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية ، قالوا اختلف الناس في الإنسان ، فأما إذا قلنا بأن الإنسان هو هذه البنية فلا شك أن هذه البنية مركبة من الأخلاط الأربعة ، فلم لا يجوز أن يتفق مزاج من الأمزجة يقتضي القدرة على خلق الجسم والعلم بالأمور الغائبة عنا. وأما إذا قلنا : إن الإنسان هو النفس ، فلم لا يجوز أن يقال : إن النفوس مختلفة ، فيتفق في بعض النفوس أن تكون قادرة على هذه الحوادث الغريبة مطلعة على الأسرار الغريبة.

ثم الذي يؤكد هذا الاحتمال وجوه :

الأول : أن الجذع يتمكن الإنسان من المشي عليه لو كان موضوعا على الأرض ولا يمكنه لو كان كالجسر موضوعا على هاوية تحته ، وما ذاك إلا أن يخيل السقوط ، ومتى قوي أوجب السقوط.

الثاني : أنه أجمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر ، والمصروع عن النظر إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران ، وما ذاك إلا لأن النفوس خلقت على الأوهام.

الثالث : حكى عن أرسطو أن الدجاجة إذا تشببت وبلغت واشتاقت إلى الديك ولم تجده ، فتصورت الديك وتخيلته ، وتشبهت بالديك في الصوت والجوارح ـ نبت على ساقها مثل الشيء النابت على ساق الديك ، وارتفع على رأسها مثل تاج الديك ، وليس هذا إلا بسبب كثرة التوهم والتخيل ، وهذا يدل على أن الأحوال الجسمانية تابعة للأحوال النفسانية.

الرابع : أجمعت الأمم على أن الدعاء مظنة الإجابة ، وأجمعوا على أن الدعاء اللساني الخالي من الطلب النفساني قليل العمل عديم الأثر ؛ فدل ذلك على أن للهمم والنفوس آثارا ، وهذا الاتفاق غير مختص بمسألة معينة وبحكمة مخصوصة.

الخامس : أن المبادئ القوية للأفعال النفسانية ليست إلا التصورات النفسانية ؛ لأن القوة المحركة مودعة في العضلات ، صالحة للفعل وتركه ، ولأن يرجح أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح ، وما ذاك إلا تصور كون الفعل لذيذا أو قبيحا ، أو مؤلما بعد أن كانت كذلك بالقوة ، فتلك التصورات هي المبادئ لصيرورة القوى العقلية ، مبادئ بالفعل لوجود الأفعال بعد أن كانت بالقوة ، وإذا كانت هذه التصورات هي مبادئ لمبادئ هذه الأفعال ، فأي استبعاد في كونها مبادئ هذه الأفعال لنفسها وإلغاء الواسطة عن درجة الاعتبار؟!

والسادس : أن التجربة والعيان لشاهدان بأن هذه التصورات مبادئ قريبة لحدوث الكيفيات في الأبدان ، فإن الغضبان تشتد سخونة مزاجه عند هيجان كيفية الغضب ، لا سيما عند إرادة الانتقام من المغضوب عليه ، وإذا جاز كون التصورات مبادئ لحدوث الحوادث في البدن فأي استبعاد من كونها مبادئ لحوادث في خارج البدن.

السابع : أن الإصابة بالعين أمر قد اتفق عليه العقلاء ، ونطقت به الأحاديث والحكايات ، وذلك أيضا يحقق إمكان ما قلنا.

وإذا عرفت هذا فنقول : إن النفوس التي تفعل هذه الأفعال قد تكون قوية جدّا فتستغنى في هذه الأفعال عن الاستعانة بالآلات والأدوات ، وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الآلات ، وتحقيقه أن النفس إن كانت مستعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السموات كانت كأنها روح من الأرواح السماوية ؛ فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم.

وأما إذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه اللذات البدنية فحينئذ لا يكون لها تصرف البتة إلا البدن ، فإذا أراد الإنسان صيرورتها بحيث يتعدى تأثيرها من بدنها إلى بدن آخر اتخذ تمثال ذلك الغير ووضعه عند الحس واشتغل الحس به ، فتبعه الخيال عليه وأقبلت النفس الناطقة عليه ، ـ

٥٢٢

__________________

ـ فقويت التأثيرات النفسانية والتصرفات الروحانية ؛ ولذلك أجمعت الأمم على أنه لا بد لهذه الأعمال من الانقطاع عن المألوفات والمشتهيات وتقليل الغذاء ، بل الاعتزال عن الخلق ، وكلما كانت هذه الأمور أتمّ كانت هذه التأثيرات أقوى.

والسبب فيه : أن النفس إن اشتغلت بالجانب الواحد اشتغلت جميع قواها في ذلك الفعل ، وإذا اشتغلت بالأفعال الكثيرة تفرقت قواها وتوزعت على تلك الأفعال ؛ ولهذا من حاول الوقوف على مسألة فإنه حال تفكره فيها لا بد أن يفرغ خاطره عما عداها ؛ فإنه عند تفريغ الخاطر يتوجه بكليته إليها فيكون الفعل أحسن وأسهل ، وإذا كانت كذلك كان الإنسان المشغول الهم والهمة بقضاء الشهوات وتحصيل اللذات ، وكانت القوة النفسانية مشغولة بها مشغوفة إليها مستغرقة فيها ـ فلا يكون انجذابها إلى تحصيل ذلك الفعل قويّا شديدا.

والقسم الثالث من السحر : الاستعانة بالأرواح الأرضية.

واعلم أن القول بالجن أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة ، أما أكابر الفلاسفة فإنهم ما أنكروا القول به إلا أنهم سموها بالأرواح الأرضية ، بعضها خيرة وبعضها شريرة ، فالخيرة هم مؤمنو الجن ، والشريرة هم الكفار.

وهي قادرة عالمة ، واتصال النفوس بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية ، إلا أن القوة الحاصلة للنفوس الناطقة بسبب اتصالها بهذه الأرواح الأرضية أضعف من القوة الحاصلة لها بسبب الاتصال بالأرواح السماوية.

ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة لشاهدون أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقي والتجريد.

والقسم الرابع من السحر : التخيلات والأخذ بالعيون.

وهذا النوع مبني على مقدمات : إحداها : أن أغلاط البصر كثيرة ؛ فإن راكب السفينة إن نظر إلى الشطّ رأى السفينة واقفة والشط متحركا ، وذلك يدل على أن الساكن يرى متحركا والمتحرك ساكنا ، والقطرة النازلة ترى خطّا مستقيما ، والشعلة التي تدار بسرعة ترى دائرة ، والشخص الصغير يرى في الضباب عظيما ، ويرى العظيم من البعيد صغيرا ؛ فعلم أن القوة الباصرة قد تبصر الشيء على خلاف ما هو عليه في الجملة لبعض الأسباب العارضة.

ثانيتها : أن القوة الباصرة إنما تقف على المحسوس وقوفا تامّا إذا أدركت المحسوس في زمان له مقدار ، فأما إذا أدركته في زمان صغير جدّا ثم أدركت محسوسا آخر وهكذا ، فإنه يختلط البعض بالبعض ، ولا يتميز بعض المحسوسات عن البعض الآخر ، ومثال ذلك : أن الرحى إذا أخرجت من مركزها إلى محيطها خطوط كثيرة بألوان مختلفة ثم استدارت فإن الحس يرى لونا واحدا كأنه مركب من الألوان.

وثالثتها : أن النفس إذا كانت مشغولة بشيء فربما حضر عند الحس شيء آخر فلا يتبعه الحس البتة ، كما أن الإنسان عند دخوله على السلطان قد يلقاه إنسان ويتكلم معه فلا يعرفه ولا يفهم كلامه ؛ لما أن قلبه مشغول بشيء آخر ، وكذا الناظر في المرآة فإنه ربما قصد أن يرى قذاة في عينه فيراها ولا يرى ما [هو] أكثر منها ، وربما قصد أن يرى سطح المرآة هل هو مستو أم لا فلا يرى شيئا مما في المرآة.

فإذا عرف هذه المقدمات سهل عند ذلك تصور كيفية هذا النوع من السحر ؛ وذلك لأن المشعبذ الحاذق يظهر عمل شيء يشغل أنظار الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه ، حتى إذا استفرغهم الشغل بذلك الشيء والتحديق نحوه عمل شيئا آخر بسرعة شديدة ، فيبقى ذلك العمل خفيّا ، وحينئذ ـ

٥٢٣

__________________

ـ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه فيتعجبون منه جدّا ، ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن تعلمه ، ولم يحرك الناس والأوهام والأنظار إلى غير ما يريد إخراجه لفطن الناظرون بكل ما يفعله ، فهذا هو المقصود من قولهم : إن المشعبذ يأخذ بالعيون ؛ لأنه بالحقيقة يأخذ العيون إلى غير الجهة التي يحتال لها.

فإذا عرفت هذه الأقسام فأقول : المعتزلة أنكروا السحر بجميع أقسامه إلا التخيل.

أما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر على أن يطير في الهواء ويقلب الإنسان حمارا والحمار إنسانا ، إلا أنهم قالوا : إن الله تعالى هو الخالق لهذه الأشياء عند ما يقرأ الساحر رقي مخصوصة وكلمات معينة ، فأما أن المؤثر لذلك هو الفلك أو النجوم فلا ، وقد أجمعوا على وقوع السحر بالقرآن والخبر.

أما القرآن فقوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)[البقرة : ١٠٢].

وأما الأخبار فأحدها : ما روي أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سحر ، وأن السحر عمل فيه حتى قال : «إنه ليخيل إليّ أني أقول الشيء وأفعله ولم أقله ولم أفعله» ، وأن امرأة يهودية سحرته وجعلت ذلك السحر راعوفة البئر ، فلما استخرج ذلك زال عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذلك العارض ونزلت المعوذتان بسببه.

وثانيها : أن امرأة أتت عند عائشة ـ رضي الله عنها ـ فقالت : إني ساحرة فهل لي من توبة؟ فقالت : وما سحرك ، فقالت صرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ببابل لطلب علم السحر فقالا لي : يا أمة الله ، لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا ، فأبيت ، فقالا لي : اذهبي فبولي على ذلك الرماد ، فذهبت لأبول عليه ، ففكرت في نفسي فقلت : لا أفعل ، وجئت إليهما فقلت قد فعلت ، فقالا لي : ما رأيت لمّا فعلت؟ فقلت : ما رأيت شيئا ، فقالا لي : أنت على رأس أمرك فاتقي الله ولا تفعلي ، فأبيت ، فقالا لي : اذهبي فافعلي ، فذهبت ففعلت ، فرأيت كأن فارسا مقنّعا بالحديد خرج من فرجي فصعد إلى السماء ، فجئتهما فأخبرتهما فقالا : إيمانك خرج عنك ، وقد أحسنت السحر ، فقالت : وما هو؟ قالا : ما تريدين شيئا يتصور في وهمك إلا كان ، فصورت في نفسي حبّا من حنطة ، فإذا أنا بحب الزرع فخرج من ساعته سنبله ، فقلت : انطحن ، فانطحن وانخبز ، وأنا لا أريد شيئا إلا حصل ، فقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ليس لك توبة. انتهى من التفسير الكبير ، وقد قال الشيخ عبد الحق الدهلوي في «مدارج النبوة» : إن السحر في الشرع حرام ، وقال البعض : إن تعلم الإنسان له بنية دفع السحر عن نفسه ليس حراما ، والساحر الذي لا يكون سحره كفرا تقبل توبته ، أما إذا كان سحره كفرا فإنه يقتل ، وفي قبول توبته اختلاف مثل الزنديق الذي يكون منكرا للدين والنبوة والحشر والنشر والقيامة ، وهناك اختلاف في حقيقة السحر ، فالبعض يقول : إنه مجرد تخيل وإيهام ، وهذا اختيار أبي بكر الأسترآباذي من الشافعية ، وأبي بكر الرازي من الحنفية وطائفة أخرى.

أما جمهور العلماء فيتفقون على أن السحر حقيقة ، وفي ظاهر الكتاب والسنة المشهورة دلالة على ذلك ، ولكنهم يختلفون في هذا الأمر ، وهو أنه إذا كان له تأثير في تغيير المزاج فقط فهو نوع من المرض أو ينتهي تأثيره مع الحالة ، يعني انقلاب حقيقة الشيء بحقيقة أخرى ، كما يصير الإنسان جمادا والعكس ، ويصير الإنسان حمارا والكبش أسدا والعكس ، والجمهور يقول بهذا.

والبعض يقول : إن السحر ليس له ثبوت ووقوع ، وهذا الكلام مكابرة وباطل ، والكتاب والسنة ناطقان بخلافه.

والسحر من الحيل الصناعية التي تحصل بالأعمال والأسباب بطريق الاكتساب ، وأكثر وقوعها من أهل الفسق والفساد ، وإذا كانت في حالة الجنابة ازداد تأثيرها ، بل إذا كانت الجنابة ناشئة عن ـ

٥٢٤

من آيات رسالته ونبوته ؛ لأنه لا يستفاد إلا بعلم من السماء وخبر منها ، وكذلك هذه الحرف والمكاسب التي تكتسب في الخلق ؛ لأنه لا يعلم إلا بالوحى من السماء ، لكنه ليس بآية على الإشارة ، ولو كان ما أتى به سحرا لكان له آية ؛ لأنه نشأ بين أظهرهم لم يروه اختلف إلى ساحر قط ولا عرفوا (١) أنه تعلم ذلك من أحد ، فدل ذلك أنه من الآية ، لكنه أخرج ذلك عما عرفوا من السحر لما لا أحد يعرف أنه لم يختلف في ذلك ، ولا تعلم من أحد ، فأخرجه عن وسع السحرة وتدبيرهم ؛ ليعرف كل أحد أنه [من](٢) آيات رسالته

__________________

ـ وطء حرام أو عن المحارم فإنها تكون أكثر تأثيرا ـ أعاذنا الله من السحر والساحر ـ وقد ثبت بنقل صحيح أن اليهود صنعوا سحرا لحضرة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وظهر تأثيره في ذاته الجليلة في صور النسيان والتخيل وضعف قوة الجماع وأمثالها ، وكان وقوع هذه الحادثة بعد الرجوع من الحديبية ، في ذي الحجة في آخر السنة السادسة من الهجرة ، وكانت مدة بقاء هذا العارض أربعين يوما في قول وستة أشهر في رواية أخرى ، وعاما في قول ثالث ، حتى كان الرسول ليلة عند عائشة ـ رضي الله عنها ـ فدعا الله وبكى كثيرا ، ونام وقال : «أعندك علم يا عائشة بما قضاه الله تعالى في حقي فيما استفتيت فيه»؟ يعني أجابني إلى ما سألته ، «فقد نزل إلى رجلان من قبله ، فجلس واحد منهما بجواري وجلس الآخر بجوار قدمي ، ثم قال واحد من هذين الرجلين : كيف حال صاحبك؟ ما سبب المرض الذي أصاب هذا الرجل؟ فأجاب الآخر : مسحور ، فقال : من الذي سحر له؟ فأجاب الثاني : لبيد بن الأعصم اليهودي ، فقال في أي شيء سحر له؟ فأجاب الآخر : في مشاطة ـ يعني : في الشعر الذي يسقط في الرأس والذقن أثناء تمشيطهما ـ ووضعه في وعاء طلع نخل ذكر ، فقال : أين وضعه؟ فأجاب الثاني : في بئر ذروان ، وفي رواية أخرى في بئر أردان».

فجاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه بعض الصحابة إلى تلك البئر ، فقال الرسول هذه هي نفس البئر التي أرياني ماءها. ثم استخرجوا السحر من تلك البئر.

وقد جاء في رواية : وجدوا فيها وتر قوس فيه إحدى عشرة عقدة ، ثم نزلت سورتا الفلق والناس ، فكانوا كلما قرءوا آية انحلت عقدة من تلك العقد ، وآيات هاتين السورتين إحدى عشرة آية أيضا.

وفي رواية أخرى : أنهم وجدوا طلع نخل فيه تمثال للرسول مصنوع من الشمع قد ثبتت فيه إبر ، وخيط فيه إحدى عشرة عقدة ، فكانوا يقرءون المعوذتين فكانت العقد تنحل ، وكانوا كلما نزعوا إبرة سكن ألم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وظهرت الراحة عليه.

وليس ظهور السحر على ذات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المباركة من الأمور التي تنقص من قدره ، بل إن ظهور السحر فيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ من دلائل النبوة ؛ لأن الكفار كانوا يلقبونه بالساحر ، ومن المقرر أن السحر لا يؤثر في الساحر ، وظهور السحر أيضا ، وآلات السحر في مكان خفي لا يعلمه إلا ساحر آخر ـ من شواهد النبوة ، كما أن دفع تأثير السحر وإبطال أثره بدون سحر آخر من براهين النبوة.

والخلاصة : أن تأثير السحر في حضرة الرسول من أجل هذه الحكم والمصالح ، وقد جاءت أحاديث صحيحة في هذا الباب لا تقبل الإنكار. انتهى من مدارج النبوة ينظر كشاف اصطلاحات الفنون (٣ / ١٥٢ ـ ١٥٧).

(٢) سقط في ب.

(١) في ب : عرف.

(٢) سقط في أ.

٥٢٥

ونبوته لا السحر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ).

كان موسى لا يريد أن يخرجهم من أرضهم ، ولكن ـ والله أعلم ـ كأنه قال فرعون لقومه : لو اتبعتم موسى وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه لأخرجتكم [من أرضكم](١) لكن أضاف ذلك إلى موسى لما كان هو سبب إخراجهم ، والله أعلم.

أو يقول : يريد أن يذهب بعيشكم الطيب وراحتكم وتلذذكم بأنواع التلذذ ؛ لأنهم كانوا يستعبدون بني إسرائيل ، ويستخدمونهم ، ويستريحون هم وينعمون ، فيقول للقبط (٢) : يريد أن يذهب بذلك كله عنكم.

وجائز أن يكون موسى لم يكن يريد أن يخرجهم من أرضهم ، ولكن يريد أن يخرجهم من دينهم الذي كانوا عليه ، ولكنه كان يغري قومه عليه.

وقوله : (فَما ذا تَأْمُرُونَ).

دل هذا القول من فرعون أنه كان يعرف أنه ليس بإله ولا رب ؛ لأنه لو كان ما يقول : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] لكان لا يطلب من قومه الأمر والإشارة في ذلك ، دل ذلك أنه كان يعرف عجزه وضعفه ؛ لكنه يكابر ويلبس على قومه ويموه بقوله : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ).

وقوله : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) هذا الحرف حرف إغراء وتحريش عليه ، وقوله : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) هو حرف تقريب حيث جعل إليهم الأمر والإشارة ، وجعلهم من أهل مشورته.

وقوله : (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ).

هذا الحرف لا يقال ابتداء إلا أن يكون هنالك تقدم شيء ، فكأنه هم بقتله ؛ كقوله : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) [غافر : ٢٦] فقالوا له : (أَرْجِهْ) ، أي : أخره واحبسه ولا تقتله ليتبين (٣) سحره عند الخلق جميعا ، كانوا يمنعون فرعون عن قتله.

ألا ترى أنه قال : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) [غافر : ٢٦] لو لم يكن منهم منع (٤) عن قتله لم يكن ليقول لهم : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) [غافر : ٢٦].

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) كلمة يونانية الأصل بمعنى : سكان مصر ، ويقصد بهم اليوم : المسيحيون من المصريين ، وتجمع على : أقباط. ينظر المعجم الوسيط (٢ / ٧١١).

(٣) في أ : لتبين.

(٤) في ب : معهم.

٥٢٦

وقوله : (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ).

قال القتبي (١) : أرجه وأخاه هارون ، يقول : احبسه ، أي : أخّره ، ومنه قوله : ترجي (٢) من تشاء ، ومنه سميت المرجئة.

وقال ابن عباس (٣) ـ رضي الله عنه ـ : (أَرْجِهْ وَأَخاهُ) ولا تقتلهما (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أي : أرسل إلى المدائن الشرط (٤) ، يأتون من المدائن حاشرين ، أي : يحشرون عليك السحرة والناس. إلى هذا يذهب ابن عباس ، رضي الله عنه.

وقوله : (يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) لا تقتله حتى يأتوك بكل ساحر عليم ، أي : ليجتمع كل أنواع السحر [عنده](٥) ليتبيّن (٦) سحره ، [وإلا كان ساحر واحد كافيا ، ولكن أرادوا والله أعلم بقوله : (يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) ليجتمع جميع أنواع السحر عنده لتبين سحره](٧).

قوله تعالى : (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ)(١١٧)

(فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ)(١٢٢)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) : في المنزلة والقدر عندي ، هذا يدل (٨) أن همة الساحر ليس إلا الدنيا ؛ [لأنهم طلبوا من فرعون الأجر والقدر والمنزلة عنده إن كانوا هم الغالبين ، ولا

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٦ / ١٩) (١٤٩٣٢) عن ابن عباس ، و (١٤٩٣٣) عن قتادة.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٩٨) وزاد نسبه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس ولعبد بن حميد عن قتادة.

(٢) في أ : يرجى.

(٣) أخرجه ابن جرير (٦ / ١٩) عن كل من : ابن عباس (١٤٩٣٤ و ١٤٩٣٧ و١٤٩٣٨) ، ومجاهد (١٤٩٣٥) ، والسدي (١٤٩٣٦) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٩٨) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ من طرق عن ابن عباس.

(٤) وهم حفظة الأمن في البلاد ، ينظر المعجم الوسيط (١ / ٤٧٩) [شرط].

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : لتبين.

(٧) سقط في ب.

(٨) زاد في أ : على.

٥٢٧

يجوز من همته الدنيا](١) وما ذكر أن يكون له الرسالة بحال ، وهمّة الأنبياء كانت الدين وطلب الآخرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ).

هذا ليس على إلقاء هذا ، وترك أولئك الإلقاء ؛ لأنه لو كان على إلقاء أحدهما لكان لا يتبين السحر من الآية ، لكن إلقاء الأول كأنهم قالوا : يا موسى إما أن تلقي أولا أو نحن الملقون أول مرة ، وهو كما ذكر في آية أخرى : (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) [طه : ٦٥] ، وقول موسى : (أَلْقُوا) كأنه أمره ربه أن يأمر بذلك ؛ قال موسى : (أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) هذا يدل أن السحر إنما يأخذ الأبصار على غير حقيقة كانت له (٢) ، وهو كالسراب (٣) الذي يرى من بعيد (٤) ؛ كقوله : (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً ...) [النور : ٣٩] الآية ، فعلى ذلك السحر يأخذ الأبصار ظاهرا ، فإذا هو في الحقيقة باطل لا شيء ، وكالخيال في القلوب لا حقيقة له ، وكان قصدهم بالسحر استرهاب الناس ، وتخويفهم به.

ألا ترى أنه ذكر في آية أخرى : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) [طه : ٦٧] ، وقد ذكرنا أن ما جاء به الرسل لو كان سحرا في الحقيقة ، لكان ذلك حجة لهم في إثبات الرسالة ؛ لأن قومهم لم يروهم اختلفوا إلى ساحر قط ، فيدل ذلك أنهم إنما عرفوا ذلك بالله تعالى ، وهو كالأنباء التي أتى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) [طه : ٦٧] يخرج على وجهين :

أحدهما : أخذ سحرهم بصره كما أخذ أعين الناس.

والثاني : خاف أن سحرهم يمنع أولئك عن رؤية حقيقة ما جاء به.

وقوله : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) أي : أخذوا كقوله : (مَسْحُورُونَ) [الحجر : ١٥] ، أي : مأخوذ أعينكم.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : له كانت.

(٣) السراب : ما لمع في المفازة كالماء ، وذلك لانسرابه في مرأى العين. وكأن السراب لما لا حقيقة له كما قال تعالى : (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) [النور : ٣٩] كما أن الشراب لما له حقيقة. وأنشدني بعضهم في التجانس والتضمين :

ومن يرجو من الدنيا وفاء

كمن يرجو شرابا من سراب

لها داع ينادي كل يوم

لدوا للموت وابنوا للخراب

ينظر : عمدة الحفاظ (٢ / ٢١٣).

(٤) في ب : من بعد.

٥٢٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ) فيه أن موسى كان لا (١) يلقي عصاه إلا بعد الأمر بالإلقاء ، وكذلك قوله : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) [البقرة : ٦٠] و (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣] ونحوه ، كان لا يضرب بالعصا ، ولا يلقي إلا بعد الأمر بالإلقاء والضرب ؛ ليعلم أن في ذلك امتحانا لموسى فيما يؤمر بالإلقاء على الأرض لتصير حية ، وفيما يأمره بالضرب بها الحجر والبحر ، ولله أن يمتحن عبده بما شاء من أنواع المحن ، وإلا كان قادرا أن يفلق البحر على غير الأمر بالضرب بالعصا ، وكذلك يفجر الحجر ، ويشقه على غير ضرب بالعصا ، وكذلك يصير (٢) العصا حيّة وهي في يده ، ولكن (٣) أمره بذلك كله ـ والله أعلم ـ امتحانا منه إياه وابتلاء ، إذ (٤) هي دار محنة وابتلاء ؛ إذ (٥) في زمن موسى كان السحر هو الظاهر ، وكان الناس وقتئذ يعملون بالسحر ، فجاء موسى من الآيات على رسالته بنوع ما كانوا يعملون به ، ومن جنس ذلك ؛ ليعرفوا بخروجه عن وسعهم أن ذلك [ليس بسحر](٦) ، ولكن آية سماوية ، وكذلك ما جاء عيسى من الآيات جاء بنوع ما كان يعمله قومه ، وهو الطب (٧) ، فجاء بنوع الطب ليعلموا أنه بالله عرف ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ).

قال القتبى : تلقف : تلتقم وتلقم ، اشتقاقه من اللقم والابتلاع.

__________________

(١) في أ : لما.

(٢) في أ : تصيير.

(٣) في ب : ولكنه.

(٤) في أ : أو.

(٥) في ب : إن.

(٦) في أ : بسحرهم.

(٧) هو علم يبحث فيه عن بدن الإنسان من جهة ما يصح ويمرض لحفظ الصحة وإزالة المرض.

قال جالينوس : الطب حفظ الصحة وإزالة العلة.

وموضوعه : بدن الإنسان من حيث الصحة والمرض.

ومنفعته لا تخفى ، وكفى بهذا العلم شرفا وفخرا أقوال الإمام الشافعي : العلم علمان : علم الطب للأبدان ، وعلم الفقه للأديان.

ويروى عن علي ـ كرم الله وجهه ـ : العلوم خمسة : الفقه للأديان ، والطب للأبدان ، والهندسة للبنيان ، والنحو للسان ، والنجوم للزمان. ذكره في مدينة العلوم.

قال في كشاف اصطلاحات الفنون : وموضوع الطب بدن الإنسان وما يشتمل عليه من الأركان والأمزجة والأخلاط والأعضاء والقوى والأرواح والأفعال ، وأحواله من الصحة والمرض ، وأسبابهما من المأكل والمشرب والأهوية المحيطة بالأبدان والحركات والسكنات والاستفراغات والاحتقانات والصناعات والعادات والواردات الغريبة ، والعلامات الدالة على أحواله من ضرر أفعاله وحالات بدنه وما يبرز منه ، والتدبير بالمطاعم والمشارب واختيار الهواء وتقدير الحركة ـ

٥٢٩

وقوله : (ما يَأْفِكُونَ) قيل : ما يكذبون (١).

قال الحسن (٢) : (تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) حبالهم وعصيهم.

وقيل : (تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) ما جاءوا به من الكذب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَوَقَعَ الْحَقُ).

قيل (٣) : أي : ظهر الحق ، (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، أي : بطل ما عملوا من السحر.

والثاني : (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : ترك (٤) السحرة العمل بالسحر إذ ظهر الحق لهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَغُلِبُوا هُنالِكَ).

أي : عند ذلك غلب السحرة ؛ لأنهم قالوا لفرعون في الابتداء : (إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) [الأعراف : ١١٣] ، فذكر هاهنا أنهم غلبوا عند ظهور الحق ، لا أنهم صاروا غالبين ، وقوله : (فَغُلِبُوا هُنالِكَ) ليس غلبة القهر والقسر ، ولكن غلبة بالحجج والبراهين ، أي : غلبوا بالحجج والآيات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ).

قال بعض أهل التأويل (٥) : رجع السحرة لما غلبوا صاغرين مذللين.

لكن نقول : رجع فرعون وقومه إلى منازلهم مذللين لا السحرة ؛ لأن السحرة قد آمنوا فلا يحتمل أن يوصفوا بالرجوع صاغرين مذللين ، وقد رجعوا مع الإيمان.

وقوله : (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) اختلف فيه :

__________________

ـ والسكون والأدوية البسيطة والمركبة وأعمال اليد لغرض حفظ الصحة وعلاج الأمراض بحسب الإمكان. انتهى.

ينظر : أبجد العلوم (٢ / ٣٥٣ ، ٣٥٤).

(١) أخرجه ابن جرير (٦ / ٢٢ ـ ٢٣) (١٤٩٥٥ و١٤٩٥٦) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٩٩) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٢) أخرجه ابن جرير (٦ / ٢٣) (١٤٩٥٧) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٩٩) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الحسن البصري.

(٣) أخرجه ابن جرير (٦ / ٢٣) (١٤٩٥٨) و (١٤٩٥٩) و (١٤٩٦٠) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٩٩ ـ ٢٠٠) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٤) في أ : تلك.

(٥) انظر تفسير الخازن والبغوي (٢ / ٥٦٢).

٥٣٠

قال بعضهم : [قوله](١) : (وَأُلْقِيَ) ، أي : أمروا بالسجود ، فسجدوا.

وقال آخرون (٢) : قوله : (وَأُلْقِيَ) ، أي : لسرعة ما سجدوا ، كأنهم ألقوا ، والآية [ترد](٣) على المعتزلة ؛ لأنهم ينكرون أن يكون لله تعالى في فعل العباد صنع ، وهاهنا قد أضيف الفعل إلى غيرهم بقوله : (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) دل أن لله في فعل العباد صنعا. وهو أن خلق فعل السجود منهم.

وقال جعفر بن حرب : يجوز أن يضاف الفعل إلى غير ، وإن لم يكن لذلك الغير في ذلك الفعل صنع ؛ نحو : ما يقال في السفر : إن هؤلاء خلفوا (٤) أولئك ، وهم لم يخلفوا (٥) أولئك في الحقيقة ، ولا صنع لهم في التخليف (٦) ، ثم أضيف إليهم فعل التخليف ، فعلى ذلك هذا.

يقال : إن لهم في ذلك صنعا ، وهو أنهم إذا لم ينتظروهم فقد خلفوهم ، فلهم في ذلك صنع ، فأضيف إليهم.

أو أن يقال : إنهم لا يملكون تخليف هؤلاء فأما الله سبحانه وتعالى فهو قادر أن يلقيهم أي : بما يخلق (٧) منهم فعل السجود ، فأضيف الفعل إليه لذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) قال بعض أهل التأويل : إنهم لما قالوا : آمنا برب العالمين ، قال لهم فرعون : إياي تعنون ، فعند ذلك قالوا : لا ، ولكن ربّ موسى وهارون ، ولكن لا ندري هذا ، وموسى أول ما جاء فرعون ودعاه إلى دينه قال له : (إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ١٠٤] ، فلا يحتمل أن يشكل عليه قولهم : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أنهم إياه عنوا بذلك ، وجائز أن يكون آمنا بربّ العالمين الذي أرسل موسى وهارون رسولا (٨).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) انظر تفسير الخازن والبغوي (٢ / ٥٦٢).

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : خلقوا.

(٥) في أ : يخلقوا.

(٦) في أ : التخلف.

(٧) في ب : أي يخلق.

(٨) أرسل الله ـ عزوجل ـ موسى إلى فرعون وملئه وإلى بني إسرائيل ، بعد أن شد عضده بأخيه هارون ؛ ليبين لهم طريق الحق فيخرجهم من الظلمات إلى النور ومن الذل والعبودية إلى العز والحرية ، فدعاهم إلى الإيمان بالله وتوحيده بأسمائه وصفاته ، وعبادته وحده لا شريك له ، وإلى الإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما فيه من بعث وجزاء ، وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصيام والحج ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، تلك أصل دعوة موسى عليه‌السلام ، وأصل ـ

٥٣١

__________________

ـ شريعته التي بعثه الله بها لا تحريف فيها ولا تبديل كما دل عليها القرآن.

ففي توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات يقول الله تعالى في خطابه لموسى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)[طه : ١٤] وقوله (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ)[الشعراء : ١٦](قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)[الشعراء : ٢٣ ، ٢٤](يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[النمل : ٩] والإيمان بالله وأسمائه وصفاته يستلزم الإيمان بملائكته وكتبه ورسله : (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)[البقرة : ٢٨٥] وفي الإيمان باليوم الآخر والجزاء والحساب يقول تعالى مخاطبا موسى ـ عليه‌السلام ـ : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى. فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى)[طه : ١٥ ، ١٦](مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى)[طه : ٥٥] وهذا تقرير للإيمان بالبعث وهو من خطاب موسى لفرعون. وفي إقام الصلاة وإيتاء الزكاة. (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ)[الأعراف : ١٥٦](وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)[يونس : ٨٧].

وقال الله في الحج مخاطبا خليله إبراهيم عليه‌السلام : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)[الحج : ٢٧] والمراد بالناس عموم الناس من زمن إبراهيم وما بعده إلى يوم القيامة كما قال تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)[آل عمران : ٩٧] ولو لم يكن الحج مشروعا لعموم الناس من زمن إبراهيم إلى ما شاء الله لكان البيت من بعد إبراهيم إلى مجيء الإسلام مهجورا ، وليس كذلك. والمقصود بيان أصل دعوة موسى وأصل شريعته كما بينها القرآن.

ولقد دعا موسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ فرعون وقومه بالرفق واللين كما أمرهما الله عزوجل : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)[طه : ٤٣ ، ٤٤] وأقاما الحجة بعد الحجة والآية بعد الآية مما أيدهما الله به من المعجزات ، (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ. قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ)[الأعراف : ١٠٤ ، ١٠٨] وهكذا كان موسى ـ عليه‌السلام ـ يناظر فرعون وقومه بالحق والدليل الواضح بينما كان فرعون وقومه يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الزخرف : ٤٨] و (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)[الأعراف : ١٣٢] ولقد يئس موسى عليه‌السلام من إيمان فرعون وملئه ومن استجابتهم لدعوته (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ)[الدخان : ٢٢] فاستجاب الله سبحانه لنبيه وكليمه موسى عليه‌السلام ، فأمره الله بالخروج بقومه الذين آمنوا به من مصر باتجاه البحر فانفتح لهم فيه طريق يبس سار فيه موسى ومن معه ، وأتبعهم فرعون وقومه حتى إذا ما توسطوا في البحر أطبقه الله عليهم وأغرقهم جميعا ، ونجى الله موسى وقومه قال الله تعالى : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ* وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى)[طه : ٧٧ ، ٧٩]

ينظر : رسالة الشرائع السابقة ومدى حجيتها في الشريعة الإسلامية ص (٦٢ ، ٦٥). ـ

٥٣٢

قوله تعالى : (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(١٢٩)

قوله : (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ).

هذا يدلّ على أن الإيمان هو التصديق لا غير ؛ لأنه لما قال السحرة (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) قال لهم فرعون : (آمَنْتُمْ بِهِ) وهم لم يأتوا بسوى التصديق ، دلّ على أن الإيمان هو التصديق الفرد لا غير.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) هذا من فرعون نوع من التمويه على قومه كما قلنا في الابتداء (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) هو حرف التمويه والتلبيس على قومه فعلى ذلك قوله : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ) هو تمويه منه وتلبيس على قومه ، لئلا يؤمنوا كما آمن السحرة برب موسى.

وقوله : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ).

أي : شيء صنعتموه فيما بينكم وبين موسى ، وهو كما قال في آية أخرى : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) [طه : ٧١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ).

هذا لجهله بأشدّ العقوبة والنكال (١) ، وإلا لم يوعدهم بقطع الأيدي والأرجل من

__________________

(١) واحده : نكل ، نحو جمل وأجمال. وأصل ذلك من نكل ، أي : منع ؛ لأن القيد يمنع من المشي. ومنه : نكلت به ، أي : فعلت به فعلا يمنع غيره من الوقوع في فعله. والنكول عن اليمين : الامتناع منه. والنكل أيضا : اللجام الثقيل ؛ لأنه يمنع الدابة من الجماح.

ويقال : نكل عن الأمر ينكل ، كعلم يعلم ، ونكل ينكل : كفتك يفتك. قوله : (فَجَعَلْناها نَكالاً)[البقرة : ٦٦] أي : فجعلنا العقوبة ، أو المسخة ، أو القرية المعاقبة ، أو الطائفة منعا لمن تقدمها أو تأخر عنها أن يرتكبوا مثل ما ارتكبوا. وقال الأزهري : النكال : العذاب. قوله : (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً)[النساء : ٨٤] أي : تعذيبا عذابا يمنع الغير من الذنب.

ينظر : عمدة الحفاظ (٤ / ٢٥٦).

٥٣٣

خلاف ؛ إذ ذلك أيسر وأقل في العقوبة من [القطع من](١) جانب ، والقطع من جانب أشدّ وأنكل من القطع من خلاف ؛ إذ القطع من خلاف لا يمنع القيام ببعض المنافع ، ولا يعمل في إتلاف النفس ؛ إذ جعل ذلك حدّا في بعض العقوبات ، ولم يجعل القطع من جانب عقوبة بحال ، فدل أنه أشد وأنكل ، ويعمل في إهلاك النفس ، والقطع من خلاف لا يعمل ، دلّ أنه لجهله ما قال.

أو أن اختار القطع من خلاف ليكون مئونة الصلب عليهم لا عليه ؛ لأن المقطوع من خلاف قد يمكن له الصعود على الخشبة ، والثاني (٢) : لا ، والله أعلم.

وقوله : (قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ).

وقال في موضع آخر (لا ضَيْرَ) [الشعراء : ٥٠] ، هذا ـ والله أعلم ـ يخرج على وجهين :

[أحدهما](٣) : على الإقرار منهم بالبعث ، والإيمان به.

والثاني : وعيد منهم لفرعون [لعنه الله](٤) ؛ حيث أوعدهم بقطع الأيدي والأرجل والصلب وغير ذلك من العقوبات ، فقالوا : إنا وأنت إلى ربنا منقلبون ، فتجزى وتعاقب جزاء صنيعك بنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا).

قيل فيه بوجهين :

قيل (٥) : قوله : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا) أي : وما تعيب علينا (٦) ، وتطعن إلا (٧) بما كان منا من الإيمان بآيات ربنا لما جاءتنا ، وهو ما جاءهم من الآيات.

وقيل : وما تعاقبنا وما تنقم (٨) منا إلا أن آمنا بآيات ربنا ، وكان الحق عليك ـ [وعلينا](٩) ـ أن تؤمن بها كما آمنا نحن.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) قوله : «والثاني لا» يريد بالثاني المقطوع من جانب واحد ؛ فإنه لا يستطيع الصعود على الخشبة بنفسه.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) ذكره أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٣٦٦) والزمخشري في الكشاف (٢ / ١٤٢).

(٦) في ب : عليه.

(٧) في أ : الإيمان.

(٨) في ب : وتنتقم.

(٩) سقط في أ.

٥٣٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً).

قوله : (أَفْرِغْ). قيل (١) : أنزل علينا صبرا.

وقيل : أتمم لنا صبرا.

وقيل (٢) : اصبب علينا صبرا ، وهو كله واحد.

ثم يحتمل سؤالهم الصبر لما لعله إذا فعل بهم بما أوعد من العقوبات لم يقدروا على التصبر (٣) ، [على ذلك](٤) فيتركون الإيمان ؛ لذلك سألوا ربهم الصبر على ذلك ليثبتوا على الإيمان به.

(وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ).

سألوا ربهم ـ أيضا ـ التوفي على الإسلام ، وهكذا كان دعاء الأنبياء ، كما قال يوسف (٥) : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً ...) الآية.

__________________

(١) ذكره الرازي في تفسيره (١٤ / ١٧٠).

(٢) ذكره الرازي في تفسيره (١٤ / ١٧٠) ونسبه لمجاهد.

(٣) في ب : الصبر.

(٤) سقط في أ.

(٥) بشر الله سبحانه إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بإسحاق وبابنه يعقوب بن إسحاق : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧١] ويعقوب هو إسرائيل الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل كما يناديهم القرآن ، ويوسف أحد الأبناء الاثني عشر ليعقوب عليهما‌السلام ، وقد نص القرآن على نبوة يوسف ورسالته من بين إخوته ، قال تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [يوسف : ١٥] ، (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [يوسف : ٦] (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) [غافر : ٣٤].

وفي الحديث من طريق ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن» ، وقد أبان القرآن عن قصة يوسف ـ عليه‌السلام ـ مع إخوته وما حصل له ولأبيه يعقوب ـ عليهما‌السلام ـ من الابتلاء العظيم.

فقد رأى يوسف ـ عليه‌السلام ـ رؤيا منام تبين عن فضله ومكانته بين إخوته ووالديه ، وأن الله يجتبيه إليه ويمكن له في الأرض : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ* قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[يوسف : ٤ ، ٦] وقد شعر إخوة يوسف بهذا فحسدوه وأجمعوا أمرهم على أن يغيبوه عن وجه أبيه ويقطعوا أمله منه ولو كان ذلك بقتله حيث قال بعضهم لبعض : (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ)[يوسف : ٩](وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ* قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ* وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ) ـ

٥٣٥

__________________

ـ (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)[يوسف : ١٦ ، ١٨] وكان هذا أول الابتلاء ليوسف وأبيه ، عليهما‌السلام.

وجاءت سيارة فأخذوا يوسف وباعوه على عزيز مصر.

وقد ابتلي يوسف ابتلاء أشد مما حصل له مع إخوته وفراقه لأبيه ، ذلك أن امرأة العزيز التي هو في بيتها قد ابتلته بنفسها وكادت مع نسوة في المدينة أن يوقعنه في شراكهن لو لا عناية الله تعالى به والتجاؤه إلى ربه ليصرف عنه كيدهن ، فاستجاب الله له فصرف عنه كيدهن ، واختار السجن ليبقى فيه ويسلم مما يدعونه إليه من الفحشاء : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ)[يوسف : ٣٣ ، ٣٥] وقد آتاه الله حكما وعلما وتعبيرا للرؤيا على وجهها الصحيح ، فأخذ يدعو إلى الله ـ عزوجل ـ وإلى عبادته وحده لا شريك له وهو في السجن (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)[يوسف : ٣٩ ، ٤٠].

ورأى الملك رؤيا أفزعته فطلب تأويلها من ملئه : (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ)[يوسف : ٤٤] فأرسل الملك إلى يوسف فعبر لهم الرؤيا على حقيقتها وتبين لهم علمه وصدقه ، وجعله الملك على خزائن الأرض ليقوم بإصلاحها وحفظها ، (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يوسف : ٥٤ ، ٥٦].

وجاء إخوة يوسف إليه للمرة الثانية لعله أن يوفي لهم الكيل من الطعام ، فآوى إليه أخاه الشقيق بعد أن جعل الصواع في رحله وهم لا يشعرون ، وكان في شريعتهم أن السارق يؤخذ ملكا للمسروق منه ؛ لذلك أعلن للجميع أن صواع الملك قد سرق ولمن جاء به حمل بعير من الطعام مضمون : (قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ. قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ* قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ* قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ* قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ* فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف : ٧١ ، ٧٦] وهكذا أخذ يوسف أخاه إليه ورجع إخوته إلى أبيهم وأخبروه بما جرى لأخيهم ، وكان أبوهم قد أخذ عليهم موثقا لا يأتون إلا به ، ولم يزد ذلك يعقوب إلا إيمانا بالله وتوكّلا عليه وصبرا على ما قدره عليه وابتلاه به ، ولم ييئس من رحمة الله ، فهو منتظر فرج الله أن يأتيه خبر يوسف وأخيه قال : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)[يوسف : ٨٧].

وجاء إخوة يوسف للمرة الثالثة يشكون إليه حالهم وما أصاب أباهم من الحزن ، ورق لهم قلب يوسف الكريم فأطلعهم على حاله وحال أخيه ، واستغفر لهم ولم يثرب عليهم (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ* قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ* قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[يوسف : ٨٩ ، ٩٢] ودفع إليهم قميصه ليضعوه على وجه أبيه ليأتي بصيرا ، وأمرهم بأن يأتوا بأهلهم أجمعين. ورفع ـ

٥٣٦

[وكذلك أوصى إبراهيم] (١) بنيه ؛ حيث قال : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢] ، وهكذا الواجب على كل مسلم ومؤمن أن يتضرع إلى الله في كل وقت ، ويبتهل إليه في كل ساعة ؛ لئلا يسلب الإيمان لكسب يكتسبه ؛ إذ الأنبياء والرسل ـ عليهم‌السلام ـ مع عصمتهم كانوا يخافون ذلك ليعلم أن العصمة لا تسقط الخوف ، ولا تؤمن [عن] (٢) الزلات.

وقوله : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) دلالة على أنهم علموا أنهم إذا أفرغ عليهم الصبر صبروا ؛ إذ لو لم يعلموا ذلك لم يكن لسؤالهم الصبر معنى ، فهذا على المعتزلة في قولهم : إنه يفرغ ولا يصبرون ، وإنه قد أعطاهم غاية ما يصلح في الدين ، فدلّ سؤالهم ذلك على أنه لم يعطهم ، وأن عنده مزيدا لو أعطى لهم ذلك كان.

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) وقوله : [لتفسدوا فى الأرض](٣).

قال بعضهم : في إخراجكم من أرض مصر (٤) وإفسادهم العيش عليكم ، أو ما ذكروا

__________________

ـ يوسف أبويه على العرش وخروا له سجدا ؛ مبالغة في التحية في شريعتهم. وتلك حقيقة رؤيا يوسف ـ عليه‌السلام ـ التي رآها وقصها على أبيه من قبل قال تعالى : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ* وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[يوسف : ٩٩ ، ١٠٠].

وتلك نعمة عظيمة على يوسف وأبيه يعقوب ـ عليهما‌السلام ـ جزاء صبرهما وتعلقهما بالله وحده والدعوة إليه ، ويشكر يوسف ـ عليه‌السلام ـ هذه النعمة العظيمة التي أعطاه الله ويعترف بما وهبه الله من جزيل النعم ، وذلك ما قصه الله في ختام قصته : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)[يوسف : ١٠١] والله أعلم.

ينظر رسالة «الشرائع السابقة ومدى حجيتها في الشريعة الإسلامية» ص (٥٤ ، ٥٧).

(١) في أ : وكذلك كان أوصى إبراهيم.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) سميت مصر باسم من أحدثها ، وهو مصر بن مصرايم بن حام بن نوح.

فتحها عمرو بن العاص في أيام عمر بن الخطاب ، رضي الله عنهما.

وهي مدينة يكتنفها من مبدئها في العرض إلى منتهاها جبلان أجردان غير شامخين يتقاربان جدّا في وضعهما : أحدهما في ضفة النيل الشرقية ، وهو جبل المقطم ، والآخر في الضفة الغربية منه ، والنيل منسرب بينهما من مدينة أسوان إلى أن ينتهيا إلى الفسطاط ، فثم تتسع مسافة ما بينهما ، وينفرج قليلا ويأخذ المقطم منها شرقا فيشرق على فسطاط مصر ، ويغرب الآخر على دراب بين مأخذهما وتعريج مسلكهما ، فتتسع أرض مصر من الفسطاط إلى ساحل البحر الرومي الذي عليه الفرما وتنّيس ودمياط والإسكندرية.

وكذلك الشمال منها إلى الرمل وأنت متوجه إلى القبلة شيئا ما ، فإذا بلغت آخر أرض مصر عدت ـ

٥٣٧

من ترك عبادة فرعون وخدمته.

(وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) وقد قرئ (١) : بآلهتك فمن قرأه : (وَآلِهَتَكَ) حمله على العبادة ، أي : يذرك وعبادتك ، ومن قرأه (٢) بآلهتك ، وهو قول ابن عباس ومجاهد ، قالوا : إن

__________________

ـ ذات الشمال واستقبلت الجنوب وتسير في الرمل وأنت متوجه إلى القبلة يكون الرمل من مصبه عن يمينك إلى إفريقية.

وعن يسارك من أرض مصر الفيوم منها ، وأرض الواحات الأربعة ، ذلك غربيّ مصر وهو ما استقبلته منه ، ثم يعرج من آخر أرض الواحات ، وتستقبل الشرق سائرا إلى النيل فتسير ثماني مراحل إلى النيل ثم على النيل مصاعدا وهي آخر أرض الإسلام هناك.

ويليها بلاد النوبة ، ثم تقطع النيل وتأخذ من أرض أسوان في الشرق منكبا عن بلاد السودان إلى عيذاب ساحل البحر الحجازي ، فمن أسوان إلى عيذاب خمس عشرة مرحلة ، وذلك كله قبليّ أرض مصر ، ومهب الجنوب منها.

ثم تقطع البحر الملح من عيذاب إلى أرض الحجاز فتنزل الحوراء أول أرض مصر ، وهي متصلة بأعراض مدينة الرسول ـ عليه‌السلام ـ وهو بحر القلزم داخل في أرض مصر بشرقية وغربيه ، فالشرقي منه أرض الحوراء وأرض مدين وأرض أيلة مصاعدا إلى المقطم بمصر ، والغربي منه ساحل عيذاب إلى بحر القلزم إلى المقطم ، والبحري منه مدينة القلزم ، وجبل الطور.

وبين القلزم والفرما مسيرة يوم وليلة وهو الحاجز بين البحرين : بحر الحجاز وبحر الروم ، وهذا كله شرقي مصر من الحوراء إلى العريش.

وذكر بعض أهل العلم والدواوين أن قرى مصر ألفان وثلاثمائة وخمسة وتسعون قرية ، منها الصعيد تسعمائة وسبع وخمسون قرية ، وأسفل الأرض أربعمائة وتسع وثلاثون قرية.

قالوا : والصعيد عشرون كورة ، وأسفل الأرض ثلاث وثلاثون كورة.

وهذه أسماء بعض كورها يضاف إليها اسم الكورة : الفيوم. منف وسيم. الشرقية. دلاص.

بوصير. أهناس. الفشن. البهنسا. طحا. جير. السمنودية. بويط. الأشمونين. أسفل أنصنا وأعلاها قوص. قاو. شطب. أسيوط. قهقوة. أخميم. دير أبشيا. هو. قنا. فاو. دندرا.

فقط. الأقصر. إسنا. أرمنت. أسوان.

وحال مصر مشهور.

ينظر : مراصد الاطلاع (٣ / ١٢٧٧ ـ ٢١٧٩).

(١) وقرأ العامة : (وَآلِهَتَكَ) ، وفي التفسير : أنه كان يعبد آلهة متعددة كالبقر والحجارة والكواكب ، أو آلهته التي شرع عبادتها لهم وجعل نفسه الإله الأعلى في قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] ، وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود وأنس وجماعة كثيرة : (وإلاهتك). وفيها وجهان ، أحدهما : أن «إلاهة» اسم للمعبود ، ويكون المراد بها معبود فرعون وهي الشمس ، وفي التفسير أنه كان يعبد الشمس ، والشمس تسمى «إلاهة» علما عليها ؛ ولذلك منعت الصرف للعلمية والتأنيث. والثاني : أن «إلاهة» مصدر بمعنى العبادة ، أي : ويذر عبادتك ؛ لأن قومه كانوا يعبدونه. ونقل ابن الأنباري عن ابن عباس أنه كان ينكر قراءة العامة ، ويقرأ «وإلاهتك» وكان يقول : إن فرعون كان يعبد ولا يعبد.

ينظر الدر المصون (٥ / ٤٢٤) ، وإتحاف الفضلاء (٢٢٩) والإملاء للعكبري (١ / ١٦٢) ، والبحر المحيط (٤ / ٣٦٧) ، وتفسير الطبري (١٣ / ٣٨) ، وتفسير القرطبي (٧ / ٢٦٢) ، والمجمع للطبرسي (٢ / ٤٦٤).

(٢) ينظر السابق.

٥٣٨

فرعون [لعنه الله](١) قد كان جعل لقومه آلهة يعبدونها ؛ ليتقربوا بعبادتهم تلك الأصنام إلى فرعون ، على ما كان يعبد أهل الشرك الأصنام دون الله ، ويقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] [فقالوا](٢) : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) التي جعلت لهم.

وقال آخرون : إن فرعون كان يعبد الأصنام والأوثان على ما عبد غيره.

وقال غيرهم : لا يحتمل أن يكون هو [عبد](٣) الأصنام ، ولكن [جعل](٤) لقومه الأصنام على ما ذكرنا.

ألا ترى أنه قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ثم قال [اللعين](٥) : (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ).

قال بعضهم (٦) : قوله : (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ) يعني : رجالهم ، (وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) ؛ لأنه لا يحتمل قتل الأبناء ، ولم يكن منهم إليه صنع إنما كان ذلك من الرجال.

وقال بعضهم : قد كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل في العام [الذي قيل له : إنه يولد مولود يذهب بملكك ، ويغير دين أهل الأرض ، فلم يزل يقتلهم في ذلك العام [الذي قيل له : إنه يولد مولود يذهب بملكه](٧) ويترك البنات ، فذلك قوله : (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) قيل : مسلطون عليهم.

فإن قيل لنا : ما الحكمة في ذكر هذه القصص والأنباء السالفة في القرآن؟

قيل : لوجوه ـ والله أعلم ـ :

[أحدها :](٨) أن فيها دليل إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبوته ؛ لأن هذه القصص والأنباء كانت في كتبهم [ثابتة](٩) مبينة ، وقد علموا أن لسانه كان على غير ما كانت كتبهم ، وعرفوا أنه لم يختلف إلى أحد ممن يعرف ذلك ؛ ليتعلم منه ، ولا سمع عن أحد منهم ثم أنبأهم على ما كانت ، دل أنه إنما عرف ذلك بمن يعلم علم الغيب.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) انظر تفسير ابن جرير (٦ / ٢٧).

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في أ.

٥٣٩

والثاني : أن البشر جبلوا على حبّ السماع للأخبار (١) والأحاديث ، وحبب ذلك في قلوبهم حتى إن واحدا منهم يولد أحاديث وينشئها من ذات نفسه لأن يستمعوا في ذلك إليه ويسمعوا منه ، فذكر لهم هذه الأنباء والقصص ليكون استماعهم إليها وسماعهم لها ، وذلك أحسن وأوفق إذ أخبر أن ذلك أحسن القصص ؛ بقوله (٢) : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف : ٣].

والثالث : ذكر لهم هذا ليعلموا ما حل بهم في العاقبة من الهلاك والاستئصال ، وأنواع العذاب لفسادهم (٣) وتكذيبهم الرسل ، وما عاقبة المفسد منهم والمصلح ؛ ليكون ذلك زجرا لهم عن صنيع مثلهم.

والرابع : ذكر ذلك ليعرفوا كيف كانت معاملة الأنبياء والرسل أعداءهم ، ومعاملة الأعداء الرسل ليعاملوا أعداءهم مثل معاملتهم.

والخامس : أنهم كانوا ينكرون أن يكون من البشر رسول ، فأخبر أن الرسل الذين كانوا من قبل كانوا كلهم من البشر.

والسادس : أنهم كانوا يعبدون هذه الأصنام والأوثان ، ويقولون : بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ، (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] ، فأخبر أن كان في آبائهم السعداء ، وهم الأنبياء والأشقياء ، فكيف اقتديتم أنتم بالأشقياء منهم؟ :! وهلا اتبعتم السعداء دون الأشقياء!

والسابع : فيها أن كيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عرفنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن يأمر به ، ومن ينهي عنه.

وأيضا إن فيه ذكر الصالحين منهم بعد ما ماتوا وانقرضوا فكانوا (٤) بالذكر كالأحياء.

وقوله (٥) ـ عزوجل ـ : (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا).

يحتمل قوله : (اسْتَعِينُوا بِاللهِ) : على أداء طاعته ، وبما يتقربون (٦) إلى الله تعالى ويكون لهم زلفى لديه (٧).

__________________

(١) في أ : إلى الأخبار.

(٢) في أ : لقوله.

(٣) في أ : بفسادهم.

(٤) في ب : فصاروا.

(٥) في ب : قوله.

(٦) في أ : تتقربون.

(٧) في أ : بين يديه.

٥٤٠