تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

وبعثهم بعد إماتتهم وإفنائهم ، وإن لم يبق لهم أثر ؛ كما قدر على هذا ، يعرفهم قدرته أنها غير مقدرة بقدرة الخلق وبقوتهم ، بل خارجة عن قوتهم ؛ لأن قوته وقدرته ذاتية أزلية بلا سبب ، وقوتهم وقدرتهم بأسباب ؛ وكذلك ما يشق من الورق الضعيف اللين الشجر والنخل مع شدته وصلابته ، ما لو اجتمع الخلائق كلهم على شق ذلك الشجر بذلك الورق مع لينه ما قدروا عليه ، يعرفهم لطفه وقدرته أنه لا يعجزه شيء.

وفيه أن ذلك فعل واحد ؛ لأنه لو كان فعل عدد لكان إذا أراد هذا شقه منع الآخر عن ذلك.

وفيه أنه على تدبير خرج لا جزافا ؛ حيث اتفق ذلك في كل عام على قدر واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ).

إن الحب والنوى التي ذكر ميت ، فيخرج منهما (١) النبات الأخضر حيّا ، ثم يميت ذلك ويخرج منه حبا ونوى.

وفيه دلالة البعث بعد الموت ؛ يقول : إن الذي قدر على إخراج النبات الأخضر الحي من حبة ميتة أو نواة ميتة ، وليس فيها من أثر ذلك الحي شيء ـ لقادر أن يبعثهم ويحييهم بعد الموت ، وإن لم يبق من أثر الحياة شيء ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم في غير موضع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)

أي : ذلكم الذي يفعل ذلك هو الله ـ تعالى ـ لا الأصنام التي تعبدونها وأشركتم في عبادتكم لله وألوهيته [أي](٢) ، أيّ حجة تصرفكم عما ذكر؟ أي : لا حجة لكم في صرف الألوهية عنه إلى غيره ، ولا صرف العبادة إلى الأصنام.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).

قيل (٣) : فأني تصرفون عما ذكر من دلالات وحدانيته وألوهيته وربوبيته.

والإفك : هو الصرف في اللغة (٤) ؛ كقوله : (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا) [الأحقاف ٢٢]

__________________

(١) في أ : منها.

(٢) سقط في أ.

(٣) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦١) وعزاه لابن أبي حاتم عن الحسن.

(٤) الإفك : صرف الشيء عما يحق أن يكون عليه. قال تعالى : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [الأنعام : ٩٥] أي : تصرفون عن وجه الصواب. ومنه قيل للرياح العادلة عن مهابها : مؤتفكات أي مصروفات عن مهابها. وقال الشاعر :

إن تك عن أحسن المروءة مأ

فوكا ففي آخرين قد أفكوا

ورجل مأفوك أي مصروف العقل ، وقوله : (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ)[الذاريات : ٩] أي يصرف عن الحق من صرف في سابق علم الله تعالى.

ينظر عمدة الحفاظ (١ / ١٠٧).

١٨١

[أي :](١) لتصرفنا. وقيل (٢) : تؤفكون : تكذبون ، أي : ما الذي حملكم على الكذب؟ والكذب والصرف واحد في الحقيقة ؛ لأن الكذب هو صرف قول الحق إلى الباطل ، وهما واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فالِقُ الْإِصْباحِ).

هو يحتمل الوجهين اللذين ذكرتهما في قوله : (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) : خبر عن ابتداء خلقه.

ويحتمل الشق ، أي : يشق النهار من الليل ، والليل من النهار بعد ما تلف كل واحد منهما [حتى](٣) لم يبق له أثر ، ففيه دليل (٤) البعث والإحياء بعد الموت ، أي : أن الذي قدر على إنشاء النهار من الليل والليل من النهار بعد ما تلف وذهب أثره ـ لقادر على إنشاء الخلق ، وبعثهم بعد الموت وذهاب آثارهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً).

جعل الله الليل سكنا وراحة للخلق ، والنهار معاشا لهم يعيشون (٥) فيه ، وجعلهما آيتين من آيات ربوبيته ووحدانيته مسخرين ، يغلبان الخلائق ويقهرانهم ، ويكونون تحت سلطانهما ويجريان على سنن واحد ؛ [ومجرى واحد](٦) دل أن لهما مدبرا خالقا عليما ، ولو كانا يجريان بطباعهما لكان يختلف جريانهما ، ولم يتسق (٧) ، فدل اتساقهما وجريانهما مجرى واحدا أن لغير فيهما تدبيرا ؛ وكذلك الشمس والقمر جعلهما مسخرين لمنافع الخلق ؛ لنضج الأنزال وينعها (٨) ، ولمعرفة عدد الأيام والشهور والسنين ، ويجريان مجرى

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦١) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : دلالة.

(٥) في أ : تعيشون.

(٦) سقط في أ.

(٧) في أ : ولو لم يتسق ، والصواب ما أثبتناه.

(٨) الينع مثل النضج يقال : ينعت تينع ينعا ، وأينعت إيناعا فهي مونعة. وقال ابن الأنباري : الينع جمع يانع وهو المدرك البالغ ؛ كأنه جعله مثل صاحب وصحب ، وراكب وركب. قال الفراء : أينع أكثر من ينع. قال السمين الحلبي : وكأن هذا الحامل لأبي بكر على جعله جمعا لا مصدرا لئلا يجيء القرآن على اللغة القليلة ؛ إذ لو جاء على الكثير لقيل : إيناعه. وقرئ : (وينعه) قيل : هو جمع يانع. وكأنه جعله مثل خادم وخدم.

والينعة : الخرزة الحمراء ، ذكرها الفراء وأضاف : (ويانعه). وقال : فأما قوله : (وينعه) فمثل نضجه ، (ويانعه) مثل ناضجه. ينظر عمدة الحفاظ (٤ / ٤١٢) ومعاني القرآن : ١ / ٣٤٨.

١٨٢

واحدا ومسلكا واحدا غير مختلف ؛ دلّ ذلك أنهما كانا بمدبر عليم حكيم.

وفي قوله : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لأن الإصباح هو فعل الخلق ؛ لأنه مصدر أصبح ، وكذلك السكن هو فعل الخلق ، ثم أضاف ذلك كله إلى نفسه ؛ دل أنه خالق أفعالهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً)

اختلف فيه ؛ قال أبو عبيد : هو من الحساب ، وهو جمع حساب ، [يقال : حساب وحسبان](١) ؛ مثل : شهاب وشهبان ؛ وهو كقوله (٢) : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس : ٥]. وقيل (٣) : حسبانا ، أي : جريانا ، يجريان ويدوران أبدا لا يستريحان ؛ دل أنهما كانا بغير مسخرين للخلق ؛ لأنهما لو كانا بطباعهما لكانا يستريحان. وقيل (٤) : حسبانا ، أي : ضياء ؛ كقوله : (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) [يونس : ٥] ، والله أعلم بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

أي : ذلك الجريان الذي ذكر ، أو تلك المنافع التي جعلت فيها تقدير العزيز [العليم](٥).

قال الحسن : العزيز : هو الذي لا يعجزه شيء ، والعزيز : هو الذي [به](٦) يعز كل عزيز.

وقال بعض أهل التأويل (٧) : العزيز : المنيع في سلطانه ، المنتقم من أعدائه ، العليم بمصالح الخلق وبما كان ويكون وبحوائجهم ، وبالله التوفيق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).

والمراد منه : الظلمات ، وذكر في قوله : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)

__________________

(١) في أ : وحساب.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٧٩) (١٣٦١١) عن السدي بنحوه وذكره البغوي في تفسيره (٢ / ١١٧).

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٧٩) (١٣٦١٠) عن ابن عباس بنحوه و (١٣٦١٣) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٢) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٨٠) (١٣٦١٥) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٢) وعزاه لعبد بن حميد وأبي الشيخ عن قتادة.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

(٧) ينظر البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (٤ / ١٩١).

١٨٣

[الأنعام : ٦٣] وأراد بالظلمات : الشدائد والأهوال التي تصيبهم.

ألا ترى أنه قال : (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأنعام : ٦٣] عند الشدائد والأهوال كانوا يدعون ربهم تضرعا وخفية ، على ما ذكرهم هاهنا عظيم سلطانه وقدرته لما يدفع عنهم الشدائد [وينجيهم من](١) الأهوال التي تنزل بهم ، فالدافع عنهم ذلك هو لا (٢) الأصنام التي يعبدون [من](٣) دون الله ويشركونها في عبادته.

ويذكر في قوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) عظيم ما أنعم عليهم بما جعل لهم من السماء نجوما ليهتدوا بها للطرق (٤) والمسالك في البحار والبراري عند اشتباهها عليهم.

وفيه دليل وحدانية الرب وتدبيره وحكمته ؛ لأنه جعل في السماء أدلة يهتدون بها ، ويستدلون على معرفة الطرق (٥) مع بعد ما بينهما من المسافة ، وتسوية أسباب الأرض بأسباب السماء ، وتعلق منافع بعضها ببعض ؛ ليعلموا أنه كان بواحد مدبر عليم حكيم ؛ إذ لو كان بعدد أو بمن (٦) لا تدبير له ولا حكمة ، لم يحتمل ذلك ، ولم يتسق ما ذكرنا ؛ دل أنه كان بالواحد العليم الحكيم ، مع علمهم أن الأصنام التي يعبدونها وأشركوها في عبادته لا يقدرون على ذلك ، لكنهم يعبدونها ويشركونها في ألوهيته سفها منهم وعنادا ، وبالله العصمة والتوفيق.

وفي قوله : (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) [الأنعام : ٩٥] ، وقوله : (فالِقُ الْإِصْباحِ) [الأنعام : ٩٦] ، وقوله : (جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها) ، وغير ذلك من الآيات التي (٧) ذكر تذكير نعمه وإحسانه إليهم ليتأدى بذلك شكرهم (٨) وجعل السعي له.

وجائز أن يستدل به على تذكير قدرته وسلطانه : أن من قدر على ما ذكر لا يحتمل أن يعجزه شيء.

و [فيه](٩) تذكير تدبيره وعلمه وحكمه على ما ذكرنا من اتساق الأمور والحال على أمر

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : لا هؤلاء.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : الفرق.

(٥) في أ : الفرق.

(٦) في ب : أو بواحد.

(٧) في ب : الذي.

(٨) في ب : شكره.

(٩) سقط في ب.

١٨٤

واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) : [قيل : صرفنا الآيات](١) ، أي : صرفنا كل آية إلى موضعها الذي يكون لهم دليلا عند الحاجة إليها.

وقيل (٢) : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) [قد](٣) بينا الآيات (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ، أي : لقوم ينتفعون بعلمهم وإذا انتفعوا (٤) بها صارت الآيات لهم ؛ لأن من انتفع بشيء يصير ذلك له ؛ لذلك ذكر لقوم يعلمون ؛ لأنهم إذا لم ينتفعوا بها لم تصر الآيات لهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) [الأنعام : ٩٨]

فيه دلالة أنه يبدئ ويعيد من غير شيء ؛ لأنه أخبر أنه خلق البشر كله من نفس واحدة ، والخلائق كلهم لو اجتمعوا ما احتملت الأرض ، ولم تكن الخلائق بأجمعهم في تلك النفس الواحدة ، دل أنه قادر على الابتداء (٥) والإعادة لا من شيء ؛ إذ لم يكن لتلك النفس التي خلق الخلائق منها تقدمة شيء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) [الأنعام : ٩٨]

قال الحسن (٦) : مستقر في الآخرة بعمله الذي ختم به : إن ختم بعمل الخير يبقى أبدا في الخير ، وإن ختم بشر يبقى أبدا في شر ، ومستودع في أجله ، ينتقل من وقت إلى وقت ومن حال إلى حال.

وقيل (٧) : مستقر في الدنيا. ويشبه أن يكون مستقر ومستودع في كل حال وكل وقت مستقر (في) [أرحام النساء ومستودع في أصلاب الرجال ، وهو قول عامة أهل التأويل ، وقيل مستقر في القبر ، ومستودع في الدنيا ، ويشبه أن يكون (فَمُسْتَقَرٌّ)](٨) في حال القيام حتى ينتقل إلى حال أخرى ، (وَمُسْتَوْدَعٌ) [لما هو على شرف الانتقال إلى أخرى. وجائز

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ذكره ابن جرير (٥ / ٢٨١) ، وأبو حيان في البحر المحيط (٤ / ١٩١).

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : شفعوا.

(٥) في ب : إبداء.

(٦) أخرجه ابن جرير بنحوه (٥ / ٢٨٦) (١٣٦٦٣) والبغوي في تفسيره (٢ / ١١٨) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٦) وعزاه لأبي الشيخ عن الحسن وقتادة بنحوه.

(٧) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٨٣) (١٣٦٢٩) عن ابن مسعود بنحوه وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٦) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن مسعود.

(٨) بدل ما بين المعقوفين في أ : في الدنيا ، ويشبه أن يكون (مستقر) و (مستودع) في كل حال وكل وقت.

١٨٥

أن يكون قوله (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) : مستقر](١) في الآخرة بالجزاء لأعمالهم التي عملوا ، ومستودع في الدنيا.

ويحتمل : مستقر بالليالي ، ومستودع (٢) بالنهار ، والأول لبني آدم خاصة.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ، (لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) الفقه هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره ، والعلم ما يعرف نفسه ؛ ولهذا لا يقال : الله فقيه ، ويقال : عالم ؛ لأنه عالم بالأشياء [بذاته لا](٣) بأغيارها ونظائرها ، [والفقيه : هو الذي يعرف الأشياء بأغيارها ونظائرها ودلائلها](٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩٩].

يذكرهم عزوجل عظيم منته بما ينزل من السماء من الماء ، ويخرج به نبات كل شيء ؛ كما ذكرهم من النعم بما جعل لهم من [الشمس والنجوم ؛ ليهتدوا](٥) بها في الظلمات واشتباه الطريق ، وما جعل الليل للسكون والراحة ، والنهار للمعاش والتقلب ، وما جعل لهم من الشمس والقمر ، وجعل لهم فيهما من المنافع من نضج الأنزال والزروع وينعهما ومعرفة عدد السنين والحساب والآجال التي يجعلون للعقود ، وغير ذلك من النعم التي أنعمها عليهم ؛ لئلا يرجعوا (٦) شكر هذه النعم إلى غيره ، ولا يتخذوا إلها سواه ، وقد ذكرنا أن سورة الأنعام نزل أكثرها في محاجة أهل الشرك في إثبات الوحدانية له والألوهية لله ، وإثبات الرسالة والنبوة ، وإثبات البعث بعد الموت ؛ لأنهم كانوا ينكرون ذلك كله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ).

يحتمل قوله : (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ)] ما (٧) بالخلق حاجة إليه ؛ ليعلم أن كل ما يخرج في (٨) الأرض أصله من الماء به ينبت [مما يكون غذاء](٩) البشر وغذاء الحيوان كلهم والطيور ؛ كقوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء : ٣٠] يذكرهم عظيم ما جعل

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) زاد في ب : في الآخرة.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) بدل ما بين المعقوفين في ب : النجوم ليهتدوا.

(٦) في ب : يوجهوا.

(٧) في ب : مما.

(٨) في ب : من.

(٩) بدل ما بين المعقوفين في أ : ما يكون عداه.

١٨٦

لهم في الماء من المنافع ، على ما أخبر أنه به يخرج نبات كل شيء ، وبه حياة كل شيء ، [ثم](١) من الأوقات ما لو نزل من السماء ماء لم ينبت ؛ دل أنه إنما ينبت بتدبير غير لا بالماء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً).

قيل : به يخرج أول ما يخرج خضرا يكون ابتداء كل نبت أخضر ، ثم يتحول إلى لون آخر ، ومنهم من قال : به يعني بالماء وهو ما يبقى أخضر لو لا الماء وإلا يبس وتغير عن حال ابتدائه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً) يخبر عن لطفه وصنعه بما يخرج من الحب متراكبا بعضه على بعض ، ما لو اجتمع الخلائق كلهم لم يقدروا على تركيب مثله ؛ ليعلموا أن لغير في ذلك تدبيرا وصنعا.

وفيه دلالة أنه قد ينشئ الأشياء من لا شيء ولا سبب ، وإن كان قد أنشأ بعضها بأسباب ؛ نحو أن أخرج (٢) [من الحبة والنواة نباتا أخضر ، ولم يكن في الحب نبات ثم أخرج](٣) من ذلك النبات الأخضر حبوبا ، ولم تكن الحبوب في النبات ؛ ليعلموا أنه قادر على إنشاء الأشياء لا من شيء ولا سبب.

وفيه نقض قول الدهرية في كون الأشياء في شيء واحد كما هي ؛ لأنه لا يحتمل [أن يكون](٤) عشرة آلاف نواة أو حبة [في](٥) نواة واحدة أو في حبّة واحدة ، أو تكون الشجرة مع طولها وغلظها وعظمها في نواة أو حبة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنَ النَّخْلِ).

أي : يخرج من النخل طلعها بالماء ، وفيه من عظيم لطفه وتدبيره أن جعل النخيل والأشجار تتشرب بعروقها الماء ، ثم ينتشر [ذلك](٦) في أصلها إلى أغصانها ، ثم يخرج منه ويظهر خضرا ؛ ليعلم عظيم تدبيره ولطفه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قِنْوانٌ دانِيَةٌ).

قيل : القنوان : العروق (٧) يكون فيها التمر والثمار ، واحدها : قنو.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : خرج.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في أ.

(٧) في ب : العذوق.

١٨٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (دانِيَةٌ) : قال الحسن : دانية بعضها إلى بعض مجتمعة غير متفرقة ، على ما يكون من الأعناب والثمر (١) والحبوب ، فإن كان هذا فهو في الكل.

وقال بعضهم (٢) : دانية : قريبة ملتزقة بالأرض ، يناله القائم والقاعد جميعا.

وعن ابن عباس (٣) : (قِنْوانٌ دانِيَةٌ) : قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ).

أي : أخرج بالماء (٤) جنات وكروما (٥).

(وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) قيل : أخرج بالماء ـ أيضا ـ الزيتون والرمان [وقال بعضهم : (الزيتون والرمان)](٦)(مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي : يشبه ورق الزيتون في المنظر (٧) ورق الرمان. (وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) : ثمرتها في اللون والطعم ، ولكن هو على الكل على كل الثمار ، ولا يشبه بعضها (٨) بعضا : منها ما يشبه ساق هذا بساق آخر والثمار والحبوب مختلف. ومنها ما يشبه في اللون ، والطعم مختلف. ومنها ما يشبه في الطعم ، واللون مختلف. ليعلموا أن لغير في ذلك تدبيرا وصنعا لطيفا لم يكن كذلك بالماء ؛ لأنه لو كان كذلك بالماء لكان لا يختلف كل هذا الاختلاف في اللون والطعم والساق والورق ؛ دل أنه كان كذلك لغير ـ عليم مدبر حكيم ـ أنشأه على ما أراد بلطفه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) : يحتمل الأمر بالنظر وجوها ؛ أي [يحتمل](٩) : انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه أي : كيف يقلبها ، ويحولها من حال إلى حال ، ومن لون إلى لون ، وأنه يخرج في ساعة لطيفة ما لو اجتمع الخلائق على تقديره ومعرفته أي (١٠) كم خرج [وأي مقدار](١١) خرج لم يقدروا عليه ؛ ليعلموا أنه قادر على

__________________

(١) في أ : والتمر.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٨٨) (١٣٦٦٨ ، ١٣٦٦٩) عن البراء بن عازب.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٧) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن المنذر.

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٨٨) (١٣٦٦٦) عن ابن عباس ، (١٣٦٧٢) عن الضحاك وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٧) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) في أ : الماء.

(٥) في أ : كرومها.

(٦) سقط في أ.

(٧) في أ : النظر.

(٨) في أ : بعضه.

(٩) سقط في أ.

(١٠) في أ : أن.

(١١) سقط في أ.

١٨٨

إحياء الخلق بمرة واحدة.

وفي إنزال المطر من السماء مع بعدها آية عجيبة وحكمة بالغة ، وهو أن ينزله واحدا [واحدا](١) حتى لا يختلط بعضه ببعض مع كثرة المطر وازدحامه وبعد السماء ما لو اجتمع الخلائق على حفظ مثله ما قدروا عليه [دل](٢) أنه كان بمدبر عليم حكيم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ٩٩].

قد ذكرنا أنها تصير آيات لمن صدق بها وآمن ، وأما من عاند وكابر ولم يتأمل فيها لم يفهم [ما فيها](٣) من عجيب آياته وعظيم منته.

وفي قوله : (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) وجهان آخران من الحكمة :

[أحدهما] : أن انظروا إلى ثمره إذا أثمر أنه أول ما يخرج يخرج على لون واحد وعلى قدر واحد وعلى طعم واحد ، ثم يختلف ألوانها وطعمها وتتفاوت أقدارها ؛ ليعلموا أنه كان بتدبير واحد عليم حكيم قادر على خلق الأشياء بلا سبب ؛ لأنه لو كان كذلك بسبب لا بتدبير فيه كان سبب هذا كله واحدا ، فيجيء أن يخرج كله على سنن واحد ؛ دل أنه خالق بذاته لا بسبب.

والثاني : أن انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه أنه جعل ما يطيب منه للبشر ، وعلمهم أسبابا يتخذون بها الطيبات من ذلك من نحو النضج والطبخ وغيره ، وجعل لغيرهم من الحيوان كما هو خارج من الأرض ؛ ليعلموا أن غيرهم من الحيوان والدواب إنما جعلهم لمنافع البشر مسخرين لهم ، وأن البشر هم المقصودون في خلق الأشياء كلها ، وبالله الحول والقوة ، وله المنة والفضل.

قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(١٠٣)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) أي : قالوا لله شركاء ؛ وكذلك قوله : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) أي : يقولون لله البنات ، أو وصفوا لله ، دليله ما ذكر في آخره : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) دل هذا أن قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) أي : وصفوه

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

١٨٩

بالشركاء والولد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (شُرَكاءَ الْجِنَ).

قال بعضهم (١) : هذا كقوله : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [الصافات : ١٥٨].

وقيل : إنهم لم يعبدوا الجن ، ولا قصدوا قصد عبادة الشيطان ؛ حيث قال : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [يس : ٦٠] ؛ لأن جميع أهل الكفر على اختلاف مذاهبهم يبغضون الشيطان ، ويلعنون عليه ، ولكن معناه : أن الشيطان هو الذي دعاهم إلى عبادة الأصنام والأوثان ، فإذا عبدوا الأصنام بدعائه فكأنهم عبدوه إذ (٢) بأمره وبدعائه يعبدونها.

أو أن يكون كما روي في الخبر «أن الشمس إذا طلعت تطلع بين قرني شيطان» (٣) ، فإذا

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره مع الخازن (٢ / ٤٢٠ ـ ٤٢١)

(٢) في أ : أن.

(٣) أخرجه مالك (١ / ٢١٩) كتاب : القرآن ، باب : النهي عن الصلاة بعد الصبح ، وبعد العصر ، الحديث (٤٤) ، والشافعي في المسند (١ / ٥٥) كتاب : الصلاة ، باب : الأول في مواقيت الصلاة الحديث (١٦٣) ، والنسائي (١ / ٢٧٥) كتاب : المواقيت ، باب : الساعات التي نهى عن الصلاة فيها ، والبيهقي (٢ / ٤٥٤) كتاب : الصلاة ، باب : النهي عن الصلاة في هاتين الساعتين ، وحين تقوم الظهيرة حتى تميل ، كلهم من طريق مالك عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله النابحي : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان ، فإذا ارتفعت فارقها ، ثم إذا استوت فارقها ، فإذا زالت فارقها ، فإذا دنت للغروب قارنها ، فإذا غربت فارقها ، ونهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة في تلك الساعات».

قال الحافظ في التلخيص (١ / ١٨٥ ـ ١٨٦) : قال ابن عبد البر : (هكذا قال جمهور الرواة ، عن مالك وقالت طائفة منهم مطرف ، وإسحاق بن عيسى الطباع ، عن عطاء ، عن أبي عبد الله الصنابحي ، وهو الصواب ، وهو عبد الرحمن بن عسيلة تابعي ثقة ، ليس له صحبة ، وروى زهير بن محمد هذا الحديث ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء ، عن عبد الله الصنابحي قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والصنابحي لم يلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وزهير لا يحتج بحديثه).

وقال البيهقي : (هكذا رواه مالك بن أنس ، ورواه معمر بن راشد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء ، عن أبي عبد الله الصنابحي) ، قال أبو عيسى الترمذي : (الصحيح رواية معمر ، وهو ابن عبد الله الصنابحي ، واسمه عبد الرحمن بن عسيلة).

وفي الباب عن عمرو بن عبسة ، وصفوان بن المعطل ، ومرة بن كعب.

أما حديث عمرو بن عبسة :

فأخرجه أحمد (٤ / ١١١) ، ومسلم (١ / ٥٧٠) كتاب : صلاة المسافرين ، باب : إسلام عمرو بن عبسة ، الحديث (٢٩٤ / ٨٣٢) ، وابن ماجه (١ / ٣٩٦) كتاب : إقامة الصلاة ، باب : ما جاء في الساعات التي تكره فيها الصلاة ، الحديث (١٢٥١) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (١ / ١٥٢) كتاب : الصلاة ، باب : مواقيت الصلاة ، البيهقي (٢ / ٤٥٤) كتاب : الصلاة ، باب : ذكر الخبر الذي يجمع النهي عن الصلاة في جميع هذه الساعات.

وأما حديث صفوان بن المعطل : ـ

١٩٠

عبدوها فكأنهم عبدوا الشيطان مثل هذا يحتمل ، والله أعلم.

فإن قيل : فإذا صاروا كأنهم عبدوا الشيطان ، ومن ذكر من الجن بدعائهم إلى ذلك ، وبأمرهم بذلك حتى نسب وأضاف العبادة إليهم ، كيف لا صار المؤمنون كأنهم (١) عبدوا الرسل ؛ لأنهم إنما عبدوا الله بدعاء الرسل وبأمرهم؟

قيل : لأن الرسل إنما دعوهم إلى عبادة الله وأمروهم بذلك ؛ لأن الله ـ تعالى ـ أمرهم بذلك ، وأما أولئك إنما دعوهم إلى عبادة من ذكر بذات أنفسهم.

وفي قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) إخبار لأوليائه وتذكير لهم حسن صنيعه إلى أعدائه من الإنعام عليهم ، والإحسان إليهم ، وقبح صنيع أولئك إليه من وصفهم إياه بالولد والشركاء ؛ ليعاملوهم معاملة الأعداء أو معاملة أمثالهم (وَخَلَقَهُمْ) أي : يعلمون أنه هو خلقهم ، ثم يشركون غيره في (٢) ألوهيته وعبادته ، لا يوجهون شكر نعمه إليه.

والثاني : قوله : (وَخَلَقَهُمْ) ، أي : خلق هذه الأصنام التي يعبدونها ، ويعلمون أنها مخلوقة مسخرة مذللة ، فمع ما يعلمون هذا يشركون في ألوهيته وعبادته ، فكيف يكون المخلوق المسخر شريكا له؟!

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ).

هم كانوا فرقا وأصنافا ؛ منهم من يقول بأن عيسى ابنه وهم النصارى ، ومنهم من يقول بأن عزيرا ابنه وهم اليهود (٣) ، وقال مشركو العرب : الملائكة بنات الله ، فقال :

__________________

ـ فأخرجه عبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (٥ / ٣١٢) ، والحاكم في (٣ / ٥١٨) كتاب : معرفة الصحابة ، باب : ذكر صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه ، كلاهما من طريق حميد بن الأسود : ثنا الضحاك بن عثمان ، عن سعيد المقبري عن صفوان بن المعطل السلمي ، أنه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إني سائلك عن أمر أنت به عالم ، وأنا به جاهل ، قال : «ما هو؟» قال : هل من ساعات الليل والنهار من ساعة تكره فيها الصلاة؟ قال : «فإذا صليت الصبح فدع الصلاة حتى تطلع الشمس ؛ فإنها تطلع بين قرني الشيطان».

وقال الحاكم : (صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي) وأخرجه ابن ماجه (١ / ٣٩٧) كتاب : إقامة الصلاة ، باب : ما جاء في الساعات التي تكره فيها الصلاة ، الحديث (١٢٥٢) ، والبيهقي (٢ / ٤٥٥) كتاب : الصلاة ، باب : ذكر الخبر الذي يجمع النهي عن الصلاة ، في جميع هذه الساعات ، من رواية ابن أبي فديك ، عن الضحاك ، عن المقبري ، عن أبي هريرة قال : «سأل صفوان بن المعطل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ... فذكره.

وأما حديث مرة بن كعب أو كعب بن مرة :

فأخرجه أحمد (٤ / ٢٣٤ ـ ٢٣٥).

(١) في ب : لأنهم.

(٢) في ب : و.

(٣) لم ينقل من طريق صحيح عن ملة من الملل إسلامية أو غير إسلامية أنها صرحت بأن الله تعالى اتخذ ـ

١٩١

__________________

ـ صاحبة وإنما الذي نقل هو أن طائفة من النصارى قالت (المسيح ابن الله) وطائفة من اليهود قالت (عزيز ابن الله) وجاء في القرآن آيات كثيرة ترد على هاتين الطائفتين نذكر من بين هذه الآيات آية واحدة مع تبيين جهة الرد الذي تضمنته قال تبارك وتعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنعام : ١٠١].

بيان ذلك أن يقال لهاتين الطائفتين إما أن تريدوا بقولكم (إن لله ابنا) أن الله أحدثه وأبدعه لا على مثال سبق لكونه لم يتولد من نطفة أو اختص بمزايا لم توجد في غيره ولا في من سبقه وإما أن تريدوا ذلك المعنى المتعارف من الولادة في الحيوان. وإما أن تريدوا معنى آخر فإن أردتم المعنى الأول يرد عليكم بخلق السموات والأرض فإن الله أبدعهما لا على مثال سبق وأودع فيهما من الخواص والمزايا ما لا يدخل تحت حصر ومع ذلك لم يقل أحد من المليين بأن السموات والأرض ابن الله ـ فبطل قولكم إن لله ابنا بهذا المعنى وإلى هذا الرد أشير بقوله (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). وإن أردتم الولادة المعروفة في الحيوان فهذا باطل أيضا لوجوه.

الأول : أن تلك الولادة لا تصلح إلا ممن كانت له صاحبة وشهوة وينفصل عنه جزء ويحتبس ذلك الجزء في رحم تلك الصاحبة ـ وهذه الأحوال إنما تصح في الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق وباقي عوارض الجسم.

وهذا محال على خالق العالم لأنه قديم مخالف للممكنات وقد أشير إلى هذا الوجه بقوله تعالى (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ)[الأنعام : ١٠١].

الثاني : أن تحصيل الولد بهذا الطريق إنما يصح في حق من لا يكون قادرا على الخلق والإيجاد والتكوين دفعة واحدة ـ فإذا أراد الولد وعجز عن تكوينه دفعة واحدة عدل إلى تحصيله بالطريق المعتاد ، أما من كان خالقا لجميع الممكنات قادرا على كل المحدثات فإنه إذا أراد إحداث شيء قال له : كن فيكون ، وحيث كان الإله بهذا الوصف امتنع إحداثه للشخص بطريق الولادة وهذا الوجه يشير إلى قوله تعالى (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ).

الثالث : أن ذلك الولد إما أن يكون قديما وإما أن يكون حادثا ، وليس جائزا أن يكون قديما لأن القديم لا يحتاج لغيره وهذا الولد يحتاج إلى أبيه في تكوينه فبطل كونه قديما فتعين كونه حادثا وحينئذ يقال لهؤلاء القائلين إن لله ابنا قد ثبت بالدليل العقلي أن الله تعالى عالم بكل شيء فإما أن يعلم أن في تحصيل ولد كمالا ونفعا له وإما أن يعلم أن لا كمال ولا نفع في تحصيله فإن كان يعلم أن في تحصيل الولد كمالا ونفعا فلا وقت يفرض إلا والداعي إلى إيجاد هذا الولد متحقق ، وهذا يوجب كون الولد أزليّا وهو محال ولم يقل به أحد أصلا وإن كان يعلم أن لا كمال في إيجاده ولا نفع في تحصيله وجب ألا يحدث في وقت من الأوقات فلا ولد له أصلا وإلى هذا الوجه أشير بقوله تعالى (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وإن أردتم معنى غير ما ذكر فبينوه لنا لنتكلم معكم فيه.

وقد نقل عن طوائف من النصارى القول بالاتحاد وعن بعضهم القول بالحلول وعن بعضهم القول بأن عيسى ابن الله وعن بعض طوائف اليهود القول بأن عزيرا ابن الله واختلف النقل عن النصارى في معنى الاتحاد ، فقيل معناه : إن الكلمة وهي صفة العلم ظهرت في عيسى وصارت معه هيكلا وقيل معناه المخارجة بمعنى أن تكون من الكلمة وعيسى شيء ثالث ، وأما القول بالحلول فمعناه على رأي بعض فرقهم أن الكلمة وهي صفة العلم حلت في المسيح وعلى رأي البعض الآخر أن ذات الله حلت في المسيح ، ولما كان كلامهم في الحلول والاتحاد مضطربا وغير منضبط على وجه صحيح نذكر الصور العقلية التي تتأتى في الاتحاد والحلول فنقول :

إما أن يقولوا باتحاد ذات الله بالمسيح أو حلول ذاته فيه أو حلول صفته فيه وكل ذلك إما ببدن ـ

١٩٢

__________________

ـ عيسى أو بنفسه وإما ألا يقولوا بشيء من ذلك وحينئذ فإما أن يقولوا أعطاه الله قدرة على الخلق والإيجاد أولا ، ولكن خصه الله بالمميزات وسماه ابنا تشريفا كما سمي إبراهيم خليلا.

فهذه ثمانية احتمالات كلها باطلة للأدلة التي أحالت حلول الله واتحاده والسابع باطل لما ثبت أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله وبقي احتمال اتحاد الكلمة بذات المسيح وهو باطل أيضا لأن الكلمة المراد منها عندهم صفة العلم ، والاتحاد بجميع معانيه وأفراده مستحيل على الله بالأدلة السابقة والشبهة التي أوقعت النصارى في هذه الكلمات هي ما جاء في الإنجيل في عدة مواضع من ذكر الله بلفظ الأب وذكر عيسى بلفظ الابن وذكر الاتحاد والحلول تصريحا أو تلويحا فمن ذلك ما جاء في إنجيل (يوحنا) في الإصحاح الرابع عشر (يا فيلسوف من يرني ويعاينني فقد رأى الأب فكيف تقول أنت أرنا الأب ولا تؤمن أني بأبي وأبي بي واقع واقع وأن الكلام الذي أتكلم به ليس من قبل نفسي بل من قبل أبي الحال في ـ وهو الذي يعمل هذه الأعمال التي أعمل آمن وصدق أني بأبي وأبي بي).

هذا لفظ الإنجيل المنقول إلى العربية المتداول عندهم فأخذ بعضهم الاتحاد من قوله (من يرني ويعاينني فقد رأى الأب) وأخذ بعضهم الحلول من قوله (أبي الحال في) وأخذ البنوة من التصريح بلفظ الأب مرة بعد أخرى وهذا لا يصلح دليلا لوجهين :

الوجه الأول : توافرت الأدلة على حصول التغيير والتبديل في الإنجيل فاحتمل أن يكون ذلك المذكور في إنجيل يوحنا مما حصل فيه التغيير والتبديل فلا يصلح حينئذ أن يكون دليلا فلا يصح به الاستدلال.

الثاني : أن نتنزل ونقول لا تغيير ولا تبديل في ذلك المنقول لكن دلالته على مدعاهم ليست يقينية لجواز أن يكون المراد من الاتحاد الذي فهمه بعضهم من الجملة الأولى ـ الاتحاد في بيان طريق الحق وإظهار كلمة الصدق كما يقال أنا وفلان واحد في هذا القول ولجواز أن يكون المراد من الحلول المصرح به في بعض الجمل حلول آثار صنع الله من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ولجواز أن يكون المراد من الأب المبدئ فإن القدماء كانوا يطلقون الأب على المبدئ فمعنى قوله أبي : مبدئي وموجدي وسمي عيسى ابنا تشريفا له كما سمي إبراهيم خليلا.

وأيضا فمن كان متوجها لشيء ومقيما عليه يقال له ابنه كما يقال أبناء الدنيا وأبناء السبيل فجاز أن يكون تسمية عيسى بالابن لتوجهه في أكثر الأحوال إلى الحق واستغراقه أغلب الأوقات في جناب القدس ومما يؤكد ذلك أنه جاء في الإصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا حيث دعا عيسى للحواريين ما لفظه :

وكما أنت يا أبي بي وأنا بك فليكونوا هم أيضا نفسا واحدة يؤمن أهل العلم بأنك أنت أرسلتني وأنا قد استودعتهم بالمجد الذي مجدتني به ودفعته إليهم ليكونوا على الإيمان كما أنا وأنت أيضا واحد وكما أنت حال في كذلك أنا فيهم ليكون كمالهم واحدا) هذا لفظ الإنجيل وقد تبين منه معنى الاتحاد والحلول على وجه مغاير لما فهموه وجاء في الإصحاح التاسع عشر ما لفظه (إني صاعد إلى أبيكم وإلهي وإلهكم) وهذا يدل بواسطة العطف على أن المراد من الأب الإله وعلى أنه مساو لهم في معنى البنوة والعبودية فهذه النصوص تدحض حجتهم وتلزمهم إذا أرادوا الحق بالرجوع إلى ما قضت به الأدلة العقلية المتقدمة من استحالة الاتحاد والحلول والبنوة ، أما بعض اليهود الذين قالوا إن عزيرا ابن الله فقد أشار الله تعالى إليهم بقوله (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ)[التوبة : ٣٠] نسب الله ذلك القول إلى اليهود مع أنه قول لطائفة منهم جريا على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد والسبب الذي دعا هذه الطائفة إلى القول بأن عزيرا ابن الله أن اليهود تركوا العمل بما في التوراة وعملوا بغير الحق فعاقبهم الله تعالى بأن أنساهم التوراة ونسخها من صدورهم فتضرع عزير إلى ـ

١٩٣

(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم : ٢١ ، ٢٢] ، وقال : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) ، وقال : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) [الزخرف : ١٧]

قال : أنفتم (١) أنتم من البنات ؛ كيف نسبتم البنات إليه؟!

في هذه الآية تصبير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أذاهم بقوله ، مع كثرة ما كان لهم من الله من النعم والمنن يشركون في عبادته غيره ؛ فأنت إذا لم يكن منك إليهم شيء من ذلك [فأولى](٢) أن تصبر على أذاهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ).

أي : يعلمون هم أن ليس له ولد ولا شريك ؛ ولكن كانوا يكابرون ، ويحتمل (بِغَيْرِ عِلْمٍ) : على جهل يقولون ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ).

هو حرف تعظيم وتنزيه جعل (٣) فيما بين الخلق : به يعظمون ، وبه ينزهون ، وبه ينفون كل عيب فيهم ؛ فعلى ذلك ذكر عند وصف الكفرة بالولد والشريك والعيوب ؛ تنزيها وتبرئه عن كل عيب وصفة ، وتعاليا عن جميع ما قالوا فيه ، وهو ـ والله أعلم ـ كما يقولون (٤) : معاذ الله ؛ تعظيما وتبريئا من (٥) ذلك.

وفي قوله : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) نقض قول المعتزلة ؛ [لقولهم](٦) : إن صفات الله ليست إلا وصف الواصفين ، فلو لم يكن [إلا وصف الواصف](٧) لا غير لكان لا معنى لذم بعض الواصفين وحمد بعضهم ؛ فثبت أن في ذلك صفة سوى وصف الواصفين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ).

__________________

ـ الله وابتهل إليه فأعاد حفظ التوراة إلى قلبه فأنذر قومه به فلما جربوه وجدوه صادقا فيه فقالوا ما تيسر لهذا العزير دون سواه إلا لأنه ابن الله وهذه شبهة واهية لا يصح الاستناد إليها لأن إجابة المطلب مرتبطة بالقبول والقرب من الله والخضوع لأوامره واجتناب نواهيه لا بالبنوة كما يزعمون.

ينظر : الدرر السنية في تنزيه الحضرة الإلهية لأحمد المستكاوي (٣٠ ـ ٣٥).

(١) في أ : أنفقتم.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : جعلهم.

(٤) في ب : يقال.

(٥) في أ : عن.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في أ.

١٩٤

قوله : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : أنشأهما بلا احتذاء (١) ولا امتثال بغير ، وقوله (٢) هذا يرد على القرامطة قولهم ؛ [لأنهم يقولون : خالق ، [ولا يقولون مبدع](٣) ، ويقولون : المبدع الثاني هو أول مخلوق خلق منه جميع العالم ، فلو كان أول خلق خلق مبدعا فهو مبدع ، والإبداع : هو إحداث شيء لم يسبق له أصل ولا مثال ؛ ولهذا يقال لمن أحدث في دينه شيئا : مبتدع ؛ لأنه أحدث فيه شيئا لم يسبق له أصل ولا مثال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ).

أي : من قدر على إبداع السموات والأرض ، لا عن أصل سبق ولا عن مثال تقدم ؛ فأنى يقع له الحاجة إلى الولد؟! والولد في الشاهد إنما يتخذ ؛ [لإحدى](٤) خصال ثلاث : إما للانتصار على الأعداء والانتقام منهم ، وإمّا لوحشة تأخذهم ، وإما لحاجة تمسّهم ؛ فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يتعالى عن ذلك كله فأنى يتخذ ولدا؟!

والثاني : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) ، أي : تعرفون أن الولد لا يكون في الشاهد إلا عن صاحبة [وليست له صاحبة](٥) فأنى يكون له ولد ؛ كأن الخطاب كان في قوم ينفون عنه الصاحبة ، وإنما الحاجة إلى الصاحبة ؛ للشهوات التي مكنت فيهم ؛ فالشهوة هي التي تقهر المرء وتحمله على الحاجة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ).

فيه نقض قول المعتزلة ؛ لأنه أخبر أنه خلق كل شيء ، وعلى قولهم : لم يخلق جزءا من ألف جزء من الأشياء ؛ لأنهم يقولون : إن الله لم يخلق أفعال العباد ، ولا حركاتهم ، ولا سكناتهم (٦) ، ولا قيامهم ، ولا قعودهم ، ولا شيئا من ذلك ، ثم لا يجوز أن تصرف الآية إلى الخصوص ، وهو يخرج مخرج الامتداح ، ولو جاز أن يصرف هذا على شيء دون شيء لجاز لغيرهم أن يصرفوا قوله : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) إلى شيء دون شيء وكذلك قوله : (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) على قول المعتزلة هو خالق بعض الأشياء ليس هو بخالق الأشياء كلها ؛ على ما أخبر فلئن جاز صرفه إلى بعض الأشياء دون بعض ؛ لجاز ـ أيضا ـ صرف قوله (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ).

__________________

(١) في ب : اجتزاء.

(٢) زاد في ب : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ).

(٣) بدل ما بين المعقوفين في أ : فهو مبدع.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

(٦) في ب : وسكونهم.

١٩٥

وقيل : إلى بعض دون بعض ، حفظ بعض الأشياء ولم يحفظ الكل ، فإن لم يجز هذا ؛ لأنه خرج مخرج الامتداح ؛ فعلى ذلك لا يجوز صرف الأول إلى بعض دون بعض ؛ لأنه امتداح ، ولئن جاز أن يقال بأن العبد هو خالق ذلك ، جاز أن يقال : هو خالق الكل ، والقادر عليه ؛ فهذا سمج بيّن ، نسأل الله العصمة عن السرف في القول ، والزيغ عن الحق ؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ).

أي : ابتدع خلق السموات والأرض ، وما ذكر من أنواع المنن والنعم التي أنعمها عليهم ؛ من نحو : ما جعل لهم من النجوم ؛ ليهتدوا بها في الظلمات ، وما ذكر أنه أنشأهم من نفس واحدة ، وما ذكر من إنزال الماء من السماء ، وإخراج ما أخرج به من النبات والثمار والحبوب والأعناب ، وغير ذلك من عجيب حكمته ، ذلك كله بالله الذي (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، منشئ ذلك كله.

(فَاعْبُدُوهُ).

أي : إليه وجهوا شكر نعمه ، ولا توجهوا إلى غيره ، قال الكيساني : بديع السموات [والأرض](١) ، وبادع السموات [والأرض](٢) واحد ؛ كما يقال : عليم وعالم ، و (بدع) و (ابتدع) : بمعنى واحد. وقال بعضهم : هو مثل قوله : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ١٤].

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ).

قيل (٣) : كنى بالأبصار عن الخلق ؛ كأنه قال : لا يدركه الخلق ، وهو يدرك الخلق ، وإنما كنى بالأبصار عن الخلق ؛ لما بالأبصار تدرك الأشياء ويحاط بها ؛ لذلك كان معنى الكناية ، والله أعلم.

وقيل (٤) : هو [على](٥) حقيقة الأبصار ، [و] كذلك (٦) بصر القلب ؛ لما به نفع المعارف ، فإن كان بصر الوجه ، ففيه دليل إثبات الرؤية (٧) ؛

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (٤ / ١٩٨)

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٩٤) (١٣٦٩٨) عن ابن عباس ، و (١٣٦٩٩) عن قتادة ، و (١٣٧٠٠) عن عطية العوفي ، وانظر الدر المنثور للسيوطي (٣ / ٦٩).

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : لكنه.

(٧) استدل المنكرون بهذه الآية من وجهين ، الأول علي استحالة الرؤية ، الثاني على نفي الوقوع. ـ

١٩٦

__________________

ـ وتقرير الآية على الأول قالوا الرؤية تمدح الله بنفيها ، وكل ما تمدح الله بنفيه فثبوته له تعالى نقص ، فثبوت الرؤية له تعالى نقص.

أما الصغرى فلأنه لا معنى لإدراك الأبصار إلا الرؤية أو هما أمران متلازمان لا يصح نفي أحدهما وإثبات الآخر وإذا كان نفي إدراك الأبصار له تعالى مدحا كان نفي الرؤية عنه كذلك ، وأما بيان التمدح فلأن هذه الآية قد ذكرت في ثنايا المدائح حيث يقول المولى سبحانه وتعالى في محكم كتابه (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام : ١٠١ ـ ١٠٣] وليس من المعقول أن يكون ما قبل الآية الكريمة وما بعدها للمدح وهي لا تكون كذلك فوجب أن تكون هي كذلك وإلا لوقع أثناء المدائح ما ليس بمدح وهو معيب غير لائق بكلام البشر فكيف يكون في كلام الله الذي بلغ حد الإعجاز وأما الكبرى : (كل ما تمدح الله بنفيه فثبوته له نقص) فلأنه إذا ثبت أن نفي الإدراك له تعالى مدح كان نقيضه أعني ثبوت إدراك الأبصار له تعالى نقصا لأن ما كان من الصفات عدمه مدحا كان ثبوته نقصا وقد تمدح بنفي الرؤية وأما الأفعال فثبوتها ونفيها كمال له تعالى كالعفو والانتقام فإن الأول فضل والثاني عدل وكلاهما كمال.

وأجيب من قبل أهل السنة أولا بالمنع وثانيا بالمعارضة ، أما الجواب بالمنع فيقال في شأنه : لا نسلم التمدح بنفي الرؤية المطلقة في هذه الآية كما تزعمون ؛ بل التمدح بنوع خاص منها وهو الرؤية على وجه الإحاطة يدل لذلك تفسير ابن عباس رضي الله عنه ففي الدر المنثور وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس أنه قال (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) أي لا يحيط به بصر أحد : فالإدراك المضاف إلى البصر ليس هو الرؤية المطلقة بل أخص منها ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم.

وإنما لم يكن الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية المطلقة لأن الإدراك حقيقته اللحوق والبلوغ سواء كان في المكان كما قال أصحاب موسى عليه‌السلام (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)[الشعراء : ٦١] أي ملحقون ، أو في الزمان كما يقال أدركت قتادة والحسن ، أو في صفته وحاله كما يقال أدرك الغلام أي بلغ الحلم وأدركت الثمرة أي نضجت وإذا كان حقيقة في اللحوق فلا يكون حقيقة في الرؤية وإلا لزم الاشتراك الذي هو خلاف الأصل ، بل الإدراك مجاز عن الرؤية المخصوصة المتكيفة بكيفية الإحاطة لأنها أقرب إلى حقيقته لما فيها من توهم معنى اللحوق كأن البصر قطع المسافة التي بينه وبين الشيء حتى بلغه ووصل إليه.

وأما إبصار الشيء الذي ليس فيه جهة أصلا فإنه لا يتحقق فيه معنى البلوغ فلا يسمى إدراكا.

ثم اشتهر في هذا المعنى حتى صار حقيقة عرفية كما يؤخذ من المقاصد وغيرها.

وأما الجواب بالمعارضة فيقال فيها :

الرؤية تمدح الله بنفيها في الآية الكريمة وكل ما تمدح الله بنفيه فهو جائز فالرؤية جائزة.

أما بيان الصغرى فلما تقدم من وقوعها أثناء المدائح وأما دليل الكبرى فيذكر في شأنه أن التمدح بعدم الرؤية للتعزز والاحتجاب بحجاب الكبرياء مع إمكان الرؤية كما يتمدح بذلك الملوك لا أنها ممتنعة إذ لو كانت ممتنعة للزم أن يكون المعدوم ممدوحا بعدم الرؤية.

ولا يقال من قبل المعتزلة : عدم مدح المعدوم ينفي الرؤية عنه لعرائه من أصل المدح وهو الوجود واشتماله على كل نقص وهو العدم لأن الحق أن امتناع الشيء لا يمنع التمدح بنفيه إذ قد ورد التمدح بنفي شريك الباري وبنفي اتخاذ الولد مع امتناعها في حقه تعالى فليس بشيء ؛

إذ التمدح بخصوصية عدم الرؤية منحصر في الظاهر في التعزز والاحتجاب بحجاب الكبرياء مع ـ

١٩٧

__________________

ـ إمكان الرؤية ولهذا لم يكن أعظم الملوك ممدوحا بعدم الرؤية في البلاد البعيدة وإذا كان الظاهر ذلك ثبت أن التمدح بعدم الرؤية يدل على إمكانها لا على امتناعها وهو المطلوب.

إلى هنا تم الكلام من تقرير الآية على الوجه الأول وأعني استحالة الرؤية مع الرد عليه ، ولنشرع في تقريرها على الوجه الثاني الدال على نفي الوقوع ، فقد قالوا في تقريرها : الرؤية إدراك البصر ولا شيء مع إدراك البصر يتعلق به تعالى ينتج لا شيء من الرؤية يتعلق به تعالى.

أما الصغرى : فلأنه لا معنى للإدراك المضاف إلى الأبصار إلا الرؤية إذ معنى قولك أدركته ببصري معنى رأيته لا فرق بينهما إلا في اللفظ إذ هما أمران متلازمان لا يصح نفي أحدهما وإثبات الآخر فلا يقال أدركته وما رأيته ولا العكس كما مر.

وأما الكبرى : فالآية الكريمة وردت بنفي إدراك الأبصار له تعالى وذلك يتناول نفي الرؤية لجميع الأبصار في جميع الأوقات ، يدل على الأول ورود الأبصار باللام الاستغراقية المفيدة للعموم في مقام المبالغة فتكون سالبة كليته.

وعلى الثاني : إن قولنا تدركه الأبصار يناقض (لا تدركه الأبصار) بدليل استعمال كل منها في تكذيب الآخر ، ولا معنى للنقيض إلا هذا ولا شك أن قولك تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلا بد أن يفيده نقيضه وهو (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) فلا يراه شيء من الأبصار في الدنيا والآخرة.

وأجيب عن الصغرى : أولا بالمنع فقال أهل السنة لا نسلم أن الإدراك المضاف إلى البصر هو الرؤية المطلقة والقول بذلك كلام ظاهري خال عن التحقيق يترتب عليه إبطال النصوص السمعية الصحيحة بل الإدراك للشيء تارة يطلق بمعنى اللحوق به والوصول إليه ومن هذا قوله تعالى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) [يس : ٤٠] وأخرى بمعنى الإحاطة من جميع جوانبه والعلم بكنهه والمعنى على هذا أنه لا تدرك الأبصار كنهه ولا تحيط به (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أي يحيط بها علما. فظهر أن الإدراك غير الرؤية فتتحقق هي بدونه فيصح أن يقال : رأيته وما أدركته أي عاينته وما أدركت كنهه وحقيقته ، وتقول رأيت السماء وما أدركتها أي أدركت كنهها فنفي الإدراك المأخوذ في قوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) المراد منه نفي الإحاطة والانحصار لاستحالة الحدود والنهايات والوقوف على حقيقته تعالى وهو بهذا المعنى أخص من الرؤية المطلقة وإلا لزم الاشتراك وهو خلاف الأصل ، نعم قد يكون الإدراك مجازا عن الرؤية المطلقة ولكن المراد منه هنا المعنى الحقيقي وهو الرؤية المخصوصة لا المعنى المجازي وهو الرؤية المطلقة.

ثانيا : بمنع الكبرى القائلة (لا شيء من إدراك البصر يتعلق به تعالى) ، بمنع دليلها : وذلك أن الآية التي جعلت دليلا لها كما تحتمل أن تكون من عموم السلب وذلك بملاحظة ورود النفي أولا ثم العموم فتكون سالبة كلية كذلك يحتمل أن تكون من سلب العموم وذلك بملاحظة ورود العموم أولا ثم توجه النفي عليه فتكون سالبة جزئية وحينئذ يكون المعنى على هذا ليس كل بصر يدركه تعالى وهذا لا ينافي أن بعض الأبصار يدركه كما لا يخفى.

ثالثا : لا نسلم أن (أل) استغراقية بل هي للجنس فتكون الآية سالبة مهملة وهي في قوة الجزئية في المعنى لا تدركه بعض الأبصار وتخصيصه بالنفي يدل بالمفهوم على الإثبات للبعض فالآية حجة لأهل السنة لا عليهم كما تدعي المعتزلة.

رابعا : سلمنا أنها لعموم السلب لكن لا نسلم أنها تفيد العموم في جميع الأوقات حتى تكون سالبة كلية دائمة لجواز أن يكون المراد نفي الرؤية في الدنيا كما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما قرأ قوله تعالى (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)[الأعراف : ١٤٣] قال الله (يا موسى لا يراني حي إلا ـ

١٩٨

لأنه نفى عنه الإدراك ، فلو [لم يكن يحتمل الرؤية](١) لم يكن لنفي الإدراك معنى ؛ لأنه لا يدرك ما لا يرى ؛ فدل نفي الإدراك على أن هنالك رؤية ، لكنه لا يدرك ولا يحاط بها (٢) ؛ على ما ذكر : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه : ١١٠] ؛ إذ من الأشياء الظاهرة مما يقع عليها البصر يكون لها سر ، وفيها خفاء ؛ من نحو : البصر ، والسمع [واللسان](٣) ، والأنف ، واليد ، وغير ذلك من الأشياء : مما لا يدرك حقيقة ماهيتها وكيفيتها ولا تقديرها : [يبصر](٤) بالبصر أشياء لا يعرف حقيقة كيفية البصر ولا ماهيته ، وكذلك السمع : لا يدري أنه كيف هو؟ ولا بم (٥) يسمع؟ وكذلك هذا في كل جارحة وحاسة : تجد اليوم خشونة الشيء الذي تمسه ولينه ، لا تعرف (٦) : بم تجد ذلك وتعرفه؟ وكذلك الكلام من اللسان ، والشم من الأنف لا يدري ما هو؟ وكيف؟ وبم يجد تلك الرائحة والنتن؟

فإذا كانت (٧) معارف الخلق في الأشياء الظاهرة التي يقع عليها البصر لا يدرك حقيقة ماهيتها ، ولا يعرف كيفيتها ، ولا يحاط بها علما ؛ فالله ـ سبحانه ـ الذي بحكمته وضع ذلك ، وبلطفه ركب ـ أبعد عن الإدراك ، وأحرى ألا يحاط به ، ولا يدرك.

وهذا يرد على المجسمة مذهبهم ؛ لأنهم يصورون ربهم في قلوبهم ، ويمثلونه ، فعلى ذلك يعبدونه ، فهم مشبهة.

وأصله أن الله ـ تبارك وتعالى ـ يعرف بالآيات والدلائل ، لا بالمحسوسات

__________________

ـ مات ...). الحديث.

وأما دليلكم على أنها دائمة لأن نقيضها وهو قولنا (تدركه الأبصار) لا يفيد عموم الأوقات فلا بد أن يفيد نقيضه (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) مردود بأنه إنما يتم هذا إذا كان التقابل بينهما تقابل التناقض وهو ممنوع فإن القضيتين الموجبة والسالبة الخاليتين عن الجهة لم توضعا في اللغة لمعنيين متناقضين بل لهما محامل يجعلهما المستعمل حسب ما يريد.

خامسا : أن الأبصار لا تراه ولا يلزم منه أن المبصرين لا يرونه لجواز أن يكون النفي المذكور في الآية نفيا للرؤية بالجارحة مواجهة وانطباعا كما هو العادة. هذه أمور عادية للرؤية لا يلزم من نفيها نفي الرؤية إذ هي معنى يخلقه الله تعالى فيمن شاء من عباده من غير أن يكون هناك مواجهة أو انطباع صورة أو مقابلة أو غير ذلك. ينظر : كتاب الرؤية لعبد الفضيل طلبة.

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : ولا تحاط به.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : وبم.

(٦) في ب : يعرف.

(٧) في ب : كان.

١٩٩

والمشاهدات ، وكل شيء سبيل معرفته الآيات والدلائل : فهو غير محاط به ولا يدرك ؛ فهو على ما وصف نفسه : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه : ١١] ، (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ؛ لأن الإدراك والإحاطة إنما يقعان بالمحسوسات ، لا بما يعرف بالآيات والدلائل ، وعلى ذلك جاءت دلائل الرسل [به](١) ؛ نحو ما قال موسى ـ حين سأله فرعون ـ : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠] ، وقال إبراهيم : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] ، وقال : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) [البقرة : ٢٥٨] دلالة على ألوهيته ووحدانيته من جهة الآيات والدلائل ، لا من غيره.

وعلى ذلك دل الله الخلق على معرفة وحدانيته وربوبيته ، بقوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها) [الأنعام : ٩٧] ، وقال : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) [يونس : ٥] ، وقال : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩٩] إلى آخر ما ذكر ، دلهم (٢) على ما به يعرفون ألوهيته ووحدانيته من جهة الآيات والدلائل ، لا من جهة ما تقع به الإحاطة والإدراك ، وبالله الهداية والرشاد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

قيل : اللطيف : في أفعاله ، الخبير بخلقه وبأعمالهم.

وقيل (٣) : اللطيف : البار الرحيم.

وقيل (٤) : اللطيف : هو العليم بخفيات الأشياء.

والخبير بظواهر الأشياء. ثم هو اللطيف : العظيم ، والعظيم في الشاهد : غير اللطيف ، واللطيف : غير العظيم ؛ لأن العظيم في الشاهد هو الذي به كثافة ، واللطيف : ما يلطف في نفسه ويرق ، وكل (٥) واحد منهما مما يناقض الآخر ؛ ليعلم أنه لطيف عظيم ، لا من الوجوه التي تعرف في الخلق ؛ وكذلك قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [الحديد : ٣] هو أول وآخر وظاهر وباطن ، وفي الخلق : من كان أولا لم يكن آخرا ، ومن

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : ذكره لهم.

(٣) قال الخازن في تفسيره (٢ / ٤٢٤) : قال الزهري : معنى اللطيف الرفيق بعباده وقيل هو الموصل الشيء إليك برفق ولين ، وقال أبو سليمان الخطابي : اللطيف هو اللين بعباده يلطف بهم من حيث لا يعلمون.

(٤) قال القرطبي (٧ / ٣٨) : قال أبو العالية : لطيف باستخراج الأشياء خبير بمكانها ، وقال البغوي في تفسيره مع الخازن (٢ / ٤٣٢) وأصل اللطف دقة النظر في الأشياء.

(٥) في ب : كل.

٢٠٠