تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

لقوم ، بشير لقوم آخرين : نذير في حال ، وبشير في حال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).

هو على الوعيد وروي عن النبي أنه كان إذا كبر للصلاة ، أتبع التكبير بهذه الآية : (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ...) إلى آخره (١).

وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا افتتح الصلاة كبّر ، ثم قال : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٧٩](إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ...) إلى قوله تعالى (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(٢).

وذكر أنه كان يدعو بعد ذلك دعاء طويلا.

وروي عن عائشة (٣) ، وأبي سعيد الخدري أنهما قالا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذاء منكبيه ، ثم يقول : «سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك».

فكان أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ يختار من ذلك هذا في الفرائض (٤).

وكذا روي عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه قام إلى الصلاة ، فكبر ، ثم قال : «سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك» (٥).

[وكذلك روي عن أبي سعيد أنه كان إذا افتتح الصلاة قال : «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك»](٦).

__________________

(١) أخرجه مسلم في صحيحه (١ / ٥٣٤) كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه (٢٠١ / ٧٧١).

وأحمد في المسند (١ / ٩٤) ، وأبو داود (١ / ٢٦٠ ـ ٢٦١) في كتاب الصلاة ، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء (٧٦٠).

(٢) أخرجه الترمذي (٢٤٣) ، وابن ماجه (٨٠٦) ، وأبو داود (٧٧٦) ، وابن خزيمة (٤٧٠).

(٣) أخرجه أحمد (٣ / ٥٠) ، (٣ / ٦٩) ، والدارمي (١٢٤٢) وابن ماجه (٨٠٤) ، والترمذي (٢٤٢) ، والنسائي (٢ / ١٣٢) وفي الكبرى (٨٨٢ ، ٨٨٣).

(٤) ينظر بدائع الصنائع (١ / ٢٠٢) ، العناية شرح الهداية (١ / ٢٨٨).

(٥) أخرجه مسلم (١ / ٢٩٩) كتاب الصلاة : باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة (٥٢ / ٣٩٩) موقوفا على عمر بن الخطاب. وذكره الزيلعي في نصب الراية (١ / ٣٢٢) ، وقال : موقوف أخرجه مسلم في صحيحه عن عبدة بن أبي لبابة عن عمر ا. ه ، قال المنذري : وعبدة لا يعرف له سماع من عمر.

وقال الدار قطني في العلل : وقد رواه إسماعيل بن عباس عن عبد الملك بن حميد بن أبي غنية عن أبي إسحاق السبيعي عن الأسود عن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخالفه إبراهيم النخعي فرواه عن الأسود عن عمر وهو الصحيح.

(٦) سقط في أ.

٣٤١

وكان أبو يوسف يستحب أن يقول بهذه (١) الكلمات والكلمات التي رواها علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ من غير إيجاب لذلك ولا حظر لما سواه.

وكان أبو حنيفة (٢) ـ رحمه‌الله ـ لا يستحب أن يزيد في الفرائض على ما روي عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما روت عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما روي عن عمر وعبد الله (٣) ـ رضي الله عنهما ـ.

وأما في النوافل فله أن يزيد ما شاء فيها من الثناء والدعوات ؛ فيحتمل أن يكون ما رواه علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ من فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ذلك في النوافل.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٦٥)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ).

اختلف فيه :

قال بعضهم : (جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) ، يعني أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعلهم خلائف من تقدمهم من المكذبين والصديقين ؛ ليعلموا ما حل بالمكذبين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليحذروا تكذيبه والخلاف له ، ويرغبوا في تصديقه والموافقة له والطاعة ؛ ليكون لهم بمن تقدمهم عبرة في التحذير والترغيب ، ويكون لهم بمن تقدمهم قدوة وعبرة ؛ ليعرفوا صحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن كيف يجب أن يصحبوه ويعاملوه : من الإحسان إليه ، والتعظيم له والتصديق ، ويجتنبوا الإساءة إليه والتكذيب.

وقال بعضهم (٤) : قوله : (جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) ، يعني : البشر كلهم ، جعل بعضهم خلائف بعض في الوجود وفي الأحوال في الحياة ، والموت ، والغناء (٥) ، والفقر ،

__________________

(١) في ب : هذه.

(٢) ينظر أحكام القرآن (٣ / ٤٢) ، المبسوط (١ / ١٢).

(٣) ذكره الزيلعي في نصب الراية (١ / ٣١٩) وعزاه للطبراني في معجمه عن عبد الله بن عمر ، وقال : الحديث معلول بعبد الله بن عامر ونقل شيخنا الذهبي في (ميزانه) تضعيفه عن جماعة كثيرة.

وقال ابن حبان في كتاب الضعفاء : كان يقلب الأسانيد والمتون ويرفع المراسيل والموقوفات ثم أسند عن ابن معين أنه قال : ليس بشيء ا. ه.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (٢ / ١٠٧) أخرجه الطبراني في الكبير وفيه عبد الله بن عامر الأسلمي وهو ضعيف.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٢٢) (١٤٣١٣) عن السدي بنحوه وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٢٤) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٥) كلمة الغناء المقصود به الغنى والغنى اسم مقصور ، والعرب يجعلون أحيانا الاسم المقصور ممدودا ومنه قول الشاعر : ـ

٣٤٢

والصحة ، والسقم ، وفي العز ، والذل ، وفي كل شيء ، وفي الصغر ، والكبر ؛ ليكون لهم في ذلك عبر ودليل على معرفة منشئهم وخالقهم ؛ لأنه لو أنشأهم جميعا معا ـ لم يعرفوا أحوال أنفسهم وتغيرهم من حال إلى حال ، [ولكن أنشأهم واحدا بعد واحد وقرنا بعد قرن ؛ ليعرفوا أحوال أنفسهم وانتقالهم من حال إلى حال](١) ؛ ليعرفوا أن منشئهم واحد ؛ لأنهم لو كانوا جميعا معا ـ لم يعرفوا مبادئ أحوالهم من حال نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ، ثم من حال الصغر إلى حال الكبر ، وكذلك هذا في جميع الأحوال : من الغنى (٢) والفقر ، والصحة ، والسقم ، ولو كان كله على حالة واحدة ـ لم يعرفوا ذلك ، لكن جعل بعضهم خلائف بعض ؛ ليدلهم على ما ذكرنا.

ويحتمل ما قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : إنهم صاروا خلف الجان (٣) ، فالأول يكون في بيان صحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحسن المعاملة معه.

والثاني في بيان وحدانية الربّ.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ).

يحتمل هذا في الأحوال ، ويحتمل في الخلقة جعل لبعض فضائل ودرجات على بعض ، وجعل بعضا فوق بعض بدرجات في الدنيا ؛ ليكتسبوا لأنفسهم في الآخرة الدرجات والفضائل ، على ما رغبوا في الدنيا في فضائل الخلقة ودرجات بعضها (٤) فوق بعض ، ونفروا في الدون من ذلك ؛ ليرغبهم ذلك في اكتساب الدرجات في الآخرة ، وينفرهم عن اكتساب ما ينفرون عنه في (٥) الدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ).

يحتمل : ليبلوكم فيما آتاكم من الأحوال المختلفة : من الفقر والغناء ، والسقم والصحة ، والصغر والكبر ، وغير ذلك من الأحوال.

ويحتمل : (فِي ما آتاكُمْ) من النعم ، أي : ليبلوكم بالشكر على ما آتاكم من النعم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ).

__________________

 ......................................

فلا فقر يدوم ولا غناء

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : الغناء.

(٣) ذكره أبو حيان في البحر المحيط بنحوه (٤ / ٢٦٣).

(٤) في أ : بعض.

(٥) في ب : من.

٣٤٣

قال بعضهم (١) هو إخبار عن سرعة (٢) إتيان العذاب ؛ لأن كل آت قريب كأنه قد جاء ، كقوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] ، (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [الأنبياء : ١] ، (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١] ونحوه : أنه إذا كان آتيا لا محالة (٣) جعل كأنه قد جاء.

وقال بعضهم : ذلك إنباء عن شدة عذابه لمن عصاه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ).

قيل : يبتلي الموسر في حال الغناء ، والصحيح في حال صحته ، ويبتلي الفقير في حال فقره ، والمريض في حال مرضه ، والابتلاء من الله ـ تعالى ـ على وجهين :

إما أمرا بالشكر على ما أنعم.

أو صبرا على ما ابتلاه بالشدائد ، والابتلاء منه هو ما بين السبيلين جميعا سبيل الحق وسبيل الباطل ، وبين أن كل سبيل إلى ما ذا أفضاه لو سلكه : لو سلك سبيل الحق أفضاه إلى النعم الباقية والسرور الدائم ، وإن سلك سبيل الباطل أفضاه إلى عذاب شديد وحزن دائم.

ثم خيره بين هذين ؛ فهو معنى الابتلاء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

للمؤمنين ، وقد ذكرناه (٤) [والحمد لله رب العالمين](٥).

* * *

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي والخازن (٢ / ٤٧٨) ، والبحر المحيط لأبي حيان (٤ / ٢٦٣).

(٢) في أ : معرفة.

(٣) في أ : محال.

(٤) في سورة البقرة [١٧٣].

(٥) سقط في أ.

٣٤٤

سورة الأعراف

قيل إنها مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ)(٣)

الحمد لله العليم بخلقه ، اللطيف لرشد عباده ، ضرب لهم الآيات والبيان ؛ لينقلهم بحكمته وتدبيره من الجهالة إلى العلم ، ومن الضلالة إلى الهدى ، ووصى رسوله أن يدعو عباده إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة (١) ، فبعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس كافة ، وأنزل إليه الكتاب تلا فيه ما في الكتب الأولى ؛ ليبين لأهل الكتاب والمشركين أن النبي الأمي (٢) العربي لم يعلم ما في الكتب الأعجمية إلا من عند الله ؛ ليكون ذلك أوضح لهم في الحجة.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل الرسالة معروفا عند الفريقين أنه لم يتل (٣) كتابا ، ولا خطه

__________________

(١) كما في قوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ ...) [النحل : ١٢٥].

(٢) من المعجز : أن نبينا ـ عليه‌السلام ـ نشأ مع قريش كنشأة الإنسان منا مع إخوته وبني عمه وأقاربه ، ثم لم يفارقهم في سفر ولا حضر بل كانوا معه إلى أن ادعى الرسالة ، ولم يعرف قبل ذلك بقراءة كتاب ولا دراسة سير ولا مداخلة أحد من أهل الملل حتى بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبر عن القرون الماضية والأمم السالفة بما لا يبلغ معرفته ويقدر على الإخبار بمثله إلا من أفنى عمره في دراسة ذلك وقراءته ومجالسة العالمين به ومذاكرتهم به ؛ فكان هذا من أعظم المعجزات وأكبر الآيات البينات ؛ لأن هذا ليس من فعل البشر وهو خارق للعادة بعيد عن مستقر الطبيعة ، واقترن به التحدي ودعوى الرسالة ووجدت فيه سائر صفات المعجز ؛ فكان من معجزاته وبدائع آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرفه وكرمه.

فهذا وجه تعلق المعجز بكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أميّا ؛ ولذلك قال الله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ)[العنكبوت : ٤٨].

فلم يكن صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يوحى إليه يتلو كتابا ولا تخطه بيمينه ، ثم تلا بعد ذلك أفضل الكتب وهو القرآن من غير تعليم ، وكان ذلك من آياته.

ولم تخرجه تلاوته له بعد أن لم يتل كتابا قبل نبوته من أن يكون من معجزاته.

فإن كان كتب بعد أن لم يكتب قبل نبوته فإن ذلك أيضا لا يؤثر في شيء من معجزاته ، ولا يرد آية من آياته ، ولا يغير شيئا مما جاء به. ينظر تحقيق المذهب ص ١٩٠ ـ ١٩٢.

(٣) في ب : لم يتلو. برفع الفعل بعد «لم» الجازمة ، وهذا وارد في كتب النحاة ، يقول ابن هشام المصري : «لم» حرف جزم لنفي المضارع وقلبه ماضيا نحو (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) [الإخلاص : ٣] ، وقد يرتفع الفعل المضارع بعدها كقوله :

لو لا فوارس من نعم وأسرتهم

يوم الصليفاء لم يوفون بالجار

فقيل : ضرورة ، وقال ابن مالك : لغة. ا ه. ينظر : مغني اللبيب (١ / ٢٧٧).

٣٤٥

بيمينه ، ولا كان عندهم من شعرائهم (١) ، ولا المعروف بأنسابهم (٢) وعلم أنبيائهم ؛

__________________

(١) الصواب أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يحسن الشعر ، ويحرم عليه التوصل إلى تعلمه وروايته.

قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ)[يس : ٦٩] أخبر سبحانه وتعالى عن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه لم يؤته معرفة الشعر ، وأنه لا ينبغي له أن يصلح له.

قال الخليل بن أحمد : كان الشعر أحب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كثير من الكلام ، ولكن لا يتأتى له.

روى ابن أبي حاتم ، عن الحسن البصري ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتمثل بهذا البيت :

كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا

فقال أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ :

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

فأعادها بالأول ، فقال أبو بكر : أشهد أنك رسول الله ، يقول الله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ).

وروى البيهقي رضي الله تعالى عنه ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للعباس بن مرداس : أنت القائل :

أصبح نهبى ونهب العبيد

بين الأقرع وعيينة

فقال أبو بكر بأبي أنت وأمي يا رسول الله : ما أنت بشاعر ، ولا راوية ، ولا ينبغي لك ، إنما قال بين عيينة والأقرع.

وروى أبو داود ، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما أبالي ما أتيت أني شربت ترياقا ، قال : أو تعلقت بهيمة ، أو قلت الشعر من قبل نفسي ، أي من جهة نفسي ، فخرج به ما قاله حاكيا عن غيره إلا عن نفسه ، كما في الصحيح ، أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

قال الإمام إبراهيم الحربي : ولم يبلغني أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنشد بيتا تاما على روايته ، بل إما الصدر كقول لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

أو العجز كقول طرفة :

ويأتيك بالأخبار من لم تزود

فإن أنشد بيتا كاملا غيّره ، كبيت العباس بن مرداس.

وروى البيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، قالت : «ما جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت شعر قط».

وروى ابن سعد ، عن الزهري ، رضي الله تعالى عنه ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يبنون المسجد :

هذا الحمال لا حمال خيبر

هذا أبر ربنا وأطهر

قال الزهري : «إنه لم يقل شيئا من الشعر ، إلا قيل قبله إلا هذا».

قال العلماء رحمهم‌الله تعالى : وما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرجز كقوله :

هل أنت إلا إصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت

وغير محمول على أنه لم يقصده ، ولم يسم شعرا إلا ما كان مقصودا.

قال النووي : كان لا يحسن الشعر ، ولكن يميز بين جيده ورديئه.

وقال الزركشي : ظاهر كلامهم ، أن هذا من خصائص نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن غيره من الأنبياء ليس كذلك. ينظر سبل الهدى والرشاد (١١ / ٢٧٣ ـ ٢٧٦).

٣٤٦

وذلك أبلغ في البرهان ، فأنبأ فيه علم الغيوب ، وفرض الفرائض ، وحكم فيه الأحكام ، وأنزل فيه الحجج بتأليف يعجز عنه من دون الله ؛ ليبين لهم أنه من عند الله ، فأنف (١) قومه ، وأبوا أن يستمعوه واستكبروا عليه ، وقالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] وقالوا : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٢٦] ؛ فأتاهم العليم الخبير من قبل أنفسهم وكبرهم ؛ فأنزل في الكتاب كلاما افتتح به السورة لم يكن من كلام قومه ؛ فلما سمعوه ظنوا أنه بديع ابتدعه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كإبداعهم (٢) البلاغات والأوابد ، وأنفوا أن يكون محمد يقدر من ذلك على ما لا يقدرون ، فتدبروا الكتاب ليعلموا صدوره بما بعده من الكلام ، فسمعوا كلاما مجيدا [حكيما](٣) ، ونبأ عظيما ، وحججا نيرة ، ومواعظ (٤) شافية ؛ فدخل أكثرهم في الإسلام ، وقعد عنه رجلان : معاند متعمد ، وجاهل مقلد (٥) لا ينظر ، وفيما

__________________

(٢) علم الأنساب : هو علم يتعرف منه أنساب الناس.

وقواعده الكلية والجزئية والغرض منه : الاحتراز عن الخطأ في نسب شخص ، وهو علم عظيم النفع جليل القدر أشار الكتاب العظيم في (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا)[الحجرات : ١٣] إلى تفهّمه.

وحث الرسول الكريم في «تعلموا أنسابكم تصلوا أرحامكم» على تعلمه ، والعرب قد اعتنت بضبط أنسابها إلى أن كثر أهل الإسلام واختلطت أنسابهم بالأعاجم ؛ فتعذر ضبطه بالآباء ؛ فانتسب كل مجهول النسب إلى بلده أو حرفته أو نحو ذلك ، حتى غلب هذا النوع. ينظر أبجد العلوم (٢ / ١١٤).

(١) أنف أنفا وأنفة : استنكف واستكبر. ينظر المعجم الوسيط (١ / ٣٠) (أنف).

(٢) في ب : كابتداعهم.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : ومواعظا. وهو خطأ من الناسخ ؛ لأن هذا الجمع في اللغة بصيغة منتهى الجموع فلا يلحقه التنوين ؛ إذ هو ممنوع من الصرف ينظر : لسان العرب (٦ / ٤٨٧٣) [وعظ].

(٥) التقليد لغة : مصدر قلد ، أي جعل الشيء في عنق غيره مع الإحاطة به.

وتقول : قلدت الجارية : إذا جعلت في عنقها القلادة ، فتقلدتها هي ، وقلدت الرجل السيف فتقلده : إذا جعل حمائله في عنقه. وأصل القلد ـ كما في لسان العرب ـ ليّ الشيء على الشيء ، نحو : ليّ الحديدة الدقيقة على مثلها ، ومنه : سوار مقلود.

وفي التهذيب : تقليد البدنة : أن يجعل في عنقها عروة مزادة ، أو حلق نعل ، فيعلم أنها هدي.

وقلد فلانا الأمر : ولاه إياه. ومنه تقليد الولاة الأعمال.

ويستعمل التقليد في العصور المتأخرة بمعنى المحاكاة في الفعل ، وبمعنى التزييف ، أي : صناعة شيء طبقا للأصل المقلد. وكلا المعنيين مأخوذ من التقليد للمجتهدين ؛ لأن المقلد يفعل مثل فعل المقلّد دون أن يدري وجهه. والأمر التقليدي : ما يفعل اتباعا لما كان قبل ، لا بناء على فكر الفاعل نفسه ، وخلافه : الأمر المبتدع.

ويرد التقليد في الاصطلاح الشرعي بأربعة معان :

أولها : تقليد الوالي أو القاضي ونحوهما ، أي توليتهما العمل. ـ

٣٤٧

أنزل مما وصف قوله : (كهيعص) [مريم : ١] ، و (طسم) [الشعراء ، القصص : ١] ، و [(المص)](١) و (الر) [يونس ، هود ، يوسف ، إبراهيم ، الحجر : ١] وما أشبهها.

فقال : (المص).

ليعطف بها على النظر فيما بعدها.

ثم ابتدأ فقال : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ).

يقول : كتاب من ربك ؛ لتنذر به عباده.

(فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ).

يقول : فلا يضيقن صدرك عن الذي فرض الله عليك فيه من البلاغ إلى قومك ، وبما فرض عليك من البراءة منهم ، وممّا يعبدون من دون الله ؛ فكأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاف ما خافت الرسل من بين يديه ، فقال موسى : (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) [الشعراء : ١٤] وقد كان يعرف قومه بالتسرع إلى القتل فيما ليس مثل ما يأتيهم به ، فأمنه الله منهم بقوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] ، وقال في آخر هذه السورة : (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) [الأعراف : ١٩٥] : يفهمونها عن الله ـ تعالى ـ فإنها من أعظم آيات الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلمه أنهم لا يصلون إلى ما يخاف منهم. وفي الأثر (٢) أن الله ـ تعالى ـ لما أرسله إلى قومه ، فقال : «أي رب إذا يثلغوا (٣) رأسي فيذروه مثل خبزة» فأمنه الله ـ تعالى ـ من ذلك ، فقال : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) من البلاغ ، ولا يضيقن صدرك بما (٤) فرض الله عليك من العبادة والحكم الذي تخالف فيه قومك.

ثم وصف الكتاب فقال : (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ).

يقول : يتذكرون بما فيه ويتدبرونه فيعلمون به الحق من الباطل ، ويذكرون به ما فرض عليهم.

ويحتمل أن تكون هذه الحروف المقطعة خطابا خاطب الله بها رسله يفهمونها لا

__________________

ـ ثانيها : تقليد الهدي بجعل شيء في رقبته ؛ ليعلم أنه هدي.

ثالثها : تقليد التمائم ونحوها.

رابعها : التقليد في الدين ، وهو الأخذ فيه بقول الغير مع عدم معرفة دليله. أو هو العمل بقول الغير من غير حجة.

ينظر : لسان العرب (قلد) ، ومختار الصحاح (قلد) ، وروضة الناظر لابن قدامة (٢ / ٤٤٩).

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه مسلم (٦٣ / ٢٨٦٥) عن عياض بن حمار المجاشعي بنحوه.

(٣) في ب : قطعوا.

(٤) في ب : عما.

٣٤٨

يفهمها غيرهم ، [على ما يكون لملوك الأرض بينهم وبين خواصّهم إشارات يفهمها خواصهم ولا يفهمها غيرهم](١) ، هذا متعارف فيما بين الخلق أن يكون لهم فيما بينهم وبين خواصهم ما ذكرنا ؛ فعلى ذلك يحتمل أن تكون هذه الحروف المقطعة خطابات من الله خاطب بها رسله ـ وهم خواصه ـ يفهمونها ولا يفهمها غيرهم ، ثم وجه فهمهم يكون لوجهين :

يخبرهم فيقول : إني إذا أنزلت إليكم كذا فمرادي من ذلك كذا ، أو كان البيان والمراد منها مقرونا بها وقت إنزالها ففهموا المراد منها بما أفهمهم الله وأراهم ما لم ير ذلك غيرهم ؛ كقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) [النساء : ١٠٥] ، أرى رسله شيئا لم ير ذلك غيرهم ، ولا أطلعهم على ذلك ، فهو (٢) من المتشابه على غيرهم ، وأما على الرسل فليس من المتشابه (٣).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : فهي.

(٣) يقول الدكتور إبراهيم صلاح الهدهد في رسالته «علاقة المطالع بالمقاصد في القرآن الكريم» : كان افتتاح تسع وعشرين سورة من القرآن الكريم بالحروف المقطعة ، تلك التي لم ينقل عن العرب دلالات لها ، ولو كانت لها دلالات لتواتر النقل عليها ، ولنقل ذلك علماء الصحابة. وكأن افتتاح السور بها ـ فيما أرى ـ داعية التوجه لمحاولة كشف أسرارها ، ووجودها في مطالع السور ، معلم دال على أهمية افتتاحات السور القرآنية ؛ لذا لم تقع ـ على كثرة مواقعها في الذكر الحكيم ـ في غير مطالع السور.

ولما لم تكن لها دلالات معلومة كان للعلماء بشأنها موقفان :

ذهب الشعبي وسفيان الثوري ، وجماعة من المحدثين إلى أنها سر الله في القرآن وهي من المتشابه.

وقال الجمهور من العلماء : بل يجب أن يتكلم فيها ، وتلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها.

وقد استجاد كثير من العلماء الوجه الثاني ؛ استبعادا لأن يحتوي كتاب الله على ما لا يفهم ، وقد تواترت النقول عن ابن عباس ـ ترجمان القرآن ـ بشأن تأويلها ، وغالب الظن أنها اجتهادات له ـ رحمه‌الله ـ وهو إمام الناس قاطبة في فتح مغاليق الذكر الحكيم ـ لذلك اتسع مجال القول بشأن هذه الفواتح ، بل خصها جماعة بمؤلفات ، فلابن أبي الإصبع : «الخواطر السوانح في أسرار الفواتح» ، ومن المحدثين د / محمد أبو فراج في «الحروف المتقطعة في أوائل السور القرآنية» ، د / محمد بدري عبد الجليل «براعة الاستهلال في فواتح القصائد والسور».

وقد أكثر ابن أبي الإصبع من التفسيرات الرياضية ، والحسابات الفلكية لهذه الحروف ، وقد حاول الباحث الأخير أن يضع مفهوما لهذه الحروف ، وأن يربط هذا المفهوم بمقاصد السورة ؛ قياسا على ما قدمه من تفسير لافتتاح قصائد الشعراء بأسماء محبوبات لا حقيقة لها في الواقع ، وربطه موضوع القصيدة بهذا الاسم الذي انتهى إلى أنه رمز ، واستنادا لما جاء في اللسان وغيره من معان لأسماء الحروف كمعنى (الألف) و (الحاء) و... إلخ.

يقول : «فلأمر ما نرجو ألا نهمله نص علماء الرسم القرآني على كتابة فواتح السور حروفا ، ولأمر ـ

٣٤٩

__________________

ـ ما نرجو ألا نغفله نص علماء القراءات على نطق فواتح السور كلمات ، وبقدر ما اختلف المسلمون حول الحكمة ، أجمعوا على أنها استهلالات ابتدئ بها ، ومن ثم كان مصطلح براعة الاستهلال ، بما هو إشارة في الصدر إلى المقصود وما قد يمت إليه من مصطلحات معينة على الكشف. وقد فسر كل الحروف المقطعة بما جاء لمعانيها في لغة العرب.

على أية حال فهو اجتهاد ، لكنه يتكئ على المذهب الرمزي ، ولئن صح هذا التفسير له ـ مع شدة التكلف ـ في مثل (ق) و (ص) و (ن) فكيف يصح في (آل حم) ، هل تتفق موضوعات السور السبعة تمام الاتفاق كما اتفقت افتتاحاتها؟! وما قوله في (الم) وفي (طسم) وغير ذلك؟ إنه يفسر كل حرف بمعناه ، ثم يفر من إيجاد تفسير لتكرر الحروف في الافتتاح ، وعلى ما بذله من مجهود وما أخصب به بحثه من مراجع ، فإن فيما توصل إليه خطرا شديدا ينبغي أن ينأى بكتاب الله عنه ، ثم إن منهجه لم يطرد له ، وحسب فساد المنهج عدم اطراده.

وقد تأولوا لها معاني كثيرة منها :

ـ أنها اسم من أسماء القرآن.

ـ أو فواتح يفتتح الله بها القرآن.

ـ أسماء للسور التي وردت فيها.

ـ اسم الله الأعظم.

ـ قسم أقسم الله به وهو من أسمائه.

ـ حروف مقطعة من أسماء وأفعال ، كل حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر.

ـ حروف هجاء موضوع.

ـ حروف يشتمل كل حرف منها على معان شتى.

ـ حروف من حساب الجمل.

ـ لكل كتاب سر وسر القرآن فواتحه.

ـ ابتدئت بذلك السور ليفتح لاستماعه أسماع المشركين.

ـ أو أنها علامات لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد كتاب يفتتح بالحروف المقطعة.

وعلى اتساع القول بشأن تأويل الحروف المقطعة ، رجح القول بأن : «تلك الحروف علامات دالة ، ورموز منصوبة فحواها أن هذا القرآن الذي أعجز العرب أمره وبان لهم وجه التحدي فيه ، ليس بلغة غير لغتهم ، بل هو مؤتلف من مادة اللغة التي يحذقونها».

واستأنسوا لذلك بأمور منها :

ـ أن ستّا وعشرين سورة ـ مما فواتحه حروف مقطعة ـ مكية النزول ، وقد كانت فترة تحد وعناد.

ـ معظم هذه السور فيها حديث بعد الفواتح مباشرة عن سمو القرآن وعلو طبقته.

ـ أن هذا الرأي أبعد ما يكون عن النقد.

ـ أنه يلتقي مع غيره من الآراء.

وقال القاضي أبو بكر : إنما جاءت على نصف حروف المعجم كأنه قيل : من زعم أن القرآن ليس بآية ، فليأخذ الشطر الباقي ، ويركب عليه لفظا معارضة للقرآن لا سيما أنها نزلت في المرحلة التي بلغ فيها عتو المشركين أقصى المدى ، وأفحشوا في حمل الوحي على الافتراء والسحر والشعر والكهانة ، فواجههم القرآن بالتحدي.

ويستحسن الدكتور / زكي مبارك رأي «المسيو بلانشو» في القول بأنها رموز صوتية وأنه «من المحتمل أن تكون تقاليد الترتيل في القرآن سارت في طريق كان معروفا عند أهل الجاهلية ، ـ

٣٥٠

__________________

ـ ومن الواضح أن القرآن لم يكن من همه أن يخالف الجاهليين في كل شيء ، حتى في الأصوات الموسيقية ، فليس بمستبعد أن تكون فواتح السور إشارات صوتية لتوجيه الترتيل ، وأن تكون متابعة لبعض ترانيم الجاهليين».

ثم توقف في قبوله على ما تكشف عنه دراسة أصول الموسيقى في الكنائس الحبشية والشامية ، ولو كان كذلك لنقل عنهم أيضا ، ولأغنى ذلك علماءنا عن كثرة التأويلات التي أوجزتها.

ويرى الأستاذ / عبد الكريم الخطيب أن هذه الحروف «ترسم لمرتل القرآن أسلوبا خاصّا في التلاوة» ، وهو رأي يقبل بعد درس القرآن على المستوى الصوتي لما تفتتح به السور من الحروف المقطعة وآيات هذه السور ، مما يكشف لنا عن العلاقة الصوتية بين مطلع السورة ومقصدها.

فقد ذكر أحد الباحثين أن «الفاقهين من العلماء تتبعوا الحروف المقطعة في أوائل السور ، فوجدوا أن كل سورة من هذه السور ، قد اختصت بما بدئت به ، فلم تكن لترد (الم) في موضع (الر) ... ؛ وذلك لأن هناك تناسبا بين افتتاحية السورة وآياتها ، فكل سورة بدئت بافتتاحية معينة تكون أكثر كلماتها ، وحروفها مماثلة لها» ، لكنه لم يذكر لنا تعليلات لعدم إمكانية استبدال الافتتاحات.

والزركشي ـ رحمه‌الله ـ ذكر ذلك في الحروف المفردة ، وكشف عن العلاقة الصوتية بين مطلع السورة ومقصدها ، يقول : «ومن ذلك : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)[ق : ١] ؛ فإن السورة مبنية على الكلمات الكافية من ذكر القرآن ، ومن ذكر الخلق ... وسر آخر هو أن كل معاني السورة مناسب لما في حرف القاف من الشدة والجهر والقلقلة والانفتاح» ، وضرب مثلا أيضا بسورة (ص) وما اشتملت عليه من الخصومات.

وكان كلامهم ـ كما ترى ـ ذا صلة وثيقة بشأن بيان العلاقات ، وكان اتساع اجتهاداتهم بشأن الحروف المقطعة ، منبها لنا إلى فهم واستخراج العلاقات في فواتح سور الذكر الحكيم كله.

والدكتور المطعني يمضي في هذا النسق ، فيذكر لنا خصائص السور المفتتحة بالشرط ، ويلحظ أنماط الأساليب داخل هذه السور ، وكان مما قال في هذا الشأن : «والقيمة البيانية لهذا المطلع الشرطي التي من أجلها ـ والله أعلم ـ آثر القرآن افتتاح هذه السور بها : هي أن الأسلوب الشرطي يمتاز بربطه بين أجزاء الكلام ربطا ملاحظا فيه ترتب المسبب على السبب ، فإذا ذكرت أداة الشرط ، وأردفت بفعل الشرط ، تشوقت النفس إلى ذكر ما سيكون ، فإذا ذكر الجواب بعد هذه الإثارة وهذا التشويق تمكن أيما تمكن».

فقد تمخض حديثهم في الحروف المقطعة عن الكشف عن بعض العلاقات الصوتية والعلاقات التركيبية ، فكان لأحد الباحثين أن يعمم ذلك في الذكر الحكيم فيقول : «وقد ضمن الله فاتحة كل سورة ما اشتملت عليه تلك السورة من المقاصد النافعة للبشر في الدين والدنيا ، وأبرز ذلك في عبارة هي الغاية ، فيما عرف من براعة الاستهلال ثم صرف المعاني من غرض إلى غرض».

وكأن كلامهم في هذه القضايا التي أشرنا إليها بيان لطرائق الكشف عن علاقات المطالع بالمقاصد ، ويمكن أن يكون كلامهم في القضيتين الأوليين أطرّا عامة تهدي في موضوع دراستنا.

وينظر : المحرر الوجيز (١ / ١٣٨) ، وبراعة الاستهلال في فواتح القصائد والسور (٢١٥) ، وخصائص التعبير في القرآن وسماته البلاغية (١ / ٥٩) ، والبرهان (١ / ١٦٧ ، ١٦٩) ، والإعجاز البياني ومسائل ابن الأزرق (١٦٦) ، والسر الغني لزكي مبارك (١ / ٤٧) ، والحروف المتقطعة في أوائل السور القرآنية (٩٣) ، وخصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية (١ / ١٦٣ ، ١٦٤) ، وإعجاز القرآن : د / السيد الحكيم (٧٢).

٣٥١

وقال الفراء : يحتمل أن تكون هذه الحروف المقطعة المتفرقة التي أنزلها من أب ت ث إلى آخرها كأنه قال : إنيجمعت هذه الحروف المقطعة (١) فجعلتها كتابا ، فأنزلتها ؛ من نحو : (المص) [الأعراف : ١] ، و (الم اللهُ) [آل عمران : ١ ـ ٢] ، و (الم ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ١ ـ ٢] ، و (المر) [الرعد : ١] ونحوه ، والله أعلم بما أراد به ذلك.

وقد ذكرنا هذا في صدر الكتاب مقدار ما حفظنا وفهمنا من أقاويل أهل العلم في ذلك (٢).

__________________

(١) في ب : المتفرقة.

(٢) قال المصنف في أول سورة البقرة : قيل فيه وجوه :

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قوله (الم) أنا الله أعلم.

وقيل : إنه قسم أقسم بها.

وقيل : إن هذه الحروف المعجمة مفتاح السورة.

وقيل : إن كل حرف من هذه الحروف كناية عن اسم من أسماء الله تعالى : الألف الله ، واللام لطفه ، والميم ملكه.

وقيل : إن اللام آلاؤه والميم مجده.

وقيل : إن الألف هو الله واللام جبريل والميم محمد.

وقيل : إنها من التشبيب ؛ ليفصل بين المنظوم من الكلام والمنثور من نحو الشعر ونحوه.

وقيل : إن تفسير هذه الحروف المقطعة ما ألحق ذكره بها على أثرها نحو قوله

الم ذلِكَ الْكِتابُ [أول سورة البقرة] ، (ذلِكَ الْكِتابُ) هو تفسير (الم) ، و (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)[أول سورة آل عمران] ، و (المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ)[أول سورة الأعراف] و (الر كِتابٌ)[أول سورة هود ، وإبراهيم] ، و (الم تِلْكَ آياتُ)[أول سورة لقمان] كلّ ملحق بها فهو تفسيرها.

وقيل : إن فيها بيان غاية ملك هذه الأمة من حساب الجمل ولكنهم عدوا بعضها وتركوا البعض.

وقيل : إنه من المتشابه الذي لم يطلع الله خلقه علم ذلك ولله أن يمتحن عباده بما شاء من المحن.

وقيل : إنهم كانوا لا يستمعون لهذا القرآن كقولهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ)[فصلت : ٢٦] ، وكقوله (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً)[الأنفال : ٣٥] فأنزل الله عزوجل هذه الحروف المعجمة ليستمعوا إليها فيلزمهم الحجة.

الأصل في الحروف المقطعة أنه يجوز أن تكون على القسم بها على ما ذكرنا. وأريد بالقدر الذى ذكر كلية الحروف بما كان من شأن العرب القسم بالذى جلّ قدره ، وعظم خطره. وهي مما بها قوام الدارين ، وبها يتصل إلى المنافع أجمع. مع ما دلت على نعمتين عظيمتين : اللسان والسمع ، وهما مجرى كل أنواع الحكمة ، فأقسم بها على معنى إضمار ربّها ، أو على : ما أجلّ قدرها في أعين الخلق! فيقسم بها ، ولله ذلك ولا قوة إلا بالله.

ويحتمل أن يكون بمعنى الرمز والتضمين في كل حرف منها أمرا جليلا يعظم خطره على ما عند الناس في أمر حساب الجمل. ثم يخرّج على الرمز بها عن أسماء الله وصفاته ونعمه على خلقه ، أو على بيان منتهى هذه الأمة ، أو عدد أئمتها وملوكها والبقاع التى ينتهى أمرها إليها ؛. وذلك في نهاية الإيجاز ، بل بالاكتفاء بالرمز عن الكلام ، وبما هو بمعنى من الإشارة في الاكتفاء بها عن البسط. ولا قوة إلا بالله ؛ ليعلم الخلائق قدرة الله ، وأنّ له أن يضمن ما شاء فيما شاء على ما عليه أمر ـ

٣٥٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ).

قيل (١) : الحرج : هو الضيق في الصدر ، ثم يحتمل ضيق الصدر وجوها :

يحتمل ضيق الصدر ما يحل عليه في ذلك من الشدائد والخطورات بتبليغه إلى الكفرة الذين نشئوا على الكفر والشرك ، وخاصة الفراعنة والملوك الذين همتهم القتل والإهلاك لمن استقبلهم بالخلاف.

أو أن يوسوس في صدره الشيطان أنه ليس من عند الله ، أو أن يقول له : إنه من أساطير الأولين ؛ على ما قال أولئك الكفرة : (ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأحقاف : ١٧].

ثم يحتمل قوله : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) على النهي ، أي : لا يكن في صدرك منه حرج ، أي : لا يضق صدرك مما حمل عليك.

وقال بعضهم (٢) : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ) ، أي : شك أنه من عند الله نزل.

وقد ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي ؛ لأنه بالنهي ما يكون عصمه.

ويحتمل : ليس على النهي ، ولكن على ألا تحمل على نفسك ما فيه هلاكك ؛ كقوله :

__________________

ـ الخلائق من لطيف الأشياء التي كادت العقول وأسباب الإدراك تقصر عنها .... فعلى ذلك أمر تركيب الكلام ولا قوة إلا بالله.

ويجوز أن يكون بمعنى اسم السور ، ولله تسميتها بما شاء كما سمى كتبه. وعلى ذلك منتهى أسماء الأجناس خمسة أحرف ، وكذلك أمر السور ؛ دليل ذلك وصل كل سورة فتحت بها إليها ، كأنه بنى بها. ولا قوة إلا بالله.

ويجوز أن يكون على التشبيب ، على ما ذكرنا للتفصيل بين المنظوم من الكلام والمنثور في المتعارف أن المنظوم في الشاهد يشبب فيخرج عن المقصود بذلك الكلام فعلى ذلك أمر الكلام المنزل ؛ ألا ترى أنه خرج على ما عليه فنون الكلام في الشاهد إلا أنه على وجه ينقطع له المثال من كلامهم فمثله أمر التشبيب. ولا قوة إلا بالله.

وجائز : أن يكون الله أنزلها على ما أراد ؛ ليمتحن عباده بالوقف فيها ، وتسليم المراد في حقيقة معناه والذي له يئول ذلك ، ويعترف أنه من المتشابه وفيها جاء تعلق الملحدة ولا قوة إلا بالله.

ويحتمل : أن يكون إذ علم الله من تعنت قوم وإعراضهم عنه وقولهم (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ)[فصلت : ٢٦] أنزل على وجه يبعثهم على التأمل في ذلك بما جاء بالعجيب الذي لم يكونوا يعرفون ذلك : إما لما عندهم أنه كأحدهم ، أو لسبيل الطعن ؛ إذ خرج عن المعهود عندهم ، فتلا عليهم ما يضطرهم إلى العلم بالنزول من عند من يملك تدبير الأشياء ؛ ولذلك اعترضوا لهذه الأحرف بالتأمل فيها من بين الجميع. ولا قوة إلا بالله.

وقيل : إنه دعا خلقه إلى ذلك والله أعلم بما أراد.

(١) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٣ / ١٢٦) وعزاه لأبي الشيخ عن الضحاك.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٢٥) (١٤٣٢١) عن ابن عباس وعن غيره ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٣ / ١٢٦).

٣٥٣

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) [النحل : ١٢٧] ، وكقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] : ليس على النهي ؛ ولكن على ألا تحمل على نفسك ما فيه هلاكك ؛ فعلى ذلك هذا ، والله أعلم.

ثم إن الله ـ عزوجل ـ أمنه عما كان يخاف من أولئك بقوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] ، وأمنه من وساوس الشيطان ؛ على ما روي في الخبر (١) أنه قيل : ألك شيطان؟ فقال : «كان ، ولكن أعنت عليه ؛ فأسلم» (٢) أمّن ـ عزوجل ـ رسوله عن ذلك كله ؛ لما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِتُنْذِرَ بِهِ).

يحتمل أنه أمره أن ينذر به الكفرة ، ويبشر به المؤمنين ؛ كقوله : (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) [الأحقاف : ١٢] ؛ فعلى ذلك قوله : (لِتُنْذِرَ بِهِ) الكفرة.

(وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ).

أي : بشرى على ما ذكرنا ، ويكون في الإنذار بشرى ؛ لأنه إذا أنذر فقبل الإنذار ، فهو له بشرى.

ويحتمل قوله : (لِتُنْذِرَ بِهِ) ، أي : الكل الموافق والمخالف جميعا ؛ كقوله : (لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان : ١] ، (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) ، أي : الذي ينتفع به المؤمنون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (اتَّبِعُوا).

لا تتبعوا أولئك في التحليل والتحريم وفي الأمر (٣) والنهي (٤) ؛ لأنه ليس (٥) إلى الخلق

__________________

(١) الخبر لغة : اسم لما ينقل ويتحدث به ، وجمعه : أخبار ، واستخبره : سأله عن الخبر وطلب أن يخبره ، والخبير : العالم بكنه الخبر ، وخبرت الأمر ، أي : علمته. والخبير : من أسماء الله تعالى ، معناه : العالم بكنه الشيء ، المطلع على حقيقته.

أما عند علماء الحديث فقد قال ابن حجر العسقلاني : الخبر عند علماء الفن (مصطلح الحديث) مرادف للحديث ، فيطلقان على المرفوع وعلى الموقوف ، والمقطوع ، وقيل : الحديث ما جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والخبر ما جاء عن غيره ، ومن ثم قيل لمن يشتغل بالسنة : محدث ، وبالتواريخ ونحوها : أخباري ، وقيل : بينهما عموم وخصوص مطلق ، فكل حديث خبر ولا عكس ، وقيل : لا يطلق الحديث على غير المرفوع إلا بشرط التقييد ، وقد ذكر النووي أن المحدثين يسمون المرفوع والموقوف بالأثر ، وأن فقهاء خراسان يسمون الموقوف بالأثر ، والمرفوع بالخبر.

ينظر : لسان العرب (خبر) ، والمصباح المنير (خبر) ، والمستصفى للغزالي (١ / ١٣٢) ، وكشف الأسرار (٢ / ٦٨٠) ، وأصول الشاشي (١ / ٢٧٠) ، والمنثور في القواعد للزركشي (٢ / ١١٧).

(٢) أخرجه أحمد (٣ / ٣٠٩ ، ٣٩٧) ، والترمذي (١١٧٢) عن جابر بن عبد الله بنحوه.

(٣) اختلفت آراء العلماء في مسمى الأمر اللساني ومعناه إلى ثلاثة مذاهب :

الأول : مذهب الجمهور ؛ فقد عرفوا الأمر بأنه القول الطالب للفعل مطلقا ، وتفسير الإطلاق سواء أصدر الأمر من الأعلى للأدنى ، كأوامر الله تعالى وأوامر الحاكم لشعبه ، فإن الله ـ

٣٥٤

__________________

ـ سبحانه ـ يعلو عن الخلق ؛ لأنه خالق ، وكذا الحاكم أعلى من شعبه ، وهم المحكومون ؛ ولهذا يقولون : الأمر الصادر من الحاكم برقم كذا ـ أم كان صادرا من الأدنى إلى الأعلى ، أم كان صادرا من المساوي لمساويه ؛ فكل هذا يسمى أمرا في اللغة.

وأما إذا خص العرف الأمر الصادر من الأدنى إلى الأعلى ب «السؤال» ، وخص المساوي ب «الالتماس» ، فهذا اصطلاح عرفي ، وكلامنا في مسمى الأمر اللغوي ؛ فإنه أمر في جميع الأحوال ؛ لأن علماء اللغة لم يفرقوا ـ في وضع لفظ الأمر على مسماه الذي هو صيغة «افعل» بين صدوره من الأعلى رتبة ، أو من الأدنى ، أو من المساوي. وإلى هذا مال البيضاوي في المنهاج.

الثاني : يرى فريق من المعتزلة ، وطائفة كبيرة من الأشاعرة ، أن الأمر هو القول الطالب للفعل بشرط صدوره ممن هو أعلى رتبة ، لمن هو أدنى منه.

الثالث : يرى الإمام الرازي ، وابن الحاجب ، والآمدي أنه هو القول الطالب للفعل بشرط الاستعلاء.

ينظر : البرهان لإمام الحرمين (١ / ٢٠٣) ، والبحر المحيط للزركشي (٢ / ٣٤٢) ، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (٢ / ١٢٠) ، وسلاسل الذهب للزركشي ص (١٢٠ ، ١٢١) ، ونهاية السول للإسنوي (٢ / ٢٢٦) ، ومنهاج العقول للبدخشي (٢ / ٣).

(٤) الأشاعرة عرفوه تارة باعتبار حقيقته الكلامية ، وعرفوه أخرى باللفظ الدال على تلك الحقيقة :

مذهب الأشاعرة في تعريف النهي باعتبار حقيقته الكلامية :

الصحيح ـ عندهم ـ في تعريفه على ما اختاره ابن الحاجب أنه : «اقتضاء كف عن فعل على جهة الاستعلاء».

ومذهب الأشاعرة في تعريف النهي باعتبار أنه لفظ دال على المعنى النفسي ، وهذا هو المناسب لغرض الأصوليين ؛ لأن بحثهم إنما هو عن الأدلة اللفظية السمعية ؛ من حيث يوصل العلم بأحوالها العارضة لها من عموم وخصوص ، وإطلاق وتقييد ونحوه إلى القدرة على إثبات الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين ، وإن كان مرجع الأدلة السمعية إلى الكلام النفسي :

ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني ، وإمام الحرمين ، والإمام الغزالي إلى أنه : «القول المقتضي طاعة المنهي بترك المنهي عنه» وهذا ما اختاره جمهور الشافعية.

ومذهب الكمال بن الهمام ـ وهو من الأحناف ـ في تعريف النهي اللفظي. قال الكمال ما محصله ـ وهو المختار ـ : مبنى تعريف النهي اللفظي الذي هو غرض الأصولي ، أن لطلب الكف عن الفعل صيغة تخصه ، بمعنى أنها لا تستعمل في غيره على سبيل الحقيقة ، وقد وقع في هذا خلاف ، والصحيح أن له لفظا يخصه.

وحاصل تعريف النهي اللفظي : ذكر ما يميز صيغته عن غيرها من الصيغ ، فسميت هذه المميزات حدّا.

مذهب المعتزلة في تعريف النهي :

بسبب أن المعتزلة أنكرت الكلام النفسي لم يعرفوا النهي باعتبار المعنى القائم بالنفس ، وأنه اقتضاء الكف ، أو طلب الكف ؛ لأن هذا نوع من الكلام النفسي ، فعرفوه تارة باعتبار أنه لفظ ، وعرفوه أخرى باعتبار الإرادة المقترنة بالصيغة ، ومرة ثالثة باعتبار أنه الإرادة نفسها.

وقد عرفه جمهورهم باعتبار أنه لفظ ، فقالوا : «هو قول القائل لمن دونه : لا تفعل» أي : قول القائل لفظا موضوعا لطلب ترك الفعل من الفاعل.

وأما تعريفهم النهي باعتبار ما يقترن بالصيغة من الإرادة ، فقد ذهبت طائفة من معتزلة البصرة إلى ـ

٣٥٥

التحليل والتحريم.

وقوله : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ).

أمر المؤمنين أن يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم ، على ما أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتبع ما أنزل إليه من ربه ؛ كقوله : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [الأنعام : ١٠٦] ؛ ليعلم أن ما أنزل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو منزل إلى المؤمنين [جميعا](١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ).

فيما ذكر ، وما يحل وما يحرم ، وما يأمر وينهى.

(وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ).

قيل : أربابا ، أي (٢) لا تتبعوا من دونه أولياء فيما يحلون ويحرمون ، ويأمرون وينهون ، أي : إنما عليهم اتباع ما حرم عليهم ، واستحلال ما أحل لهم. وأما إنشاء التحليل والتحريم فلا.

وقال بعض أهل التأويل (٣) : أولياء الأصنام ، والأوثان (٤). ولكن لا يحتمل هاهنا ،

__________________

ـ أن النهي صيغة لا تفعل بإرادات ثلاث :

إرادة وجود اللفظ ، وإرادة دلالته على النهي ، وإرادة الامتثال ، أي : ترك المنهي للمنهي عنه.

وأما تعريفهم النهي باعتبار أنه الإرادة نفسها ، فقد ذهب قوم إلى أن النهي هو «إرادة ترك الفعل».

ينظر : البرهان (١ / ٢٨٣) ، والبحر المحيط (٢ / ٤٢٦) ، والإحكام في أصول الأحكام (٢ / ١٧٤) ، والتمهيد ص (٢٩٠) ، ومنهاج العقول (٢ / ٦٧).

(٥) في أ : يصير.

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : و.

(٣) انظر تفسير البحر المحيط لأبي حيان (٤ / ٢٦٨) ، وتفسير الخازن والبغوي (٢ / ٤٨٠).

(٤) وقال الجوهري : هو الوثن ، وهو صريح في أنهما مترادفان.

وفرق بينهما هشام الكلبي في كتاب «الأصنام» له بأن المعمول من الخشب أو الذهب أو الفضة أو غيرها من جواهر الأرض : صنم ، وإذا كان من حجارة فهو وثن.

وقال ابن سيده : هو ينحت من خشب ، ويصاغ من فضة ونحاس. وذكر الفهري أن الصنم : ما كان له صورة جعلت تمثالا. والوثن : ما لا صورة له.

قلت : وهو قول ابن عرفة ، وقيل : إن الوثن : ما كان له جثة من خشب أو حجر أو فضة ينحت ويعبد ، والصنم : الصورة بلا جثة.

وقيل : الصنم : ما كان على صورة خلقة البشر. والوثن : ما كان على غيرها. كذا في شرح الدلائل.

وقال آخرون : ما كان له جسم أو صورة فصنم ، فإن لم يكن له جسم أو صورة فهو وثن. وقيل : الصنم من حجارة أو غيرها. والوثن : ما كان صخورا مجسمة.

وقد يطلق الوثن على الصليب ، وعلى كل ما يشغل عن الله تعالى. وعلى هذا الوجه قال إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ)[إبراهيم : ٣٥] ؛ لأنه ـ عليه‌السلام ـ

٣٥٦

ولكن قد ذكرنا (١) أنهم كانوا يتبعون عظماءهم في التحليل والتحريم ؛ كقوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة : ١٣] ، وكانوا لا يتخذون أولئك الأحبار (٢) أربابا في الحقيقة ، ولكن كانوا يتبعونهم فيما يحلون ويحرمون ويصدرون عن آرائهم ؛ فسموا بذلك لشدة اتباعهم أولئك في التحليل والتحريم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ).

قال أهل التأويل : يعني بالقليل : المؤمنين ، ولكن يحتمل قوله : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) ، أي : لا تتذكرون (٣) رأسا ؛ لأن الخطاب جرى فيه لأولئك الكفرة ، وفيهم نزلت الآية.

قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ)(٩)

__________________

ـ مع تحققه بمعرفة الله ـ عزوجل ـ واطلاعه على حكمته لم يكن ممن يخاف عبادة تلك الجثث التي كانوا يعبدونها ، فكأنه قال : اجنبني عن الاشتغال بما يصرفني عنك ، قاله الراغب.

ينظر : تاج العروس (٣٢ / ٥٢٤ ، ٥٢٥) ، ومفردات الراغب (صنم).

(١) في ب : ما ذكرنا.

(٢) الحبر : العالم ، ذميّا كان ، أو مسلما بعد أن يكون من أهل الكتاب. وقيل : هو العالم بتحبير الكلام.

قاله أبو عبيد ، قال الشماخ :

كما خط عبرانية بيمينه

بتيماء حبر ثم عرض أسطرا

رواه الرواة بالفتح لا غير ، أو الصالح ، ويفتح فيهما ، أي : في معنى العالم والصالح ، ووهم شيخنا فرد ضمير التثنية إلى «المداد» و «العالم». وأقام عليه النكير بجلب النقول عن شراح الفصيح ، بإنكارهم الفتح في «المداد». وعن ابن سيده في المخصص ـ نقلا عن العين ـ مثل ذلك ، وهو ظاهر لمن تأمل. وقال الأزهري : وسأل عبد الله بن سلام كعبا عن الحبر فقال : هو الرجل الصالح. (ج : أحبار وحبور) قال كعب بن مالك :

لقد جزيت بغدرتها الحبور

كذاك الدهر ذو صرف يدور

قال أبو عبيد : وأما الأحبار والرهبان فإن الفقهاء قد اختلفوا فيهم ، فبعضهم يقول : حبر ، وبعضهم يقول : حبر ، وقال الفراء : إنما هو حبر ـ بالكسر ـ وهو أفصح ؛ لأنه يجمع على : أفعال ، دون «فعل» ، ويقال ذلك للعالم. وقال الأصمعي : لا أدري أهو الحبر أو الحبر ، للرجل العالم. قال أبو عبيد : والذي عندي أنه الحبر ـ بالفتح ـ ومعناه : العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه. قال : وهكذا يرويه المحدثون كلهم بالفتح ، وكان أبو الهيثم يقول : واحد الأحبار : حبر ، لا غير. وينكر «الحبر». وقال ابن الأعرابي : حبر وحبر للعالم ، ومثله : بزر وبزر ، وسجف وسجف. وقال ابن درستويه : وجمع الحبر : أحبار ، سواء كان بمعنى العالم أو بمعنى المداد.

ينظر تاج العروس (١٠ / ٥٠٣ ، ٥٠٤).

(٣) في أ : يتذكرون.

٣٥٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها).

قال أهل التأويل : [كان](١) يخوف أهل مكة بتكذيبهم الرسول بإهلاكه الأمم الخالية بتكذيبهم الرسل ، بقوله : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) ؛ بتكذيبهم الرسل ، فأنتم يأهل مكة تهلكون بتكذيبكم الرسول ، [وإن كانوا لا يعرفون هم إهلاك الأمم الماضية أنه إنما أهلكوا بتكذيبهم الرسل ، غير أنهم](٢) وإن كانوا لا يعرفون هم ذلك بأنفسهم ؛ لما ليس عندهم كتاب ـ لكن يصلون إلى علم ذلك بمن عندهم الكتب ـ وهم [أهل] الكتاب ـ فيلزمهم الحجة ، كالعجم وإن كانوا لا يعرفون الكتاب الذي أنزل بلسان العرب ، فإن الحجة تلزمهم بذلك ؛ لما كان لهم سبيل الوصول إلى علم ذلك بالعرب ؛ فعلى ذلك هؤلاء ، وإن لم يكن عندهم علم بإهلاك أولئك ؛ فتلزمهم الحجة بإعلام أهل الكتاب إياهم.

وفي الآية دلالة إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه أخبر عن إهلاك الأمم الخالية بتكذيبهم الرسل ، وهو لم ينظر في كتبهم ، ولا اختلف إليهم ليعلموه عن ذلك ، ثم أخبرهم بذلك ، فدل أنه إنما عرف ذلك بالله عزوجل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ).

قال أبو بكر الكيساني : البأس هو كل أمر معضل شديد من المرض والجرح وغيره ، ويقول : روي عن عمر أنه (٣) لما طعن قيل له : لا بأس عليك ، فقال : إن كان في القتل بأس كفى بذلك (٤).

وأما غيره من أهل التأويل (٥) فقالوا : البأس : العذاب ، «وبأسنا» : عذابنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ).

البيات : بالليل (٦) ، والقيلولة : بالنهار عند الظهيرة (٧) ، وهما وقتا الغفلة أو وقتا الأمن.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : روي أن عمر.

(٤) أخرجه البخاري (٣٧٠٠) في سياق طويل في قصة قتل عمر بن الخطاب من طريق عمرو بن ميمون بنحوه.

(٥) انظر تفسير الخازن والبغوي (٢ / ٤٨٠).

(٦) البيات : قصد العدو ليلا ، وكذلك التبييت ، قال تعالى : (فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) [الأعراف : ٤]. وبيت العدو. التبييت : تدبير الأمر ليلا ، وأكثر ما يكون في المكر ، قال تعالى : (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) [النساء : ١٠٨] (بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) [النساء : ٨١] ، (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) [النساء : ٨١] وبيت على كذا : عزم عليه قاصدا له ، ومنه : «لا صيام لمن لم يبيت الصيام» من أول الليل ، وقوله تعالى : (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) [النمل : ٤٩] من ذلك ، أي : لنوقع به الهلاك.

ينظر : عمدة الحفاظ (١ / ٢٧٩). ـ

٣٥٨

أخبر أنه إنما يأتيهم عذابه (١) في حال الغفلة ، أو في حال الأمن ؛ لئلا يكونوا غافلين عن أمره ، ولا يكونوا آمنين عذابه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا).

أي : ما كان دعواهم قبل نزول العذاب إلا أنهم قالوا : نحن على الحق وإن غيرهم على الباطل ، فإذا جاءهم بأسنا اعترفوا بظلمهم ؛ كقوله : (إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ).

وقال بعضهم : فما كان دعواهم حين نزول العذاب (إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ).

يذكر في هذه الآية أنه (٢) يسألهم جميعا : الرسل والمرسلين إليهم (٣).

وقال في آية أخرى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩] ، وقال : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣] ، ولكن (٤) قوله : (لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ) [الرحمن : ٣٩] ، أي لا يسأل عما فعل وعن نفس ما ارتكب ؛ كم أذنبت؟ وما فعلت؟ ولكن يسأل : لما ذا فعلت؟ يسأل عن الحجة : لم أذنبت؟ ولم فعلت ذا؟ أو أن يسأل في وقت ، ولا يسأل في وقت آخر.

قال بعضهم : لا يسأل عن ذنبه غيره ، وإنما يسأل صاحبه وفاعله ، يخبر ـ والله أعلم ـ أن أمر الآخرة على خلاف أمر الدنيا ؛ لأن في الدنيا قد يؤاخذ غيره بذنب آخر وربما يسأل إحضار قريبه ، وأما في الآخرة فإنه لا يؤاخذ غيره بذنب آخر كذلك (٥) كان ما ذكرنا.

__________________

(٧) القائلة : نصف النهار كما في المحكم ، وفي الصحاح : الظهيرة ، ومثله في العين ، يقال : أتانا عند قائلة النهار ، وقد تكون بمعنى القيلولة أيضا ، وهي النوم في نصف النهار ، وقال الليث : القيلولة : نوم نصف النهار ، وهي القائلة.

قال يقيل قيلا ، وقائلة وقيلولة ، ومقالا ، ومقيلا ، الأخيرة عن سيبويه ، وقال الجوهري : هو شاذ.

وتقيّل : نام فيه ، أي : نصف النهار ، وقال الأزهري : القيلولة والمقيل : الاستراحة نصف النهار عند العرب ، وإن لم يكن مع ذلك نوم ، والدليل على ذلك أن الجنة لا نوم فيها ، وقد قال الله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان : ٢٤] ، وفي الحديث : «قيلوا فإن الشياطين لا تقيل» ، وفي الحديث : «ما مهجر كمن قال» أي : ليس من هاجر عن وطنه ، أو خرج في الهاجرة كمن سكن في بيته عند القائلة وأقام به.

ينظر : تاج العروس (٣٠ / ٣٠٤ ، ٣٠٥) ، والنهاية (١ / ١٧٠).

(١) في ب : عن عذابه.

(٢) في أ : أن.

(٣) في أ : والمرسل عليهم.

(٤) في ب : لكن.

(٥) في ب : لذلك.

٣٥٩

أو أن يكون قوله : (لا يُسْئَلُ) : عما أظهر وأبدى ؛ لكن يسأل عما أسرّ وأخفى ؛ لأن الملائكة قد يكتبون ما أبدوه وأظهروه ؛ كقوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨] ؛ فيقع السؤال عما أسرّوا على التقرير ، ولا يسأل بعد ذلك.

وقوله : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ).

قال بعض أهل التأويل (١) : يسأل الرسل عن تبليغ الرسالة إلى الأمم ، ويسأل قومهم : هل بلغ الرسل إليهم الرسالة؟ ويكون سؤالهم الرسل سؤال شهادة ـ كقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ......) [البقرة : ١٤٣] الآية ـ أنه قد بلغ الرسالة.

وقال بعضهم (٢) : يسأل الملائكة عن تبليغ الرسالة إلى الأنبياء ، ويسأل الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ عن تبليغ الملائكة إليهم ، وأمكن أن يكون [السؤال](٣) للرسل عما أجيبوا ، وكان سؤال الأمم عما أجابوا الرسل ؛ كقوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) [المائدة : ١٠٩] ، وكقوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٦٥].

أو أن يكون سؤال القوم سؤال تقرير عندهم ، وإقرار لما كانوا ينكرون التبليغ إليهم ؛ كقوله : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦].

هذا السؤال سؤال تقرير وتعيير (٤) لا غير ؛ لأنه كان يعلم أنه لم يكن قال لهم ذلك ، لكنه سألهم (٥) سؤال تقرير ؛ ليقروا بذلك ؛ لئلا يقولوا : هو قال لهم ذلك ؛ لأنهم قالوا : عيسى هو الذي قال لهم ذلك ؛ فعلى ذلك الأوّل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ).

عن عملهم وصنيعهم ؛ ولكن يسألون لما ذكرنا ، والله أعلم.

يشبه أن يكون : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) ذكر هذا ؛ لما يحتمل أن يظن به الخفاء عليه ؛ لما ذكر من المسألة لهم والسؤال ، وهو الاستخبار عما يسر ويضمر ؛ ليظهر ذلك ، هذا هو معنى السؤال في الشاهد والاستخبار ؛ فأخبر ـ عزوجل ـ بقوله : (فَلَنَقُصَّنَ

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٣٠) (١٤٣٢٩ ، ١٤٣٣٠) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٢٦) وزاد نسبته لابن أبي حاتم والبيهقي في البعث.

(٢) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٢٦) وعزاه لعبد بن حميد.

(٣) سقط في أ.

(٤) هكذا في الأصل ، فلتحرر.

(٥) في ب : يسألهم.

٣٦٠