تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

الجنة ، ثم أخبر أنها في السماء.

ألا ترى (١) أنه قال : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) [كأنه قال : لا تفتح لهم أبواب الجنان ولا يدخلون الجنة](٢) ـ أيضا.

وقال آخرون (٣) : أبواب السماء هي (٤) أبواب السماء ؛ وذلك أن أعمال المؤمنين ترفع إلى السماء وتصعد إليها أرواحهم ، وأعمال الكفرة وأرواحهم ترد إلى أسفل السافلين ؛ كقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] ، وقال في الكافر (٥) : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [التين : ٥ ـ ٦] فإذا كانت أعمال المؤمنين وأرواحهم ترفع إلى السماء وتصعد إليها ، أخبر [أن الكافرين](٦) لا تفتح لهم أبواب السماء ولا لأعمالهم ، ولكن ترد إلى السجين.

وأمكن أن يكون على التمثيل ليس على تحقيق السماء ؛ ولكن ذكر السماء لما أن السماء هي مكان الطيبات من الأشياء وقرارها ، لا مكان الخبائث والأقذار ، والأرض هي مكان ذلك ، وأعمال الكفرة خبيثة ؛ فكنى عن أعمالهم الخبيثة بالأرض [لما أن الأرض](٧) هي معدن الخبائث والأنجاس.

وكنى عن أعمال المؤمنين الطيبة بالسماء ، وهو كما ضرب مثل الإيمان : بالشجرة الطيبة الثابتة وفرعها في السماء ، وضرب مثل الكفر : بالشجرة الخبيثة المجتثة من فوق الأرض ، ليس على أن يكون قوله : (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) [إبراهيم : ٢٤] على تحقيق السماء ، ولكن على الوصف بالطيب والقبول ؛ فعلى ذلك الأول.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ).

لا يستقيم مثله على الابتداء إلا على نوازل (٨) تسبق ، خرج ذلك جوابا لها ؛ نحو قوله : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ...) [البقرة : ١١١] الآية.

أو أن ذكروا أعمال أنفسهم أنهم يعملون كذا ؛ فقال : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ

__________________

(١) في ب : يرى.

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٨٦) (١٤٦١٩) عن ابن جريج بنحوه ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٥٦) ، والخازن والبغوي (٢ / ٥٠٦) ، وأبو حيان في البحر (٤ / ٢٩٩).

(٤) في ب : هو.

(٥) في أ : الكافرين.

(٦) في أ : أنه.

(٧) سقط في أ.

(٨) النازلة : المصيبة الشديدة. ينظر المعجم الوسيط (نزل) (١ / ٩١٥).

٤٢١

الْجَنَّةَ).

فإن قيل : [كيف](١) خوفهم بما ذكر من سدّ الأبواب عليهم ، وجعل النار لهم مهادا وغواشيا (٢) ، وهم لا يؤمنون بذلك كله ، فكيف خوفوا به؟

قيل : إن المرء إذا خوف بشيء فإنه يخاف ويهاب ذلك ، وإن لم يتيقن بذلك ، ولا تحقق عنده ما خوف به ؛ حتى يستعدّ لذلك ، ويتهيأ وإن كان على شك من ذلك وظن ؛ فعلى ذلك هؤلاء خوفوا بالنار وأنواع (٣) العذاب ، وإن كانوا شاكين في ذلك غير مصدّقين ؛ لما يجوز أن يهابوا ذلك ، أو أن يخوف بذلك المؤمنين ؛ كقوله : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٤] ، وقوله : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات : ٥٥].

أو أن يكون التخويف لمن آمن منهم بالبعث ؛ [لأن](٤) منهم من قد آمن بالبعث والجزاء والثواب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [هذا على الإياس أنهم لا يدخلون أبدا الجنة كما لا يدخل ما ذكر في سمّ الخياط فإنه لا يدخل أبدا ثم قوله : حتى يلج الجمل في سم الخياط](٥).

قال بعضهم (٦) : حتى يدخل البعير في خرق الإبرة.

وقال ابن عباس (٧) ـ رضي الله عنه ـ : حتى يدخل الجمل الذي يشد به السفينة في خرق الإبرة.

وقال أبو عوسجة (٨) : يعني خرق الإبرة أو المسلة ، والجمل : الحبل ، والخياط : الإبرة

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف : ٤١] قيل : تهكم بهم في اللفظين : المهاد والغواشي ؛ لأن كلا منهما إنما يستعمل في الأمر المحمود. ينظر عمدة الحفاظ (٣ / ١٩٧).

(٣) في ب : وألوان.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

(٦) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٨٨) (١٤٦٢٩ ـ ١٤٦٣٢) عن الحسن ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٥٧) وزاد نسبته لأبي الشيخ عن الحسن.

(٧) أخرجه ابن حميد (٥ / ٤٨٨ ـ ٤٨٩) (١٤٦٤٢ ـ ١٤٦٤٧) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٥٧) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبي عبيد وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف وأبي الشيخ من طرق عن ابن عباس.

(٨) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٩١) عن كل من : الحسن البصري (١٤٦٥٥) (١٤٦٥٧) ، وعكرمة (١٤٦٥٦) ، والسدي (١٤٦٥٨) ، وابن عباس (١٤٦٥٩) ، ومجاهد (١٤٦٦٠) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٥٧) ، وعزاه لأبي الشيخ عن الحسن البصري ولعبد بن حميد عن ابن عمر.

٤٢٢

أو المسلة.

وقال ابن عباس (١) ـ رضي الله عنه ـ : ليس بالجمل ذي القوائم [ولكنه الجمل](٢) يعني : القلس.

وقال ابن مسعود (٣) : هو الجمل ذو القوائم الأربع ، والله أعلم بما أراد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ).

أي : كذلك نجزي كل مجرم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ).

قيل : الفرش (٤).

(وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ).

هي اللحف أو الحواشي ، ما يتغشاهم فيه النار تحيط بهم من تحت ومن فوق وأمام وخلف ؛ كقوله : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : ٢٤] ، أي : لا يتقي لما يحيط بهم العذاب ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ...) الآية [الزمر : ١٦] ، أخبر أن النار تحيط بهم ؛ فعلى ذلك الأول ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ)(٤٥)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٨٩) (١٤٦٤٢) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٥٧) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبي عبيد وابن المنذر عن ابن عباس.

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه بمعناه ابن جرير (٥ / ٤٨٧ ـ ٤٨٨) (١٤٦٢٣ ـ ١٤٦٢٧) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٥٧) وزاد نسبته لسعيد بن منصور والفريابي وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ والطبراني في الكبير عن ابن مسعود.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٩٢) (١٤٦٦١) عن محمد بن كعب ، و (١٤٦٦٢) عن الضحاك ، و (١٤٦٦٣) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٥٨) وعزاه لابن المنذر عن ابن عباس ، ولهناد بن السري وأبي الشيخ عن محمد بن كعب.

٤٢٣

قال أبو بكر الكيساني : قوله : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ) : ليس من جنس ما ذكر من قوله : (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ؛ لكنه صلة قوله : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ) [الأعراف : ٣٥] ، يقول فيما تقدم ذكره : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

وأما عندنا : فإنه يستقيم أن يجعل صلة ما تقدم ، أي : لا نكلف نفسا من الأعمال الصالحات إلا وسعها ، بل نكلفها (١) دون وسعها ودون طاقتها (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

وقال الحسن : قوله : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً) : إلا ما يسع ويحتمل ، وهو صلة قوله : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) ، يقول : لا يكلف نفسا إلا ما يسع ويحتمل ، لا ما لا يسع ولا يحتمل (٢).

قوله ـ عزوجل ـ : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ).

قال القتبي (٣) : الغل : الحسد والعداوة.

وقيل (٤) : الغل والغش واحد ، وهو ما يضمر بعضهم لبعض من العداوة والحقد.

وقيل (٥) : الغل : الحقد.

ثم اختلف فيه :

قال بعضهم (٦) : قوله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) : في الدنيا ، ينزع الله ـ عزوجل ـ من قلوبهم الغل ، يعني : [من](٧) قلوب المؤمنين ، ويجعلهم إخوانا بالإيمان ؛ كقوله : (إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) [آل عمران : ١٠٣] الآية ، أخبر أنهم كانوا أعداء فألف بين قلوبهم بالإيمان الذي أكرمهم به ؛ حتى صاروا إخوانا بعد ما كانوا أعداء.

قال الحسن (٨) : ليس في قلوب أهل الجنة الغل والحسد ؛ إذ هما يهمان ويحزنان ؛ إنما فيها الحب.

__________________

(١) في أ : كلف.

(٢) في ب : ولا يحمل.

(٣) أخرجه بمعناه ابن جرير (٥ / ٤٩٢ ـ ٤٩٣) (١٤٦٦٤) عن الضحاك وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٥٨) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الضحاك.

(٤) ذكره بمعناه البغوي في التفسير (٢ / ١٦٠).

(٥) ذكره أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٣٠١).

(٦) انظر تفسير الخازن والبغوي (٢ / ٥٠٨).

(٧) سقط في أ.

(٨) ذكره بمعناه السيوطي في الدر (٣ / ١٥٨) وعزاه لابن أبي حاتم عن الحسن البصري مرسلا.

٤٢٤

[و](١) قال بعضهم : هذا في الآخرة ، ينزع الله ـ تعالى ـ من قلوبهم الغل الذي كان فيما بينهم في الدنيا ، ويصيرون جميعا إخوانا ؛ كقوله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الحجر : ٤٧].

وروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : [إني](٢) لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة (٣) والزبير (٤) من الذين قال الله (٥) ـ تعالى ـ : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الحجر : ٤٧].

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : نزلت في علي وأبي بكر [وعمر](٦) وعثمان وطلحة والزبير وابن مسعود وعمار وسلمان (٧) وأبي ذر ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن تيم بن مرة ، التيمي ، أبو محمد المدني ، أحد العشرة والستة في الشورى ، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام ، وضرب له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسهم يوم بدر ، وأبلى يوم أحد بلاء شديدا ، له ثمانية وثلاثون حديثا ، اتفقا على حديث ، وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة. وعنه مالك بن أبي عامر والسائب بن يزيد وقيس بن أبي حازم وأبو عثمان النهدي. عن عائشة : كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد ، قال : ذلك يوم كله لطلحة. وسماه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : طلحة الخير ، وطلحة الجود ، وطلحة الفياض. قال قيس ابن أبي حازم : رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد. وروي من وجوه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «طلحة ممن قضى نحبه». استشهد يوم الجمل سنة ست وثلاثين ، وخلف ثلاثين ألف ألف درهم. ومن العين : ألفي ألف ومائتي ألف دينار ، رضي الله عنه.

ينظر : تهذيب الكمال (١٣ / ٤١٢) ، وتهذيب التهذيب (٥ / ٢٠) ، والخلاصة (٢ / ١١ ، ١٢).

(٤) الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب ، الأسدي ، حواري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وابن عمته صفية بنت عبد المطلب ، وأحد العشرة السابقين. وأحد البدريين وأول من سل سيفا في سبيل الله ، هاجر الهجرتين. وشهد المشاهد كلها. له ثمانية وثلاثون حديثا ، اتفقا على حديثين ، وانفرد البخاري بسبعة. وعنه ابناه : عبد الله وعروة ، ومالك بن أوس. قال الزبير : جمع لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبويه يوم أحد. توفي سنة ست وثلاثين بعد منصرفه من وقعة الجمل ، وقبره بوادي السباع من ناحية البصرة.

ينظر : تهذيب الكمال (٩ / ٣١٩) (١٩٧١) ، والاستيعاب (٢ / ٥١٠) ، وأسد الغابة (٢ / ١٩٦) ، وتهذيب الأسماء واللغات (١ / ١٩٤) ، والخلاصة (١ / ٣٣٤).

(٥) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٩٣) (١٤٦٦٨) وذكره البغوي في التفسير (٢ / ١٦٠) ، وأبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٣٠١).

(٦) سقط في أ.

(٧) سلمان الفارسي ، أبو عبد الله ، ابن الإسلام. له ستون حديثا ، اتفقا على ثلاثة ، وانفرد البخاري بواحد ، ومسلم بثلاثة. أسلم مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، وشهد الخندق. روى عنه أبو عثمان النهدي وشرحبيل بن السمط وغيرهما ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سلمان منا أهل البيت. إن الله يحب من أصحابي أربعة : علي وأبو ذر وسلمان والمقداد» أخرجه الترمذي وابن ماجه. قال الحسن : كان سلمان أميرا على ثلاثين ألفا يخطب بهم في عباءة يفترش نصفها ، ويلبس نصفها ، وكان يأكل من سعف يده. توفي في خلافة عثمان ، وقال أبو عبيدة : سنة ست وثلاثين. عن ثلاث وخمسين سنة.

ينظر : تهذيب الكمال (١١ / ٢٤٥) ، وسير أعلام النبلاء (١ / ٥٠٥ ـ ٥٠٨) ، وتهذيب الأسماء واللغات (١ / ٢٢٦) ، والخلاصة (١ / ٤٠١) ، والإصابة (٢ / ت / ٣٣٥٧).

٤٢٥

فينزع في الآخرة ما كان في قلوبهم من غش بعضهم لبعض في الدنيا من العداوة والقتل الذي كان بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمر الذي اختلفوا فيه ، فيدخلون الجنة ؛ هذا ـ والله أعلم ـ لأن الذي كان بينهم من الاختلاف والقتال كان دنيويّا لم يكن ؛ بسبب الدين ، فذلك يرتفع في الآخرة ويزول ، وأما العداوة التي هي بيننا وبين الكفرة : فهي لا تزول أبدا في الدنيا والآخرة ؛ لأنها عداوة الدين والمذهب ، فذلك لا يرتفع أبدا.

ويشبه أن يكون قوله : (وَنَزَعْنا) على ابتداء النزع ، لا على أن كانوا فيه ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧] على ابتداء (١) : المنع ، أي : لو لا إخراجه إياهم من ذلك ، وإلا كانوا فيه ؛ فعلى ذلك قوله : (وَنَزَعْنا) أي : لم نجعل في قلوبهم الغل رأسا ، ولو تركهم على ما هم عليه لكان فيهم ذلك.

وفيه دلالة أن لله في فعل العباد صنعا ؛ لأن الغش [والغل](٢) من فعل العباد يذمون على ذلك. ثم أخبر أنه نزع ذلك من قلوبهم ، واستأدى منهم الشكر بذلك بقوله :

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا .....) الآية.

وقد ذمّ من طلب الحمد على ما [لم](٣) يفعل ؛ فدل (٤) طلب الحمد منهم على أن له فيه صنعا ؛ بذلك طلب منهم الحمد ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ).

ذكر هذا ـ والله أعلم ـ لما علم عزوجل من طباع الخلق الرغبة في هذه الأنهار الجارية في الدنيا ، فيما يقع عليها الأبصار ، فرغبهم في الآخرة بما كانت طباعهم وأنفسهم تميل إلى ذلك في الدنيا ؛ ليرغبوا فيما أمر وينتهوا عما نهى ، وكذلك جميع ما ذكر في القرآن من القصور (٥) والخيام (٦) والجواري (٧) والغلمان (٨) والأكواب (٩) والأباريق (١٠) ، وغير ذلك مما ترغب طباع الخلق في ذلك في الدنيا وتميل أنفسهم

__________________

(١) في أ : الابتداء.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : فدلت.

(٥) كما في قوله تعالى : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) [الرحمن : ٧٢].

(٦) كما في قوله تعالى : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ).

(٧) كما في قوله تعالى : فى الآية السابقة.

(٨) كما في قوله تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) [الطور : ٢٤].

(٩) كما في قوله تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) [الزخرف : ٤١]. وقوله تعالى : (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) [الواقعة : ١٨].

(١٠) كما في قوله تعالى : (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) [الواقعة : ١٨].

٤٢٦

إلى ذلك ؛ وأعدها (١) لهم في الآخرة ترغيبا منه لهم في ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) ، قال الحسن وغيره : هدانا : دلنا لهذا.

(وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ).

وأما عندنا : ليس هو هداية الدلالة والبيان ؛ ولكن الهداية التي أكرمهم الله بها بفضله ولطفه ، وهي توفيقه إياهم إلى الهدى ؛ لأنه (٢) خرج مخرج الامتنان والفضل ، ولو كان دلالة وبيانا لكان لا معنى لتلك المنة وذلك الفضل (٣) ؛ لأن عليه الدلالة والبيان.

والثاني : [أنه](٤) لو كان على الدلالة والبيان لكان ذلك على كل أحد : على الرسل وغيرهم ؛ لأن عليهم البيان والدلالة ، فدل أنه ليس على الدلالة والبيان ، ولكن غيره.

والثالث : أنه لا أحد عند نفسه أنه يزيغ ويضل وقت ما هداه الله ووفقه. وقد يجوز أن يكون ذلك في الدلالة والبيان (٥) ؛ دلّ أنه لم يحتمل ما قال أولئك من الدلالة والبيان ، والله الموفق.

وقال بعض الناس : إن المعتزلة خالفوا الله عما أخبر (٦) ، وخالفوا الرسل عما أخبروا عن الله تعالى ، وخالفوا أهل الجنة والنار ، وخالفوا إبليس :

أما مخالفتهم الله فقوله : (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) ونحوه.

أما مخالفتهم الرسل فقوله : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) [هود : ٣٤] الآية ، وقول أهل النار قالوا : (لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) [إبراهيم : ٢١] وقول إبليس : (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) [الأعراف : ١٦] : هو أعلم بالله من المعتزلة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ).

يحتمل وجوها : يحتمل جاءوا بالحق ، أي : بالدين الذي هو حق ، أو جاءوا بالأعمال التي من عمل بها كان صوابا ورشدا ، وكل حق هو صواب ورشد ، ويحتمل جاءت رسل ربنا بالحق ، أي : بالصدق ونحوه.

__________________

(١) في ب : وعد.

(٢) في أ : أنه.

(٣) في أ : لذا لك المنة والفضل.

(٤) سقط في أ.

(٥) أي : أن الزيغ والضلال جائز مع الدلالة والبيان ، وغير جائز مع وجود الهداية والتوفيق من الله عزوجل ؛ فيمتنع بذلك قول من قال : هدانا ، أي : دلنا.

(٦) في أ : أخبروا.

٤٢٧

(بِالْحَقِ) : له وجهان :

أحدهما : بالحق الذي استحقه الله على عباده.

والثاني : أنهم جاءوا بالذي هو حق في العقول وصواب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ).

قوله : (تِلْكُمُ) : إنما يتكلم عن غائب ، وهم فيها ، لكن تأويله ـ والله أعلم ـ أن تلكم الجنة التي كنتم وعدتم في الدنيا وأخبرتم عنها هذه.

(أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). أي : أورثكم [أعمالكم](١).

وفيه دلالة أن الإيمان من جملة أعمالهم ؛ حيث قال : أورثتموها بما كنتم تعملون ، وإنما يورث ذلك بالإيمان وسائر الأعمال [بل](٢) إنما يصح بالإيمان ، ذكر أنهم أورثوا الجنة بما عملوا ، وإن كانوا ينالونها بفضل الله جزاء وشكرا ؛ لقولهم الذي قالوا : (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ).

ما وعد المؤمنين ـ عزوجل ـ [الجنة و](٣) ما فيها من النعيم واللذات والشهوات ، بقوله : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) [الزخرف : ٧١] ، وقوله : (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) [الصافات : ٤٦] : هذا الذي وعد للمؤمنين ، ووعد الكفار النار ، وما فيها من الشدائد وأنواع العذاب ، فأقروا أنهم قد وجدوا ما وعدهم ربهم. وقوله ـ عزوجل ـ : (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) : إن المراد بالحق الذي ذكر : الوعد الذي وعدهم وتفسير الحق الصدق ، وإن كان الموعود فتأويله : وجدتموه كائنا حاضرا ، وهو ما ذكرنا في قوله : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) [آل عمران : ١٤٠].

(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ).

أي : وجبت لعنة الله على الظالمين الذين وعدوا في الدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ) يحتمل الملك ، ويحتمل غيره ، وليس يعرف ذلك إلا بالخبر ، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة.

فإن قيل : يذكر في الآية نداء أهل الجنة أهل النار ، وأهل النار أهل الجنة ، ونداء

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

٤٢٨

بعضهم بعضا لا يكون إلا بحيث يكون بعضهم قريبا من بعض ، وقد جاء في الأخبار من وصف الجنة وسعتها ما روي أن أقل ما يكون لواحد من الجنة مثل عرض الدنيا ، وما ذكر أن الحور العين لو نظرت نظرة إلى الدنيا لامتلأت الدنيا من ضوئها ونورها (١) ، وكذلك من ريحها وعطرها ، وقد جاء في وصف النار (٢) أن شرارة منها لو وقعت في الدنيا لأحرقتها (٣) أو كلام نحو هذا ؛ فإذا كان بعضهم من بعض بحيث يسمعون بعضهم نداء بعض ، ألا يتأذى أهل الجنة بالنار ، وألا ينتفع أهل النار بنعيم الجنة ، وكيف يعرف ذلك؟

قيل ـ والله أعلم [وذلك أن الله](٤) قادر ـ : أن يوقع (٥) نداء هؤلاء بمسامع أولئك ونداء أولئك بمسامع هؤلاء ، مع بعد ما بينهما ؛ فيسمع كل فريق (٦) نداء الفريق الآخر.

أو أن (٧) يكون الله ـ تعالى ـ ينقض بنية هذا الخلق ، وينشئهم في الآخرة على غير هذه البنية ، مع ارتفاع الآفاق [والحجب فيسمع بعضهم من بعض من بعد الذي ذكر ، وينظر بعضهم بعضا لأن في الدنيا الآفات](٨) ، والحجب هي التي تمنع ذلك ، فإذا ارتفع ذلك كان ما ذكر ، والله أعلم.

أو يقرب الجنة من النار والنار من الجنة ؛ بحيث يسمع بعضهم من بعض ما ذكر من النداء.

أو يجعل ذلك في مسامعهم بما شاء وكيف شاء ؛ كتسبيح الجبال وخطاب النمل وجوابه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

الصد : [يكون](٩) [منع](١٠) الغير ، ويكون منع نفسه.

__________________

(١) ورد في هذا المعنى حديث عن أنس بن مالك ، أخرجه البخاري (٢٧٩٦) بلفظ «... ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحا ...».

(٢) ورد في هذا المعنى حديث عن ابن عباس ، أخرجه أحمد (١ / ٣٠٠ ، ٣٣٨) ، والترمذي (٢٥٨٥) ، وابن ماجه (٤٣٢٥) بلفظ : «... ولو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأرض لأفسدت على أهل الدنيا معيشتهم فكيف بمن ليس له طعام غيره؟!».

(٣) في ب : لأحرقته.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : يوضع.

(٦) زاد في ب : من.

(٧) في ب : وأن.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في أ.

(١٠) سقط في ب.

٤٢٩

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَبِيلِ اللهِ) ، قيل (١) : دين الله.

قال الحسن (٢) : سبيل الله : دين الله الذي ارتضى لعباده ، وأمرهم بذلك ، وإلى ذلك دعاهم رسله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَبْغُونَها عِوَجاً).

أي : يبغون الدين الذي فيه عوج ، وهو دين الشيطان ؛ كقوله : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١٥٣] ، فالعوج (٣) هو التفرق الذي ذكر في تلك الآية ، وأمكن أن يكون قوله : (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) ، أي : طعنا في دين الله ، وقد كانوا يبغون طعنا في دين الله.

قوله تعالى : (وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)(٤٩)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَبَيْنَهُما حِجابٌ).

يشبه أن يكون ما ذكر من الحجاب ما ذكر في آية أخرى ، وهو قوله : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) [الحديد : ١٣] ، فأمكن أن يكون الحجاب المذكور بينهما هو السور الذي ذكر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ).

قال بعضهم (٤) : هم قوم استوت حسناتهم بسيئاتهم ، لم يبشروا بالجنة حتى لا

__________________

(١) ذكره ابن جرير (٥ / ٤٩٦) ، وابن عادل في اللباب (٩ / ١٢٤).

(٢) قاله ابن جرير (٥ / ٤٩٦) ولم ينسبه لأحد.

(٣) يطلق بكسر العين في الدين والأمر ، وكل ما لم يكن قائما ، وبالفتح في كل ما كان قائما كالحائط والريح ونحوه. ينظر اللباب (٩ / ١٢٤).

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٩٨ ـ ٥٠٠) (١٤٦٩٣ ، ١٤٦٩٩ ، ١٤٧٠٤) عن الشعبي ، (١٤٦٩٤ ـ ١٤٦٩٧) عن حذيفة ، (١٤٦٩٨) عن ابن مسعود ، (١٤٧٠٠ ، ١٤٧٠٥ ، ١٤٧٠٦ ، ١٤٧٠٩) عن ابن عباس ، (١٤٧٠٢) عن عبد الله ابن الحارث ، (١٤٧١٠) عن أبي علقمة.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٦١) وزاد نسبته لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وهناد بن السري وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ ، والبيهقي في البعث عن حذيفة.

ولابن جرير عن ابن مسعود.

ولأبي الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن جابر مرفوعا.

ولعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

وللفريابي وابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ عن عبد الله بن الحارث.

٤٣٠

يخافوا (١) عقوبته ، ولا أيسوا حتى لا يطمعوا ولا يرجوا دخولهم فيها.

وقال آخرون (٢) : هم أهل كرامة الله ، أكرمهم بذلك ، يرفعهم على ذلك السور لينظروا إلى حكم الله في الخلق وعدله فيهم ، وينظرون إلى إحسان الله فيمن يحسن إليه ، وعدله فيمن يعاقبهم.

وقيل (٣) : هم الأنبياء.

والأشبه أن الأنبياء (٤) يكونون على الأعراف يشهدون على الأمم ؛ كقوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] ، وقال قائلون (٥) : هم الملائكة ، لكن ملائكة الله ما يسمون رجالا (٦) ، ولم نسمع بذلك ، والله أعلم بذلك.

ثم اختلف فيه : قيل (٧) : سموا أصحاب الأعراف ، وهو سور بين الجنة والنار سمي بذلك ؛ لارتفاعه ، وكل مرتفع عند العرب أعراف ، وهو قول القتبي.

وقال غيره (٨) : الأعراف : هو عرف كعرف الديك والفرس ، وهو أيضا من الارتفاع.

وقال الحسن : هم أصحاب التعريف ، يعرفون أهل النار عدل الله فيهم وحكمه ، وأن ما حل بهم من الشدائد وأنواع العذاب إنما حل بهم مما كان منهم في الدنيا من صدهم الناس عن سبيل الله ، واستكبارهم على الرسل ، يعرفونهم أن ما نزل بهم إنما نزل بعدل منه ، ويعرفون أهل الجنة فضل الله وإحسانه إليهم أن ما نالوا هم (٩) إنما نالوا بفضل منه

__________________

(١) في ب : يخافون.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٥٠١) (١٤٧١٤) عن مجاهد قال : أصحاب الأعراف : قوم صالحون فقهاء علماء. وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٦٤) ، وعزاه لابن أبي شيبة وهناد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) ذكره أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٣٠٤).

(٤) في ب : والأشبه أن يكون الأنبياء.

(٥) أخرجه ابن جرير (٥ / ٥٠١ ـ ٥٠٢) (١٤٧١٥ ـ ١٤٧٢٢) عن أبي مجلز ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٦٤) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في الأضداد وأبي الشيخ والبيهقي في البعث عن أبي مجلز.

(٦) في أ : رجلا.

(٧) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٩٧ ـ ٤٩٨) عن كل من : مجاهد (١٤٦٧٨) (١٤٦٨٥) (١٤٦٨٦) ، والسدي (١٤٦٧٩) (١٤٦٨٠) ، وابن عباس (١٤٦٨٧) (١٤٦٨٨) (١٤٦٨٩) ، وأبي جعفر (١٤٦٩١) ، والضحاك (١٤٦٩٢) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٦٠) ، وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن السدي ، ولسعيد ابن منصور وابن المنذر عن حذيفة.

(٨) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٩٧ ـ ٤٩٨) (١٤٦٨٣ ـ ١٤٦٩٠) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٦٠) وزاد نسبته للفريابي وهناد بن السري وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس.

(٩) في أ : نالوه.

٤٣١

وإحسان.

أو قوم نصبهم الله لمحاجة أهل النار ؛ كقوله : (ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأعراف : ٤٨] ، فهذه هي المحاجة التي يحاجون بها أهل النار.

أو أن يقال : هم قوم نصبوا يترجمون بين أهل الجنة وأهل النار ، يؤدون كلام بعضهم إلى بعض ، وينهون مخاطبات بعض إلى بعض ، من ذلك قوله : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) [الأعراف : ٥٠] ، وقوله : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ) [الأعراف : ٤٤] ، ونحوه. والله أعلم من هم؟

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ).

قيل (١) : المؤمن يعرف ببياض وجهه ، والكافر : بسواد وجهه.

ويحتمل ما قال الحسن : هو أن يعرفوا بالمنازل والأماكن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ).

يعني : نادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة.

(أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ).

ليس أن يقولوا سلام (٢) عليكم باللسان خاصة ؛ ولكن في كل كلام سديد وقول حسن وصواب ؛ كقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) [مريم : ٦٢] ، أي : سديدا صوابا ، وكذلك [قوله](٣) : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] ليس على أن يقولوا : سلام عليكم ، ولكن يقولون لهم قولا صوابا محكما ؛ فعلى ذلك الأول.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ).

اختلف فيه : قال عامّة أهل التأويل (٤) : هم أصحاب الأعراف لم [يدخلوا الجنة](٥)

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٥٠٣ ـ ٥٠٤) عن كل من : ابن عباس (١٤٧٢٤ ، ١٤٧٢٥ ، ١٤٧٢٨ ، ١٤٧٢٩) ، والضحاك (١٤٧٣٠) (١٤٧٣٤) ، ومجاهد (١٤٧٢٦ ، ١٤٧٢٧) ، والسدي (١٤٧٣١) ، وقتادة (١٤٧٣٢) ، وابن زيد (١٤٧٣٣) ، والحسن (١٤٧٣٥) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٦٤) وعزاه لابن جرير عن مجاهد.

(٢) في ب : بسلام.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٥٠٤ ـ ٥٠٥) (١٤٧٣٦) عن السدي ، (١٤٧٣٨) عن قتادة ، (١٤٧٣٧) عن الحسن البصري ، (١٤٧٣٩) عن ابن مسعود ، (١٤٧٤٠) عن عطاء وعكرمة ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٦٥) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الحسن.

(٥) في ب : بدخولها.

٤٣٢

وهم يطمعون دخولها.

وقيل : هم كفار أهل النار يطمعون أن ينالوا منها ؛ كقوله : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) ، إلى هذا الوقت كانوا يطمعون دخولها والنيل منها ، ثمّ أيسوا بهذا.

وقال بعضهم : هم أهل الجنة يطمعون دخولها قبل أن يدخل أهل الجنة [الجنة](١) ، وقبل أن يدخل أهل النار النار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ).

قيل (٢) : وإذا صرفت أبصار أصحاب الأعراف إلى أهل النار.

(قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

من شدة ما يرون من العذاب وما نزل بهم.

وقيل (٣) : وإذا صرفت أبصار أهل الجنة تلقاء أصحاب النار ، قالوا ذلك.

وفي حرف أبي (٤) : وإذا قلبت أبصارهم نحو أصحاب النار ، قالوا : عائذون بك أن تجعلنا ربنا مع القوم الظالمين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

إن كان ذلك الدعاء من الأنبياء أو من أهل كرامة الله من الذين كانوا على الأعراف ، فذلك منهم شهادة أنهم ظلمة وكفرة ، ومعنى التعوذ منهم من النار ؛ لأنهم لم يدخلوا الجنة بعد ؛ فيخافون لقصور كان منهم في شكر المنعم ، أو بالطبع يتعوذون كما يتعوذ كل أحد إذا رأى أحدا في البلاء ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ).

قال عامة أهل التأويل : يعرفون بسواد الوجوه وزرقة العيون ، ولكن أمكن أن يعرفوا بالأعلام التي كانت لهم في الدنيا سوى سواد الوجوه ؛ لأنهم يخاطبونهم بقوله : (قالُوا ما

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٥٠٥ ـ ٥٠٦) (١٤٧٤٢) عن السدي ، (١٤٧٤٣) عن ابن عباس ، (١٤٧٤٤) عن عكرمة ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٦٥) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة.

(٣) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٦٥) وعزاه لعبد بن حميد عن أبي مجلز.

(٤) وهي قراءة الأعمش كما في الكشاف (٢ / ١٠٧) ، والبحر المحيط (٤ / ٣٠٥) ، والدر المصون (٣ / ٢٧٦) ، واللباب في علوم الكتاب (٣ / ٢٧٦). وهذه القراءة من الشواذ ، عبر عنها صاحب الدر المصون ـ وهو السمين الحلبي ـ بأنها مخالفة للسواد كقراءة «لم يدخلوها وهم ساخطون» أو «هم طامعون» على أن هذا أقرب.

٤٣٣

أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) ، فلو لم يعرفوهم بآثار كانت لهم في الدنيا ، لم يكونوا يعاتبونهم بجمع الأموال والاستكبار في الدنيا ، ولا يقال للفقراء ذلك ، إنما يقال للأغنياء ؛ لأنهم هم الذين يجمعون الأموال وهم المستكبرون على الخلق ؛ كقوله : (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ : ٣٥].

ويشبه أن يخاطب الكل ، وفيهم من قد جمع واستكبر ، وذلك جائز ، هذا على تأويل من يجعل أصحاب الأعراف الذين استوت حسناتهم بسيئاتهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ).

قال عامة أهل التأويل (١) : أقسم أهل النار أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة ، ولكن يدخلون النار ، فتقول (٢) الملائكة لأهل النار : هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمته (٣)(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ).

ويحتمل أن يكون القسم الذي ذكر في الآية كان منهم (٤) في الدنيا ، كانوا يقسمون أنه لا يدخلون (٥) هؤلاء الجنة ، يعنون : أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ كقوله (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١] ، كانوا يقولون : إن الذي هم عليه لو كان خيرا لنالوا هم ذلك ؛ إذ نالوا هم كل خير في الدنيا ، يعنون أنفسهم ؛ فعلى ذلك ينالون في الآخرة مثله ، ونحو ذلك من الكلام الذي يقولون في الدنيا ؛ فيقولون لهم في الآخرة : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ).

وأمكن أن يكون قوله : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) لأهل الجنة قبل أن يدخلوها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ).

قال الأصم : يكون الحزن في فوت كل محبوب ، والخوف في نيل كل مكروه ؛ كقول يعقوب : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) [يوسف : ١٣] ، ذكر الحزن عند فوت محبوبه ، [والخوف](٦) عند نيل المكروه ، ولكن عندنا الحزن إنما يكون بفوت الموجود من المحبوب ، والخوف بما سيصيبه من المكروه.

__________________

(١) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٦٦) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الربيع بن أنس عن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وانظر تفسير الخازن والبغوي (٢ / ٥١٣ ـ ٥١٤).

(٢) في ب : فيقول.

(٣) في ب : برحمة.

(٤) في أ : عنهم.

(٥) في أ : أن يدخلوا.

(٦) سقط في ب.

٤٣٤

قوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٥٣)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ).

قال الحسن : الماء مما رزقهم الله ، ولكن مكرر مثنى.

وقال أبو بكر : طلبوا الماء ؛ ليدفعوا عن أنفسهم ما اشتد بهم من الظمأ (١) والعطش ، ثم تقع لهم الحاجة إلى الطعام ؛ لأن الرجل إذا اشتد به العطش والظمأ لا يتهيأ له الأكل.

ولكن يشبه أن يكون طلب بعضهم الماء وبعضهم الطعام الذي رزقهم الله ، وهذا جائز ، وإن لم يذكر ؛ كقوله : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] ، لم يكن هذا القول من الفريقين ؛ ولكن كان من اليهود (إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) ، ومن النصارى : (أَوْ نَصارى) ، فعلى ذلك هذا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ).

قيل : هذا مقابل قولهم في الدنيا للمؤمنين : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) [يس : ٤٧] ، قال لهم المؤمنون في الآخرة مقابل ما قالوا لهم في الدنيا : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ).

وهذا ـ والله أعلم ـ ليس على التحريم ، ولكن على المنع ؛ لأن الكفرة لا ينالون بعد أن نالوا ذلك حراما كان أو حلالا ، ولكن على المنع ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) [القصص : ١٢] ليس هو تحريم حرمة أكل ، ولكن منع ، ويشبه أن يكون ذلك محرما على المؤمنين إطعام الكافرين من ذلك.

__________________

(١) الظمآن : العطشان ، ومنه : رجل ظمآن ، وامرأة ظمأى. يقال : ظمئ يظمأ ظمأ فهو ظمآن. قال تعالى : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) [طه : ١١٨ ـ ١١٩] نفى عنه أولا الجوع والعري ، ثم ثانيا العطش والحر. وما أحسن ما جاء على هذا النسق! قيل : وأصله من الظمء ـ بالكسر ـ وهو ما بين الشربين ، ومنه : أظماء الإبل ، هي جمع : الظمأ ، فالظمأ : ما يحصل من الظمء من العطش.

ينظر : عمدة الحفاظ (٣ / ١٨).

٤٣٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً).

قال الحسن (١) : اتخذوا دينهم الذي كلفوا به وأمروا أن يأتوا به لهوا ولعبا.

وجائز أن يكون قوله : (اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً) أي : اتخذوا دينهم الملاهي التي كانوا يلهون (٢) ويلعبون ؛ كقوله : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال : ٣٥] أي : اتخذوا دينهم الذي دانوا به لهوا ولعبا ؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث ، وفي إنكارهم البعث إنكار الجزاء للحسنات والسيئات ، وفي الحكمة إيجاب ذلك ، فمن لم ير ذلك فهو لاه ولاعب ، واللهو واللعب هو الذي لا عاقبة له ، وكل من عمل عملا لا عاقبة له فهو لعب ولهو ، وكل من يعمل لعاقبة فهو ليس بلعب ولا لهو ، وهم كانوا يعملون لا لعاقبة ؛ لذلك كان لهوا ولعبا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا).

قال بعضهم : إن الحياة الدنيا لا تغر (٣) أحدا ، ولكن أضيف إليها التغرير لما كانت سببا من أسباب الاغترار بها ، فأضيف إليها ؛ كقوله : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [نوح : ٦] أضاف الفرار إلى الدعاء ، وقد يضاف الشيء إلى سببه ؛ كقوله : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [يونس : ٦٧] ، أي : يبصر به.

وقال بعضهم : أضيف ذلك إليها ؛ لما كان منها من السبب من الهيئة ما لو كان ذلك من ذي العقل والتمييز كان ذلك غرورا ؛ من نحو التزيين وغيره.

وجائز إضافة التغرير إليها على إرادة أهلها ، أي : غرهم أهلها ، وهم القادة والرؤساء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا).

لا يجوز أن يضاف النسيان إلى الله ـ تعالى ـ بحال ، ولكن يجوز أن يقال : يجزيهم جزاء نسيانهم ، فسمي الثاني باسم الأول ، وإن لم يكن الثاني نسيانا ؛ نحو قوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] والثانية ليست بسيئة ، ولكن جزاء السيئة ، لكنه سماها باسم السيئة ؛ لما هي جزاء لها ؛ فعلى ذلك هذا ، وكقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) [البقرة : ١٩٤] ، والثاني ليس باعتداء ، ولكنه جزاء الاعتداء ، فسماه باسم الاعتداء ؛ لما هو جزاؤه ؛ فعلى ذلك سمى الثاني نسيانا ؛ لأنه جزاء النسيان ، وإن كان الله لا يجوز أن ينسى ، أو يسهو عن شيء ، أو يغفل ، ولأن في النسيان تركا ، وكل منسي متروك ، فيتركهم

__________________

(١) ذكره بمعناه الرازي في تفسيره (١٤ / ٧٧) ولم ينسبه لأحد ، وكذا ابن عادل في اللباب (٩ / ١٣٥).

(٢) زاد في ب : فيه.

(٣) في أ : لا تغرن.

٤٣٦

في العذاب والهوان كما تركوا هم أمر الله ونهيه في الدنيا.

وقال الحسن (١) : إن الله لا ينسى شيئا ولا يسهو ، ولكن الكفرة يكونون على الكرامة والرحمة والمنزلة كالشيء المنسي ، وعن العذاب والهوان لا ، أو كلام نحو هذا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) قال بعضهم : «ما» هاهنا صلة ؛ كأنه قال : وكانوا بآياتنا.

وقال بعضهم : هو على ما ذكر ، أي : اليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ، [وكما كانوا](٢) بآياتنا يجحدون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ) [يحتمل بكتاب](٣).

[أي](٤) : بيّناه ؛ والتفصيل : التبيين.

ويحتمل قوله : (فَصَّلْناهُ) أي : فرقناه في إنزاله ، لم ننزله جملة واحدة ؛ كقوله : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ) [الإسراء : ١٠٦] أي : فرقناه في الإنزال على قدر النوازل بهم ؛ ليعلموا حكم كل آية نزلت بالنوازل التي وقعت بهم ، لا تقع لهم الحاجة إلى معرفة ما في كل آية نزلت عليهم على حدة ، بل يعرفون ذلك بالنوازل.

أو أنزله مفرقا.

أو أن يكون معرفة ما فيه من الأحكام إذا كان منزلا بالتفاريق أهون وأيسر على الطباع من معرفة ما فيه إذا نزل جملة.

ثم قوله : (فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) يحتمل وجوها :

يحتمل : فصلناه ، أي : بيناه بالحجج والبراهين على علم منه أن الخلائق لا تقوم بإتيان مثله ؛ ليعلم أنه من عنده نزل.

أو أنزله مفصلا على علم منه بمن يصدقه ويتبعه ، وبمن يكذبه ولا يتبعه.

أو على علم منه بمصالح الخلق إن أنزله صلح الخلق (٥) ، أي : على علم منه بمعاملة القوم إياه أنزله ؛ لأن المنفعة في إنزاله للمنزل عليهم ، لا للمرسل والمنزّل (٦) ، فضرر الرد والمنفعة لهم.

__________________

(١) ذكر الخازن في تفسيره (٢ / ٥١٥) كلاما نحو هذا ولم ينسبه لأحد.

(٢) في ب : وكانوا.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : إن إنزاله أصلح للحق.

(٦) في أ : المرسل.

٤٣٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) قال أبو بكر : هو هدى للكل : للمؤمن والكافر جميعا ، ورحمة للمؤمنين خاصة.

وأمّا عندنا : فهو هدى للمؤمنين ، وعمى على الكافرين ؛ على ما ذكر : (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) [فصلت : ٤٤] خص المؤمنين بالهدى لهم ؛ لأنهم هم المخصوصون بالانتفاع به دون أولئك ، وعلى أولئك عمى ورجس ؛ على ما ذكر ، وصار للمؤمنين حجة على أولئك ، وقوله : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] هذا للكافرين ، وقال للمؤمنين : (فَزادَهُمْ إِيماناً) [آل عمران : ١٧٣].

وقوله ـ عزوجل ـ : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي : ما ينظرون إلا وقوع ما وعدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نزول بأس الله بهم ، أي : لا يؤمنون إلا بعد وقوع البأس بهم ، لكن لا ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت : (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) ، والتأويل هو ما ينتهي إليه الأمر ويئول ، وما يقع بهم من البأس الموعود لهم ، وإيمانهم ما ذكر من قولهم (١) : (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) ، يعني : بالحق الواقع بهم من بأس الله الذي كانت الرسل تعدهم ، أي : إن ما وعدوا من وقوع البأس بنا كان حقّا.

ويحتمل قوله : (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) أي : بالتوحيد ، أي : إن الذي جاءت به الرسل في الدنيا من التوحيد كان حقّا.

أو أن الذي أخبر الرسل عن (٢) هذا اليوم كان حقّا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا).

كأنهم (٣) إذا حل بهم ووقع ما أوعد لهم الرسول من البأس ، تمنوا عند ذلك الشفعاء الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ؛ كقولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨].

أو طلبوا الشفعاء كما كانوا يطلبون في الدنيا شفعاء إذا بدا لهم أمر عظيم ، فيشفع بعضهم بعضا ، ويعين بعضهم بعضا في هذه الدنيا ، فعلى ما كان لهم في الدنيا تمنوا في الآخرة ذلك ، فإذا أيسوا عن ذلك وأيقنوا أن لا شفيع يشفع لهم ، فعند ذلك قالوا : (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) ، لا أنهم قالوا ذلك مجموعا ؛ كقوله : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ...) [الأنعام : ٢٧] إلى قوله : (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨].

قال بعضهم (٤) : لو ردوا في الدنيا ، لعادوا إلى ما نهوا عنه.

__________________

(١) في ب : قوله.

(٢) في أ : من.

(٣) في ب : كأنه.

(٤) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ١٦٤) ، وكذا أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٣٠٨).

٤٣٨

وقال آخرون (١) : لو ردوا إلى المحنة إلى الأمر والنهي لصاروا إلى العمل الذي كانوا يعملون.

ثم أخبر أنهم قد خسروا أنفسهم بعملهم الذي عملوا في الدنيا ، وبعبادتهم غير الله : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ، أي : بطل عنهم ما كانوا يفترون أن هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] وغير ذلك من الافتراء ؛ ذلك كله قد بطل عنهم ، فبقوا حيارى ، وانقطع رجاؤهم وأملهم الذي طمعوا.

قوله : (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من رحمة الله.

وقيل : مما وعدوا لو أطاعوا.

وقيل (٢) : أهلكوها.

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)(٥٨)

قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ).

وذكر ما بينهما في مواضع ، ولم يذكر في مواضع ، وذلك داخل في ذلك بقوله : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) [فصلت : ٩] ، الذي صنع ذلك (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) [فصلت : ١٠] ثم جمع اليومين الأولين مع هذا الذي ذكر فيه وقال : (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) [فصلت : ١٠] ، ليعلم أن ذا خلق في يومين ، ثم قال : (اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [فصلت : ١١] إلى قوله : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ١٢] ، فتصير (٣) ستة الأيام التي أبهمها في غير ذلك ، والله أعلم.

__________________

(١) انظر تفسير البحر المحيط لأبي حيان (٤ / ٣٠٨) ، وتفسير الخازن والبغوي (٢ / ٥١٦).

(٢) ذكره البغوي في تفسير (٢ / ١٦٤).

(٣) في ب : فيصير.

٤٣٩

ثم قد بين ـ عزوجل ـ فساد قول كل من عبد غيره ، وعجز كل ذلك عما له يعبد وجهله بمعنى العبادة ، وخروجه عن الاستحقاق بما فيه من آثار التدبير ، وعليه من دلالة التقدير واستحقاق جميع معاني الخلقة ، ودخوله تحت الصنعة ، وحاجته إلى من احتاج إليه كل مما هي التي تبعث على العبادة وتوجب إظهار الذلة والخضوع لمن هو كذلك في الخلقة والجوهر ، فألزمهم الفزع إلى من يدلهم إلى الرب الحق ، ويدعوهم إلى المعبود المتعالي عن الأشباه والأضداد بما يوجب الشبه والمشاكلة ، وفي وجوب ذلك دليل جاعل أخذ له شكلا ، وذلك آية الصنعة ودلالة الحدث ، وفي تحقيق الضد خوف ذهاب وفساد فتضمحل الألوهية وتستوجب حق الدخول تحت التقدير ، والقيام على ما شاء من له التدبير ؛ جل الله سبحانه عن توهم ذلك ، فأكرم من بعثته (١) الحاجة إلى معرفته (٢) ورفعته الخلقة إلى العلم بمن أنعم عليه واختصه من بين كثير من خلقه بما ركب فيه ما به يدبر أمر غيره ، وبه يعرف قدر النعم عليه لمن أكرمه به ؛ ليشكر له فيما أولاه ويحمده على ما أعطاه ، فمن بإظهار ذلك على لسان رسوله الذي عرف خلقه بما نصب من أدلة صدقه ، وأبان من حجج عصمته عن الكذب فيما ينبئ ، وإصابته فيما يخبر ، فقال : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) [أي](٣) الذي لا ربّ لكم (٤) سواه ولا لأحد من الخلائق ، هو الله الذي لا إله غيره ؛ ليوجهوا إليه العبادة في الحقيقة ، وليؤدوا إليه شكر ما أنعم عليهم ، وإن كانت نعمه أعظم من أن يجزيها العباد ، وحقه أجل من أن يقوم به العباد ، [و](٥) لو لا أن الله ـ سبحانه ـ لم يورد من البيان على ربوبيته ، والدليل على ألوهيته سوى ما أنطق به [على](٦) لسان رسوله بعد الإيضاح أنه لا ينطق إلا بالحق ، ولا يقول إلا الصدق لكان ذلك بيانا شافيا ، لكنه بفضل رحمته بين الأدلة التي تحقق ذلك وتعلم أنه كما جاء به رسوله ، إلا أن يعاند الحق ويكابر العقل ، فقال عزوجل : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إلى آخر ما ذكر دلالة خلق ما ذكر من آثار التدبير وعجيب التقدير الذي به قوام كل ممن يحتمل المنافع والمضار واتصال (٧) ما بين السماء والأرض على تباعد بعض من

__________________

(١) في ب : تبعثهم.

(٢) في أ : معرفة.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : غيركم.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في ب.

(٧) في ب : إيصال.

٤٤٠