تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

عَبَثاً ...) الآية [المؤمنون : ١١٥] صير عدم الرجوع إليه عبثا.

وقوله : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا).

أي : شغلهم ما اختاروا من الحياة الدنيا والميل إليها عن النظر في الآيات والبراهين والحجج.

أو أن يكون قوله : (وَغَرَّتْهُمُ) ، أي : اغتروا بالحياة الدنيا ؛ أضاف التغرير إلى الحياة الدنيا [لما بها](١) اغتروا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ).

قيل : وذكر به قبل أن تبسل نفس بما كسبت ، وإنما يذكرهم بهذا لئلا يقولوا غدا : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) [الأعراف : ١٧٢].

وأصل الإبسال (٢) : الإهلاك ، أو الإسلام للجناية والهلاك.

ثم اختلف في قوله : (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) : عن ابن عباس (٣) قال : أن تفضح نفس بما كسبت.

وقيل (٤) : تبسل : تؤخذ وتحبس ؛ وهو قول قتادة ؛ وكذلك قال في قوله : (أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) ، أي : حبسوا بما كسبوا.

وعن ابن عباس (٥) ـ رضي الله عنه ـ : (أُبْسِلُوا) أي : فضحوا ؛ على ما قال في

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) البسل : منع الشيء وانضمامه. ولدلالته على المنع قيل للمحرم والمرتهن : المبسل. ومنه قوله تعالى : (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) [الأنعام : ٧٠] أي تمنع الثواب أو هي مرتهنة بكسبها. ومنه قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر : ٣٨]. وقيل : (تبسل) نفس أي تسلم للهلكة.

والمستبسل : الذي يقع في مكروه ولا مخلص له منه. وأبسل فلان بجريرته أي أسلم للتهلكة وقوله : (أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا)[الأنعام : ٧٠] يحتمل كل ذلك ، ولتضمنه معنى الانضمام استعير لتقطيب الوجه ، فقيل : شجاع باسل أي كريه الوجه مقطبه. وأسد باسل من ذلك.

والبسل وإن كان بمعنى الحرام إلا أنه أخص من الحرام ؛ لأن الحرام يقال في الممنوع بقهر وبغيره ، والبسل لا يقال إلا في الممنوع بقهر ، وقيل للشجاعة البسالة إما لأن الشجاع يوصف وجهه بالعبوس ، وإما لكونه محرما على أقرانه لشجاعته ، وإما لأنه وضع ما تحت يده من أعدائه.

ينظر عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ (١ / ٢١٦ ـ ٢١٧).

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٢٩) (١٣٤١٨). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٣٩) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٢٩) (١٣٤١٥ ، ١٣٤١٦) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤٠) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٥) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٣١) (١٣٤٢٤). وذكره السيوطي بمعناه في الدر (٣ / ٣٩) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

١٢١

(تُبْسَلَ).

وعن الحسن (١) : (تُبْسَلَ) ، [أي](٢) : تسلم وعن مجاهد كذلك.

قال أبو (٣) عوسجة : (تُبْسَلَ نَفْسٌ) : أي : تسلم ، وذلك أن الرجل يجني جناية ، فيسلم إلى أهل (٤) الجناية.

وقال القتبي : (تُبْسَلَ) أي تسلم للهلكة.

وعن الكيساني (٥) : (تُبْسَلَ) : تجزي نفس بما كسبت.

وقال الفراء : (تُبْسَلَ) : ترهن.

وأصل الإبسال : هو الإسلام ، [وتفسيره](٦) ما ذكر على أثره ، وهو قوله : (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) ؛ كما يكون بعضهم شفيعا لبعض في الدنيا ، وأعوانا لهم وأنصارا في دفع المضار والمظالم عنهم وجر المنافع إليهم ، وأما في الآخرة : فإن كل نفس تسلم بما كسبت ، لا شفيع لها ولا ولي ؛ كقوله : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ...) [عبس : ٣٤].

وكقوله : (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) [البقرة : ١٦٧] ، وغير ذلك من الآيات تسلم كل نفس إلى كسبها لا شفيع لها ولا ولي.

وقوله : (وَذَكِّرْ بِهِ) ، يحتمل بالقرآن والآيات ويحتمل (بِهِ) ، أي : بالله ، أي : عظ به أن تهلك نفس بما كسبت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها).

اختلف فيه : قال بعضهم (٧) : العدل : الفداء ؛ يقول : وإن فدت [نفس](٨) كل الفداء

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٢٨) (١٣٤١٠ ، ١٣٤١١) ، وذكر بمعناه السيوطي في الدر (٣ / ٣٩) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : ابن.

(٤) في ب : لأهل.

(٥) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٢٩) (٣١٤١٧) عن زيد قال : أن تؤخذ نفس بما كسبت.

(٦) سقط في ب.

(٧) ذكره ابن جرير (٥ / ٢٣٠) ، ورواه عن قتادة (١٣٤٢٠) ، والسدي (١٣٤٢١) ، وابن زيد (١٣٤٢٢) بنحوه.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤٠) زاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة ، وينظر تفسير القرطبي (٧ / ١٣) ، وتفسير الخازن والبغوي (٢ / ٣٩٤) ، وتفسير أبي حيان الأندلسي (٤ / ١٦٠).

(٨) سقط في ب.

١٢٢

لتتخلص مما حل بها ، لم يؤخذ منها ولم يقبل منها ذلك.

وقال الحسن (١) : العدل : كل عمل البر والخير ، أي : وإن عملت كل عمل البر والخير من الفداء والتوبة ، لم يقبل منها ذلك ؛ يخبر أن الدار الآخرة ليست بدار العمل ، ولا يقبل فيها الرشا (٢) كما تقبل في الدنيا ، وأخبر ألا يكون شفعاء يشفعون لهم ، ولا أولياء ينصرونهم ، ليس كالدنيا ؛ لأن من أصابه في هذه الدنيا شيء ، أو حل به عذاب أو غرامة ـ فإنما يدفع بإحدى هذه الخلال الثلاثة ، إما بشفعاء يشفعونه ، أو بأولياء ينصرونه ، أو بالرشا ، فأخبر أن الآخرة ليست بدار تقبل فيها الرشا ، فتدفع ما حل بهم ، أو أولياء ينصرونهم في دفع ذلك عنهم ، أو شفعاء يشفعونهم.

فإن قيل : ما معنى ذكر العدل والفداء ، وليس عنده ما يفدي [ولا يبذل وما يمكّن](٣) من العمل؟

قيل : معناه ـ والله أعلم ـ أي : لو مكن لهم من الفداء ما يفدون في دفع ذلك عن أنفسهم ، ومكن لهم من العمل ما لو عملوا ، لم يقبل ذلك منهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا).

قد ذكرنا الاختلاف في الإبسال ، وأصله : الإسلام يسلمون لما اكتسبوا لا يكون لهم

__________________

(١) قال ابن قتيبة في مجاز القرآن (ص ١٩٥).

مجازه : وإن تقسط كل قسط لا يقبل منها لأنما التوبة في الحياة.

قال أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ١٦٠) : ونقل عن أبي عبيدة أن المعنى : (....... وإن تقسط كل قسط بالتوحيد والانقياد بعد العناد).

(٢) من الرشوة بكسر الراء وضمها والجمع رشا بكسر الراء وضمها ، وقد رشاه من باب عدا ، وارتشى أخذ الرشوة واسترشى في حكم طلب الرشوة عليه ، وأرشاه : أعطاه الرشوة.

وقال ابن الأثير : الرشوة : الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة ، وأصله من الرشاء الذي يتوصل به إلى الماء.

وقال أبو العباس : الرشوة مأخوذة من رشا الفرخ إذا مد رأسه إلى أمه لتزقه.

وراشاه : حاباه ، وصانعه ، وظاهره.

وقد تسمى الرشوة البرطيل وجمعه براطيل. قال المرتضى الزبيدي : واختلفوا في البرطيل بمعنى الرشوة ، هل هو عربي أو لا؟

وفي المثل : البراطيل تنصر الأباطيل.

والرشوة في الاصطلاح : ما يعطى لإبطال حق ، أو لإحقاق باطل.

وهو أخص من التعريف اللغوي ، حيث قيد بما أعطي لإحقاق الباطل ، أو إبطال الحق.

ينظر المصباح المنير (رشا) والنهاية في غريب الحديث (٢ / ٢٢٦) دار الفكر بيروت التعريفات للجرجاني (١٤٨) دار الكتاب العربي والرهوني علي الزرقاني (٧ / ٢٩٤) طبعة بولاق ، حاشية الباجوري علي ابن القاسم (٢ / ٣٤٣).

(٣) في ب : ولا يترك وما ذكر.

١٢٣

شفعاء ولا أولياء ، ولا يقبل منهم الرشا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ).

قيل (١) : الحميم : هو ماء حار قد انتهى حره يغلي ما في البطن إذا وصل إليه ، فيشبه أن يكون لهم من الشراب ما ذكر ؛ لما تناولوا في الدنيا من الشراب المحرم ، فكان لهم في الآخرة الحميم مكان ذلك ، والعذاب الأليم ؛ لما أعطوا أنفسهم في الدنيا من الشهوات واللذات جزاء ذلك.

قوله تعالى : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)(٧٣)

قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) : يحتمل هذا وجوها :

يحتمل : أن يكون أولئك الكفرة دعوا رسول الله أو المؤمنين إلى عبادة الأصنام التي كانوا يعبدونها ، فقال عند ذلك : (أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) ، بعد ما عبدنا الله الذي يملك نفعنا وضرنا.

أو كان أهل الكفر يدعون أهل الإسلام إلى عبادة الأوثان التي كانوا يعبدونها : إما طمعا بشيء يبذلونه ؛ ليرجعوا إلى عبادة الأوثان [والأصنام](٢) عن عبادة الله ، أو تخويفا منهم لهم ، فقال : قل يا محمد أندعو من دون الله ما لا يملك نفعنا إن عبدناه ، ولا يملك ضرنا إن تركنا عبادته ، بعد ما عبدنا الذي يملك نفعنا إن عبدناه ، ويملك ضرنا إن تركنا عبادته؟!

وعن ابن عباس (٣) ـ رضي الله عنه ـ : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) : هذا مثل ضربه الله للأصنام التي عبدوها دون الله ، ومن يدعو إليها وللدعاة الذين يدعون إلى الله وإلى عبادته ؛ كمثل رجل ضل به الطريق ؛ فبينما هو ضال إذ ناداه مناد : يا فلان بن فلان هلم إلى الطريق وله أصحاب يدعونه يا فلان هلم إلى الطريق.

__________________

(١) ينظر تفسير ابن جرير (٥ / ٢٣١) ، وتفسير القرطبي (٧ / ١٣).

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣) (١٣٤٢٧) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤٠) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

١٢٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) : في الكفر والشرك.

(بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ).

يقول : مثلهم إن كفروا بعد الإيمان كمثل رجل كان مع قوم على الطريق ، فضل الطريق فحيرته الشياطين [واستهوته](١) في الأرض ، وأصحابه على الطريق ، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون : ائتنا ؛ فإنا على الطريق ، قال : فلم يأتهم ؛ فذلك مثل من تبعكم بعد المعرفة بمحمد ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يدعوهم إلى الطريق وهو الهدى.

ويحتمل أن يكون المثل الذي ضربه من وجه آخر ، وهو أن مثل هؤلاء كمثل من كان في بعض المفاوز (٢) والبراري (٣) ، فضل الطريق [به](٤) ، فذهب به الغيلان (٥) حتى أوقعوه في الهلكة ؛ وهو الذي تقدم ذكره.

ويشبه أن يكون قوله : (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا) أنه ما من أحد : من مشرك ومؤمن ، إلا وله أصحاب يدعونه : أما المؤمن : فله أصحاب من الملائكة يدعونه إلى الهدى ، والكافر : له شياطين يدعونه إلى الشرك ؛ هذا أشبه أن يحمل عليه ، لكن أهل التأويل حملوا [الآية](٦) على ما ذكرنا.

قال قتادة (٧) : هذه خصومة علمها الله محمدا [يخاصم بها](٨) أهل الشرك ؛ لأن سورة الأنعام نزل أكثرها في محاجة أهل الشرك.

قال ابن عباس (٩) ـ رضي الله عنه ـ : (اسْتَهْوَتْهُ) : أضلته.

قال أبو عوسجة (١٠) : أي : ذهبت به ، استهوته وأهوته واحد ، أي : دعته إلى الهلكة ، وقيل : أضلته.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) المفاوز : الصحاري المعجم الوسيط (فوز) (٢ / ٧٠٦).

(٣) البراري مفردها برية وهي الصحراء. ينظر : المعجم الوسيط (١ / ٤٨) (برر).

(٤) سقط في أ.

(٥) تزعم العرب أنه نوع من الشياطين تظهر للناس في الفلاة ـ الصحراء ـ فتتلوّن لهم في صور شتى وتغولهم ، أي تضللهم وتهلكهم. ينظر المعجم الوسيط (١ / ٦٦٧) (غول).

(٦) سقط في أ.

(٧) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٣٣) (١٣٤٣٢) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤١) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٨) في ب : يخاصمها.

(٩) أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه مطولا كما في الدر المنثور للسيوطي (٣ / ٤٠) ، وأخرجه ابن جرير (٥ / ٢٣٣) (١٣٤٢٨) عن قتادة.

(١٠) ذكره ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن ص (١٥٥). وفي ب : ابن عباس.

١٢٥

وقوله : (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا).

أي : نرجع عن الإيمان إلى الشرك ، (بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى).

قيل : بيان الله هو البيان.

وقيل : إن دين الله هو الهدى وهو الدين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ).

قيل (١) : هذا صلة قوله : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ).

وقال بعضهم : ليس على الصلة ، ولكن على الابتداء : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ،

وقل لهم : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ).

(وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) قد ذكرناه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ).

قيل (٢) : قوله : (بِالْحَقِ) ، أي : خلق السموات والأرض بالحق لم يخلقهما باطلا ؛ كقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) [ص : ٢٧].

قيل : لم يخلقهما باطلا ، ولكن خلقهما بالحق ، وهو يحتمل وجوها :

قيل : خلقهما للعاقبة ؛ لأن كل أمر لا عاقبة له فهو باطل ليس بحق ، فإنما خلق السموات والأرض وما بينهما للعاقبة وذلك لأمر عظيم ؛ كقوله : (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [المطففين : ٥ ـ ٦].

وقيل : قوله : (بِالْحَقِ) ، أي : خلقهما ليمتحن فيهما ولمحنة سكانهما ، لم يخلقهما لغير شيء.

وقيل (٣) : (بِالْحَقِ) ، أي : خلقهما بالحكمة من نظر فيهما وتدبر ؛ للدلالة (٤) على أن لهما خالقا ومدبرا ، والدلالة (٥) على أن مدبرهما ومنشئهما واحد ، فإذا كان كذلك كان خلقهما بالحق بالحكمة والعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كُنْ فَيَكُونُ).

__________________

(١) قال الخازن في تفسيره (٢ / ٣٩٥) والعرب تقول : أمرتك لتفعل وأن تفعل وبأن تفعل.

(٢) ينظر تفسير أبي حيان الأندلسي في البحر المحيط (٤ / ١٦٤).

(٣) ينظر تفسير ابن جرير (٥ / ٢٣٥).

(٤) في ب : لدلالة.

(٥) في ب : لدلالة.

١٢٦

قد ذكرنا أن قوله : (كُنْ) هو أوجز كلام في لسان العرب يعبر به فيفهم منه ، لا أن كان من الله كاف أو نون ، لكنه ذكر ـ والله أعلم ـ ليعلموا (١) أن ليس على الله في الإحياء والإنشاء بعد الموت مئونة ؛ كما لم يكن على الخلق في التكلم (٢) ب «كن» مئونة ، ولا يصعب عليهم ذلك ؛ فعلى ذلك ليس على الله في البعث بعد الموت مئونة ولا صعوبة.

والثاني : ذكر هذا لسرعة نفاذ البعث ؛ كقوله : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان : ٢٨] أخبر أن خلقهم وبعثهم ليس إلا كخلق نفس واحدة ، وبعث نفس واحدة ؛ وكقوله : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل : ٧٧] يخبر لسرعة نفاذ الساعة وبعثهم ، وذلك أن الرجل قد يلمح البصر وهو لا يشعر به ؛ فعلى ذلك القيامة قد تقوم وهم لا يشعرون.

والثالث : يذكر هذا ـ والله أعلم ـ أن البعث بعد الموت والإحياء إعادة ، وإعادة الشيء عندكم أهون من ابتداء إنشائه ؛ وعلى ذلك يخرج قوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] أي : هو أهون عليه عندكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَوْلُهُ الْحَقُ).

يحتمل : (قَوْلُهُ الْحَقُ) ، أي : البعث بعد الموت حق على ما أخبر.

ويحتمل : (قَوْلُهُ الْحَقُ) ، أي : ذلك القول منه حق يكون كما ذكر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَهُ الْمُلْكُ) [أي](٣) : ملك ذلك اليوم ؛ كقوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] ؛ وكقوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الحج : ٥٦] ذكر هذا ـ والله أعلم ـ لما لا ينازعه أحد في ملك ذلك اليوم ، وقد نازعه الجبابرة في الملك في الدنيا ، وإن لم يكن لهم ملك ولا ألوهية.

ويحتمل قوله : (وَلَهُ الْمُلْكُ) ، أي : ملك جميع الملوك له في الحقيقة ؛ كقوله : (مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) [آل عمران : ٢٦].

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) : قال بعضهم : النفخ : هو الروح ، والروح من الريح ، والروح إنما تدخل بالنفخ (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢].

وقال بعضهم : لا يكون هناك (٤) في الحقيقة نفخ ، ولكن يذكر لسرعة نفاذ الساعة ؛ لأن

__________________

(١) في ب : ليعرفوا.

(٢) في ب : الكلمة.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : هنالك.

١٢٧

الرجل قد يتنفس وهو لا يشعر به ، فذكر هذا لسرعة نفاذ الساعة ؛ لأنه ليس شيء أسرع جريانا ونفاذا من الريح.

وقال بعضهم (١) : هو على حقيقة النفخ وهو ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِي الصُّورِ) قال بعضهم : في صور الخلق ، وقال بعضهم : الصور قرن ينفخ [فيه](٢) إسرافيل فلا ندري كيف هو ، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى أن فيه ما ذكرنا من سرعة نفاذ البعث.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عالِمُ الْغَيْبِ).

أي : يعلم ما يغيب الخلق بعضهم من بعض.

(وَالشَّهادَةِ) ،

ما يشهد بعضهم بعضا.

أو يحتمل عالم الغيب ، أي : يعلم ما يكون إذا كان كيف كان ، أو (٣) يعلم وقت كونه ، والشهادة : ما كان وشوهد ؛ يخبر أنه لا يغيب عنه شيء ولا يعزب عنه (٤).

(وَهُوَ الْحَكِيمُ) : في خلق السموات والأرض ، وخلق ما فيهما ، والحكيم : في بعثهم ، و [الحكيم](٥) هو واضع الشيء موضعه.

(الْخَبِيرُ) بكل شيء.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٧٩)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ).

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٣٨) (١٣٤٣٧) عن ابن عباس بنحوه وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤٣) ، وزاد نسبته لابن أبي حاتم ، وينظر تفسير القرطبي (٧ / ١٥) ، وتفسير الخازن والبغوي (٢ / ٣٩٦) ، وتفسير أبي حيان (٤ / ١٦٥).

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : و.

(٤) في ب : منه.

(٥) سقط في ب.

١٢٨

قيل (١) : آزر : هو اسم أبي إبراهيم ، عليه‌السلام. والحسن يقرأ : (آزَرَ) ، بالرفع ويجعله اسم أبيه.

وقال آخرون (٢) : هو اسم صنم ، فهو على التقديم والتأخير ؛ كأنه قال : وإذ قال إبراهيم لأبيه أتتخذ آزر أصناما آلهة.

وقوله : (أَتَتَّخِذُ).

استعظاما لما يعبد من الأصنام دون الله ؛ لأن مثل هذا إنما يقال على العظيم من الفعل.

وقال أبو بكر الكيساني (٣) : قوله : (آزَرَ) قيل : هو اسم عيب عندهم ؛ كأنه قال : يا ضال أتتخذ أصناما آلهة ؛ كقول الرجل لآخر : يا ضال.

وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة كان اسم أبيه أو اسم صنم (٤).

وفي الآية دلالة أن أباه كان من رؤساء قومه بقوله : (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

وفيه دلالة أن لا بأس للرجل أن يشتم أباه لمكان ربه ؛ لأن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ سماه ضالا. وفيه (٥) دلالة أن الإيمان والتوحيد يلزم أهل الفترة في حال الفترة ؛ لأن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ سماهم ضلالا وهو لم يكن في ذلك [الوقت](٦) رسولا ، إنما بعث رسولا من بعد ، والله أعلم.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : ضلالا لا شك فيه ولا

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٣٩) (١٣٤٣٨) عن السدي (١٣٤٣٩) عن محمد بن إسحاق ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤٤) ، وعزاه لأبي الشيخ عن الضحاك.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٣٩) (١٣٤٤٢ ، ١٣٤٤٣) عن مجاهد (١٣٤٤٤) عن السدي ، وذكره السيوطي (٣ / ٤٣) في الدر وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد ولابن أبي حاتم عن السدي ولابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس ولابن المنذر عن ابن جريج.

(٣) ذكره ابن جرير (٥ / ٢٣٩) وذكره البغوي في تفسيره (٢ / ١٠٨) ونسبه لسليمان التيمي بنحوه وكذا ابن عادل في اللباب (٨ / ٢٣٢).

(٤) قال ابن الخطيب الرازي بعد أن حكى كلام المفسرين حول «آزر» : وهذه التكاليف إنما يجب المصير إليها إذا دل دليل قاهر على أن والد إبراهيم ما كان اسمه آزر ، وهذا الدليل لم يوجد البتة ، فأي حاجة تحملنا على هذه التأويلات؟ ومما يدل على صحة ما قلنا أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا في غاية الحرص على تكذيب الرسول وإظهار النسب. ينظر اللباب (٨ / ٢٣٢) ، تفسير الفخر الرازي (١٣ / ٣٢).

(٥) في ب : وفي الآية.

(٦) سقط في أ.

١٢٩

شبهة ، وهو ما ذكر في آية أخرى حيث عبد ما ذكر ؛ حيث قال : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢] هذا الضلال البين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) : ذكر كذلك ـ والله أعلم ـ على معنى كما أريناك ملكوت السموات والأرض والآيات ؛ كذلك كنا أرينا إبراهيم.

و (نُرِي) بمعنى : أرينا وذلك جائز في اللغة ، و «كذلك» لا تذكر (١) إلا على تقدم شيء ، لكن الوجه فيه ما ذكرنا كما أريناك من السموات والأرض من الآيات والحجج والبراهين ؛ كذلك كنا أرينا إبراهيم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

اختلف فيه :

قال بعضهم (٢) : سلطان السموات والأرض.

وقيل (٣) : الشمس والقمر والكواكب.

وقيل (٤) : فرجت له السموات السبع ، حتى نظر إلى ما تحت العرش وما فيهن ؛ وكذلك فرجت له الأرضون حتى رأى ما فيهن.

وقيل (٥) : (مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : خبّئ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ من الجبابرة في سرب ، فجعل الله في أصابعه رزقا ، فإذا مص إصبعا من أصابعه وجد فيها رزقا ، فلما خرج أراه الله الشمس والقمر ، فكان ذلك ملكوت السموات ، وملكوت الأرض : الجبال والبحار والأشجار (٦).

وقيل : نظر إلى ملك الله فيها حتى نظر إلى مكانه ورأى الجنة ، وفتحت له الأرضون حتى نظر إلى أسفل الأرضين (٧) ، فذلك قوله : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) [العنكبوت : ٢٧]

__________________

(١) في ب : لا يذكر.

(٢) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤٤) وعزاه لأبي الشيخ عن ابن عباس.

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٤٣) (١٣٤٥٩) عن الضحاك و (١٣٤٦٠) عن مجاهد و (١٣٤٦١) عن ابن عباس وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤٤) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٤٢) (١٣٤٥٢ ، ١٣٤٥٤) عن مجاهد وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤٤) وزاد نسبته لآدم بن إياس وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات.

(٥) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٤٣) (١٣٤٦٢ ، ١٣٤٦٣) عن قتادة وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤٦) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٦) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٤٢) (١٣٤٥٣) عن السدي وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤٤) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٧) أخرجه بن جرير (٥ / ٢٤١) (١٣٤٤٨) عن عكرمة بنحوه وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤٤) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

١٣٠

قال : أري مكانه في الجنة.

وقيل : أجره الثناء الحسن.

وقال أبو عوسجة : (مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملك ؛ وكذلك قال أبو عبيدة (١) ، وهو كجبروت ورحموت ورهبوت ؛ فكذلك ملكوت.

وأصله : ما ذكر من الآيات والعجائب ، [والله أعلم](٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ).

الإيقان بالشيء هو العلم بالشيء حقيقة بعد الاستدلال والنظر فيه والتدبر ؛ ولذلك لا يوصف الله باليقين ، ولا يجوز لله ـ تعالى ـ أن يقال : موقن ؛ لما ذكرنا [أنه] هو العلم الذي يعقب الاستدلال ، وذلك منفي عنه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ).

قيل في قوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) أي : كما أريناك ملكوت ما ذكر ، فقوله : (نُرِي) بمعنى أرينا (٣).

وقوله : (وَكَذلِكَ) له وجهان :

أحدهما : أنه كما أريناك ما أيقنت به أن الربوبية لله ، وأنه الواحد لا شريك له من الآيات والأدلة ، أريناه ـ أيضا ـ ما ذكر حتى أيقن ، فهو ـ والله أعلم ـ على التسوية بين الأسباب الدالة على الوحدانية لله والربوبية في المعنى ، وإن كانت لأعيانها مختلفة ، وعلى أن طريق المعرفة الاستدلال بما أنشأ الله من الدلالة لا السمع والحس ، وإن كان في حجة السمع تأكيد.

والثاني : أن يكون (وَكَذلِكَ نُرِي) على ما أظهر من الحجج على قومه ؛ وهو كقوله : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٨٣] ، وأعطاه ما أراه وأشعر قلبه من

__________________

(١) معمر بن المثني التيمي بالولاء البصري ، أبو عبيدة النحوي : من أئمة العلم بالأدب واللغة. استقدمه هارون الرشيد إلى بغداد سنة ١٨٨ ه‍ ، وقرأ عليه أشياء من كتبه. قال الجاحظ : لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه. وكان إباضيّا ، شعوبيّا ، من حفاظ الحديث قال ابن قتيبة : كان يبغض العرب وصنف في مثالبهم كتبا. له نحو ٢٠٠ مؤلف ، منها نقائض جرير والفرزدق ومجاز القرآن والعققة والبررة والمثالب وفتوح أرمينية وتسمية أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأولاده.

ينظر الأعلام (٧ / ٢٧٢) ، مجاز القرآن (١ / ١٩٨) مجمع الأمثال (١ / ١٩٤) ، اللسان والتاج (رهب).

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : أريناه.

١٣١

الحجج التي ألزم قومه بها أنطق بها الله ـ عزوجل ـ لسانه ليلزم حججه خلقه ، والله الموفق.

(مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : الملك في الحقيقة من الوجه الذي يكون آية للإيقان ودليلا للإحاطة بالحق.

ثم اختلف في وجه ذلك :

فمنهم من قال (١) : هو ما أرى بصره ، أعني : بصر الوجه ؛ نحو الذي ذكر من فتح السماء حتى رأى ما فيها من العجائب والآيات إلى العرش ، أو حيث قد زوى الأرض حتى رأى ما فيها من أنواع الخلق إلى الثرى ، أو حيث بلغ.

ومنهم من قال : رفع إلى السماء حتى كانت الأرض بمن فيها [له](٢) رأي العين ، وكان له ـ صلوات الله عليه ـ مثل هذا من الأمور ؛ نحو : أمر النار (٣) بالهجرة (٤) إلى حيث لا ضرع ولا زرع ، وما جعل رزقه في أصابعه ، وأمر بلوغ صوته في قوله ـ تعالى ـ : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) [الحج : ٢٧] [أن](٥) كان على ما سمع منه ، والله أعلم.

ومنهم من قال (٦) : هو ما أرى بصر قلبه من وجوه العبر وأنواع الأدلة عند التأمل في خلق الله بالفكر من غير أن كان في الخلق تغير على الأحوال التي كانت عليه ، وهو أحق من يكون له في الذي كان كفاية عن حدوث أحوال تدل إذ هي حجج الله يستدل على قومه ، من الوجه الذي جعل لجميع الخلق ، لا من جهة خصوص آيات ؛ فثبت أن ذلك كان له بهذا الوجه.

ثم هو يخرج على وجوه ؛ منها : ما رأى من تسخير القمر والشمس والنجوم ، وقطعها في كل يوم وليلة أطراف السماء والأرض جميعا ، ومسيرها (٧) تحت الأرض إلى أن يعود (٨) كل إلى مطلعه ، يسير (٩) كل ذلك ما فوق الأرض إلى السماء ، واستواء أحوال ذلك على ما عليه حد في كل عام وشهر ، لا يزداد ولا ينقص ولا يتقدم ولا يتأخر ، مع

__________________

(١) ينظر تفسير الخازن (٢ / ٣٩٨) ، والبحر المحيط لأبي حيان (٤ / ١٧٠).

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : الناس.

(٤) في ب : والهجرة.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر تفسير الخازن (٢ / ٣٩٨ ـ ٣٩٩).

(٧) في ب : وسيرها.

(٨) في ب : تعود.

(٩) في ب : تسير.

١٣٢

عظيم ما بها من المنافع لأنواع دواب الأرض والطير جميعا حتى يوقن كل متأمل أن مثل هذا لا يعمل بالطباع إلا أن يكون له مدبر حكيم جعله ذلك الطبع وسواه على ما شاء من الحد ، وألا يتسق الأمر على التدبر والحكمة ، إلا أن يكون مدبر ذلك ، بحيث لا يحتاج إلى معين ، ولا يجوز أن يكون له فيه منافع ، ثم هو بذاته عليم قدير ، وما في الأرض من تدبير الليل والنهار وأنهما يتعاقبان أبدا ، ويسيران يقهران ما فيها (١) من الجبابرة والفراعنة ، حتى إن اجتمع جميع أهل الأرض على زيادة [في واحد](٢) أو نقصان ، أو تقديم أو تأخير ؛ لما لهم من الحاجة ، أو بما فيهم من القوة القدرة مع معونة الجميع لهم في ذلك لم يتهيأ لهم ، ولا بلغ توهم أحد في احتمال ذلك حتى يصير عند وجود كلّ كأن الآخر لم يكن قط ، ثم عند العود إليهم كأنه لم يفارقهم قط ، مع ما أودع (٣) أهل الأرض بهما من المنافع ، وعليهم فيها أنواع مضار ، ولهما سلطان على أعمارهم ، على ما فيهما من أثر التسخير والتذليل الذي كل مقهور بالآخر ، إذا جاء سلطانه وبلغ حده ، وليس في واحد منهما امتناع عن قهر الآخر ، وإن كان هو الظاهر القوي جريا جميعا على حد واحد وسنن واحدة (٤) ، ولا على ذلك على ما دل عليه الأول ، مع ما فيهما من [أثر العيث] [أمرا](٥) ظاهرا لا يحتمل أن يجهله إلا سفيه معاند ، والله أعلم.

ثم النور والظلمة والظل ونحو ذلك الذي يبسط بسعة جميع أطراف السماء والأرض يستر واحد كل شيء ، ويبدي آخر عن كل شيء ، ويحيط الثالث بكل شيء ، ثم تعلق منافع الأهل بها على اختلافها ، وبالسماء [و] الأرض على تباعد ما بينهما ، وبالسهل والجبل [والبحر والبر](٦) على تضاد معانيهما ؛ وعلى ذلك جميع الأمور ، فكان ـ صلوات الله عليه ـ بما أرى من المعنى وغيره من الموقنين أن لا إله إلا الله وجه إليه نفسه ، وأن كل شيء نسب إليه الألوهية ، محال أن يكون فيه وله إمكان ذلك ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ...) إلى قوله : (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

تكلموا في تأويل الآية على وجوه ثلاثة :

__________________

(١) في ب : فيهما.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : ما لجميع.

(٤) في ب : واحد. وهو كثيرا ما يستخدم الصفة مذكرا لموصوف مؤنث.

(٥) سقط في أ.

(٦) في ب : والبر والبحر.

١٣٣

فمنهم (١) من جعل الأمر على ما عليه الظاهر : أنه غير عارف بربه حق المعرفة إلى أن عرف من الوجه الذي بان له عند الفراغ من آخر ما نسب إليه الربوبية أنه لا يعرف من جهة درك الحواس ووقوعها عليه ، ولكن من جهة الآيات وآثار العقل ، فقال : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) الآية ، لكن أهل هذا القول اختلفوا على وجوه ثلاثة :

أحدها : ما روي في التفسير أنه ربّي في السرب ، ولم يكن نظر إلى شيء من خلق السماء ، فنظر عن باب السرب في أوّل الليل ، فرأى الزهرة بضوئها وتلألئها ، وكان في علمه أن له ربا وأنه يرى ، فلم ير أضوأ منها ولا أنور ، فقال : هذا ربي ، فلما أفل وله علم أن الرب دائم لا يزول ، فقال : لا أحبّ ، بمعنى : ليس هذا برب ؛ كقوله : (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) [الفرقان : ١٨] أي : ليس لنا ، وقول عيسى حيث قال : (سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) [المائدة : ١١٦] [بمعنى](٢) : ما قلت ذلك ، لكن أهل هذا التفسير حملوا الأفول (٣) على غيبوبته بنفسه ، وهو عندنا على غيبوبته في سلطان القمر [وقهر سلطان القمر](٤) لما طلع سلطان النجم ، وعنده أن الرب لا يقهر وأن سلطانه لا يزول ؛ وعلى ذلك أمر القمر والشمس بظلمة الليل ، وفي ذلك أنه لو كان [عنده أن الرب لا يقهر وأن سلطانه لا يزول](٥) [وأنه لا يرى](٦) لأنكر من ذلك الوجه أن يكون ربه بل أقر به ، وأنكر الأفول والزوال ، وهذا ينقض قول من يصفه بالزوال والانتقال من حال إلى حال.

ومنهم من يقول (٧) : كان هذا [منه في وقت](٨) لم يكن جرى عليه القلم سمع الخلق يقولون في خلق السماء والأرض ونحو ذلك ، وينسبون ذلك إلى الله ؛ وعلى ذلك أمر جميع أهل الشرك ؛ كقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] ، وقوله : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ ...) [المؤمنون : ٨٤] إلى قوله : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ)

__________________

(١) قال ابن جرير في التفسير (٥ / ٢٤٦) وأنكر قوم من غير أهل الرواية هذا القول الذي روي عن ابن عباس وعمن روى عنه من أن إبراهيم قال للكوكب أو القمر «هذا ربي» وقالوا : غير جائز أن يكون لله نبي ابتعثه بالرسالة أتى عليه وقت من الأوقات وهو بالغ إلا وهو لله موحد وبه عارف.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : الأقوال.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : آية لا ترى.

(٧) ينظر تفسير الخازن (٢ / ٤٠١) ، وتفسير ابن جرير (٥ / ٢٤٦) ، وتفسير القرطبي (٧ / ١٨).

(٨) في ب : في وقت منه.

١٣٤

[المؤمنون : ٩١] ثم رآهم عبدوا الأصنام وسموها آلهة ، فتأمل فوجدها لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر ، علم أن مثلها لا يحتمل أن يكون يخلق ما ذكر ، وأن الذي ذلك فعله لعلي عظيم ، يجب طلب معرفته من العلو بما كان يسمع [نسبة](١) الملائكة إلى السماء ونزول الغيث منها ، ومجيء النور والظلمة وكل أنواع البركات وغيرها منها ، فصرف تدبير الطلب الذي نسب إليه الخلق إليها.

ثم أوّل ما أخذ في التأمل والنظر لم يقع بصره على أحسن وأبهى من الذي ذكر ، فظنه ذلك ، ثم لما قهر وقد كان علم بأن خالق من ذكر لا يجوز أن يقهر ، فمن ذلك علم أنه ليس هو وقال لمن قهر ، [و](٢) ذلك إلى أن قهر الليل ضوء الشمس ، وصار بحيث لا يجري (٣) له السلطان ، ورأى في الكل آثار التسخير والتذليل ، ولم ير فيها أعلام من [له](٤) الأمر والخلق ، فعلم أن الرب لا يدرك من ذلك (٥) الوجه ، ولا يعرف من جهة الحواس ، فرجع إلى ما سمع من أنه خلق السموات والأرض ، فوجه نفسه إليه بالعبودية ، واعترف له بالربوبية بما في الخلق من آثار ذلك ، وفي القول من تسمية من له الخلق ربا وإلها ، فآمن به ، وذلك كان أول أحوال احتماله علم الاستدلال وبلوغه المبلغ الذي من بلغه يجري عليه الخطاب ، ولا قوة إلا بالله.

ومنهم من قال (٦) : إنه كان بالغا قد جرى عليه القلم ، وقد كان رأى ما ذكر غير مرة ، لكن الله لما أراد أن يهديه ألهمه ذلك وألقاه في نفسه ، فانتبه انتباه الإنسان لشيء كان عنه غافلا من قبل ، فرأى كوكبا أحمر يطلع عند غروب الشمس ، فراعاه (٧) إلى أن أفل ، فأراد [إذن](٨) من الله قربة ، وعلم أن ربه لا يزول ولا يتغير ، ففزع إليه وقال : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) ؛ وكذا ذكر في القمر والشمس إلى أن عرف الله ، فتبرأ مما كانوا يشركون ، وتوجه (٩) بالتوحيد والعبادة إليه ؛ وإلى هذا التأويل ذهب الحسن.

الأول : روي عن ابن عباس رضي الله عنه.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : تجري.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : هذا.

(٦) ينظر تفسير الخازن (٢ / ٤٠٢).

(٧) في أ : فرآه.

(٨) سقط في أ.

(٩) في ب : ووجه.

١٣٥

والثاني : قال به جماعة أهل الكلام ، ونحن نتبرأ إلى الله أن نجعله رجلا بالغا جرى عليه القلم ، وهو كان ـ عن الله ـ بهذه الغفلة حتى يتوهمه في معنى نجم أو قمر أو شمس ، مع ما يرى فيها الظهور بعد أن لم يكن ، والأفول (١) بعد الوجود ، ثم آثار التسخير والعجز عن التدبير بما هو في جهد وبلاء ، ومن له يعمل في راحة وسرور ، ثم لا يرى في شيء من العالم أو له معنى يدل على رجوع التدبير إليه ، فيتحقق له القول بذلك ، والله يصفه بقوله : (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الصافات : ٨٤] قيل (٢) : سليم من الشرك لم يشبه بشيء ، وقال : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٨٣] وما يذكرونه إنما آتاه على نفسه إذ هو في الغفلة عنها ، والجهل بمن له الآيات شريك قومه ، وقد قال ـ أيضا ـ : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، ومعلوم أن ذلك على معاينته أو أنه قد أرى كلا منهما ، ولكن على ما بينت من الوجهين وفيهما حقيقة ذلك.

وليس في قوله : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) دلالة الشك في الابتداء ، أو الجهل في الحال التي يحتمل العلم به [فسمى به](٣) عزوجل ، ولكن على أنه على ذلك الوجه يكون الإيقان ممن لا يقع عليه الحواس ، ولا يوجب علمه الضرورات ، إنما هو الاستدلال بالآثار أو تلقى الأخبار ، ولا قوة إلا بالله (٤).

__________________

(١) في أ : الأقوال.

(٢) أخرجه ابن جرير (١٠ / ٤٩٩ ، ٥٠٠) (٢٩٤٣٢) عن قتادة و (٢٩٤٣٣) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٢٥) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة.

(٣) سقط في أ.

(٤) قال الحافظ ابن كثير : اختلف المفسرون في هذا المقام ، هل هو مقام نظر أو مناظرة؟ فروى ابن جرير من طريق على بن أبي طلحة عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر. واختاره ابن جرير مستدلا عليه بقوله : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي ...) الآية [الأنعام : ٧٧]. وقال محمد بن إسحاق : قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه ، حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان ، لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه ، فأمر بقتل الغلمان عامئذ. فلما حملت أم إبراهيم به ، وحان وضعها ، ذهبت إلى سرب ، ظاهر البلدة ، فولدت فيه إبراهيم ، وتركته هناك. وذكر أشياء من خوارق العادات ، كما ذكرها غيره من المفسرين.

ثم قال ابن كثير : والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظرا لقومه ، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام ، فبين في المقام الأول مع أبيه ، خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية التي هي على صورة الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم الذي هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه ، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته ، ليشفعوا لهم عنده في الرزق ، وغير ذلك مما يحتاجون إليه. وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل ، وهي الكواكب السيارة السبعة. وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم الشمس ثم القمر ثم الزهرة. فبين أولا صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية ، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين لا تزيغ عنه ، ولا تملك لنفسها تصرفا ، بل هي جرم من الأجرام ، خلقها الله ـ

١٣٦

وذلك كقوله : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [الرعد : ٢] لا عن وضع كان ، وقوله : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧] لا أن كانوا من قبل في الظلمات ، وقول يوسف ـ عليه‌السلام ـ : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [يوسف : ٣٧] لا عن كونه فيها ؛ وهكذا أمر الإيقان : أن يكون العبد في كل وقت موقنا بالله (١) ، وأن لا إله غيره ، لا عن شك فيما تقدمه من الوقت أو الجهل ، فمثله أمر إبراهيم ، عليه‌السلام.

والوجه الثاني ـ مما تكلم في التأويل (٢) : أن يكون إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كان مؤمنا في ذلك الوقت ، عارفا بربه حق المعرفة ، ولكنه كلم قومه كلام مستدرج بإظهار المتابعة لهم على هواهم ؛ فيكونون به أوثق وإليه أميل ، وذلك أبلغ في الحجاج وألطف في المكيدة ، فيبين لهم ما أراد من غير جهة النقض (٣) والعناد ، فبدأ بتعظيم ما عظموه ؛ إذ هم

__________________

ـ منيرة ؛ لما له في ذلك من الحكم العظيمة ، وهي تطلع من المشرق ، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب ، حتى تغيب عن الأبصار فيه ، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال. وهذه لا تصلح للإلهية. ثم بين في القمر ما بين في النجم ، ثم الشمس كذلك. فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار ، وتحقق ذلك بالدليل القاطع ، تبرأ من عبادتهن وموالاتهن ، وأخبر بأنه يعبد خالقهن ومسخرهن.

ثم قال ابن كثير : وكيف يجوز أن يكون ناظرا في هذا المقام ، وهو الذي قال الله في حقه (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ)[الأنبياء : ٥١ ـ ٥٢] وقال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)[النحل : ١٢٠ ـ ١٢١].

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : كل مولود يولد على الفطرة.

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قال الله تعالى : «إني خلقت عبادي حنفاء» ، وقال تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ)[الروم : ٣٠] وقال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى)[الأعراف : ١٧٢]. ومعناه على أحد القولين ، كقوله : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها). فإذا كان هذا في حق سائر الخليفة ، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله (أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[النحل : ١٢٠] ناظرا في هذا المقام؟ بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة ، والسجية المستقيمة ، بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بلا شك ولا ريب.

ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرا ، قوله تعالى : (وَحاجَّهُ ...)[الأنعام : ٨٠] الآية. انتهى.

وممن جود هذا المبحث الجليل ، وبين أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان مناظرا لقومه ، العلامة الشهرستاني في كتابه الملل والنحل. ينظر محاسن التأويل (٦ / ٥٩٣ ـ ٥٩٦).

(١) زاد في ب : ولله.

(٢) ينظر ما تقدم.

(٣) في ب : التنقص.

١٣٧

قوم كانوا يعظمون النجوم ، وبالعلم بأمرها أخبروا نمرود بولادة من يهلك على يده هو ويزول ملكه ، وهذا كما ذكر أنه نظر [نظرة](١) في النجوم في مقاييسها وعلمها ؛ لا أنه نظر إليها ، ثم قال الذي ذكر لا من حيث علم النجوم ، ولكن من حيث علمه أنه يموت ومن يمت يسقم ، لكن أراهم الموافقة في العلم الذي لهم في ذلك الباب دعوى ؛ فكذلك ما نحن فيه.

وعلى ذلك أمر الند الذي كان يعبده قوم عظّمه الحواريّ الذي أرسل إليهم ، حتى اطمأنوا إليه وصدروا (٢) عن تدبيره وبلوا بعد ، وكاد يحيط بهم ، فدعاهم إلى دعاء الند ليكشف لهم ؛ إذ لمثله يعبد حتى أيسوا ، فدعاهم إلى الله فكشف عنهم ، فآمنوا به ، فمثله الأول.

وإلى هذا التأويل يذهب القتبي ، لكنه ذكر أنهم كانوا أصحاب نجوم وكهانة (٣) ، ومن ذلك قوله لا يعبد النجم ولا يراه ربا فكيف أظهر الموافقة بتسمية النجم ربا ، ثم النقض عليه بالأفول؟!

ولكن ذلك لو كان فإنما كان في قوم يعبدون النجوم والشمس والقمر ، فألزمهم بالأفول ؛ إذ فيه تسخير وغلبة سلطان على سلطان ، وهذا الوجه يجوز أن يظهر على إضمار معنى في نفسه مستقيم : كالمكره على عبادة صليب يقصد قصد عبادة الله ونحوه ،

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : وصددوا.

(٣) الكهانة المراد منها مناسبة الأرواح البشرية مع الأرواح المجردة من الجن والشياطين ، والاستعلام بهم عن الأحوال الجزئية الحادثة في عالم الكون والفساد المخصوصة بالمستقبل وأكثر ما يكون في العرب.

وقد اشتهر فيهم كاهنان أحدهما شق والآخر سطيح وقصتهما مشهورة في السير.

وقيل كان وجود ذلك في العرب أحد أسباب معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان يخبر به ويحث على اتباعه ، كما يحكي منهم إخبار مجيء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ولادته المباركة وكونه نبي آخر الزمان وخاتم الأنبياء وفي هذا الباب حكايات غريبة لا يليق إيرادها فمن أراد الاطلاع عليها فعليه بكتب السير والتواريخ ولا سيما كتاب أعلام النبوة للماوردي ، لكنهم كانوا محرومين بعد بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام من الاطلاع على المغيبات ومحجوبين عنها بغلبة نور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ورد في بعض الروايات أنه لا كهانة بعد النبوة فلا يجوز الآن تصديق الكهنة والإصغاء إليهم بل هو من أمارات الكفر والمصدق يكون كافرا لقوله عليه الصلاة والسلام «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» قال الرازي أن الكهانة على قسمين :

قسم يكون من خواص بعض النفوس فهو ليس بمكتسب.

وقسم يكون بالعزائم ودعوة الكواكب والاشتغال بهما فبعض طرقه مذكورة فيه ، وأن السلوك في هذا الطريق محرم في شريعتنا فعلى ذلك وجب الاحتراز عن تحصيله واكتسابه ، والقسم الأول داخل في علم العرافة وهو محرم .. ينظر أبجد العلوم (٢ / ٤٥٣ ـ ٤٥٤).

١٣٨

والمكره على شتم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقصد قصد محمد آخر يصوره في وهمه ونحو ذلك ، فهو على ما قال : (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) [الأنبياء : ٦٣] على جعل (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) شرطا في نفسه في قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) ، والله أعلم.

وقيل (١) في الاستدراج من غير هذا الوجه ، على التسليم أنهم أهل كهانة ونجوم ، وهو أنه لما رآهم يعبدون الأصنام والأوثان ، دعاهم من طريق المقابلة ؛ إذ هم مالوا إلى ذلك بما رأوا من حسن ذلك في البصر ، بما قد زين بأنواع الزينة وحلي بأنواع الحلي ، فأراهم أنه يعبد النجم وما ذكر ، وأن الذي ذكر أحسن وأعظم نورا وضياء ؛ إذ هو بجوهره ونفسه كذلك ، وما كانوا يعبدون بما فعلوا به وجعلوه كذلك ؛ ليكره إليهم عبادتهم الأصنام ، ويستنقذهم عما اعتادوه بالمعنى الذي ذكرت ، ثم ألزمهم فساد ما مالوا إليه وقبلوا منه ، قبل أن يقر ذلك في قلوبهم وتطمئن إلى ذلك أنفسهم ، بما أظهر من فساد أن يكون الذي بذلك الوصف من التسخير أو ملكه على شرف الزوال ، أو يصير بحيث يقر في قلوبهم عبادة من لا يشهدونه وقت العبادة ؛ فيلزمهم على ذلك عبادة المستحق لها.

أو أن يقول : إذا كانت النجوم وما ذكر مع ضيائها ونورها وكثرة منافع الخلق بها لم تصلح لها الألوهية عند الجميع بالأفول والتسخير ، فالذي كانوا يعبدون على ما سخرهم كانوا تحت البشر أذلاء ، لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع أحق ألا يكون له الربوبية ، وألا توجه (٢) إليه العبودية ، والله أعلم.

فهذا النوع من الاستدراج فيما لو ظهر أنهم لم يكونوا يتخذون النجوم أربابا يعبدونها ؛ وكذلك الذي ذكره القتبي.

والتأويل الثالث (٣) للآية يخرج مخرج الإنكار والاستهزاء ، ويكون في ذلك معنى الاستدراج ؛ إذ هو الإلزام من حيث لا يشعر به ، أو نقض أسباب الشبه درجة فدرجة في حلول المقت ولزوم المقصود بتعاطي ذلك الابتداء بالكشف عن الأسباب.

ثم قيل في هذا بأوجه :

أحدها : أنهم كانوا يعبدون النجوم وما ذكر ، ويدعون إلى ذلك الأولاد والصبيان ـ وإبراهيم منهم ـ فيما كانوا يدعونه إليه ، فقال لما رأى النجم : هذا الذي تعبدون ربي ،

__________________

(١) ينظر تفسير الخازن (٢ / ٤٠٢).

(٢) في أ : يوجب.

(٣) ينظر تفسير الخازن (٢ / ٤٠٢).

١٣٩

أي : إلى عبادته تدعونني ، أي : هذا ربي الذي تدعونني (١) إلى عبادته ، فلما رآه طالعا سائحا (٢) غائبا ثبت عنده أنه سخر ، فقال : لا أحب عبادته ، لكن ذا قد يكون في خاص نفسه متفكرا في الذي دعوه إليه ؛ ليعرف دفع قولهم من الوجه الذي يقر ذلك في القلوب إذا قابلهم به.

وقد يكون في ملأ منهم يظهر لهم قوله : (هذا رَبِّي) على إضمار : تدعونني إليه ؛ ليلزمهم بما بان له فساد الربوبية ، فيكون استدراجا أيضا ؛ لأنه ألزمهم بعد ظهور الوفاق منه لهم.

وقد يكون ذكر هذا الذي تدعونني إليه أنه ربي سرا ، ويهزأ بهم بإظهار الموافقة ، يبين لهم ذلك بما ألزمهم أن الابتداء لم يكن على المساعدة ؛ إذ ذلك [المعنى](٣) الذي به ألزم كان ظاهرا عنده في الابتداء وعندهم جميعا.

والثاني : أن يكون قوله : (هذا رَبِّي) على ما يقال : هذا فلان الذي تخبرونني عنه ، بمعنى : أهذا هو؟! على إنكار أنه ليس بالمحل الذي أخبرتموني عنه ، أو على الاستفهام ليقرره عنده.

وأي الوجهين كان فقد هزئ بهم ، وظهر في المتعقب أن الأول كان على الهزء بهم والإنكار ، أو الاستفهام ؛ وذلك كقوله : (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) [الرعد : ١٦] على أنهم لم يخلقوا كخلقه ، يوضح قوله : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) في الأول : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ).

ويجوز أن يكون هذا أضمر (٤) في قوله : (هذا رَبِّي) ، أي : رب هذا ربي (٥) إلى آخر ما ذكر ، ثم رجع إليه [عند التقرير](٦) عندهم أنه لا يليق بالربوبية الذي ظنوا أنه ساعدهم عليه.

ثم قد بينا الدليل على أنه لم يكن كافرا في ذلك الوقت مع ما قد ثبت من عصمة الرسل عن الكبائر ، فكيف يبلون بالكفر والله يقول : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] وكل متمكن فيه الكفر شريك أمثاله ، فلا وجه لتخصيص الأهل.

ثم جملة ذلك أن الله تعالى لو أراد أن يبين حقيقة الحال ، أو كانت بنا إلى معرفة

__________________

(١) في أ : يدعونني.

(٢) في ب : سابحا.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : يضم.

(٥) في ب : قولي.

(٦) سقط في أ.

١٤٠