تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

كان ظاهرا لم يكن باطنا ؛ ليعلم أنه أول وآخر وظاهر وباطن ، لا من الوجه الذي يعرف ويفهم من الخلق ؛ ولكن مما وصف نفسه.

قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٠٨)

قوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ).

قيل (١) : بينات من ربكم.

وقيل البصائر الهدى ، بصائر في قلوبهم ، وليست ببصائر الرءوس وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (٢).

وقيل (٣) : بصائر ، أي : بيان ، وهو واحد.

وقيل : بصائر شواهد ، أي قد جاءكم من الله شواهد تدلكم على ألوهيته ، وهو كقوله

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٩٩) (١٣٧٠٧).

(٢) عبد الرحمن بن زيد بن أسلم القرشي ، العدوي ، المدني ، مولى عمر بن الخطاب ، أخو عبد الله بن زيد بن أسلم ، وأسامة بن زيد بن أسلم. روى عن : أبيه زيد بن أسلم ، وأبي حازم سلمة بن دينار ، وصفوان بن سليم ، ومحمد بن المنكدر.

روى عنه : إبراهيم بن يزيد الأذرمي ، وأبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري ، وإسحاق بن إدريس ، وإسحاق بن عيسى بن الطباع ، وإسماعيل بن أبي أويس ، وإسماعيل بن زكريا الخلقاني ، وإسماعيل بن زكريا الكوفي ، وأصبغ بن الفرج المصري ، وبشر بن الحارث الحافي ، وخلق كثير.

قال البخاري ، وأبو حاتم : ضعفه علي بن المديني جدا.

وقال أبو داود : أولاد زيد بن أسلم : كلهم ضعيف ، وأمثلهم عبد الله.

وقال النسائي : ضعيف.

وقال أبو زرعة : ضعيف.

وقال أبو حاتم : ليس بقوي في الحديث ، كان في نفسه صالحا ، وفي الحديث واهيا.

وقال أبو أحمد بن عدي : له أحاديث حسان. وهو ممن احتمله الناس ، وصدقه بعضهم. وهو ممن يكتب حديثه.

قال البخاري : قال لي إبراهيم بن حمزة : مات سنة ثنتين وثمانين ومائة.

تنظر ترجمته في تهذيب الكمال (١٧ / ١١٥) والتاريخ الكبير للبخاري (٥ / ترجمة ٩٢٢) والجرح والتعديل (٥ / ترجمة ١١٠٧) ، والضعفاء والمتروكين للنسائي (٣٦٠).

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٩٩) (١٣٧٠٨) عن قتادة وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٧٠) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٢٠١

تعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) [القيامة : ١٤] ، أي : بل الإنسان من نفسه بصيرة ، أي : شاهدة ؛ فشهدت كل جارحة منهم على وحدانية الله وألوهيته.

ألا ترى أنه قال : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النور : ٢٤] ؛ هذا ـ والله أعلم ـ لأنهم كانوا يقلدون آباءهم في عبادة الأوثان والأصنام ، ويقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ؛ فيقول : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) من الآيات والرسل ما لو اتبعتموهم ، لكانوا لكم شفعاء عند الله.

والثاني : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ) : ما لو تفكروا وتدبروا ونظروا فيها ، لعرفوا أنها بصائر من الله ؛ لأن البشر أنشئوا بحيث ينظرون في العجيب من الأشياء ؛ فكانوا على أمرين : منهم من نظر وتفكر وعرف أنها بصائر ، لكنه عاند وكابر ولم يعمل بها ، ومنهم من ترك النظر فيها ؛ فعمي عنها ، ما لو تفكروا ونظروا لتبين لهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها).

أي : أبصر الحق والهدى وعمل به ، فلنفسه عمل ، ومن أبصر وعمي عنها ـ أي : ترك العمل ـ فعليها ترك ؛ كقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت : ٤٦].

فإن قيل : ذكر في آية أخرى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال : ٤٢] ، أخبر أن من هلك هلك عن بينة ، ومن حي حي عن بينة ، وهاهنا يقول : (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) : ذكر عمي عليها ؛ فكيف وجه التوفيق [بينهما](١)؟!

قيل : يحتمل قوله : (عَمِيَ) بعد ما تبين له ، فترك العمل به ؛ فعليها ذلك ؛ لأنه أبصرها ، وعرف أنها من الله ، لكنه عاندها وكابرها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ).

أي : قد جاءكم بصائر من ربكم ، فليس علينا إلا التبليغ ؛ كقوله : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) [المائدة : ٩٩].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ).

أي : نردّها (٢) في الوجوه التي تتبين لقوم يطلبون البيان.

أو نقول (نُصَرِّفُ الْآياتِ) ، أي : نضع كل آية ونصرفها إلى الوجوه التي تكون بالخلق

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : نرددها.

٢٠٢

إليها حاجة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ).

فيه لغات (١) : درست ، ودارست. ودرست : قرأت ، ودارست : تعلمت.

وقيل (٢) : دارست أهل الكتاب : جادلتهم ، ودرست بالجزم ، [قيل : تعاونت](٣) فهذا

__________________

(١) وأما القراءات التي في (دَرَسْتَ) [الأنعام : ١٠٥] فثلاث في المتواتر : فقرأ ابن عامر : دَرَسْتَ بزنة : ضربت ، وابن كثير وأبو عمرو (دارست) بزنة : قابلت أنت ، والباقون دَرَسْتَ بزنة ضربت أنت.

فأما قراءة ابن عامر : فمعناها بليت وقدمت ، وتكررت على الأسماع ، يشيرون إلى أنها من أحاديث الأولين ، كما قالوا : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)[الأنفال : ٣١].

وأما قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو : فمعناها : دارست يا محمد غيرك من أهل الأخبار الماضية ، والقرون الخالية حتى حفظتها فقلتها ، كما حكى عنهم فقال : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ)[النحل : ١٠٣].

وفي التفسير : أنهم كانوا يقولون : هو يدارس سلمان وعداسا.

وأما قراءة الباقين : فمعناها : حفظت وأتقنت بالدرس أخبار الأولين ، كما حكى عنهم (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)[الفرقان : ٥] أي : تكرر عليها بالدرس يحفظها.

وقرئ (دَرَسْتَ) فعلا ماضيا مشددا مبنيا للفاعل المخاطب ، فيحتمل أن يكون للتكثير ، أي : درست الكتب الكثير ك «ذبحت الغنم» ، و «قطعت الأثواب» وأن تكون للتعدية ، والمفعولان محذوفان ، أي : درست غيرك الكتاب ، وليس بظاهر ، إذ التفسير على خلافه.

وقرئ (دَرَسْتَ) كالذي قبله إلا أنه مبني للمفعول ، أي : درسك غيرك الكتب ، فالتضعيف للتعدية لا غير.

وقرئ «دورست» مسندا لتاء المخاطب من «دارس» ك «قاتل» إلا أنه بني للمفعول ، فقلبت ألفه الزائدة واوا ، والمعنى : دارسك غيرك.

وقرئ «دارست» بتاء ساكنة للتأنيث لحقت آخر الفعل.

وقرئ «درست» بفتح الدال ، وضم الراء مسندا إلى ضمير الإناث ، وهو مبالغة في «درست» بمعنى : بليت وقدمت وانمحت ، أي : اشتد دروسها وبلاها.

وقرأ أبيّ «درس» وفاعله ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو ضمير الكتاب بمعنى قرأه النبي ، وتلاه ، وكرر عليه ، أو بمعنى بلى الكتاب وامحى ، وهكذا في مصحف عبد الله «درس».

وقرأ الحسن في رواية «درسن» فعلا ماضيا مسندا لنون الإناث هي ضمير الآيات ، وكذا هي في بعض مصاحف ابن مسعود.

وقرئ «درسن» كالذي قبله إلا أنه بالتشديد بمعنى اشتد دروسها وبلاها ، كما تقدم.

وقرئ «دراسات» جمع «دراسة» بمعنى : قديمات ، أو بمعنى ذات دروس ، نحو : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ)[الحاقة : ٢١] و (ماءٍ دافِقٍ)[الطارق : ٦] وارتفاعها على خبر ابتداء مضمر ، أي : هن دراسات ، والجملة في محل نصب بالقول قبلها. ينظر اللباب (٨ / ٣٥٧ ـ ٣٥٩).

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٠١ ، ٣٠٢) (١٣٧١٨ ، ١٣٧٢٣ ، ١٣٧٢٤) عن ابن عباس ، وبمعناه عن مجاهد (١٣٧٢٨ ، ١٣٧٢٩ ، ١٣٧٣١) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٧٠) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس ولابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٣) سقط في أ.

٢٠٣

الاختلاف فيه ؛ لاختلاف قول (١) كان من الكفرة لرسول الله ؛ منهم من يقول : [(إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل : ١٠٣] فهو تأويل دارست ، ومنهم من يقول : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥] فهو تأويل قوله : درست ، ومنهم من يقول](٢) : (ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) [سبأ : ٤٣] ، وهو تأويل درست ؛ فعلى اختلاف أقاويلهم خرجت القراءة.

ثم اختلف في تأويل قوله ـ تعالى ـ : (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) [قال بعضهم : لئلا يقولوا درست](٣) فهو صلة قوله : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) [لئلا](٤) ؛ يقولوا : درست.

وقال الحسن قوله : (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) ، أي : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) ؛ ليقولوا درست ؛ لأن من قوله : إنه بعث الرسل ، وأنزل الكتب ؛ ليكون من الكافر قول كفر ، ومن المؤمن قول إيمان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ).

يخرج ـ والله أعلم ـ على [معنى](٥) التعجب : يعجب أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قبح صنيع الكفرة وسوء معاملتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد جاءهم بصائر من ربهم وبينات وحجج ، ثم هم بعد هذا كله يستقبلونه بالرد والتكذيب.

وهو على ما قلنا : إن الله ذكر نعمه عليهم بما أنشأ لهم : من الأنعام ، والجنات المعروشات ، والزرع ، والنخيل ، وما أخبر عنه ، وقد علموا ذلك كله ، ثم جعلوا له بعد معرفتهم هذا (شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام : ١٠٠] ، ولا بينة ؛ فهو على التعجب أنهم كيف جعلوا له شركاء ، وقد علموا أن الذي جعل هذا كله لهم هو الله؟! فعلى ذلك هذه الآية أنهم كيف قذفوه بالدراسة ، وقد تبين لهم صدقه ، وأنه من عند الله بالآيات والدلائل (٦) ، وبما كان لا يخط (٧) كتابا ، ولا شهدوه يختلف إلى من عنده علم ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

__________________

(١) زاد في ب : من.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : في الدلائل.

(٧) في أ : يحفظ.

٢٠٤

أي : لنبينه يعني القرآن ، وقيل (١) البصائر التي ذكر لقوم ينتفعون بعلمهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ).

فإن قيل : ما معنى قوله : (مِنْ رَبِّكَ) ، وإنما أوحي إليه من ربّه ، ويكفي قوله : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ)؟!

ولكن معناه على الإضمار ـ والله أعلم ـ كأنه قال للذي أوحي إليه على يديه : قل (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) ، ثم أمر نبيه باتباع ما أوحي إليه من ربه ، أي : اعمل بما أوحى إليك.

ثم الأمر بالعمل يحتمل وجهين :

يحتمل : الأمر بالاعتقاد بذلك.

ويحتمل : نفس العمل ، أي : اعمل.

ويشبه أن يكون الأمر بالاتباع ما أوحى إليه صدقا في الخبر وعدلا في الحكم ؛ كقوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام : ١١٥].

قيل (٢) : صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأحكام ؛ فعلى ذلك أمكن أن يكون الأمر بالاتباع اتباع ما أوحي إليه صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأحكام ، ثم على ما أمر نبيه باتباع ما أوحي إليه وأنزل من ربه أمر أمته كذلك ، وهو قوله : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) [الأعراف : ٣] أمرهم باتباع ما أنزل إليهم من ربهم ، ونهاهم عن اتباع من (٣) اتخذوا من دونه أولياء ؛ فعلى ما نهاهم عن اتخاذ أولياء دونه قال في الآية التي أمر رسوله باتباع ما أوحي إليه من ربه ؛ فقال : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وقوله : (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) [الأعراف : ٣] واحد ؛ لأنه أمر باتباع ما أوحى إليه من ربه ، ونهى أن يتبع دونه أولياء ؛ لأنه أخبر أن لا إله إلا هو.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ).

يحتمل : أمره بالإعراض عن المشركين وجوها :

__________________

(١) قال الخازن والبغوي في تفسيرهما (٢ / ٤٢٥) : وكذلك نصرف الآيات ليسعد بها قوم ويشقى بها آخرون.

(٢) سيأتي.

(٣) في أ : ما.

٢٠٥

يحتمل ألا تكافئهم على أذاهم ؛ ولكن اصبر ، ويحتمل الأمر بالإعراض عنهم : النهي عن قتالهم ؛ كأنه نهى عن قتالهم في وقت.

ويحتمل أن تكون الآية في قوم خاصة ، قال : أعرض عنهم ؛ فإنهم لا يؤمنون ، ولا تقم عليهم الآيات والحجج ؛ لما علم منهم أنهم لا يؤمنون ، ثم على ما أمر نبيه بالإعراض عنهم أمر المؤمنين ـ أيضا ـ بالإعراض عنهم ، وهو قوله : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) [القصص : ٥٥].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا).

قالت المعتزلة : المشيئة هاهنا مشيئة قهر وجبر ، أي : لو شاء الله لأعجزهم ومنعهم عن الشرك على دفع الابتلاء والامتحان.

وأما عندنا : المشيئة : مشيئة اختيار ، والطوع على قيام الابتلاء والامتحان ، وبعد : فإن مشيئة الجبر هي خلقه ، وقد كانوا جميعا غير مشركين بالخلقة ؛ فلا معنى لتأويلهم الذي تأولوا في المشيئة.

ثم لا يحتمل أن يكون قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) مشيئة قهر وجبر ؛ لأنه لا يكون في حال الجبر والقهر إيمان ولا كفر ؛ إنما يكون ذلك في حال الاختيار والطوع ؛ لأن الجبر والقهر يمنع من أن يكون له فعل حقيقة ؛ بل يتحول الفعل عنه (١) ويسقط ، ويثبت للذي جبر وقهر ؛ وذلك بعيد ؛ فدل أنه ما ذكرنا ، وبالله الرشاد.

وفي قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) دلالة أن طريق الإسلام الإفضال والإنعام ، ولله أن يخص به من كان أهلا للإفضال والإنعام باللطائف التي عنده ، ويحرم [بعضا](٢) ذلك ، وله أن يجعل بعضهم أهلا لذلك ؛ إفضالا منه ، ولا يجعل البعض (٣) ؛ عدلا منه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ).

أي : لم يؤخذ عليك حفظ أعمالهم ، أو لا تسأل أنت عن صنيعهم ؛ إنما عليك التبليغ ، وهو كقوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٥٢] ، [و](٤) كقوله ـ تعالى ـ : (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) [النور : ٥٤] ، ونحوه.

__________________

(١) في أ : منه.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : لبعض.

(٤) سقط في أ.

٢٠٦

وقيل : الحفيظ والوكيل : واحد ، وقيل : الوكيل هو الكفيل ، وقد ذكرناه في غير موضع فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ).

نهانا الله ـ عزوجل ـ عن سبّ من يستحق السبّ ؛ مخافة سبّ من لا يستحق [السبّ](١).

فإن قيل : كيف نهانا عن سب من يستحق السب ؛ مخافة سبّ من لا يستحق ، وقد أمرنا بقتالهم ، وإذا قاتلناهم قاتلونا ، [وقتل](٢) المؤمن بغير حق من المناكير ، وكذلك أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتبليغ الرسالة والتلاوة عليهم ، وإن كانوا يستقبلونه بالتكذيب؟!

قيل : إن السبّ لأولئك [مباح](٣) غير مفروض ، والقتال معهم فرض ، وكذلك التبليغ فرض يبلغ إليهم ، وإن كانوا ينكرون ما يبلغهم ، وكذلك القتال نقاتلهم (٤) ، وإن كان في ذلك إهلاك أنفسنا وأصله أن ما خرج الأمر به (٥) مخرج الإباحة فإنه ينهى عما يتولد منه ويحدث ، وما كان الأمر به أمر فرض ولزوم لا ينهى عن المتولد منه والحادث.

ويجوز أن يستدل بهذا على تأييد مذهب أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ في قوله : إن [من](٦) قطع يد آخر بقصاص فمات في (٧) ذلك أخذ بالدية (٨) ، وإذا قطع اليد بحدّ لزمه

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : وقيل : سب.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : يقاتلهم.

(٥) زاد في ب : يخرج.

(٦) سقط في أ.

(٧) في ب : من.

(٨) الدية في اللغة مصدر ودي القاتل القتيل يديه دية إذا أعطى وليه المال الذي هو بدل النفس ، وأصلها ودية ، فهي محذوفة الفاء كعدة من الوعد وزنة من الوزن وكذلك هبة من الوهب. والهاء في الأصل بدل من فاء الكلمة التي هي الواو ، ثم سمي ذلك المال (دية) تسمية بالمصدر.

وفي الاصطلاح عرفها بعض الحنفية بأنها اسم للمال الذي هو بدل النفس.

ومثله ما ذكر في كتب المالكية حيث قالوا في تعريفها : هي مال يجب بقتل آدمي حر عوضا عن دمه.

لكن قال في تكملة الفتح : الأظهر في تفسير الدية ما ذكره صاحب الغاية آخرا من أن الدية : اسم لضمان (مقدر) يجب بمقابلة الآدمي أو طرف منه ، سمي بذلك لأنها تؤدى عادة وقلما يجري فيها العفو لعظم حرمة الآدمي.

وهذا ما يؤيده العدوي من فقهاء المالكية حيث قال بعد تعريف الدية : إن ما وجب في قطع اليد مثلا يقال له دية حقيقة ؛ إذ قد وقع التعبير به في كلامهم. ـ

٢٠٧

فمات ، لم يؤخذ (١) بها ؛ لأنه أبيح له قطع يده ، والقصاص لم يفرض عليه ، وفي الحدّ ، تلزم (٢) إقامة الحد لله ، فإذا كان قيامه بفعل أبيح له الفعل ، ينهى عما يتولد (٣) منه ، ويؤخذ (٤) به ، وإذا كان قيامه بفعل فرض عليه ، لم يؤخذ بما تولد منه ؛ وعلى هذا يخرج قوله في الأمر بالختان (٥) إذا تولد من ذلك الموت ؛ لأنه أمر بإقامة السنة ، وكذلك الأمر

__________________

ـ أما الشافعية والحنابلة فعمموا تعريف الدية ليشمل ما يجب في الجناية على النفس وعلى ما دون النفس. قال الشافعية : (هي المال الواجب بالجناية على الحر في نفس أو فيما دونها).

وقال الحنابلة : (إنها المال المؤدى إلى مجني عليه ، أو وليه ، أو وارثه بسبب جناية).

وتسمي الدية عقلا أيضا ، وذلك لوجهين ؛ أحدهما : أنها تعقل الدماء أن تراق ، والثاني : أن الدية كانت إذا وجبت وأخذت من الإبل تجمع فتعقل ، ثم تساق إلى ولي الدم. ينظر المصباح المنير (ودي) والمغرب (ودي) ، واللباب شرح الكتاب (٣ / ٤٤) ، وتكملة فتح القدير (٩ / ٢٠٤ ، ٢٠٥) ، وكفاية الطالب (٢ / ٢٣٧ ، ٢٣٨) والاختيار (٥ / ٣٥) ، وكفاية الطالب مع حاشية العدوي (٣ / ٢٣٧ ، ٢٣٨) ، ونهاية المحتاج (٧ / ٢٩٨) ، ومغني المحتاج (٤ / ٥٣) ، ومطالب أولي النهى (٦ / ٧٥) ، وكشاف القناع (٦ / ٥).

(١) في ب : لم يؤاخذ.

(٢) في ب : يلزم.

(٣) في ب : تولد.

(٤) في ب : ويحدث.

(٥) الختان والختانة لغة الاسم من الختن ، وهو قطع القلفة من الذكر ، والنواة من الأنثى ، كما يطلق الختان على موضع القطع.

يقال ختن الغلام والجارية يختنهما ويختنهما ختنا.

ويقال غلام مختون وجارية مختونة وغلامة وجارية ختين ، كما يطلق عليه الخفض والإعذار ، وخص بعضهم الختن بالذكر ، والخفض بالأنثى ، والإعذار مشترك بينهما.

والعذرة : الختان ، وهي كذلك الجلدة يقطعها الخاتن. وعذر الغلام والجارية يعذرهما ، عذرا وأعذرهما ختنهما.

والعذار والإعذار والعذيرة والعذير طعام الختان.

ولا يخرج استعمال الفقهاء للمصطلح عن معناه اللغوي.

وقد ذهب الحنفية والمالكية وهو وجه شاذ عند الشافعية ، ورواية عن أحمد : إلى أن الختان سنة في حق الرجال وليس بواجب وهو من الفطرة ومن شعائر الإسلام ، فلو اجتمع أهل بلدة على تركه حاربهم الإمام ، كما لو تركوا الأذان.

وهو مندوب في حق المرأة عند المالكية ، وعند الحنفية والحنابلة في رواية يعتبر ختانها مكرمة وليس بسنة ، وفي قول عند الحنفية : إنه سنة في حقهن كذلك ، وفي ثالث : إنه مستحب.

واستدلوا للسنية بحديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : «الختان سنة للرجال مكرمة للنساء» وبحديث أبي هريرة مرفوعا «خمس من الفطرة : الختان ، والاستحداد ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، وقص الشارب».

وقد قرن الختان في الحديث بقص الشارب وغيره وليس ذلك واجبا.

ومما يدل على عدم الوجوب كذلك أن الختان قطع جزء من الجسد ابتداء فلم يكن واجبا بالشرع قياسا على قص الأظفار.

ذهب الشافعية والحنابلة ، وهو مقتضى قول سحنون من المالكية : إلى أن الختان واجب على ـ

٢٠٨

بالحجامة (١) ؛ لأنه يفرض عليه الحجامة (٢) في حال إذا خاف عليه الهلاك ؛ إذا لم يحتجم وأما الأمر بالدق وغيره مما يشاكله : فهو ـ أمر إباحة ، لا أمر إلزام ؛ لذلك ضمن ما تولد منه ؛ فعلى ذلك السبّ الذي يسب آلهتهم إذا حملهم ذلك على سبّ الله ـ عزوجل ـ وسبّ رسوله لا يسبون ، وإن كانوا مستحقين لذلك ؛ لأنه قد ينهى الرجل أن يعود نفسه السبّ ؛ فعلى ذلك يجوز أن ينهوا عن سبّ آلهتهم ؛ مخافة الاعتياد لذلك نهوا عن سبّ آلهتهم.

__________________

ـ الرجال والنساء.

واستدلوا للوجوب بقوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً)[النحل : ١٢٣] وقد جاء في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اختتن إبراهيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم» وأمرنا باتباع إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أمر لنا بفعل تلك الأمور التي كان يفعلها فكانت من شرعنا.

وورد في الحديث كذلك : «ألق عنك شعر الكفر واختتن» قالوا : ولأن الختان لو لم يكن واجبا لما جاز كشف العورة من أجله ، ولما جاز نظر الخاتن إليها وكلاهما حرام ، ومن أدلة الوجوب كذلك أن الختان من شعار المسلمين فكان واجبا كسائر شعارهم.

وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا التقى الختانان وجب الغسل» دليل على أن النساء كن يختتن ، ولأن هناك فضلة فوجب إزالتها كالرجل. ومن الأدلة على الوجوب أن بقاء القلفة يحبس النجاسة ويمنع صحة الصلاة فتجب إزالتها.

وهذا القول نص عليه ابن قدامة في المغني ، وهو أن الختان واجب على الرجال ، ومكرمة في حق النساء وليس بواجب عليهن.

ينظر حاشية ابن عابدين (٥ / ٤٧٩) ، والاختيار (٤ / ١٦٧) ، والشرح الصغير (٢ / ١٥١) ، والمجموع (١ / ٣٠٠) ، والإنصاف (١ / ١٢٤).

(١) الحجامة : مأخوذة من الحجم أي المص. يقال : حجم الصبي ثدي أمه إذا مصه.

والحجام المصاص ، والحجامة صناعته والمحجم يطلق على الآلة التي يجمع فيها الدم وعلى مشرط الحجام فعن ابن عباس : «الشفاء في ثلاث شربة عسل وشرطة محجم وكية نار».

والحجامة في كلام الفقهاء قيدت عند البعض بإخراج الدم من القفا بواسطة المص بعد الشرط بالمحجم لا بالفصد. وذكر الزرقاني أن الحجامة لا تختص بالقفا بل تكون من سائر البدن. وإلى هذا ذهب الخطابي.

(٢) التداوي بالحجامة مندوب إليه ، وورد في ذلك عدة أحاديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها قوله : «خير ما تداويتم به الحجامة» ومنها قوله : «خير الدواء الحجامة».

ومنها ما رواه الشيخان : «إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو لذعة بنار توافق الداء ، وما أحب أن أكتوي».

والحجام لا يضمن إذا فعل ما أمر به وتوفر شرطان :

أ ـ أن يكون قد بلغ مستوى في حذق صناعته يمكنه من مباشرتها بنجاح.

ب ـ ألا يتجاوز ما ينبغي أن يفعل في مثله.

ينظر لسان العرب مادة : (حجم) ، وإكمال الإكمال (٤ / ٢٦٥) ، الزرقاني على الموطأ (٢ / ١٨٧) ، وفتح الباري (١٢ / ٢٤٤) ، لسان العرب ، وتاج العروس مادة : (فصد) ، الطب النبوي (ص ٥٥) ، الترغيب والترهيب (٦ / ١١٤) وما بعدها.

٢٠٩

ثم ذكر في القصّة (١) أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يسبون آلهتهم فيسبون الله ؛ عدوا بغير علم ، وذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر آلهتهم بسوء ؛ فقالوا : لتنتهين عن ذلك أو لنهجون ربك.

وعن ابن عباس (٢) ـ رضي الله عنه ـ وذلك حين قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] الآية ، فقالوا عند ذلك ما قالوا ؛ فنزل : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ) ، ولكن لا ندري كيف كانت القصة ، ولكن فيه ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ).

قال الكيساني وأبو عوسجة (٣) : (عَدْواً) : من الاعتداء ، وهو مجاوزة الحد.

وقال أبو عمرو (٤) : (عدو) : بالرفع (٥) ، وقال : إنما العدو من عدو الرجلين ؛ وكذلك قال في يونس : (عَدْواً) [يونس : ٩٠].

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٠٤) (١٣٧٤٣) (١٣٧٤٥) عن قتادة بنحوه ، (١٣٧٤٤) عن السدي ، و (١٣٧٤٦) عن ابن زيد وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٧١ ـ ٧٢) وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي ولعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة.

(٢) ذكره أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٢٠١) ، والخازن والبغوي في تفسيرهما (٢ / ٤٢٦) وأخرجه ابن جرير (٥ / ٣٠٤) (١٣٧٤٢) عن ابن عباس بنحوه وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٧١) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٣) قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (١ / ٢٠٣) : عدوا أي : اعتداء.

(٤) وهو أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العريان ، وقيل ابن العلاء بن عمار بن عبد الله بن الحسين بن الحارث بن جلهمة بن خزاعي بن مالك ، ابن عمرو بن تميم التميمي ، ثم المازني. وعن الأصمعي رواية قال اسمه زبان.

وقيل إنه قرأ على أبي العالية الرياحي ، ولم يصح مع أنه أدركه ، وأدرك من حياته نيفا وعشرين سنة ، وقيل إنه عرض بالمدينة على أبي جعفر ويزيد بن رومان ، وشيبة.

وعرض بالبصرة على يحيى بن يعمر ، ونصر بن عاصم ، والحسن وغيرهم وحدث عن أنس بن مالك وعطاء بن أبي رباح ، ونافع وأبي صالح السمان ، قرأ عليه خلق كثير.

وأخذ عنه القراءة والحديث والآداب أبو عبيدة ، والأصمعي وشبابة ، ويعلى بن عبيد والعباس ابن الفضل ومعاذ بن معاذ ، وسلام أبو المنذر بن نصر الجهضمي ، ومحبوب بن الحسن ومعاذ بن مسلم النحوي ، وهارون بن موسى ، وعبيد بن عقيل.

ولد بمكة سنة ثماني وستين ، ونشأ بالبصرة ، ومات بالكوفة ، وإليه انتهت الإمامة في القراءة بالبصرة. توفي أبو عمرو سنة أربع وخمسين ومائة.

ينظر : تهذيب الكمال (٣٤ / ١٢٠) ، ومعرفة القراء الكبار (١ / الترجمة ٣٩).

(٥) وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، ويعقوب ، وقتادة ، وسلام ، وعبد الله بن زيد : (عدوّا) بضم العين والدال ، وتشديد الواو ، وهو مصدر أيضا ل (عدا) وقرأ ابن كثير في رواية ـ وهي قراءة أهل مكة المشرفة فيما نقله النحاس : «عدوا» بفتح العين ، وضم الدال ، وتشديد الواو ، بمعنى : أعداء ، ونصبه على الحال المؤكدة ، و «عدوا» يجوز أن يقع خبرا عن الجمع ، قال ـ تعالى ـ : (هُمُ الْعَدُوُّ) [المنافقون : ٤] ، وقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) [النساء : ١٠١] ، ويقال : عدا ـ

٢١٠

وقيل (١) : فلما نزل قوله : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا) الآية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [لأصحابه](٢) : «لا تسبوا ربكم فأمسكوا عن سبّ آلهتهم».

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ).

قال أبو بكر الكيساني : إن صلة قوله : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) أنهم كانوا يعبدون هذه الأصنام والأوثان ؛ رجاء أن تقرب عبادتهم إياها إلى الله ؛ لا أنهم (٣) كانوا يعبدونها ويتخذونها آلهة دون الله ؛ فإذا سبّوا معبودهم فكأنهم سبوا الله عدوا بغير علم ؛ إذ العبادة في الحقيقة لله ، فيرجع سبّهم إياها إلى الله ؛ لذلك كان معنى السبّ فقال ؛ فعلى ذلك رجع قوله : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) ؛ حتى امتنعوا عن سبّ [الله](٤) ، فذلك الذي زين عليهم.

وقال الحسن (٥) : قوله : (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) ، أي : زينا عليهم أعمالهم فيما أمروا به ، وفرض ويجب عليهم أن يفعلوا ، لا فيما لا يفرض ولا يحل لهم أن يفعلوا.

وكذلك يقول جعفر بن حرب (٦) والكعبي (٧) وغيرهما من المعتزلة : إنه زين عليهم

__________________

ـ يعدو عدوا ، وعدوا ، وعدوانا وعداء. ينظر اللباب (٨ / ٣٦٥) ، وإتحاف الفضلاء (ص ٢١٥) ، والإعراب للنحاس (١ / ٥٧٣) ، والإملاء للعكبري (١ / ١٤٩) ، والبحر المحيط (٤ / ٢٠٠).

(١) ذكره البغوي والخازن في تفسيرهما (٢ / ٤٢٦ ـ ٤٢٧).

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : لأنهم.

(٤) سقط في أ.

(٥) ذكره أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٢٠٢).

(٦) أبو الفضل جعفر بن حرب الهمذاني المعتزلي العابد ، كان من نساك القوم ، وله تصانيف. يقال : إنه حضر عند الواثق للمناظرة ، ثم حضرت الصلاة ، فتقدم الواثق ، فصلى بهم ، وتنحى بهم ، وتنحى جعفر ، فنزع خفه ، وصلى وحده ، وكان قريبا من يحيى بن كامل ، فجعلت دموع ابن كامل تسيل خوفا على جعفر من القتل ، فكاشر عنها الواثق ، فلما خرجوا ، قاله له ابن أبي دؤاد : إن هذا السبع لا يحتملك على ما صنعت ، فإن عزمت عليه ، فلا تحضر المجلس ، قال : لا أريد الحضور. فلما كان المجلس الآتي ، تأملهم الواثق ، قال : أين الشيخ الصالح؟ قال ابن أبي دؤاد : إن به السل ، ويحتاج أن يضطجع. قال : فذاك.

قال محمد النديم : وتوفي سنة ست وثلاثين ومائتين عن نحو ستين سنة.

وله كتاب (متشابه القرآن) ، وكتاب (الاستقصاء) ، وكتاب (الرد على أصحاب الطبائع) ، وكتاب (الأصول). ينظر سير أعلام النبلاء (١٠ / ٥٤٩) وطبقات المعتزلة (٧٦ ، ٧٧) ، والفهرست لابن النديم (٢٠٨) ، وتاريخ بغداد (٧ / ١٦٢) ، ولسان الميزان (٢ / ١٢١) ، وأعيان الشيعة (١٦ / ١٠٥ ، ١٠٦) ، وتذكرة طاهر الجزائري (١٣ / ١).

(٧) الكعبي : العلامة ، شيخ المعتزلة ، أبو القاسم ، عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي ، المعروف بالكعبي ، من نظراء أبي علي الجبائي ، وكان يكتب الإنشاء لبعض الأمراء وهو أحمد بن سهل متولي نيسابور ، فثار أحمد ، ورام الملك ، فلم يتم له ، وأخذ الكعبي وسجن مدة ، ثم خلصه وزير ـ

٢١١

عملهم الذي فرض عليهم أن يعملوا ويأتوا به ، وأما ما لا ينبغي أن يقولوا فلا ؛ كقوله : (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) [الحجرات : ٧] الآية ذكر في الإيمان : التزيين ، وفي الكفر : التكريه ، ويقولون : إنه أضاف التزيين إلى الشيطان بقوله : (زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [الأنفال : ٤٨] وقوله : (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) [محمد : ٢٥] والشيطان (١) يزين لهم المعاصي والفسوق ؛ فلا يحتمل أن يكون الله يزين لهم ما يزين الشيطان ؛ فدل أنه إنما يزين لهم ما يؤمرون به ويفرض عليهم ، ولكن يضاف إليه التزيين ما أضيف إليه حرف الإضلال والإغواء.

وأما عندنا : فالتزيين (٢) على وجهين :

تزيين (٣) في العقول ، وهو تحسين (٤) من طريق الآيات والبراهين ، فذلك لا يحتمل فعل الكفر والضلال أن يكون مزينا من جهة الآيات والحجج.

والثاني : تزيين (٥) في الطباع : بالشهوات ، والأماني ، وفعل كل أحد مزين بالشهوة والحاجة التي مكنت فيه ، ولا شك أن كل كافر لو سئل عن فعله الكفر والضلال ؛ فيقول : هذا الذي زين لي ، وليس إضافة فعل التزيين إلى الله بأكبر وأبعد من إضافة الإضلال والإغواء ، وقد ذكرنا معنى إضافة الإضلال والإغواء إليه في غير موضع ؛ فعلى ذلك التزيين.

ويقولون ـ أيضا ـ : إن التزيين (٦) : تزيين وعد وثواب ؛ فالكافر متى يؤمن بالوعد في الآخرة والثواب فيها ، وهو ليس يؤمن [بالآخرة](٧) ، فهذا بعيد.

__________________

ـ بغداد علي بن عيسى ، فقدم بغداد ، وناظر بها.

وله من التصانيف كتاب (المقالات) وكتاب (الغرر) ، وكتاب (الاستدلال بالشاهد على الغائب) ، وكتاب (الجدل) وكتاب (السنة والجماعة) ، وكتاب (التفسير الكبير) ، وكتاب في الرد على متنبئ بخراسان ، وكتاب في النقض على الرازي في الفلسفة الإلهية ، وأشياء سوى ذلك.

قال محمد بن إسحاق النديم : توفي في أول شعبان سنة تسع وثلاثمائة. كذا قال ، وصوابه : سنة تسع وعشرين.

ينظر : سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي (١٤ / ٣١٣) ، الفرق بين الفرق (١٦٥ ـ ١٦٧) ، الفصل في الملل والنحل (١ / ٧٦ ـ ٧٨) ، وفيات الأعيان (٣ / ٤٥) ، العبر (٢ / ١٧٦).

(١) في ب : فالشيطان.

(٢) في ب : فالتزين.

(٣) في ب : تزين.

(٤) في ب : تزين.

(٥) في ب : تزين.

(٦) في ب : التزين.

(٧) سقط في أ.

٢١٢

ولا يحتمل ما قال الكيساني ـ أيضا ـ لأنه لا كل الكفرة كانوا يعبدون الأصنام ؛ ليقربهم ذلك إلى الله زلفى ؛ بل أكثرهم لا [يعرفون](١) أن لهم خالقا وربّا.

وتحتمل إضافة التزيين إلى الشيطان على جهة التمني والتشهي ؛ كقوله : (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) [النساء : ١١٩] وإضافته (٢) إلى الله على القدرة عليه والسلطان ، أو أن يخلق أعمالهم مزينة عندهم مسولة. وإضافة (٣) فعل الضلال والغواية إلى الشيطان على الدعاء إليه والترغيب فيه ، وإضافته إلى الله على أن يخلق فعل الضلال منهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ).

قد ذكرناه (٤).

(فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

في جزيل الثواب ، أو في أليم العذاب ؛ فهو على الوعيد.

قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ)(١١٣)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ).

قالوا : جهد أيمانهم (٥) : [أيمانهم](٦) بالله ، فهذا يخرج على وجوه :

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : وإضافة.

(٣) في ب : فإضافة.

(٤) في سورة آل عمران آية : [٥٥].

(٥) الأيمان : جمع يمين ، وهي مؤنثة وتذكر. وتجمع أيضا على (أيمن) ومن معاني اليمين لغة : القوة والقسم ، والبركة ، واليد اليمنى ، والجهة اليمنى. ويقابلها : اليسار ، بمعنى : اليد اليسرى ، والجهة اليسرى.

أما في الشرع ، فقد عرفها صاحب غاية المنتهى من الحنابلة بأنها : توكيد حكم بذكر معظم على وجه مخصوص.

ومقتضى هذا التعريف تخصيص اليمين بالقسم ، لكن يستفاد من كلام الحنابلة في مواضع كثيرة من كتبهم تسمية التعليقات الستة أيمانا ، وهي تعليق الكفر والطلاق والظهار والحرام والعتق والتزام القربة ، وقرر ذلك ابن تيمية في مجموع الفتاوى. ينظر المصباح المنير (يمن) ، ابن عابدين (٣ / ـ

٢١٣

أحدها : أن الحنث (١) في اليمين يخرج مخرج الاستخفاف (٢) والتهاون ، [وإن كان المسلم لا يقصد قصد الاستخفاف بالله تعالى](٣) وإن كان في اليمين التعظيم ، وفي الحنث استخفاف (٤) ، ففي اليمين بالله جهد اليمين.

ويحتمل وجهين سوى هذا ، وذلك ما قيل : إن الكفرة كانوا لا يحلفون بالله إلا عند العظيم من الأمور ، [و](٥) الجليل منها ، وفي غير ذلك كانوا يحلفون بدونه ؛ فسمي (٦) اليمين بالله جهد اليمين ؛ تعظيما لله وتبجيلا (٧).

والثاني : يحتمل أنهم كانوا يحلفون بأشياء (٨) ، ويؤكدون اليمين بالله ويشددونه ؛ كقوله : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) [النمل : ٩١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها).

قيل (٩) : إنهم كانوا يقسمون جهد أيمانهم (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) ، كانوا يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيات : لئن جاءتهم ليؤمنن (١٠) بها ؛ من نحو ما قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] ، وكقولهم : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا

__________________

ـ ٤٥) ، وفتح القدير (٤ / ٣) ، والدسوقي (٢ / ١٢٦) ، وتحفة المحتاج (٨ / ١٦٤) ، والأم (٧ / ٦٢) ، ومطالب أولي النهي (٦ / ٣٥٧ ، ٣٥٨) ، والمغني بأعلى الشرح الكبير (١١ / ٧٤) ، مجموع الفتاوى لابن تيمية (٣٥ / ٢٤٣).

(٦) سقط في أ.

(١) الحنث بالكسر في اللغة : الذنب العظيم ، والإثم. يقال : بلغ الغلام الحنث أي جرى عليه القلم بالطاعة والمعصية ، بالبلوغ. وجاء في القرآن الكريم : (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) [الواقعة : ٤٦]. والحنث الخلف في اليمين ، ففي الأثر : «في اليمين حنث أو مندمة» رواه ابن ماجه بسند ضعيف (٢ / ٦٨١) والمعنى أن يندم الحالف على ما حلف عليه ، أو يحنث في يمينه فتلزمه الكفارة. ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن ذلك. ينظر تاج العروس والمصباح المنير (حنث) ، والجمل (١ / ٢٥٣).

(٢) في أ ، ب : الاستحقاق والصواب المثبت.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ ، ب : استحقاق.

(٥) سقط في أ.

(٦) في ب : فيسمى.

(٧) ينظر تفسير القرطبي (٧ / ٤٢) ، وتفسير الخازن والبغوي (٢ / ٤٢٨).

(٨) في أ : ويشددون.

(٩) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٠٦) (١٣٧٤٨) عن مجاهد و (١٣٧٤٩) عن ابن أبي نجيح (١٣٧٥٠) عن محمد بن كعب القرظي وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٧٢) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد ونسبه أيضا لابن جرير عن محمد بن كعب القرظي.

(١٠) في أ : يؤمنون.

٢١٤

كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٣] ، وغير ذلك من الآيات ؛ فقال : (قُلْ) يا محمد : (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) هو الذي يرسلها وينزلها ، وأنا لا أملك إرسالها ولا إنزالها ؛ كقوله : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) [الأنعام : ٥٠] ، وغير ذلك من الآيات ؛ إنباء منه أنه لا يملك إنزال ما كانوا يسألونه من الآيات ، ثم قال : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) اختلف فيه :

قال الحسن وأبو بكر الأصم (١) : إنه خاطب بقوله : (وَما يُشْعِرُكُمْ) أهل القسم الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم : لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ؛ فقال : (وَما يُشْعِرُكُمْ) ، أي : ما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءكم آية ثم استأنف ، فقال : (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) ، [وهكذا كان يقرؤه](٢) الحسن بالخفض (٣) : (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) على الاستئناف

__________________

(١) قال القرطبي (٧ / ٤٣) : قال مجاهد وابن زيد : والمخاطب بهذا المشركون.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في ب : وهذا كان بقراءة.

(٣) وقرأ العامة : أنها بفتح الهمزة ، وابن كثير وأبو عمرو ، وأبو بكر بخلاف عنه بكسرها.

فأما قراءة الكسر : فواضحة استجودها الناس : الخليل وغيره ؛ لأن معناها : استئناف إخبار بعدم إيمان من طبع على قلبه ، ولو جاءتهم كل آية.

قال سيبويه : سألت الخليل عن هذه القراءة يعني : قراءة الفتح فقلت : ما منع أن يكون كقولك : ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال : لا يحسن ذلك في هذا الموضع ، إنما قال : (وَما يُشْعِرُكُمْ)[الأنعام : ١٠٩] ثم ابتدأ ، فأوجب ، فقال : (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) ولو فتح ، فقال : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) ، لكان عذرا لهم ، وقد شرح الناس قول الخليل ، وأوضحوه ، فقال الواحدي وغيره : لأنك لو فتحت (أن) وجعلتها التي في نحو : بلغني أن زيدا منطلق ، لكان عذرا لمن أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون ؛ لأنه إذا قال القائل : إن زيدا لا يؤمن ، فقلت : وما يدريك أنه لا يؤمن؟ كان المعنى : أنه يؤمن ، وإذا كان كذلك ، كان عذرا لمن نفي عنه الإيمان ، وليس مراد الآية الكريمة إقامة عذرهم ، ووجود إيمانهم.

وقال الزمخشري : «وقرئ (إنها) بالكسر ، على أن الكلام قد تم قبله بمعنى : (ما يشعركم ما يكون منهم) ثم أخبرهم بعلمه فيهم ، فقال : (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ).

وأما قراءة الفتح : فقد وجهها الناس على ستة أوجه :

أظهرها : أنها بمعنى : لعل ، حكى الخليل «أتيت السوق أنك تشتري لنا منه شيئا» أي : «لعلك» فهذا من كلام العرب كما حكاه الخليل.

الثاني : أن تكون «لا» مزيدة ، وهذا رأي الفراء وشيخه.

الثالث : أن الفتح على تقدير لام العلة ، والتقدير : إنما الآيات التي يقترحونها عند الله ؛ لأنها إذا جاءت لا يؤمنون و (وَما يُشْعِرُكُمْ) اعتراض وصار المعنى : إنما الآيات عند الله أي : المقترحة لا يأتي بها ؛ لانتفاء إيمانهم ، وإصرارهم على كفرهم».

الرابع : أن في الكلام حذف معطوف على ما تقدم.

الخامس : أن «لا» غير مزيدة ، وليس في الكلام حذف ، بل المعنى : وما يدريكم انتفاء إيمانهم ، ويكون هذا جوابا لمن حكم عليهم بالكفر ويئس من إيمانهم.

وقال الزمخشري : «وما يشعركم» : وما يدريكم «أنها» ، أي : أن الآيات التي يقترحوها إذا جاءت لا يؤمنون» بها يعني : «أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها ، وأنتم لا تدرون بذلك». وذلك أن ـ

٢١٥

والابتداء.

وقال غيرهم من أهل التأويل (١) : الخطاب لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وذلك أنهم لما قالوا : (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) ، ظنوا أنهم لما أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم يؤمنون إذا جاءتهم آية ، يفعلون ذلك ويؤمنون على ما يقولون ؛ فقال [لهم](٢) : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) ، على طرح لا ، أي ما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون [ويحتمل فيه وجها آخر على الإضمار ، وكأنه قال : وما يشعركم فاعلموا أنها إذا جاءت لا يؤمنون على الوقف في قوله (وَما يُشْعِرُكُمْ) ثم ابتدأ فقال : اعلموا أنها إذا جاءت لا يؤمنون](٣) وهذا كأنه أقرب.

ويحتمل وجها آخر : وهو أن أهل الإسلام قالوا : إنهم ـ وإن جاءتهم آية ـ لا يؤمنون ؛ فقال عند ذلك : (وَما يُشْعِرُكُمْ) خاطب به هؤلاء (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ).

والثاني : أنهم ، وإن آمنوا بها ، إذا جاءت ؛ فنقلب أفئدتهم من بعد.

وعلى هذا التأويل أن خلق تقلب أفئدتهم وأبصارهم كقوله : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : ٥] ، أي : خلق زيغ قلوبهم ؛ فكذلك الأوّل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ).

أي : نقلب أفئدتهم وأبصارهم بالحجج والآيات ، ويردونها ؛ فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة. وقال أهل التأويل (٤) : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) ، أي : نحول بينهم وبين

__________________

ـ المؤمنين كانوا حريصين على إيمانهم ، وطامعين فيه إذا جاءت تلك الآية ، ويتمنون مجيئها ، فقال ـ عزوجل ـ (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) على معنى : أنكم لا تدرون ما سبق علمي بهم ، أنهم لا يؤمنون ، ألا ترى إلى قوله : (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ)[الأنعام : ١١٠]

السادس : أن «ما» حرف نفي ، يعني : أنه نفى شعورهم بذلك ، وعلى هذا فيطلب «يشعركم» فاعل.

فقيل : هو ضمير الله ـ تعالى ـ أضمر للدلالة عليه ، وفيه تكلف بعيد ، أي : وما يشعركم الله أنها إذا جاءت الآيات المقترحة لا يؤمنون. ينظر : الحجة للفارسي (٣ / ٣٧٦) ، الدر المصون (٣ / ١٤٥) المحتسب (١ / ٢٢٦) ، النشر (٢ / ٢٦١) ، الوسيط (٣ / ٣١١) ، التبيان (١ / ٥٣٠) ومجاز القرآن (١ / ٢٠٤) ، الأخفش (٢ / ٥٠١) الحجة لأبي زرعة ص ٢٦٥ ، السبعة (٢٦٥) ، الكتاب (١ / ٤٦٢) ، الكشاف (٢ / ٥٧) ، معاني القرآن (١ / ٣٥٠).

(١) ينظر تفسير البحر المحيط لأبي حيان (٤ / ٢٠٣).

(٢) سقط في ب.

(٣) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٠٩) (١٣٧٥٧) عن مجاهد وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٧٢) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عنه وذكره الخازن والبغوي في تفسيرهما (٢ / ٤٢٩) ونسباه إلى ابن عباس.

٢١٦

الإيمان لو جاءتهم تلك الآيات ؛ فلا يؤمنون ؛ كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة.

ويحتمل وجها آخر : وهو أن يقلب في أفئدتهم وأبصارهم آيات وحدانيته وألوهيته ؛ فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة.

ثم تخصيص الأفئدة والأبصار دون غيرها من الجوارح ؛ لأن القلب والبصر لا يقع إلا على ما يشهد به [على](١) وحدانية الله وألوهيته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

قال بعضهم (٢) : إن هؤلاء ، وإن جاءتهم آية ، فإنهم لا يؤمنون كما لم يؤمن أوائلهم من الأمم الخالية لما سألوا الآيات قبلهم ؛ فكذلك هؤلاء لا يؤمنون بها ، وإن جاءتهم الآية بعد السؤال.

وقال غيرهم (٣) : قوله : (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ، أي : قد جاءتهم آيات قبل هذا على غير سؤال ، فلم يؤمنوا بها ؛ فكذلك إن جاءتهم بالسؤال ، فلا يؤمنون بها.

ويحتمل وجها آخر : وهو أن مشركي العرب كانوا يقسمون بالله : أنه إن جاءهم نذير يؤمنون به ، وهو قوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) [فاطر : ٤٢] يعنون ـ والله أعلم ـ اليهود والنصارى ، أي : لو جاءهم نذير ليكونون أهدى من اليهود والنصارى ، فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا يخبر أنهم كما لم يؤمنوا بالنذير عند سؤالهم النذير في الابتداء إذا جاءهم نذير ، فكذلك ـ أيضا ـ لا يؤمنون عند سؤالهم الآيات ، وإن جاءتهم آيات.

يخبر نبيه أنهم ليسوا يسألون الآيات سؤال استرشاد ، ولكن يسألون سؤال عناد ومكابرة ، وهذا التأويل كأنه أقرب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

إذا علم أنهم لا يؤمنون ، تركهم في [ظلمات](٤) ضلالتهم يعمهون ، ويتحيرون ، والعمه : الحيرة في اللغة.

وقوله : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى).

قيل : هذه الآية صلة قوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) إلى قوله : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ذكره ابن جرير (٥ / ٣٠٨).

(٣) ينظر تفسير الخازن والبغوي (٢ / ٤٢٩).

(٤) سقط في ب.

٢١٧

إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) ، ثم قال : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا) الآية : أخبر أنهم وإن نزل إليهم الآيات بعد السؤال منهم الآيات : من إنزال الملائكة ، وتكليم الموتى ـ أنهم لا يؤمنون ؛ إذ (١) سؤالهم الآيات سؤال تعنت واستهزاء وعناد ، لا سؤال استرشاد ؛ لأنهم قد جاءتهم آيات لو لم يعاندوا لآمنوا [بها](٢) ثم إذا علم منهم أنهم لا يؤمنون ، وأن ما يسألون من الآيات [إنما يسألون](٣) سؤال تعنت وعناد جعل فيهم خصالا على الخذلان من [نحو](٤) قساوة القلب ، حتى أخبر أن قلوبهم أقسى من الحجارة ، ومن نحو البغض والجهالة ، وغير ذلك من الخصال [ما يدل](٥) على ما ذكرنا ، وهو كقوله (٦) : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) [الحجر : ١٤] [يخبر](٧) عن تعنتهم ومكابرتهم.

وفيه دليل أن الآيات لا تضطر أهلها على الإيمان ؛ لأنه قال : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا ...) الآية (٨) ، لو كانت آية تضطرهم إلى الإيمان لكانت هذه ، وهذا يدل على أن معنى قوله : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤] أنهم لا يؤمنون بالآية ، ولكن إذا شاء أن يؤمنوا لآمنوا ، ولو كانت الآيات تضطر أهلها إلى الإيمان به لكان لا آية أعظم من القيامة ، ولا أبين منها ، ثم أخبر عنهم أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ، وقال : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] قد كذبوا عند معاينتهم القيامة والعذاب ؛ فهذا يدل على أن الآية لا تضطر أهلها إلى الإيمان بها ، ويدل أن تأويل قوله : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤] أنهم يخضعون إذا شاء أن يخضعوا ، لا أن الآية تضطرهم على الخضوع بالدلائل التي ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

قال الحسن (٩) : هذه المشيئة مشيئة القدرة ، أي : لو شاء الله أن يعجزهم حتى يؤمنوا ، وهو كقوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) [يس : ٦٦] ، (وَلَوْ نَشاءُ

__________________

(١) في ب : لأن.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

(٦) في أ : قوله.

(٧) سقط في أ.

(٨) في ب : لأنه.

(٩) ينظر تفسير أبي حيان الأندلسي (٤ / ٢٠٩)

٢١٨

لَمَسَخْناهُمْ) [يس : ٦٧] ونحوه فهذه المشيئة ؛ مشيئة القدرة (١) ، لكنا نقول : إنه أخبر أنه لو شاء أن يمسخهم لمسخهم ؛ فقل ـ أيضا ـ : إنه لو شاء أن يهديهم لهداهم ، ولو شاء أن يهتدوا لاهتدوا ، وكذلك يقول المعتزلة : إن المشيئة ـ هاهنا ـ مشيئة القهر والجبر ، وقد ذكرنا ألا يكون في حال القهر والجبر إيمان ؛ فيصير على قولهم (٢) : إلا أن يشاء الله أن يؤمنوا فآمنوا فلا يكون إيمانا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) : اختلف في تلاوته وتأويله : [عن الحسن](٣) قال (قُبُلاً) : عيانا ، وعن قتادة (٤) كذلك (قُبُلاً) : عيانا : حتى يعاينوا ذلك معاينة.

(ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ، وهو على ما ذكرنا إلا أن يشاء الله أن يؤمنوا فيؤمنوا.

وعن مجاهد (٥) : (قُبُلاً) ، أي : أفواجا [قبيلا](٦) وفي حرف أبي عمرو (٧) بن العلاء : (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) ، يقول : جيلا فجيلا.

وفي حرف أبي (٨) : قبيلا (٩) ، أي : [قبيلة](١٠).

وقال القتبي : (قُبُلاً) ، أي : جماعة جماعة ، وقبلا ، أي : أصنافا.

__________________

(١) في ب : قدرة.

(٢) في أ : قول لهم.

(٣) سقط في ب.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣١٢) (١٣٧٦٢) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٧٣) وعزاه لعبد بن حميد وأبي الشيخ.

(٥) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣١٢) (١٣٧٦٤) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٧٣) وعزاه لأبي الشيخ عن مجاهد.

(٦) سقط في أ.

(٧) قرأ نافع ، وابن عامر : «قبلا» هنا وفي الكهف بكسر القاف ، وفتح الباء ، والكوفيون هنا وفي الكهف بضمها وأبو عمرو ، وابن كثير بضمها هنا ، وكسر القاف ، وفتح الباء في الكهف ، وقرأ الحسن البصري ، وأبو حيوة ، وأبو رجاء بالضم والسكون.

وقرأ أبي والأعمش «قبيلا» بياء مثناة من تحت بعد باء موحدة مكسورة ، وقرأ طلحة بن مصرف : «قبلا» بفتح القاف وسكون الباء. ينظر الدر المصون (٣ / ١٥٩) ، الحجة لأبي زرعة (٢٦٧) ، السبعة (٢٦٦) ، النشر (٢ / ٢٦٢) ، المشكل (١ / ٢٦٥) التبيان (١ / ٥٣٢) معاني القرآن للزجاج (٢ / ٣١١) وللفراء (١ / ٣٥١) وللأخفش (٢ / ٥٠١) إعراب القرآن (١ / ١٦٧).

(٨) تنظر قراءة أبي في البحر المحيط لأبي حيان (٤ / ٢٠٦) واللباب في علوم الكتاب (٨ / ٣٧٩) والدر المصون في علوم الكتاب المكنون (٣ / ١٥٩).

(٩) في ب : قبلا.

(١٠) سقط في أ.

٢١٩

ويقال (١) : القبيل : الكفيل ؛ كقوله : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء : ٩٢] ، أي : ضمينا كفيلا (٢).

قال الكيساني : من قرأها (قُبُلاً) فقد تكون (٣) جمع (القبيل) (٤) ؛ مثل (الجبيل) و (الجبل) ، وقد يكون (القبيل) (٥) ـ أيضا ـ من معنى الإقبال ؛ كقوله : من قبل ومن دبر (٦).

ومن قرأها (قبلا) : أراد معاينة (٧).

وقال أبو عوسجة (٨) : (كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) ، يقال أتانا الناس قبلا ، أي : كلهم ؛ وقبلا : من المقابلة ، وتأويله ما ذكرنا : أن لو فعلنا هذا كله : من إنزال الملائكة إليهم ، وتكليم (٩) الموتى إياهم ، (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) ، فأخبروهم بالذي يقول محمد إنه حق (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) لهم الإيمان فيؤمنوا ، وفيه ما ذكرنا من الدليل أن الآيات لا تضطر أهلها إلى الإيمان بها إلا أن يشاء الله أن يؤمنوا ؛ فحينئذ يؤمنون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ).

أي : لكن أكثرهم لا ينتفعون بعلمهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا).

قيل (١٠) : كما جعلنا لكل نبي [من قبل](١١) عدوا كذلك نجعل لك عدوا ، [ويحتمل

__________________

(١) قال الفراء والزجاج : قبيل بمعنى : كفيل أي : كفيلا بصدق محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويقال : قبلت الرجل أقبله قبالة بفتح الباء في الماضي والقاف في المصدر ، أي : تكفلت به ، والقبيل ، والكفيل ، والزعيم ، والأذين والضمين ، والحميل ، بمعنى واحد.

وإنما سميت الكفالة قبالة ؛ لأنها أوكد تقبل ، وباعتبار معنى الكفالة سمي العهد المكتوب : قبالة.

وقال الفراء في سورة الأنعام : «قبلا» جمع «قبيل» وهو «الكفيل» قال : وإنما اخترت هنا أن يكون القبل في معنى الكفالة ، لقولهم : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً)[الإسراء : ٩٢] يضمنون ذلك.

ينظر معاني القرآن للفراء (١ / ٣٥٠) ، وللزجاج (٢ / ٣١١).

(٢) في ب : ضمنا وكفلا.

(٣) في أ : يكون.

(٤) والمعنى : وحشرنا عليهم كل شيء قبيلا قبيلا ، أي جماعة جماعة ، ينظر حجة القراءات لابن زنجلة ص (٢٦٧).

(٥) في ب : القبل.

(٦) ينظر مجاز القرآن لأبي عبيدة (١ / ٢٠٤) ومعاني القرآن للفراء (١ / ٣٥١) وللزجاج (٢ / ٣١١).

(٧) ينظر المصادر السابقة.

(٨) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣١٣) (١٣٧٦٦) عن ابن عباس بنحوه ، و (١٣٧٦٧) عن ابن زيد بنحوه.

(٩) في أ : وتكليمهم.

(١٠) ينظر تفسير ابن جرير (٥ / ٣١٣) وتفسير الخازن والبغوي (٢ / ٤٣٠).

(١١) سقط في ب.

٢٢٠