تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

الشبع.

ويقول الحسن : لو ترك التناول منها حتى هلك لا شيء عليه ؛ يقول : لأنه إنما أحلت له رخصة (١) ورحمة ، وليس على من لم يعلم بالرخص إثم ، ولكن عندنا أنها أبيحت في حال الاضطرار ؛ فإذا ترك التناول منها حتى هلك صار ملقيا نفسه في التهلكة ، وقد حرم الله علينا أن نهلك أنفسنا أو نلقيها في التهلكة بقوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] ، ولا فرق بين ترك التناول من الميتة ـ وقد أحل لنا التناول [منها ـ حتى مات وبين ترك التناول](٢) من غيرها من الأطعمة المحللة ، أو يأتي بأسباب إتلاف النفس ؛ فهما سواء.

ويقول ـ أيضا ـ : له أن يتناول عند الاضطرار من مال غيره بلا بدل ، وإذا نهى صاحبه عن ذلك يضمن بدل ذلك بالغا ما بلغ (٣) فهذا بعيد.

لا يجوز أن يتناول من مال غيره ولا يلزمه البدل ، وإذا نهاه عن ذلك يلزمه البدل ؛ لأن

__________________

ـ وجاء فيه عن الليث : الضرورة اسم لمصدر الاضطرار تقول حملتني الضرورة على كذا وكذا وقد اضطر فلان إلى كذا وكذا.

وأما الاضطرار عند الفقهاء فيقول الحموي عن الضرورة إنها «بلوغه حدا إن لم يتناول الممنوع يهلك».

ويقول بعض المالكية : إنها الخوف على النفس من الهلاك علما أو ظنا.

وقد علق بعضهم على ذلك فقال وهل الاضطرار هو خوف الهلاك أو خوف الضرر؟ قولان لمالك والشافعي.

ثم قال بعد هذا : وذهب مالك إلى أن الاضطرار خوف الهلاك.

ينظر لسان العرب (١٩ / ٤٨٣) ، حاشية الحموي على الأشباه والنظائر لابن نجيم ص ١٠٨ ، الشرح الكبير للدردير (٢ / ١١٥) ، شرح الخرشي وحاشية العدوي عليه (٣ / ٣٢٦).

(٨) بدل ما بين المعقوفين في أ : لا.

(١) تطلق كلمة رخصة ـ في لسان العرب ـ على معان كثيرة نجمل أهمها فيما يلي :

* نعومة الملمس ، يقال : رخص البدن رخاصة إذا نعم ملمسه ولان ، فهو رخص ـ بفتح فسكون ـ ورخيص ، وهي رخصة ورخيصة.

* انخفاض الأسعار ، يقال : رخص الشيء رخصا ـ بضم فسكون ـ فهو رخيص ضد الغلاء.

* الإذن في الأمر بعد النهي عنه : يقال : رخص له في الأمر إذا أذن له فيه ، والاسم رخصة على وزن فعلة مثل غرفة ، وهي ضد التشديد ، أي أنها تعني التيسير في الأمور ، يقال : رخص الشرع في كذا ترخيصا ، وأرخص إرخاصا إذا يسره وسهله. قال عليه الصلاة والسلام : «إن الله يحب أن تؤتي رخصة كما يكره أن تؤتي معصيته».

وفي الاصطلاح عرفها الغزالي بأنها عبارة عما وسع للمكلف في فعله لعذر أعجزه عنه مع قيام السبب المحرم.

ينظر لسان العرب وتاج العروس (رخص) ، والمستصفى (١ / ٦٣).

(٢) سقط في أ.

(٣) وتفصيل المذاهب في هذه المسألة كالآتي :

مذهب الحنفية : يرى الحنفية أن المضطر يجب عليه ضمان ما تناوله من مال الغير ؛ لأن المضطر ـ

٢٤١

من كان له حق التناول من مال آخر بغير بدل ، ثم إذا نهى أو منع (١) يلزمه البدل دل أنه

__________________

ـ أخذ الشيء بغير إذن مالكه فكان عليه ضمانه. وهذا عند الحنفية مضطر على قواعد مذهبهم ، ويتفق مع ما يرونه من أن المضطر لا يجب عليه أكل مال الغير مع الضمان بل ذلك مباح له فقط ولم يقولوا بوجوب التناول على المضطر مراعاة لحق المالك ، فاقتصروا على القول بالإباحة وهي لا تنافي الضمان عندهم.

مذهب المالكية : في المذهب المالكي أقوال ثلاثة :

أحدها : أن على المضطر ضمان ما أخذ من مال غيره لأن إذن المالك لم يوجد وإنما وجد إذن صاحب الشرع وهو لا يوجب سقوط الضمان وإنما ينفي الإثم والمؤاخذة بالعقاب ، ولأن القاعدة أن الملك إذا دار زواله بين المرتبة الدنيا والمرتبة العليا حمل على الدنيا استصحابا للملك بحسب الإمكان وانتقال الملك بعوض هو أدنى رتب الانتقال وهو الأقرب لموافقة الأصل من الانتقال بغير عوض.

ثانيها : أنه لا يجب على المضطر ضمان ما أخذه من مال الغير لأن المضطر لم يتناوله إلا ليسد به رمقه حفظا لنفسه من الهلاك والتلف وهذا العمل في حقيقة أمره كان واجبا على المالك إذ من المعلوم أنه يجب على من لديه فضل طعام أن يبذله لمن هو مضطر إليه والواجب لا يؤخذ له عوض.

والظاهر أن هذا الرأي هو مذهب جمهور المالكية على ما حكاه صاحب التاج والإكليل.

ثالث الأقوال عندهم : التفرقة بين ما إذا وجدت مع المضطر حال اضطراره قيمة ما تناوله من مال غيره وبين ما لم توجد : فإن وجدت معه وجب عليه الضمان وإن لم توجد فلا شيء عليه مطلقا.

مذهب الشافعية : يقول صاحب أسنى المطالب : وإن أطعمه المالك بلا معاوضة أي بغير ذكر عوض لم يلزمه شيء حملا على المسامحة المعتادة في الطعام لا سيما في حق المضطر. فلو اختلفا في التزام عوض الطعام فقال : أطعمته بعوض ، فقال المضطر بل مجانا صدق المالك بيمينه لأنه أعرف بكيفية بذله.

وفي مغني المحتاج : أنه لو وجد المضطر طعام غائب ولو غير محرز ، ولم يجد غيره أكل منه إبقاء لمهجته وغرم بدل ما أكله.

مذهب الحنابلة : والحنابلة يوجبون الضمان على المضطر لأنه قد فعل ذلك إحياء لنفسه وذلك مما يوجب الضمان عندهم لأن القاعدة عندهم «أن من أتلف شيئا لدفع أذاه عنه لم يضمنه وإن أتلفه لدفع أذى قائم به ضمنه». وقد قال ابن رجب تخريجا على هذه القاعدة «لو صال عليه آدمي أو بهيمة فدفعه عن نفسه بالقتل لم يضمنه. ولو قتل حيوانا لغيره في مخمصة ليحيي به نفسه ضمنه».

مذهب الظاهرية : يقول ابن حزم الظاهري في هذه المسألة : «من أكره على أكل مال مسلم أو ذمي فمباح له أن يأكل ولا شيء عليه لا حد ولا ضمان لقول الله عزوجل : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)[الأنعام : ١١٩] وقوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)[البقرة : ١٧٣] ولقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[المائدة : ٣] فإن كان المكره على أكل مال المسلم له مال حاضر معه فعليه قيمة ما أكل ، فإن لم يكن له مال حاضر فلا شيء عليه فيما أكل لما ذكرنا.

ينظر حاشية ابن عابدين (٥ / ٢٩٥ ـ ٢٩٦) ، والحموي على الأشباه ص ١١٣ ، والفروق للقرافي (١ / ١٩٥) ، والتاج والإكليل (٣ / ٢٣٤) ، وحاشية الدسوقي (٢ / ١١٦) ، وشرح الزرقاني (٣ / ٣٠) ، وأسنى المطالب (١ / ٥٧٣) ، والقواعد ص (٣٦) قاعدة (٢٦) ، والمحلى (١١ / ٣٤٣) ، والبحر الزخار (٤ / ٣٣٢).

(١) في أ : منه.

٢٤٢

ليس له التناول إلا ببدل ، وقد ذكرنا هذا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، دل هذا على أن الكل منهم لم يكونوا يضلون ؛ ولكن البعض ، هم الأئمة منهم والرؤساء ؛ لأن الأتباع منهم كانوا لا يضلون الناس ؛ إنما كانوا يضلون الكبراء منهم والعظماء ، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ).

وقد ذكرنا هذا فيما تقدم (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ).

اختلف فيه :

فقيل (٢) : وذروا [ظاهر](٣) الإثم بظاهر الجوارح وباطنها ، ظاهر الجوارح من نحو : اليد ، والرجل ، واللسان ، والعين.

وباطن الجوارح : القلوب ، والضمائر.

وقيل : ذروا الإثم في ملأ من الخلق ، وفي الخلاء منهم.

وقيل (٤) : ظاهر الإثم : ما ذكرنا ، وباطنه : الزنا.

قال أبو بكر الكيساني : الزنا [هاهنا لا يحتمل](٥) ؛ لأن الآية في ذكر [ما يحل من الأطعمة وما لا يحل ، ولكن يجوز أن ابتدأ النهي عن الزنا ، وإن كان أول الآية في ذكر الأطعمة](٦) ؛ ويصير قوله : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) كأنه قال : وذروا المآثم [كلها](٧) ما ظهر منها وما بطن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ).

لا يتركون وما عملوا ؛ ولكن [يجزون](٨) جزاء ما عملوا من الإثم ، وهو وعيد

__________________

(١) في سورة البقرة آية : [١٩٠].

(٢) ذكره الرازي في تفسيره (٧ / ١٣٧) ، وابن عادل في اللباب (٨ / ٤٠٣).

(٣) سقط في ب.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٢٤) (١٣٨٠٤) عن سعيد بن جبير بنحوه (١٣٨٠٧) عن مجاهد.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٧٧) وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس بنحوه ، ولابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد ابن جبير.

(٥) في ب : لا يحتمل هاهنا.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

٢٤٣

[لمن](١) ، (يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ) ويصرّون عليه ولا يتوبون ولا ينقلعون عنه [حتى ماتوا على ذلك بما ذكر.

وقوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ).

قال بعضهم (٢) : هو الميتة](٣) ، وهو قول ابن عباس ، رضي الله عنه.

وقال بعضهم : ما أهل به لغير الله.

وقلنا نحن : هو ما لم يذكر اسم الله عليه ؛ لأن الله قد صرح بتحريم الميتة بقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) [المائدة : ٣]. [و](٤) صرح بتحريم ما أهل لغير الله به بقوله : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) : [فإذا كان الميتة ، وما أهل لغير الله به](٥) تصريح [وتحريم](٦) في غير هذا الموضع ؛ رجع هذا الخطاب إلى تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه وكذلك صرح بتحريم الميتة وما أهل لغير الله به بقوله : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ...) الآية [الأنعام : ١٤٥] ؛ فقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) [الأنعام : ١٤٥] كان لا يجد في ذلك الوقت ثم وجد ما لم يذكر اسم الله عليه محرما في حادث الوقت ، وكذلك وجد كلّ ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير (٧) محرما في حادث الأوقات (٨) ، كان لا يجد في [ذلك الوقت](٩) محرما إلا ما ذكر ، ثم وجد أشياء

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٢٩) (١٣٨٣١) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٧٨) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

(٧) وذلك لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل ذي ناب من السباع فأكله حرام» رواه مسلم دل الحديث على تحريم ما له ناب من سباع الحيوانات ، والناب السن خلف الرباعية كما في القاموس والسبع هو المفترس من الحيوان كما في القاموس أيضا ، وفيه الافتراس الاصطياد ، وفي النهاية أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع هو ما يفترس الحيوان ويأكله قهرا وقسرا كالأسد والذئب والنمر ونحوها.

وأخرج معنى حديث أبي هريرة من حديث ابن عباس بلفظ (نهى) أي عن كل ذي ناب من السباع وزاد (وكل ذي مخلب) بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح اللام آخره موحدة (من الطير) وأخرج الترمذي من حديث جابر تحريم كل ذي مخلب من الطير ، وأخرجه أيضا من حديث العرباض بن سارية وزاد فيه : يوم خيبر. وفي القاموس المخلب ظفر كل سبع من الماشي والطائر أو هو لما يصيد من الطير والظفر لما لا يصيد.

ينظر سبل السلام (٤ / ٩٨).

(٨) في أ : الوقت.

(٩) في أ : تلك الأوقات.

٢٤٤

محرمة من بعد.

وقال بعضهم من أهل التأويل قوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) : حين قالوا : ما قتلتم وذبحتم أنتم فتأكلونه ، وما قتل ربكم فتحرمونه ، وأنتم تعظمون ربكم؟! وهو من زخرف القول الذي يوحي بعضهم إلى بعض ما ذكر (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ).

لكنا نقول إن ما ذبح وقتل [هو ذبيح بالله](١) وقتيل به أيضا ؛ فقد أذن لنا بأكل بعض الذبيح وحرم أكل بعض ، ولله أن يفعل ذلك ، له أن يأذن في أكل بعض وتحريم أكل بعض ، على ما أذن لنا في أكل بعض ما خلق الله من الأنعام ولم يأذن في أكل بعض ؛ فعلى ذلك قد أذن في أكل بعض ما ذبح به وقتل ولم يأذن في بعض ، وهو كله ذبيح بالله وقتيل به ، وله ذلك.

والثاني : أن الخلق كله له ملكه ، ولا يقال لأحد في ملكه : لم فعلت ذا؟ ولم تفعل ذا؟ إنما يقال ذلك في غير ملكه : كشريك يقول لشريكه : لم تعطني حقي ، ولم توفر على نصيبي ، فأما أن يقول في ذي ملك في ملكه فلا.

والثالث : ما ذكرنا : أنه تعبدنا بذكر اسم الله عليه [فكان في ذكر اسم الله عليه](٢) إقامة عبادة ؛ لذلك لم يجز هذا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) ، أخبر أنه (٣) ما لم يذكر اسم الله عليه فسق ، كما أخبر أن التناول من الميتة وما أهل لغير الله به فسق ، والفسق : هو الخروج عن أمر الله ، والذي ترك ذكر اسم الله عليه : خارج عن أمر الله ـ تعالى ـ كالميتة التي ذكرنا ، فإن قال قائل : إن قول الله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ؛ فكيف يجوز لكم أن تطلقوا أكل الذبيحة إذا ترك ذكر اسم الله ناسيا؟! [قيل الخطاب بهذا لم يرجع إلى الذبيحة التي ترك ذكر اسم الله عليها ناسيا](٤) لأن الذبائح إنما هي من عمل القصّابين (٥) والصبيان ؛ فهم لم يعودوا أنفسهم ذكر اسم الله حتى يؤاخذوا (٦) بها على حفظ ذلك.

__________________

(١) في أ : ذبيح الله.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : أخبر أن.

(٤) سقط في أ.

(٥) القصاب : الجزار ، وقيل سمي القصاب قصابا ؛ لتنقيته أقصاب البطن. ينظر تاج العروس (قصب) (٤ / ٤٢).

(٦) في أ : يؤاخذون ورد الفعل مرفوعا بعد (حتى) وهو جائز على قول الكوفيين الذين لا يجيزون عمل (حتى) في الأفعال لأنه قد ثبت أنها تخفض الأسماء ، وما يعمل في الأسماء لا يعمل في الأفعال. ـ

٢٤٥

وهذا أصلنا : أن من لم يعود نفسه فعلا يعذر في تركه وارتكابه في حال السهو والنسيان؟! كالأكل في شهر رمضان ناسيا (١) ؛ لأنه عود نفسه الأكل والشرب ، والصوم (٢) هو الكف عما اعتاد ؛ فعذر في التناول منه والعود إلى العادة على السهو ؛ لأنه يشتد على الناس حفظ النفس (٣) على خلاف العادة ، ولأن الله ـ تعالى ـ قال : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) ، ولا خلاف في أن من نسي أن يسمي الله على ذبيحة ـ فليس بفاسق ؛ وإنما يفسق من تركها عامدا ؛ فدل أن الخطاب بالآية رجع إلى الذبيحة التي تركت التسمية [عليها] عمدا.

فإن قيل : ليس يجوز أن يكون قوله : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) : يريد به أن الذي يأكل منها إذا لم يسم الله عليها عامدا أو ساهيا ـ فاسق ، وإن كان هذا هو التأويل ؛ فالآية على الأكل (٤) ، [الدليل](٥) على [أن](٦) قوله : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [إشارة إلى الذبيح الذي ترك ذكر اسم الله عليه عمدا ، دون أن يكون ذلك](٧) إشارة إلى أن الأكل من تلك الذبيحة فسق ـ قول الله ـ تعالى ـ : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [الأنعام : ١٤٥] : فكان الإهلال بالذبيحة لغير الله فسقا لمن فعله ؛ فوجب أن يكون ترك اسم الله على الذبيحة فسقا ممن تعمده ، وذلك يوجب أن يكون قول الله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) خاصّا في المتعمد لترك التسمية.

فإن قيل : كيف لم تجعلوا (٨) تارك التسمية ناسيا كتاركها عمدا ؛ كما قلتم في التكبيرة الأولى في الصلاة : إن عمده وسهوه سواء (٩)؟

__________________

ـ ينظر مغني اللبيب (١ / ١٤٤) بتحقيق العلامة محمد محيي الدين عبد الحميد.

ويجوز أن يكون الرفع وقع سهوا من الناسخ وذلك لأن الغالب في المضارع بعد حتى النصب.

(١) وذلك لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه» متفق عليه من حديث أبي هريرة أخرجه البخاري في الصحيح (٤ / ١٥٥) في كتاب الصوم باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا حديث (١٩٣٣) ومسلم (٢ / ٨٠٩) في كتاب الصيام باب أكل الناسي وشربه حديث (١٧١ / ١١٥٥) ..

فنص عليه‌السلام على الأكل والشرب ويقاس عليهما كل ما يبطل الصوم.

(٢) في ب : فالصوم.

(٣) في ب : السهو.

(٤) في ب : الكل.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

(٨) في أ : يجعلوا.

(٩) ينظر : أحكام القرآن للجصاص (٣ / ١٠ ـ ١٣) ، درر الحكام (١ / ٢٧٨).

٢٤٦

قيل : من قبيل (١) أن الذبيحة إذا تعمد صاحبها ترك التسمية عليها إنما حرمت بنص القرآن ؛ لأنه فسق فقلنا : متى زال الفسق عن الذابح زال التحريم عن الذبيحة ؛ لأن التحريم إذا وقع لعلة ، فزالت العلة ـ زال التحريم ، ولم نقل : إن صلاة التارك للتكبيرة الأولى فسدت صلاته ؛ لأنه فسق بتركه (٢) التكبيرة عمدا ؛ فيلزمنا أن نفرق بين سهوها وعمدها ؛ بل فسدت صلاته لأنه صلى بغير تكبير ؛ فالتارك للتكبير عامدا أو ساهيا : تارك ؛ فهما سواء ، وروى في الخبر ما يؤيد ما قلنا : روى عن راشد بن سعد (٣) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذبيحة المسلم حلال سمى أو لم يسم ما لم يتعمد» (٤).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في رجل ذبح ونسي أن يذكر اسم الله ، قال : «اسم الله في قلب كل مسلم ؛ فليأكل» (٥).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ).

أهل التأويل صرفوا تأويل هذا إلى أن زخرف القول الذي يوحي بعضهم [إلى بعض](٦) في الآية الأولى هو مجادلتهم في الذبيحة ؛ حيث قالوا : ما قتلتم بأيديكم فتأكلونه ، وما قتل الله فلا تأكلونه؟! يعنون : فتلك مجادلتهم إياهم ، ولكن يجادلون في هذا [في](٧) وحدانية الله ـ تعالى ـ وفي إثبات الرسالة ، والبعث بعد الموت ، وفي كل شيء ؛ حيث قالوا : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [المؤمنون : ٨٢] : فأخبر أنهم لو أطاعوهم إنهم لمشركون أي : لو أطعتموهم فيما يجادلونكم ويوحون إليكم (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).

__________________

(١) في أ : قال.

(٢) في ب : بترك.

(٣) راشد بن سعد المقرائي ويقال : الحبراني ، الحمصي ، روى عن : أنس بن مالك ، وثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلق ، روى عنه : حبيب بن صالح ، وصفوان بن عمرو ، وثور بن زيد وخلق. قال محمد بن سعد : كان من أهل حمص ، وكان ثقة ، مات سنة ثمان ومائة في خلافة هشام بن عبد الملك.

ينظر : تهذيب الكمال (٩ / ٨ ـ ١١) الطبقات (٧ / ٤٥٦) عمدة القاري (١٤ / ٣٥).

(٤) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ٧٩) وعزاه لعبد بن حميد عن راشد بن سعد.

وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه البيهقي في سننه (٩ / ٢٤٠) ، والدار قطني (٥٤٩) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٧٩) وعزاه لابن عدي والبيهقي وضعفه عن أبي هريرة.

(٥) أخرجه البيهقي (٩ / ٢٤٠) ، وقال الحافظ في الفتح (٩ / ٥٣٧) : سنده صحيح. وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٧٩) وعزاه للبيهقي عن ابن عباس.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في ب.

٢٤٧

قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)(١٢٥)

قوله ـ عزوجل ـ : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها).

يشبه [أن يكون المثل الذي ضرب الله للمؤمن والكافر في الآية أن من كان في ظلمات البطن لا يبصر ولا يسمع ولا يعقل شيئا](١) ، ثم أخرج من ذلك ؛ فأبصر وسمع وعقل كمن ترك في تلك الظلمات ولم يخرج منها لا يبصر ، ولا [يسمع](٢) ولا يعقل ، يقول ـ والله أعلم ـ : لا يستوي من أخرج من ظلمات البطن بعد ما كان لا يبصر ، ولا يسمع ، ولا يعقل ، ولا يفهم ، ثم أبصر وسمع وعقل ـ والذي ترك في تلك الظلمات على الحال التي كان كما هو : لا يبصر ، ولا يسمع ، ولا يعقل ؛ فعلى ذلك لا يستوي (٣) المؤمن الذي يبصر الحق ويسمع ويعقل كل خير (٤) ويعلمه ، وجعلنا له نورا يمشي به في الناس [بنوره](٥) وله أصحاب يدعون الناس إلى الهدى والخير ـ والكافر : الذي لا يبصر الخير (٦) ولا يسمع ولا يعقل ، وليس له أصحاب يدعونه إلى الهدى والخيرات ، أي : ليس هذا الذي يبصر ويسمع ويعقل كالذي لا يبصر ولا يسمع ولا يعقل.

وجائز أن يكون المثل الذي ضرب [الله](٧) : أن يكون المؤمن والكافر جميعا حيين في الجوهر ، لكن المؤمن اكتسب ما به يحيا (٨) أبدا من العلم ، والقرآن ، والإيمان.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) زاد في ب : من.

(٤) في أ : خبر.

(٥) سقط في أ.

(٦) في ب : الحق.

(٧) سقط في ب.

(٨) في أ : يجيء.

٢٤٨

والكافر لم يكتسب من ذلك شيئا ؛ فهو كالميت الذي لا يبصر ولا يسمع الحق ولا يعقل.

ويحتمل هذا المثل وجها آخر ، وهو أن المؤمن يكتسب في الدنيا الخيرات ، والأعمال الصالحة ، ويكون له نور في الآخرة بالأعمال التي اكتسب في الدنيا ، ويمشي بنور ذلك فيما بين الناس في الآخرة ، وأما الكافر فإنه لم يكتسب من ذلك شيئا ؛ فيبقى (١) في الظلمات ، كقوله : (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) [الحديد : ١٣].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) : والمعتزلة يقولون : [هم](٢) جعلوا لأنفسهم نورا يمشون [به](٣) في الناس ، وقد أخبر أنه هو الذي يجعل لهم ذلك النور ؛ فذلك تحريف منهم ظاهر للقرآن.

وكذلك قوله : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة : ١٢٠] : وهم يقولون : هو قدير (٤) على بعض الأشياء.

وقال : (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠٢] : وهم يقولون : [هو](٥) خالق بعض الأشياء.

وقال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) [الأنعام : ١١٢] وهم يقولون : يشاء ألا يفعلوا ما فعلوا ، ولكن فعلوا غير ما شاء الله.

وكذلك [قوله](٦) : (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) [الأنعام : ١١٢] : وهم يقولون : لم يجعل لكل نبي عدوّا وهم جعلوا أنفسهم لهم أعداء.

وكذلك قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) [١٢٣] : وهم يقولون : جعل الأكابر فيها ؛ لئلا يمكروا فيها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

اختلف [فيه](٧) :

قال بعضهم : كما زينا للمؤمنين عبادة الله كذلك زينا للكافرين عبادة الله ، لكنهم عاندوا وصرفوا العبادة إلى غير الله ، وهو تأويل المعتزلة.

__________________

(١) في ب : فيقر.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : قدر.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في أ.

٢٤٩

وقال قائلون : زين لهم أعمالهم التي يعملونها.

ثم اختلف في الذي زينها : قال الحسن (١) : زين الشيطان أعمالهم [لهم](٢).

وقال غيره : زينها الأكابر على الأصاغر.

وقال قائلون (٣) : زينها الله ، ولكن ما أضيف إلى الشيطان من التزيين والإضلال إنما يضاف إلى ما (٤) يدعوهم ويحثهم على ذلك ويوحي إليهم ، وما يضاف إلى الأكابر : القول والدعاء إلى ذلك ، وما يضاف إلى الله من : التزيين ، والإضلال ، والإزاغة ، وغير ذلك يضاف للخلق ، أي : خلق منهم : فعل الضلال ، وفعل التزيين (٥) ، وفعل الزيغ ، يضاف إلى الله خلقا ، وإلى الشيطان والأكابر : دعاء ووحيا وإلقاء ، على هذا يخرج جميع الإضافات ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها).

أي : جعل في كل قرية من أهل الكفر أكابر مجرميها ، وعظماءها ، كما جعل في قريتك أكابر مجرميها ؛ يصبر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك ليعلم أنه ليس بمخصوص هو بهذا دون غيره من الأنبياء.

ثم اختلف في قوله : (جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها) ، وقد ذكرنا أقاويلهم في قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) [الأنعام : ١١٢] ، ثم قوله : (جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها).

قالت المعتزلة : لم يجعل الأكابر فيها ليمكروا فيها ؛ ولكن لما وسع الدنيا وبسطها عليهم مكروا فيها ، وكذلك قالوا في قوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩] : لا يجوز أن يخلقهم [لجهنم](٦) ؛ [ولكن لما عملوا أعمال الكفر والضلال صاروا لجهنم](٧).

وقالوا : هو على الإضمار ؛ كأنه قال : كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها لئلا

__________________

(١) ذكره أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٢١٦) ، والبغوي في تفسيره مع الخازن (٢ / ٤٣٩) ونسبه لابن عباس.

(٢) سقط في أ.

(٣) ذكره أبو حيان في البحر (٤ / ٢١٦) والخازن في تفسيره (٢ / ٤٣٩).

(٤) في ب : لما.

(٥) في ب : تزين.

(٦) سقط في أ.

(٧) في ب. لا أنه خلقهم لجهنم.

٢٥٠

يمكروا [فيها](١) ، لكنهم مكروا فيها لما ذكرنا.

لكن قوله : (جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) ليكون أدعى وأظهر للحجج ؛ لأنه لو كان بعث الرسل أكابر لكان الناس يتبعون الأكابر وإن لم يأتوا بالحجج وغيرهم لا يتبعون إلا بالحجج والآيات.

ومنهم من يقطع (٢) قوله : (لِيَمْكُرُوا فِيها) عن قوله : (جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ) ، يقول : معناه : وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر ، ثم قال : (لِيَمْكُرُوا فِيها) ، أي : ما جعل ذلك لهم ليمكروا.

ومنهم من يقول : هو إخبار [عمّا](٣) إليه صار أمرهم ؛ كقوله : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] : وهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوا وحزنا ؛ إنما التقطوه ليكون لهم وليّا ، لكنه لما صار في العاقبة عدوا لهم أخبر عما آل إليه أمره ؛ فعلى ذلك قوله : (لِيَمْكُرُوا فِيها) : أخبر عما إليه صاروا من المكر.

وعندنا : لا يخلو هذا إما أن يقال : إنه يخلقهم لغير المكر والضلال ، وهو يعلم [أنهم](٤) لا يكونون لما يخلقهم ؛ فذلك ليس فعل حكيم : أن يعمل عملا يعلم أنه لا يكون ، نحو : من يبني بناء يعلم أنه لا يسكن ، أو يقصد قصد موضع يعلم أنه لا يصل إليه ؛ فهو بالقصد عابث ليس بحكيم ؛ فعلى ذلك الله ـ سبحانه ـ لا يجوز أن يخلقهم للهدى والعبادة له مع علمه أنهم لا يكونون لما يخلقهم ، أو أن (٥) يخلقهم لذلك وهو لا يعلم أنهم يكونون كذلك ؛ فهو جهل بالعواقب ؛ فالله يتعالى عن ذلك ؛ فدل أنه خلقهم ليكونوا على ما علم أنهم يكونون ويختارون ذلك.

وقوله : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] : كان عند الله أنهم يلتقطونه ليكون لهم عدوّا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ).

أي : ما يشعرون أن عاقبة مكرهم ترجع إليهم أو واقع (٦) فيهم.

وأصله أن الله ـ تعالى ـ جعلهم وخلقهم على ما علم منهم أنهم يختارون ويكون

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر تفسير الخازن (٢ / ٤٣٩).

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : وأن.

(٦) في أ : وواقع.

٢٥١

منهم ذلك.

وقوله : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ).

يخبر ـ عزوجل ـ عن غاية سفههم وتعنتهم وأنهم على (١) علم يعاندون ويتكبرون على رسول (٢) الله [لأنهم علموا أن ما نزل على رسول الله آية ، وأنه رسول حيث قالوا : لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله وعلموا أن الرسالة لا تجعل إلا في المعظم عند الله والمفضل لديه حيث تمنوا أنهم لا يؤمنون حتى يؤتوا من الآيات مثل ما أوتي رسل الله](٣) ولو لم يكن كذلك لم يكونوا (٤) يتمنون إيتاء ما أوتي الرسل ، وعلموا أن هذا القرآن الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية وحجة ، وأنه من عند الله نزل ؛ حيث قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ، وعلموا ـ أيضا ـ أن الرسالة لا تجعل إلا في عظماء من البشر وكبرائهم ؛ حيث قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] لكنهم ظنوا أنها إنما تجعل في العظماء الذين هم عند الخلق عظماء ؛ فقال الله ـ تعالى ـ : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) فتناقضت أقاويلهم وحجاجهم بما ذكرنا من إقرارهم بالرسل والآيات ، وتفضيلهم على غيرهم من البشر ثم قال : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ).

جملة جواب ما قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] على أن يقال : إنكم عرفتم أن الله عالم قادر ؛ فهو أعلم حيث يجعل رسالته. ثم اختلف في قوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) :

قال بعضهم : جعل الرسالة في أوساط الناس أظهر للحجج وأبين من جعلها في أكابر الناس وعظمائهم في الدنياوية ؛ لأن الناس مجبولون على اتباع الأكابر والأعاظم ؛ فلو جعلت الرسالة فيهم لكانت الحجج لا تظهر ؛ لأنهم جبلوا على اتباعهم ، وأما أوساط الناس في الدنياوية : إذا جعلت فيهم الرسالة لظهرت الحجج والبراهين ؛ لأنهم لم يجبلوا على اتباع الأوساط من الناس ؛ فكان اتباعهم للحجج والبراهين.

وقال بعضهم (٥) : قوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [أي لا تجعل الرسالة فيمن

__________________

(١) في ب : عن.

(٢) في أ : رسل.

(٣) سقط في أ.

(٤) زاد في أ : كذلك.

(٥) ينظر تفسير ابن جرير (٥ / ٣٣٥) ، والقرطبي (٧ / ٥٣) ، والخازن (٢ / ٤٤٠).

٢٥٢

يضيّع وليس هو بأهل لها ولا موضعها ؛ لأنه لو جعل لكان في ذلك تضييع الرسالة](١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ).

أخبر أن من تكبر على رسول الله وعانده يكن له عند الله : صغار ، ومذلة ، وعذاب شديد ؛ بصنيعهم الذي صنعوا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ).

قيل : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية ؛ فقال : «نور يقذف فيه» ؛ فقالوا (٢) : وهل لذلك [من](٣) علامة قال : «نعم ، إذا دخل النور في القلب انشرح وانفسح» ؛ قالوا يا رسول الله ، وهل لذلك [من](٤) علامة يعرف بها؟ قال : «نعم ، الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت» (٥) ؛ فلو ثبت هذا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان هذا انشراح الصدر للإسلام فقليلا ما يوجد على هذا الوصف ، إلا أن يريد به : الاعتقاد واليقين بما ذكر.

ثم اختلف في تأويل قوله : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً).

قال بعض أهل التأويل : الإرادة صفة [فعل](٦) كل فاعل يفعل على الاختيار ؛ كأنه قال : فمن يهد الله يشرح صدره للإسلام ، ومن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا.

وقال فريق من المعتزلة من نحو جعفر بن حرب والكعبي وهؤلاء : تأويله : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) ، أي : من قبل هداية الله في الابتداء شرح الله صدره بعد ذلك بخيرات ؛ ثوابا لما قبل (٧) من الهداية ، ومن ترك قبول هداية الله في الابتداء عاقبه الله بضيق صدره ؛

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : قالوا.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٣٦) عن كل من أبي جعفر (١٣٨٥٧ ، ١٣٨٥٨) ، وعبد الله بن المسور (١٣٨٦٠) مرسلا ، وعن عبد الله بن مسعود (١٣٨٥٩ ، ١٣٨٦١) مرفوعا.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٨٣) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وأبي الشيخ وابن مردويه والحاكم والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن مسعود ، ولسعيد بن منصور وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الله بن المسور.

ولابن المبارك في الزهد وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي جعفر المدائني.

(٦) سقط في أ.

(٧) في أ : قيل.

٢٥٣

عقوبة له في ترك قبول الهداية ؛ إذ لله أن يهدي الخلق كلهم وأن يشرح صدرهم للإسلام ، لكنهم (١) لم يهتدوا.

وقال فريق منهم : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) طريق الجنة في الآخرة شرح صدره في الدنيا للإسلام ، ومن يرد الله أن يضله طريق الجنة في الآخرة جعل صدره في الدنيا ضيقا حرجا ؛ فيقال لهم : كذلك هو ـ كما يقولون ـ قد قلتم : إنه أراد أن يضلهم ، ثم يقال لهم : تقولون إنه أراد أن يهدي الخلق كلهم ويشرح صدرهم للإسلام ، ثم تقولون : إنه يضل طريق الجنة في الآخرة ؛ فهذا على زعمكم جور ؛ لأنه أراد في الدنيا أن يهديهم ويريد في الآخرة ـ أيضا ـ لهم أن يضلهم عن طريق الجنة لأولئك بعينهم فذا جور على قولكم.

وظاهر الآية يرد قولهم وينقض مذهبهم ؛ لأنه قال : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ...) جعلهم على صنفين : صنف أراد منهم أن يهديهم ، وصنف أراد أن يضلهم : من علم منه أنه يختار الهدى ويقبله أراد أن يهديه ويشرح صدره للإسلام ، ومن علم منه أنه يختار الضلال أراد أن يضله ويجعل صدره ضيقا حرجا ، ولا يجوز أن يريد هو ممن يعلم منه أنه يختار الضلال وعداوته الولاية منه ؛ لأن ذلك من الضعف : من أراد عداوته وهو يريد ولايته ، أو يريد منه غير الذي علم كونه منه واختاره.

والمعتزلة يقولون : قد أراد أن يهدي الكل لكنهم أرادوا ألا يهتدوا فلم يهتدوا ، غلبت إرادتهم إرادة الله ـ تعالى ـ فذلك وحش من القول سمج ؛ فنعوذ بالله من السرف في القول والزيغ عن الحق ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ضَيِّقاً حَرَجاً).

قيل (٢) : الحرج ضيق الضيق ، وهو شدة الضيق :

وصف قلب المؤمن بالسعة والفسح ، ووصف [قلب](٣) الكافر بالضيق والحرج ، وليس قلب هذا في رأي العين أوسع من قلب الآخر ، لكنه ـ والله أعلم ـ وصف قلب المؤمن بالسعة ؛ لما انتفع بقلبه في الدنيا والآخرة ، والكافر لم ينتفع بقلبه ؛ فوصفه بالضيق والحرج ، وهو كما وصف الكافر بالصمم والبكم والخرس ؛ لما لم ينتفع بهذه الحواس ، وكذلك سماه ميتا ؛ لما لم ينتفع بحياته ، وسمى المؤمن حيّا ؛ لما انتفع بحياته ؛ فعلى ذلك هذا : وصف الكافر بضيق الصدر ؛ لما لم ينتفع به.

__________________

(١) في أ : بكنهم. وهو خطأ من الناسخ.

(٢) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ١٢٩) والرازي في تفسيره (١٣ / ١٤٩).

(٣) سقط في أ.

٢٥٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ).

قيل (١) : كالمتكلف للصعود إلى السماء لا يقدر عليه.

وقيل : (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) : كأنما يشق عليه الصعود.

وروي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : ما تصعد في شيء ما تصعده في الخطبة ، أي ما يشق علىّ شيء ما شق علىّ الخطبة.

وقوله : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ).

اختلف في الرجس قيل (٢) : الرجس : الإثم ، أي : كما جعل قلوبهم ضيقة حرجة بكفرهم كذلك يجعل في قلوبهم الإثم.

وقيل (٣) : الرجس : اللعن والغضب ، أي : جعل في قلوبهم اللعن والغضب ؛ دليله قوله : (قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) [الأعراف : ٧١].

قوله تعالى : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً).

لم يشر بهذا إلى شيء لكن يحتمل قوله : (وَهذا) : الإسلام الذي سبق ذكره : أن يشرح به صدر المؤمن ، ويحتمل قوله : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) : الذي يدعى إليه الخلق ، وهو التوحيد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) ، أي : بينا وأقمنا دلائل التوحيد وحججه ، وقد ذكرناه.

(لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ).

أي : لقوم يتعظون بالمواعظ.

ويحتمل : لقوم يقبلون (٤) الدلائل والحجج ، ولا يكابرون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

يحتمل السلام اسم الجنة [أي :] [لهم الجنة](٥) ؛ كقوله : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ)

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٤٠) (١٣٨٧٦ ، ١٣٨٧٧) عن عطاء الخرساني ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٨٤) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ١٢٩) وابن عادل في اللباب (٨ / ٤٢٥) ونسبه كلاهما للكلبي.

(٣) ذكره البغوي في تفسيره بنحوه (٢ / ١٣٠).

والرازي في تفسيره (١٣ / ١٥٠) ، وابن عادل في اللباب (٨ / ٤٢٥) عن الزجاج.

(٤) في ب : يتقبلون.

(٥) سقط في أ.

٢٥٥

[يونس : ٢٥] ، ويحتمل السلام : هو اسم الله ، أي : لهم دار الله ، [وهي الجنة](١).

وقوله (٢) ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، قيل : هو أولى بهم ، أي : أولى بالمؤمنين ؛ كقوله : (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) [النساء : ١٣٥] ، ويحتمل قوله : (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) ، أي : حافظهم وناصرهم.

وقد ذكرنا فيما تقدم «يصعد» و «يصاعد» و «يصعد» : كله لغات (٣) ، والمعنى واحد.

والضيق : قال الكيساني : الضّيق من الضّيق في المعاش ، فأما في الأمر فإنه الضّيق (٤) ، ومنه قوله : (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) [النحل : ١٢٧].

وأما قوله : (حَرَجاً) ففيه لغتان : حرج وحرج ، قال القتبي : الحرج : الذي ضاق فلم يجد منفذا.

وقال أبو عوسجة : الحرج : الضيق ، يقال منه : حرج يحرج حرجا ؛ فهو حرج.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)(١٣٢)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : كقوله.

(٣) وقرأ ابن كثير : (يصعد) ساكن الصاد ، مخفف العين ، مضارع (صعد) أي : ارتفع ، وأبو بكر عن عاصم : (يصاعد) بتشديد الصاد بعدها ألف ، وأصلها يتصاعد ، أي : «يتعاطى الصعود ويتكلفه» فأدغم التاء في الصاد تخفيفا ، والباقون : (يصعد) بتشديد الصاد والعين دون ألف بينهما ، من (يصعد) أي : تفعل الصعود وتكلفه ، والأصل : (يتصعد) فأدغم كما في قراءة شعبة وهذه الجملة التشبيهية يحتمل أن تكون مستأنفة ، شبه فيها حال من جعل الله صدره ضيقا حرجا بأنه بمنزلة من يطلب الصعود إلى السماء المظللة أو إلى مكان مرتفع (وعر) كالعقبة الكئود والمعنى : أنه يسبق عليه الإيمان كما يسبق عليه صعود السماء ، وجوزوا فيها وجهين آخرين :

أحدهما : أن يكون مفعولا آخر تعدد كما تعدد ما قبلها.

والثاني : أن يكون حالا وفي صاحبها احتمالان :

أحدهما : هو الضمير المستكن في (ضيقا).

والثاني : هو الضمير في (حرجا) ، و (في السماء) متعلق بما قبله.

ينظر إتحاف الفضلاء ٢١٦ ، وتفسير القرطبي (٧ / ٨٢) ، والكشاف (٢ / ٣٨) ، والإملاء (١ / ١٥١) ، والبحر المحيط (٤٤ / ٢١٨) ، والتبيان ٤ / ٢٨٥ ، والتيسير ١٠٦ ، ١٠٧ ، وتفسير الطبري (١٢ / ١١٠).

(٤) وعبارته : الضيق بالتشديد في الأجرام ، وبالتخفيف في المعاني. ينظر اللباب (٨ / ٤١٧).

٢٥٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً).

يعني : من تقدم ذكره من الجن ، والإنس ، أو نحشر (١) الأولين والآخرين.

(يا مَعْشَرَ الْجِنِ).

هو على الإضمار ؛ كأنه قال : يوم نحشرهم جميعا [يا معشر](٢) الجن والإنس ، ثم نقول للجن : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) ، كقوله : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، أي : يقولون (٣) : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ؛ فكذلك هذا هو على الإضمار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ).

قال أهل التأويل في قوله : (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) : [أي : أضللتم كثيرا من الإنس](٤) وهم قد استكثروا من الأتباع من الإنس : في عبادة غير الله ، ومخالفة أمر الله وتوحيده أو : قد استكثرتم عبادا من الإنس.

(وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ).

اختلف فيه : قال بعضهم : تعاون بعضنا ببعض في معصية الله ومخالفة أمره : هؤلاء بالدعاء وأولئك بالإجابة.

وقال قائلون (٥) : ربنا استمتع بعضنا ببعض أي : انتفع بعضنا ببعض بأنواع المنافع : ما ذكر ـ في بعض القصة ـ أن الرجل من الإنس إذا سافر فأدركه المساء بأرض القفر خاف ؛ فيقول : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ؛ فيأمن في ذلك بالتعوذ إلى سيدهم ؛ فذلك استمتاع الإنس بالجن ؛ فذلك [قوله](٦) : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) الآية [الجن : ٦].

وأمّا استمتاع الجن بالإنس [فهو] ما يزداد لهم الذكر والشرف في قومهم ، يقولون : لقد سودتنا الإنس. ويحتمل استمتاع الجن بالإنس ما ذكر ـ إن ثبت ـ أنه جعل طعامهم العظام التي يستعملها الإنسان ، ويكون ذلك غذاءهم ، وعلف دوابهم أرواث دواب الإنس.

__________________

(١) في أ : يحشر.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : تقولون.

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٤٣) (١٣٨٩٣) عن ابن جريج وذكره السيوطي في الدر المنثور (٣ / ٨٥) وعزاه لابن المنذر ، وأبي الشيخ ، وذكره البغوي والخازن في تفسيرهما (٢ / ٤٤٤) ونسباه للكلبي.

(٦) سقط في أ.

٢٥٧

وقال الحسن (١) : ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت الإنس ، فعلمت ذكر جواب الإنس لهم ، ولم يذكر جواب الجن لهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا).

قيل : الموت (٢).

وقيل : البعث (٣) يوم القيامة ؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث ؛ فأقروا عند ذلك : بأنا قد بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا وكنا كذبناه ، أقروا بما كانوا ينكرون.

(قالَ) [أي] الله : (النَّارُ مَثْواكُمْ) [أي مقامكم](٤). (خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ).

اختلف فيه : قال الحسن : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) : وقد شاء [الله](٥) أن يخلدهم في النار.

وقال غيره (٦) : الاستثناء من وقت البعث إلى وقت الخلود ، وهو وقت الحساب [ووقت الحساب](٧) هو وقت الثنيا ، (خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ما داموا في الحساب.

وقيل (٨) : الاستثناء للمؤمنين [الذين](٩) اتبعوهم في فعل المعاصي والجرم ولم يتبعوهم في الاعتقاد ؛ ففيه دليل إدخال المؤمنين النار بالمعاصي ، والعقوبة لهم بقدر معصيتهم ، ودليل إخراجهم منها ، إن ثبت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) يحتمل وجوها ثلاثة :

أحدها : أن خلود الآخرة أكبر من خلود الدنيا ؛ لأن خلود الدنيا على الانقضاء ، وخلود الآخرة (١٠) لا على الانقضاء.

والثاني : وقع الثنيا قبل دخولهم [في](١١) النار.

والثالث : لمن لم يتبعهم في الكفر.

__________________

(١) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٣ / ٨٥) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٤٣) (١٣٨٩٤) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٣ / ٨٥) وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ عن ابن جرير.

(٣) ذكره البغوي والخازن في تفسيرهما (٢ / ٤٤٤).

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

(٦) ذكره البغوي والخازن في تفسيرهما (٢ / ٤٤٤).

(٧) سقط في أ.

(٨) ذكره أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٢٢٤) بنحوه وابن عادل في اللباب (٨ / ٤٣٢).

(٩) سقط في أ.

(١٠) زاد في ب : ليس.

(١١) سقط في أ.

٢٥٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).

أي : حكيم بما حكم ووضع كل شيء موضعه ، عليم بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

الآية تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأن الولاية [إنما تكون بأفعالهم ثم أضاف الولاية إلى نفسه دل أنه من الله في ذلك صنع ، وهو أن خلق سبب الولاية](١) منهم ، ثم ذكر أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض بقوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة : ٧١] وذكر أن الكافرين بعضهم أولياء بعض بقوله : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [المائدة : ٥١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ).

اختلف فيه : قال بعضهم (٢) : لم يكن من الجن رسل إنما كان الرسل من الإنس ، لكنه أضاف إلى الفريقين جميعا ؛ كقوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] ، وإنما يخرج من أحدهما ، وكقوله : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) [نوح : ١٦] : وإنما جعل في واحدة منهن ، وكقول الناس : في سبع قبائل مسجد واحد : وإنما يكون في واحد منها ، وقد يضاف الشيء إلى جماعة والمراد [منه](٣) واحد ؛ فعلى ذلك ما ذكر من إضافة الرسل إلى الإنس والجن.

وقال بعضهم (٤) : كان من الفريقين جميعا : الرسول من الجن جني ، ومن الإنس إنسي ؛ لأن الجن يسترون (٥) من الإنس ، فإنما يرسل إلى الإنس رسلا يظهرون لهم ؛ فبعث إلى كل فريق الرسول من جوهرهم.

وقال بعضهم (٦) : كان الرسل من الإنس إلى الفريقين جميعا ، وكان [من](٧) الجن نذير ؛ كقوله : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ ...) الآية [الأحقاف : ٢٩] ذكر النذر منهم

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ذكره ابن جرير (٥ / ٣٤٥) ، والسيوطي في الدر (٣ / ٨٦) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٤٥) (١٣٨٩٩) عن الضحاك ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٣ / ٨٦) وعزاه لابن جرير عن الضحاك.

(٥) في ب : يستترون.

(٦) ذكره ابن جرير (٥ / ٣٤٦) ونسبه لابن عباس والسيوطي في الدر (٣ / ٨٦) وعزاه لابن المنذر عن ابن جريج.

(٧) سقط في أ.

٢٥٩

ولم يذكر الرسل ، ومرتبة النذر دون مرتبة الرسل ، كرتبة الأنبياء من الرسل ، ولكن يجوز أن يقوي (١) الرسل ـ وإن كان من الإنس ـ على الإظهار لهم ، وليس فيما يسترون (٢) عنهم منع بعث الرسل إليهم من الإنس ، وليس لنا إلى معرفة هذا حاجة ؛ إنما الحاجة إلى معرفة الآيات والحجج التي يأتي [بها] الرسل ، وقد عجز الخلائق جميعا عن إتيان مثل هذا القرآن ؛ لقوله (٣) : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء : ٨٨] : فقد أعجز الجن والإنس عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، وإن كان الجن أقوى على الأشياء (٤) من الإنس ؛ فدل أنه آية ودل عجز الجن عن ذلك وإن كانوا أقوى على أن غيرهم أعجز.

ألا ترى : أنه أنزل هذا القرآن على لسان العرب ثم عجزوا هم عن إتيان مثله ؛ فدل عجزهم عن ذلك على أن العجم (٥) له أعجز.

وجائز أن يكون الرسل إن كانوا من الإنس فإن الجن يستمعون من الرسل ؛ فيلزمهم الحجة والعمل بذلك والتبليغ إلى قومهم ، من غير أن يعلم الرسل بذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي).

يحتمل يتلون عليكم آياتي ، ويحتمل : (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) يبينون لكم [ما في آيات وحدانيته وألوهيته](٦) وآيات البعث الذي تنكرون.

(وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) ، أي : لقاء يومكم الذي تلقون ودل قوله : (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) على أن ذلك إنما يقال لهم في الآخرة.

(قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا).

هذا منهم إقرار لما كان منهم من التكذيب ؛ كقوله : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) [الملك : ١١] ، أي شهدنا على أنفسنا بأنا كنا كذبنا الرسل في الدنيا بما قالوا وأخبروا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا).

__________________

(١) في أ : يقول.

(٢) في ب : يستترون.

(٣) في ب : كقوله.

(٤) في ب : أشياء.

(٥) يقال عجم فلان عجمة كان في لسانه لكنة ويقال كذلك : عجم الكلام إذا لم يكن فصيحا ، فهو أعجم وهي عجماء ، والعجم خلاف العرب ، الواحد : عجمي ، نطق بالعربية أو لم ينطق. ينظر المعجم الوسيط (١ / ٥٨٦) (عجم).

(٦) في ب : آياته آيات الوحدانية والألوهية.

٢٦٠