تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

قيل (١) : مثل [هذا](٢) النعامة (٣) والبعير (٤).

وقيل (٥) : كل ذي ظفر : مثل الديك (٦) ، والبط (٧) ، والبعير ، وكل ما لم يكن منفرج

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠) (١٤٠٩٥ ، ١٤٠٩٦) عن ابن عباس ، (١٤٠٩٩ ، ١٤١٠٠ ، ١٤١٠٤ ، ١٤١٠٥) عن مجاهد (١٤١٠١ ، ١٤١٠٢) عن قتادة ، (١٤١٠٣) عن السدي وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٠٠) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس ، ولعبد بن حميد عن قتادة.

(٢) سقط في أ.

(٣) تجمع على النعامات ويقال لها أم البيض وأم ثلاثين. ويحل أكل النعام بالإجماع لأنه من الطيبات ولأن الصحابة رضي الله عنهم قضوا فيه إذا قتله المحرم أو في الحرم ببدنة روي ذلك عن عثمان وعلي وابن عباس وزيد بن ثابت ومعاوية رضي الله عنهم رواه الشافعي والبيهقي ثم قال الشافعي هذا غير ثابت عند أهل العلم بالحديث وهو قول الأكثر ممن لقيت وإنما قلنا في النعامة بدنة بالقياس لا بهذا. واختلفوا في بيض النعام إذا أتلفه المحرم أو في الحرم فقال عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والزهري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي تجب فيه القيمة وقال أبو عبيدة وأبو موسى الأشعري يجب فيه صيام يوم أو إطعام مسكين وقال مالك يجب فيه عشر ثمن البدنة كما في جنين الحرة غرة من عبد أو أمة قيمة عشر دية الأم ، دليل القيمة أنه جزء من الصيد لا مثل له من النعم فوجبت قيمته كسائر المتلفات التي لا مثل لها وأما حديث أبي المهزم الذي رواه ابن ماجه والدار قطني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في بيض النعامة يصيبه المحرم ثمنه فهو ضعيف باتفاق المحدثين وبالغوا في تضعيفه حتى قال شعبة أعطوه فلسا يحدثكم سبعين حديثا. ينظر حياة الحيوان (٢ / ٤٢١).

(٤) البعير : ما صلح للركوب والحمل من الإبل ، وذلك إذا استكمل أربع سنوات ، ويقال للجمل والناقة بعير. المعجم الوسيط (١ / ٦٣) (بعر).

(٥) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٨١ ـ ٣٨٢) (١٤٠٩٧) (١٤٠٩٨) عن سعيد بن جبير (١٤١٠٢) عن قتادة.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٠٠) وعزاه لأبي الشيخ عن سعيد بن جبير.

(٦) هو ذكر الدجاج وجمعه ديوك وديكة وتصغيره دويك وكنيته أبو حسان وأبو حماد وأبو سليمان وأبو عقبة وأبو مدلج وأبو المنذر وأبو نبهان وأبو يقظان وأبو برائل والبرائل الذي يرتفع من ريش الطائر في عنقه وينفشه الديك للقتال وقيل إنه للديك خاصة ويسمى الأنيس والمؤانس ومن شأنه أنه لا يحنو على ولده ولا يألف زوجة واحدة وهو أبله الطبيعة وذلك أنه إذا سقط من حائط لم يكن له هداية ترشده إلى دار أهله وفيه من الخصال الحميدة أنه يسوي بين دجاجه ولا يؤثر واحدة على واحدة إلا نادرا وأعظم ما فيه من العجائب معرفة الأوقات الليلية فيقسط أصواته عليها تقسيطا لا يكاد يغادر منه شيئا سواء طال أو قصر ويوالي صياحه قبل الفجر وبعده فسبحان من هداه لذلك. ينظر حياة الحيوان (١ / ٣١١).

(٧) البط طائر الماء الواحدة بطة وليست الهاء للتأنيث وإنما هي للواحد من الجنس يقال هذه بطة للذكر والأنثى جميعا مثل حمامة ودجاجة وليس بعربي محض والبط عند العرب صغاره وكباره إوز وحكمه وخواصه كالإوز وفي مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن رويس قال دخلت على علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في يوم نحر فقرب إلينا خزيرة فقلنا أصلحك الله لو قربت إلينا من هذا البط يعنون الإوز فإن الله تعالى قد أكثر الخير فقال يا ابن رويس سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لا يحل لخليفة من مال الله تعالى إلا قصعتان قصعة يأكلها وقصعة يضعها بين أيدي الناس وفي الكامل لابن عدي في ترجمة علي بن زيد بن جدعان قال سفيان بن عيينة سمعت علي بن زيد بن جدعان سنة ـ

٣٠١

الأصابع والقوائم.

وقيل (١) : حرمنا كل ذي حافر من نحو حمار الوحش (٢) والوز (٣) وغيره.

وقيل (٤) : (حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) : كل ذي مخلب من الطير ، وكل ذي ناب من السباع ، ومن الدواب : كل ذي ظفر منشق ؛ مثل : الأرنب (٥) والبعير وأشباههما ، وهو قول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ والأشبه أن يكون ما ذكر [من تحريم كل ذي ظفر عليهم هو ما يحل أكله لا ما يحرم وهو ما ذكر بعضهم أنه البعير والغنم لأنه ذكر](٦) في آية أخرى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ...) الآية [النساء : ١٦٠].

__________________

ـ سبع وستين يقول مثل النساء إذا اجتمعن بمنزلة البط إذا صاحت واحدة صحن جميعا. حياة الحيوان (١ / ١١٣ ـ ١١٤).

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٨٢) (١٤١٠٥) عن مجاهد وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٠٠) وعزاه لأبي الشيخ عن مجاهد.

(٢) الذي يحل من الصيود : الظباء ، وحمر الوحش ، وبقره ، على اختلاف أنواعها ، ولا خلاف في ذلك ، إلا ما يروى عن طلحة بن مصرف قال : إن الحمار الوحشي إذا تأنس واعتلف فهو بمنزلة الأهلي : أي يحرم أكله.

وأهل العلم على خلافه ؛ لأن الظباء إذا تأنست لم تحرم ، والأهلي إذا توحش لم يحل ، ولا يتغير منها شيء عن أصله ، وعما كان عليه.

(٣) نوع من الطيور يشبه البط ولكنه أكبر منه جسما وأطول عنقا. المعجم الوسيط (١ / ٣٢) (الإوز).

(٤) ذكره الفخر الرازي في تفسيره (١٣ / ١٨٣) ونسبه لعبد الله بن مسلم ، وأبو حيان في البحر (٤ / ٢٤٥) ونسبه للكلبي.

(٥) جمهور الفقهاء من السلف والخلف على حل أكله ، وبه قال الأئمة الأربعة والليث ، وأبو ثور ، وابن المنذر.

وخالف الفقهاء في ذلك ثلاثة : صحابي : وهو عبد الله بن عمرو بن العاص.

وتابعي وهو عكرمة ، ومن الفقهاء : ابن أبي ليلى.

احتج الجمهور بما روي عن أنس ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : (أنفجنا أرنبا بمر الظهران ، فسعى القوم فغلبوا ، وأدركتها فأخذتها ، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها ، وبعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوركها فقبله) رواه الجماعة.

وعن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأرنب وقد شواها ، ومعها صنابها وأدمها ، فوضعها بين يديه ، فأمسك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يأكل ، وأمر الصحابة أن يأكلوا) رواه أحمد والنسائي ، وفي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بأكل الأرنب دليل على حله.

واستدل المانعون بحديث خزيمة بن جزء قال : (قلت يا رسول الله ، ما تقول في الأرنب؟ قال : لا آكلها ولا أحرمها. قلت : ولم يا رسول الله؟ قال : نبئت أنها تدمى).

قال الحفاظ : سنده ضعيف ؛ فلا يعارض ما ثبت في الصحيح ، على أنه لا دلالة فيه على التحريم بعد قوله عليه الصلاة والسلام (ولا أحرمه).

وإن صح نحو هذا الحديث كان صالحا للاحتجاج به على كراهة التنزيه. ينظر : الذكاة لعبد الله حمزة ص (٥٦ ، ٥٧).

(٦) سقط في أ.

٣٠٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما).

قيل (١) : [تحرم](٢) [شحوم](٣) بطونهما ، ومن الثروب (٤) ، وشحم الكليتين.

(أَوِ الْحَوايا). وهي المباعر والمصارين ، أي : الشحم الذي عليهما.

(أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ).

قيل (٥) : الألية.

وقيل : قوله : (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) : هو سمن اللحم ، قيل فيه أقاويل مختلفة في هذا ، وفي الأول في قوله : (حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) ، لكن ليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة ؛ لأن تلك شريعة قد نسخت ، والعمل بالمنسوخ حرام ، فإذا لم يكن علينا العمل بذلك فليس (٦) لنا إلى معرفة ذلك حاجة كان ذا أو ذا ، وإنما علينا أن نعرف : لم كان (٧) ذلك التحريم عليهم؟ وبم كان تحريم هذه الأشياء عليهم؟

فهو ـ والله أعلم ـ ما ذكر في قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً ...) الآية [النساء : ١٦٠] الآية ، أخبر أن ما حرم عليهم من الطيبات ؛ بظلمهم للذين ظلموا ؛ ولذلك قال الله ـ تعالى ـ :

(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ).

أخبر أن ذلك جزاء بغيهم الذي بغوا.

والثاني : أنهم كانوا يدعون ويقولون : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] ، يقول : لو كنتم صادقين في زعمكم أنكم أبناء الله وأحباؤه ، لكن لا أحد يعاقب ولده أو حبيبه بأدنى ظلم ، ولا يحرم عليه الطيبات ، فإذا كان الله حرم عليكم الطيبات ، وجزاكم بتحريم أشياء ؛ عقوبة لكم بظلمكم وبغيكم ـ ظهر أنكم كذبتم في دعاويكم ، وافتريتم بذلك على الله.

__________________

(١) أخرجه بمعناه ابن جرير (٥ / ٣٨٣) (١٤١٠٩) عن السدي (١٤١١٠) عن ابن زيد ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٠١) وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي ، ولابن المنذر عن ابن جريج.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

(٤) جمع ثرب وهو شحم رقيق يغشى الكرش والأمعاء. المعجم الوسيط (١ / ٩٤) ثرب.

(٥) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٨٥) (١٤١٢٧) عن ابن جريج وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٠١) وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ عن ابن عباس.

(٦) في ب : ليس.

(٧) في ب : بم كان.

٣٠٣

وفيه دليل إثبات رسالة محمد ونبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم كانوا يحرمون هذه الأشياء فيما بينهم ، ولا يقولون : إنهم ظلمة ، وإن ما حرم عليهم [كان](١) بظلم كان منهم وبغى ، ثم أخبرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ما حرم عليهم من الطيبات إنما حرم بظلمهم وبغيهم ؛ دل أنه إنما أخبر بذلك عن الله ، وبه عرف ذلك ؛ فدل أنه آية من آيات نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ).

أي : ذلك التحريم عقوبة لبغيهم وظلمهم.

(وَإِنَّا لَصادِقُونَ) [أي : إنا لصادقون](٢) بالإنباء أن ذلك كان بظلمهم وبغيهم ، أو (٣) إنا لصادقون في كل ما أخبرنا وأنبأنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) [١٤٧].

قال الحسن (٤) : فإن كذبوك فيما تدعوهم إليه وتأمرهم به : من التصديق ، والتوحيد له ، والربوبية فقل : ربكم ذو رحمة [واسعة](٥) إذا رجعتم عن التكذيب ، وصدقتم وعرفتم أنه واحد لا شريك له ، يغفر لكم ما كان منكم في حال الكفر ، ويكفر عنكم سيئاتكم التي كانت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [١٤٧].

كأنه على التقديم والتأخير ، [كأنه](٦) يقول : فإن كذبوك فقل : (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).

ثم قل : (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) : يسع في رحمته العفو إذا تبتم.

وقال غيره من أهل التأويل : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) يا محمد حين أنبأتهم بما حرم الله عليهم بظلمهم وبغيهم ، (فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) لا يهلك [أحدا](٧) وقت ارتكابه المعصية ، ولا يعذبه حالة ذلك ، لكنه يؤخر ، (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ) أي : عذابه إذا نزل بقوم مجرمين بجرمهم ، والله أعلم.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : و.

(٤) ذكره أبو حيان في البحر المحيط بنحوه (٤ / ٢٤٧).

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في أ.

٣٠٤

قوله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(١٥٠)

قوله ـ عزوجل ـ : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) [١٤٨].

قيل (١) : الآية في مشركي العرب.

قالوا ذلك حين لزمتهم المناقضة ، وانقطع حجاجهم في تحريمهم (٢) ما حرموا من الأشياء ، وأضافوا ذلك إلى الله ، وهو صلة قوله : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ ...) إلى آخر ما ذكر [الأنعام : ١٤٣] إلى قوله : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) [الأنعام : ١٤٤] فلما لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم فزعوا عند (٣) ذلك إلى هذا القول : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) ، فيقول الله لنبيه : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : من الأمم الخالية رسلهم كما كذبك هؤلاء ، وكانوا يقولون لرسلهم ما قال لك هؤلاء : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا ...) إلى آخر ما ذكر.

ثم اختلف في تأويل قوله : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) [إلى آخر ما ذكر](٤).

قال الحسن ، والأصم (٥) : إن المشيئة ـ هاهنا ـ : الرضا ؛ قالوا : رضي الله بفعلنا وصنيعنا ، حيث فعل آباؤنا مثل ما فعلنا ، وصنعوا مثل ما صنعنا (٦) ، فلم يحل الله بينهم وبين ذلك ، ولا أخذ على أيديهم ، ولا منعهم عن ذلك ، فلو لم يرض بذلك منهم (٧) لكان يحول ذلك عنهم ويمنعهم عنه.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٨٧) (١٤١٣٥ ، ١٤١٣٦) عن مجاهد.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٠٢) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن مجاهد.

(٢) في ب : تحريم.

(٣) في أ : فرغوا عنه.

(٤) سقط في ب.

(٥) ذكره أبو حيان في البحر (٤ / ٢٤٨) ونسبه للماتريدي.

(٦) في ب : صنيعنا.

(٧) في ب : عنهم.

٣٠٥

وإنما استدلوا بالرضا من الله والإذن فيه بما كانوا يخوفون إياهم (١) الهلاك والعذاب بصنيعهم الذي كانوا صنعوا ، ثم رأوهم ماتوا على ذلك ولم يأتهم العذاب ، فاستدلوا بتأخير نزول العذاب عليهم على أن الله رضي بذلك ، والله أعلم.

وليس للمعتزلة في ظاهر هذه الآية [أدنى](٢) تعلق ؛ لأنهم يقولون : إن الله ـ تعالى ـ قد ردّ ذلك القول الذي قالوا ، وعاتبهم على ذلك القول بقوله : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) ، وأوعدهم على ذلك وعيدا شديدا ، فلو كان يجوز إضافة المشيئة إلى الله تعالى في ذلك على ما تضيفون أنتم لم يكن يرد ذلك عنهم (٣) ، ولا عاتبهم على ذلك ، ولا أوعدهم وعيدا في ذلك ؛ دل أنه لا يجوز أن يقال ذلك ، ولا إضافة المشيئة إليه في ذلك.

فنقول ـ وبالله التوفيق ـ : إن المشيئة ـ هاهنا ـ تحتمل وجوها :

أحدها : ما قال الحسن والأصم من الرضا ؛ قالوا : إن الله رضي بذلك.

والثاني : الأمر والدعاء إلى ذلك ؛ يقولون : إن الله أمرهم بذلك ، ودعاهم إلى ذلك.

والثالث : كانوا يقولون ذلك على الاستهزاء والسخرية ، لا على الحقيقة ، وهكذا أمر المجوس أنهم إذا قيل لهم هذا : لم لا تؤمنون وتسلمون؟ يقولون ما قال هؤلاء : لو شاء الله لآمنا ولا أشركنا ؛ فهذا العتاب الذي لحقهم والوعيد الذي أوعدهم إنما كان لما قالوا ذلك استهزاء منهم ، أو لما (٤) ادعوا من الأمر والدعاء على الله وافتروا عليه ، أو الرضا أنه رضي بذلك.

على هذه الوجوه الثلاثة تخرج المشيئة في هذا الموضع ـ والله أعلم ـ لا على ما قاله المعتزلة ، وهو ما ذكر في آية أخرى : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) [مريم : ٦٦] هي كلمة حق ، لكن قالها استهزاء وهزؤا ، فلحقه العتاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) أي : هل عندكم من بيان وحجة من الله [فتبينوه لنا وتظهروه على زعمكم أن الله أمركم بذلك ودعاكم إليه أو ترككم على ذلك لما رضي بذلك](٥) دون أن أمهلكم ليعذبكم ، أو ليس قد ترك من خالفكم في ذلك ، ثم لم يدل تركه إياهم على أنه رضي بذلك ، فقال الله :

__________________

(١) في أ : آباءهم.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : عليهم.

(٤) في أ : ولما.

(٥) سقط في أ.

٣٠٦

(إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ).

أي : ما تتبعون في ذلك إلا الظن.

(وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١١٦]

أي : ما هم إلا يخرصون ويكذبون في ذلك ، ليست لهم حجة ولا بيان على ما يدعون من الأمر والدعاء إلى ذلك ، والترك على ما هم عليه من الرضا به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ).

[قيل : الحجة البالغة](١) : التي إذا بلغت كل شبهة أزالتها ، وكل غافل نائم نبهته وأيقظته.

وقيل (٢) : الحجة البالغة : التامة القاهرة ، الظاهرة على كل شيء ، الغالبة عليه ، لم تبلغ شيئا إلا قهرته وغلبته.

وقال الحسن : الحجة البالغة في الآخرة : لا يعذب أحدا ولا يعاقبه إلا لحجة تلزم ، لا يعاقب بهوى أو انتقام أو شهوة على ما يعاقب في الشاهد ولا غيره ، ما من أحد من الخلائق إلا ولله عليه الحجة البالغة ، أما الملك المقرب : فإن الله جبله على الطاعة فلا يعصيه ، منّا من الله عليه طولا وفضلا ، فهو مقصر عن شكر نعمة الله عليه ، وأما النبي المرسل والعبد الصالح : فلله عليهما السبيل والحجة من غير وجه.

ثم تحتمل الحجة البالغة وجوها :

أحدها : هذا القرآن الذي أنزله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية معجزة وحجة بالغة ما عجز الخلائق عن إتيان مثله ، فدل عجزهم عن إتيان مثله على أنه آية من آيات الله ، وحجة من حجج الله أرسلها إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثاني : أنه جعل في كلية الخلائق والأشياء ما يشهد أن الخلائق والأشياء كلها له شهادة خلقه ، وتدل كلية الأشياء على وحدانيته ، فهو حجة بالغة.

والثالث : ألسن الرسل وأنباؤهم ؛ [حيث لم يؤاخذوهم بكذب قط فيما بينهم ، ولا جرى على لسانهم كذب قط ، ولا فحش ؛ عصمهم ـ عزوجل ـ](٣) عن ذلك ، فدل [ذلك](٤) على أنهم إنما خصوا بذلك ؛ لما أن الله جعلهم حججا وآيات على وجه الأرض حجة بالغة ، وبالله العصمة.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر تفسير البغوي والخازن (٢ / ٤٦٤).

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

٣٠٧

وقال بعضهم : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) في تحريم الأشياء وتحليلها ، ليس لهؤلاء الذين يحرمون أشياء لهم في تحريمهم حجة ، إنما يحرمون ذلك بهوى أنفسهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ).

قال الحسن : المشيئة ـ هاهنا ـ : مشيئة القدرة ، وقال : لو شاء قهرهم وأعجزهم حتى لم يقدروا على معصية قط ؛ على ما جعل الملائكة جبلهم على الطاعة حتى لا يقدروا على معصية قط ، ثم هو يفضل الملائكة على الرسل والأنبياء والبشر جميعا ، ويقول : هم مجبورون على الطاعة ، فذلك تناقض في القول لا يجوز من كان مقهورا مجبورا على الطاعة يفضل على من يعمل بالاختيار مع تمكن الشهوات فيه ، والحاجات التي تغلب صاحبها وتمنعه عن العمل بالطاعة ، أو يقول (١) : فضلهم بالجوهر والأصل ، فلا يجوز أن يكون لأحد بالجوهر نفسه فضل على غير ذلك الجوهر ؛ لأن الله ـ تعالى ـ لم يذكر فضل شيء بالجوهر إلا مقرونا بالأعمال الصالحة الطيبة ؛ كقوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ* تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) [إبراهيم : ٢٤ ـ ٢٦] وغيره ، وقوله : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) [الأعراف : ٥٨] وقوله : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] ونحوه ، لم يفضل أحدا بالجوهر على أحد ، ولكن إنما فضله بالأعمال الصالحة ؛ لذلك قلنا : إن قوله يخرج على التناقض ، وتأويل قوله : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) عندنا ظاهر ، لو شاء لهداهم جميعا ، ووفقهم للطاعة ، وأرشدهم لذلك ، وهو كقوله : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ ...) الآية [الزخرف : ٣٣] فإذا كان الميل إلى الكفر لمكان ما جعل لهم من الفضة والزينة ، فإذا كان ذلك للمؤمنين آمنوا ، ثم لم يجعل كذلك ، دل هذا على أن قولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) هو الأمر والرضا ، أو ذكروا على الاستهزاء ؛ حيث قال : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ).

والمعتزلة يقولون : المشيئة ـ هاهنا ـ مشيئة قسر وقهر ، وقد ذكرنا ألا يكون في حال القهر إيمان ، وإنما يكون في حال الاختيار ، والمشيئة مشيئة الاختيار ، ولا تحتمل مشيئة الخلقة ؛ لأن كل واحد (٢) بمشيئة الخلقة مؤمن (٣) ، فدل أن التأويل ما ذكرنا.

__________________

(١) فى أ : ويقول.

(٢) في أ : أحد.

(٣) في أ : المؤمن.

٣٠٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) [١٥٠] الذي تحرمون أنتم من الوصيلة ، والسائبة ، والحامي ، وما حرموا من الحرث والأنعام (فَإِنْ شَهِدُوا). أن الله حرّمه (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ).

كيف قال : (هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ)

دعاهم إلى أن يأتوا بالحجة ، فإذا أقاموها لا تشهد معهم ، لكن هذا ـ والله أعلم ـ أنهم يعلمون أن التحريم إلى الله ، ليس إلى أحد من الخلائق ، فإن شهدوا بأنه حرم ، فلا تشهد معهم ؛ فإنهم شهدوا بباطل.

ويحتمل : أن يكون أمره أن يسألهم شهداء من أهل الكتاب يشهدون لهم بأن الله حرم هذا ؛ لأن هؤلاء كانوا أهل شرك ، وعبدة الأوثان يسألون أهل الكتاب وأهل الرسل يشهدون لهم بذلك ، فإن شهدوا فلا تشهد معهم أي : لا يشهدون (١) لهم بذلك ، فلا تشهد أنت ـ أيضا ـ معهم ؛ على الإخبار أنهم لا يشهدون ؛ وهو كقوله : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ ...) الآية [الحشر : ١٢] ، أخبر عن المنافقين أنهم قالوا : (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ...) [الحشر : ١١] ثم أخبر عنهم أنهم (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ...) الآية ، لكنه أخبر أنهم لا يقاتلون رأسا ، وإلا لو نصروهم لا يولون (٢) الأدبار ؛ فعلى ذلك قوله : (هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) ؛ لأنهم لا يشهدون ، والله أعلم.

ويشبه أن يسألوا حتى يأتوا بآبائهم حتى يشهدوا ؛ لأنهم كانوا يقولون : إنا وجدنا عليها آباءنا ، والله أمرنا بها ، وإن الله رضي بصنيع آبائنا ؛ حيث لم يهلكهم ، وتركهم على ذلك ، فيسألون أن يأتوا بأولئك حتى يكونوا هم الذين يشهدون على ذلك ، فلن يجدوا إلى ذلك سبيلا أبدا ؛ وهو كقوله : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة : ٢٣] فلا يجدون أبدا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا).

دل أن ما كانوا يحرمون إنما يحرمون بهواهم ، لا بحجة وبرهان.

(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).

__________________

(١) في ب : تشهدون.

(٢) في أ : ليولون.

٣٠٩

أي : يعدلون الأصنام في العبادة والألوهية بربهم.

قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١٥٣)

قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) [١٥١] يقول : تعالوا أقرأ عليكم ما حرم ربكم ، وأبين لكم ما حرم بحجة وبرهان ، وأن ما حرمتم أنتم حرمتم تقليدا منكم لآبائكم ، أو حرمتم بهوى أنفسكم ، لا حرمتم بأمر أو حجة وبرهان.

ثم بين الذي حرم عليهم فقال : (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً).

الشرك حرام بالعقل ، ويلزم كل من عقل التوحيد ومعرفة الرب ؛ لما كان منه من تركيب الصور وتقويمها بأحسن صور يرون ويعرفون أنه لم يصورها أحد سواه ، ولا قومها ، ولا يشركه آخر في ذلك ، وما كان منه إليكم من أنواع الإحسان والأيادي ، فكيف تشركون غيره في ألوهيته وربوبيته؟! فذلك حرام بالعقل والسمع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً).

يخرج على وجهين :

أحدهما : على الوقف والقطع على قوله : (عَلَيْكُمْ) ، والابتداء من قوله : (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) ؛ كأنه لما قال : (أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ). ، فقالوا : أي شيء (١) الذي حرم علينا ربنا؟ فقال : (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً).

والوجه الآخر : على الوصل بالأول ، ولكن على طرح «لا» ؛ فيكون كأنه قال : حرم ربكم عليكم أن تشركوا به شيئا ، وحرف «لا» (٢) قد يطرح ويزاد في الكلام.

__________________

(١) في أ : أيش. وهي لهجة في أي شيء.

(٢) وحاصل القول في (لا) في هذه الآية أنها قد تكون نافية ، وقد تكون ناهية ، وقد تكون زائدة ، والجميع محتمل.

فإذا قدرناها نافية كان تقدير الكلام أبين لكم ذلك لئلا تشركوا بالله ، وإذا قدرناها ناهية كانت (أن) مفسرة بمعنى أي ، ولا ناهية ، والفعل مجزوم لا منصوب وكأنه قيل : أقول لكم لا تشركوا به شيئا.

وإذا قدرناها زائدة ف (ما) خبرية بمعنى الذي منصوبة ب (أتل) و (حرم ربكم) صلة (وعليكم) ـ

٣١٠

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً).

أي : برّا بهما.

فإن قيل : قال ـ تعالى ـ : (أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) ، وهاهنا يأمر بالإحسان إليهما (١) ، ولم يذكر المحرم؟

قيل : في الأمر بالإحسان إليهما تحريم ترك الإحسان ؛ فكأنه قال : حرم عليكم ترك الإحسان إلى الوالدين ، وفرض عليكم برهما والإحسان إليهما.

ثم فيه : إنكم تعرفون بالعقل أن الإحسان [إلى الوالدين واجب (٢) ، والإساءة إليهما حرام (٣) عليكم ، ولم يكن منهما إليكم من الإحسان أكثر ممّا كان من الله إليكم](٤) ، فكيف تختارون الإساءة إلى الله والإشراك في عبادته غيره ، ولا تختارون الإساءة إلى الوالدين؟! بل تختارون الإحسان إليهما.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ).

إنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية الفقر والفاقة ، فهو مما حرم عليهم ، وهذا يدل على أن الحظر في حال لا يوجب الإباحة في حال أخرى ؛ لأنه قال : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ

__________________

ـ متعلقة ب (حرم) ، وأجاز الزجاج كون (ما) استفهامية منصوبة ب «حرم» والجملة محكية ب (أتل) لأنه بمعنى أقول وعلى ذلك ف (أن) وما بعدها في موضع رفع خبر ل (هو) محذوف ، والله أعلم.

(١) في ب : إليهم.

(٢) الواجب هو الفعل الذي طلبه الشارع طلبا جازما سواء ثبت بدليل قطعي أو ظني هذا عند الجمهور وأما عند الحنفية فيختلف الفرض والواجب ، فالفرض عندهم ما ثبت وجوبه بدليل مقطوع به والواجب : ما ثبت لزومه بدليل فيه شبهة العدم.

ينظر ميزان الأصول (١ / ١٢٨) ، المستصفى (١ / ٦٦) ، كشف الأسرار (١ / ٣٠١) ، جمع الجوامع (١ / ٨٨).

(٣) الحرام ، والمحرم ، والنهي ـ على خلاف ما يذكر في حد الفرض والواجب القطعي.

بمعنى : أن من قال في حد الواجب : ما يأثم لتركه ، يقول في حد الحرام : ما يأثم لفعله.

ومن قال في حد الواجب : ما أوعد على تركه. يقول في حد الحرام : ما أوعد على فعله ... إلى آخر ما تكلموا فيه.

وقيل : المحرم ما حرم فعله.

وقيل : ما منع من فعله ، وقد ثبت المنع بدليله من النهي والخبر عن الحرمة.

ولكن إنما يصح هذا الحد على قول من يقول بتحريم الأفعال دون الأعيان فيجب أن يذكر على الإطلاق حتى يصح هذا التحديد بالاتفاق ،

فيقال : المحرم : هو الممنوع شرعا حتى يدخل تحته الأفعال والأعيان.

ينظر : ميزان الأصول في نتائج العقول في أصول الفقه ، د. عبد الملك السعدي (١ / ١٤٦ ـ ١٤٧).

(٤) سقط في ب.

٣١١

إِمْلاقٍ) [الإسراء : ٣١] ليس فيه إباحة القتل إذا لم يكن هنالك (١) خشية الإملاق (٢) ، لكن ذكر هذا ؛ لأنهم [إنما](٣) كانوا يقتلون في ذلك (٤) الحال ، ففي ذلك خرج النهي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ).

أي : على ما يخرج لكم من الزرع والثمار ، [والنبات](٥) فرزقكم من ذلك ، فعلى ذلك يرزق أولادكم مما يخرج من الأرض من النبات والزروع (٦) والثمار ، فلا تقتلوهم ، فإذا لم تقتلوا أنفسكم خشية الفقر والفاقة ، كيف تقتلون أولادكم لذلك؟ فالذي يرزقكم هو الذي يرزق أولادكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ).

يحتمل قوله : (وَلا تَقْرَبُوا) ، أي : لا تواقعوها.

ويحتمل : لا تدنوا منها ، ولكن اجعلوا بينكم وبين الفواحش والمحرمات حجابا من الحلال ، وهكذا الحق على المسلم ألا يدنو من الحرام ، ويجعل بينه وبين ذلك حجابا وسترا من الحلال.

ثم اختلف في قوله : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) :

قيل : الفواحش : الزنا ، ما ظهر منها : المخالطة باللسان ، والمجالسة معهن ، (وَما بَطَنَ) : فعل الزنا نفسه ؛ كانوا يجتمعون ، ويجالسونهن ، ولكن لا يجامعونهن بين أيدي الناس ، ثم إذا خلوا بهن زنوا بهن.

وقيل : كانوا يزنون بالحرائر سرّا ، وبالإماء ظاهرا ؛ فحرم ذلك عليهم.

وقيل (٧) : (ما ظَهَرَ مِنْها) : نكاح الأمهات (٨) ، (وَما بَطَنَ) : هو الزنى ، وكان

__________________

(١) في ب : هناك.

(٢) يقال : أملق الرجل : افتقر ، وحقيقة أملق صار ذا إملاق. قال الليث : الإملاق : كثرة إنفاق المال ، وقال النضر : إنه لمملق أي مفسد. وأملق يكون لازما ومتعديا ، يقال : أملق زيد وأملقه الدهر ، وأنشد لأوس :

لما رأيت العدم قيد نائلي

وأملق ما عندي خطوب تنبل

وملق الجدي أمه : رضعها. ينظر : عمدة الحفاظ (٤ / ١٢٤ ، ١٢٥).

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : تلك.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : من الزرع.

(٧) ذكره ابن جرير (٥ / ٣٩٢) ، والسيوطي في الدر (٣ / ١٠٤) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.

(٨) اتفقت كلمة المسلمين قاطبة على أنه لا يجوز للإنسان أن يتزوج أمه ، وهذا المنع لم يكن خاصا بشريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل ذلك ثابت من زمن آدم إلى يومنا هذا حتى إنه لم ينقل حل نكاحهن في أي ـ

٣١٢

__________________

ـ دين من الأديان.

وأما نكاح الأخوات ، فنقل أنه كان مباحا في زمن آدم ؛ لضرورة التناسل ، وبقاء النوع ، ثم لما كثر النسل وانتفت الضرورة صار حراما.

ثم إن الأم في اللغة : الأصل ، قال الله تعالى : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)[الرعد : ٣٩] فكل امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك أو أمك بدرجة أو بدرجات ، سواء رجعت إليها بذكور أم بإناث فهي أمك.

وقد استدل المسلمون على أن ذلك حرام بالنقل والعقل :

أما النقل : فقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ)[النساء : ٢٣].

وقال بعضهم إن هذه الآية لا تدل على تحريم نكاح الأمهات ، وذلك لأن التحريم في الآية أضيف إلى الأمهات ، والتحريم لا يمكن إضافته إلى الأعيان ، وإنما يمكن إضافته إلى الأفعال ، وذلك الفعل غير مذكور في الآية ، فكما يحتمل أن يكون المراد منه النكاح يحتمل أن يراد منه الأكل أو الجلوس ، فإذا تعين أن يكون المراد منه النكاح دون غيره بلا مرجح ـ كان تحكما وترجيحا بلا مرجح.

فيجاب عنه أولا : بأن هناك مرجحا ؛ إذ تقدم قبل هذا قوله عزوجل : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ...)[النساء : ٢٢] الآية.

فهذه قرينة دالة على أن المراد النكاح.

وثانيا : أن هذا معلوم من الدين بالضرورة ، فلا وجه للتنصيص عليه ؛ لأن الأصل في ذلك أن الحرمة أو الإباحة إذا أضيفتا إلى الأعيان ، فالمراد الفعل المطلوب منهما في العرف.

وقد ورد على هذه الآية أيضا أنها ليست نصّا في تحريم الأمهات على سبيل التأبيد ، فإن القدر المذكور في الآية يمكن تقسيمه إلى المؤبد والمؤقت ، كأن الله ـ تعالى ـ يقول تارة حرمت عليكم أمهاتكم إلى الوقت الفلاني فقط ، وتارة أخرى يقول : حرمت عليكم أمهاتكم مؤبدا.

وإذا كان القدر المذكور صالحا لأن يجعل موردا للتقسيم ، لم تكن الآية نصّا في التأبيد.

فيجاب عنه أولا : بأن التحريم الذي ورد في الآية ورد مطلقا ، فينصرف إلى الفرد الكامل منه ، وهو التأبيد حتى يرد دليل على التأقيت ، ولا دليل.

ثانيا : أن من يلاحظ الدليل العقلي ، وأن ذلك المنع لعلة وأنها لا تزال مستمرة إلى الأبد ـ فهم التأبيد.

وأما العقل : فلأن ذلك يفضي إلى قطع الرحم ، وقطع الرحم حرام ؛ وذلك لأن النكاح لا يخلو من مباسطات تجري بين الزوجين عادة وبسببها تجري الخشونة بينهما ، وهذه تفضي إلى قطع الرحم.

وأما الجدات سواء أكن من قبل الأم أم الأب ، وسواء كانوا أقارب أم أباعد فإن الأئمة اتفقوا على تحريم نكاحهن وذلك إما بالنص ؛ لأن اللغة تقول : (أم كل شيء أصله) فأم القرى مكة ؛ لأنها توسطت الأرض فيما زعموا ، أو لأنها قبلة الناس يؤمونها ، أو لأنها أعظم القرى شأنا.

وأم الكتاب أصله ، أو اللوح المحفوظ.

ومنه قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ «الخمر أم الخبائث».

أي : أصلها ، فالأم على هذا من قبيل التواطؤ.

ويصح أن يكون تحريم الجدات بدلالة النص لأن الله تعالى حرم العمات والخالات ، وهن أولاد الجدات ؛ فكانت الجدات أقرب إلينا منهن ؛ فكان تحريمهن تحريما للجدات من باب أولى ؛ كتحريم التأفيف نصّا يكون تحريما للضرب والشتم دلالة. ينظر المحرمات من النساء لمحمد البشير الشندي.

٣١٣

نكاح الأمهات [ظاهرا](١) ، وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير ، رضي الله عنهما.

وقيل : الفواحش : المحرمات جملتها ، فما ظهر منها : فيما بينهم وبين الخلق ، وما بطن : فيما بينهم وبين الله تعالى.

وقيل (٢) : (ما ظَهَرَ مِنْها) : ما يكون بالجوارح ، (وَما بَطَنَ) : ما يكون بالقلب.

وعن مجاهد (٣) قال : (ما ظَهَرَ) : الجمع بين الأختين ، وتزوج الرجل امرأة أبيه وما بطن منها : الزنى ، وما حرم أيضا.

ويحتمل قوله : (ما ظَهَرَ) : ما يرى غيره ويبصر ، (وَما بَطَنَ) : ما يكون بالعين والقلب ؛ على ما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «العينان تزنيان ، واليدان تزنيان» (٤) وما بطن : يكون زنى العين والقلب ؛ لأنه لا يعلمه غير الناظر ، والله أعلم ؛ فيصير كأنه ذكر التحريم في كل حرف من ذلك ، أي : حرم عليكم الشرك ، وحرم عليكم ترك الإحسان إلى الوالدين ، وحرم قتل الأنفس إلا بالحق ؛ فيصير كأنه ذكر التحريم في كل من ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ).

قيل (٥) : بالحق : إذا ارتد يقتل به ، وفي القصاص ، وفي الزنى إذا كان محصنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ).

(ذلِكُمْ) يعني : المحرمات التي (٦) ذكر (وَصَّاكُمْ بِهِ) اختلف فيه :

قيل (٧) : (وَصَّاكُمْ بِهِ) : فرض عليكم.

وقيل (٨) : (وَصَّاكُمْ بِهِ) : أمركم به.

وقيل : (وَصَّاكُمْ بِهِ) : بين لكم المحرم. وكله يرجع إلى واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أنه لم يحرم إلا ما ذكر (٩) ولم يحرم ما حرمتم

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (٤ / ٢١٤).

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٩٢) (١٤١٥٠).

(٤) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٤٦) كتاب القدر باب قدر على ابن آدم حظه من الزنى (٢١ / ٢٦٥٧) ، وأحمد في مسنده (٢ / ٣٧٢).

والبغوي في شرح السنة (١ / ١٣٨) كتاب الإيمان باب الإيمان بالقدر ، عن أبي هريرة.

(٥) ذكره ابن جرير (٥ / ٣٩٣) ، والبغوي في تفسيره (٢ / ١٤١) ، وابن عادل في اللباب (٨ / ٥١٠).

(٦) في ب : الذي.

(٧) ذكره بمعناه ابن عادل في اللباب (٨ / ٥١١).

(٨) ذكره البغوي والخازن في تفسيرهما (٢ / ٤٦٦).

(٩) في ب : ذكرها.

٣١٤

أنتم من الأنعام وغيرها.

و (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي : لكي تنتفعوا بعقولكم.

أو نقول : إن ذلكم وصاكم به لتعقلوا ؛ لأن حرف «لعل» من الله على الوجوب ، أي يعقلون عن (١) الله بما خاطبهم به وأمرهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [١٥٢].

قال أبو بكر الكيساني : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) ؛ أي : لا تأكلوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن.

وقال : ثم اختلف في الوجه الذي يحسن :

قال بعضهم (٢) : هو أن يعمل له فيأكل من ماله أجرا لعمله (٣).

وقال آخرون (٤) : يأكله قرضا (٥) ، وذلك مما اختلفوا فيه.

وقال غيرهم (٦) : هو أن ينتفع بدوابه ، ويستخدم جواريه ، ونحو ذلك ، وقال : وذلك مما لا يحتمل تأويل الآية.

وعندنا أن الآية باحتمال هذا أولى ؛ لما يقع لهم الضرورة في استخدام مماليكه ، وركوب دوابه ، والانتفاع بذلك ؛ لما يقع لهم المخالطة بأموال اليتامى ؛ كقوله : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة : ٢٢٠] فإذا كان لهم المخالطة ، لا يسلمون عن الانتفاع بما ذكرنا.

وقال الحسن : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، أي : إلا بالوجه الذي جعل له ، والوجه الذي جعل له هو أن يكون فقيرا ، وهو ممن يفرض نفقته في ماله ، فله أن يقرب ماله ، وعندهم أن نفقة المحارم تفرض في مال اليتيم إذا كانوا فقراء ، فبان أن

__________________

(١) في ب : على.

(٢) ينظر : البحر المحيط لأبي حيان (٤ / ٢٥٢).

(٣) ذكره أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٢٥٢) ونسبه لابن عباس وابن زيد.

(٤) ذكره أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٢٥٢).

(٥) القرض : مصدر قرض الشيء يقرضه بكسر الراء : إذا قطعه ، والقرض : اسم مصدر بمعنى الإقراض. وقال الجوهري : القرض : ما تعطيه من المال لتقضاه ، والقرض بالكسر : لغة فيه حكاها الكسائي. وقال الواحدي : القرض : اسم لكل ما يلتمس منه الجزاء ، يقال : أقرض فلان فلانا : إذا أعطاه ما يتجازاه منه ، والاسم منه : القرض ، وهو : ما أعطيته لتكافئ عليه ، هذا إجماع من أهل اللغة.

ينظر المطلع على أبواب المقنع (٢٤٦).

(٦) ذكره أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٢٥٢) ونسبه للمروزي.

٣١٥

جعل له التناول في ماله ، وإن كان لا يفرض نفقته في ماله.

ثم الآية تحتمل وجهين عندنا :

أحدهما : ألا تقربوا مال اليتيم إلا بالحفظ والتعاهد له ، أمر كافل (١) اليتيم أن يحفظ ماله ويتعاهده.

والثاني : يقرب ماله بطلب الزيادة له والنماء ؛ ولذلك قال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ بأنه يجوز لكافل اليتيم إذا كان وصيّا (٢) أن يقرب ماله بيعا إذا كان ذلك خيرا لليتيم (٣) ؛ إذا وقع له الفضل ، وطلب له الزيادة والنماء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ).

قال أبو بكر : قوله : (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي : حتى يبلغ الوقت الذي يتولى أموره ؛ كقوله : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً ...) الآية.

وقال غيره من أهل التأويل (٤) : الأشد : ثمانية عشر سنة (٥).

ويشبه أن يكون الأشد هو الإدراك ، [أي] حتى يدركوا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) يشبه أن يكون قوله : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) في اليتامى أيضا ، أمر أن يوفوا (٦) لهم الكيل والميزان ، ونهاهم ألا يوفوا (٧) لهم على ما نهاهم عن قربان مالهم إلا بالتي هي أحسن ، وكذلك قوله : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) ، أمكن أن يكون هذا في اليتامى أيضا ، أي : إذا قلتم قولا لليتامى ، فاعدلوا في ذلك القول ، وإن كان ذا قربى منكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا).

أي : بعهد الله الذي عهد إليكم في اليتامى ، أوفوا بقوله : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا

__________________

(١) الكافل : القائم بأمر اليتيم المربي له وهو من الكفيل الضمين ، ينظر النهاية في غريب الحديث (٤ / ١٩٢).

(٢) في الصحاح : الوصي هو الذي يوصي والذي يوصى له وهو من الأضداد ، وفلانة وصي فلان بدون التأنيث إذا أريد به الاسم دون الصفة وكذلك الوكيل.

ينظر الصحاح (٦ / ٢٥٢٥).

(٣) ينظر أحكام القرآن للجصاص (١ / ٤٥٢).

(٤) ذكره أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٢٥٢) ونسبه لعبد بن حميد ومقاتل.

(٥) هكذا ورد في الأصل والصواب ثماني عشرة سنة وذلك لأن العدد المركب الذي يكون تمييزه مؤنثا فالجزء الأول يخالفه تأنيثا وتذكيرا والعشرة توافق التمييز تأنيثا وتذكيرا والله أعلم.

(٦) في أ : يعرفوا.

(٧) في أ : يعرفوا.

٣١٦

بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، وقوله : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً) [النساء : ٦] وغير ذلك ؛ أوفوا بما عهد إليكم فيهم.

ويحتمل أن يكون قوله ـ تعالى ـ : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) : في اليتامى وفي غيرهم في كل الناس ، وهو لوجهين :

أحدهما : أن في ترك الإيفاء اكتساب الضرر على الناس ، ومنع حقوقهم ، فأمر بإيفاء ذلك كقوله : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) [الأعراف : ٨٥].

والثاني : للربا ؛ لأنه لزم مثله كيلا في الذمة ، فإذا لم يوفه حقه وأعطاه دونه ، صار ذلك الفضل له ربا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

يحتمل هذا وجهين :

يحتمل : لا نكلف أحدا ما في تكليفنا إياه تلفه ، وإن كان يجوز له تكليف ما في التكليف تلفه ؛ كقوله : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ...) الآية [النساء : ٦٦] ، وعلى ما أمر [من](١) بني إسرائيل بقتل أنفسهم.

والثاني : لا نكلف أحدا ما في تكليفنا إياه منعه ؛ نحو : من يؤمر بشيء لم يجعل له الوصول إلى ذلك أبدا ، ويجوز أن يؤمر بأمر وإن لم يكن له سبب ذلك الأمر بعد أن يجعل لهم الوصول إلى ذلك السبب ؛ نحو : من يؤمر بالصلاة وإن لم يكن معه سبب ذلك وهو الطهارة ، ونحو : من يؤمر بالحج بقوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] ، هذا يدل على أن من جعل في وسعه الوصول إلى شيء ، يجوز أن يكلف على ذلك ، ويصير باشتغاله بغيره مضيعا أمره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا).

قال بعض أهل التأويل : هذا في الشهادة ؛ كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ...) الآية [النساء : ١٣٥].

ويحتمل قوله : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) : كل قول ، والقول أحق أن يحفظ فيه العدالة من الفعل ؛ لأنه به تظهر الحكمة من السفه ، والحق من الباطل ؛ فهو أولى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) أي : بعهد الله الذي عهد إليكم في التحليل والتحريم ، والأمر والنهي ، وغير ذلك.

__________________

(١) سقط في ب.

٣١٧

(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

ذكر ـ هاهنا ـ (تَذَكَّرُونَ) ، وفي الآية الأولى : (تَعْقِلُونَ) ، وفي الآية الأخيرة : (تَتَّقُونَ) [١٥٣] إذا عقلوا تفكروا واتعظوا ، وعرفوا ما يصلح وما لا يصلح [ثم اتقوا المحرمات وما لا يصلح](١). أو (تَذَكَّرُونَ) ، أي : تتعظون بما وعظكم به وزجركم عنه ، وتعقلون مهالككم وتتقون (٢) محارمكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) [١٥٣] يحتمل وجوها :

يحتمل : (وَأَنَّ هذا) الذي ذكر في هذه الآيات من أمره ونهيه ، وتحريمه وتحليله (صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) على ما قاله أهل التأويل : إنها آيات محكمات ، لم ينسخهن شيء في جميع الكتب ، وهنّ محرمات على بني آدم كلهم.

ويحتمل قوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) : الذي دعا إليه الرسل من كل شيء هو صراطي مستقيما (فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) ؛ لأن الرسل يدعون إلى ما يدعون بالحجج والبراهين.

ويحتمل قوله : (هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) أصل الدين ، ووحدانية الله ، وإخلاص الأنفس له على غير إشراك في عبادته وألوهيته ، وأن يكون قوله : وأن الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الذي ذكر في القرآن ، وإلا ذكر هذا ولم يشر إلى شيء بعينه ، فيحتمل ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).

أمر ـ عزوجل ـ باتباع ما ذكر من الصراط المستقيم ، ونهى عن اتباع السبل ؛ لأن غيره من الأديان المختلفة والأهواء المتشتتة لا حجة عليها ولا برهان ، وما ذكر من الصراط المستقيم هو دين بحجة وبرهان ، لا كغيره من الأديان ، وإن كان يدعي كلّ من ذلك أن الذي هو عليه دين الله وسبيله.

(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

المحرمات والمناهي والمعاصي التي ذكر في هذه [الآية ، أو لعلكم](٣) تتقون السبل والأديان المختلفة.

وأصله : أن السبيل المطلق : سبيل الله ، والدين المطلق : دين الله ، والكتاب المطلق : كتاب الله.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : أو تتقون.

(٣) في أ : ولعلكم.

٣١٨

قوله تعالى : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)(١٥٨)

قوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً).

اختلف فيه ؛ قال الحسن (١) : قوله : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) ، أي : من أحسن صحبته ، تمت نعمة الله وكرامته عليه في الآخرة.

وقيل (٢) : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) ، يعني : على المحسنين والمؤمنين ، و «على» بمعنى : للذي أحسن وللذي آمن ، ويجوز «على» في موضع اللام ؛ كقوله : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣] ، أي : للنصب.

وقتادة (٣) قال : فمن أحسن فيما آتاه الله ، تمت عليه كرامة الله في جنته ورضوانه ، ومن لم يحسن فيما آتاه الله ، نزع الله ما في يده ، ثم أتى الله ولا عذر له.

وقال أبو بكر الكيساني في قوله : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) : أي : ثم آتيناكم من الحجج والبيان تماما من موسى وكتابه ، أي : موسى وكتابه مصدق وموافق لما أعطاكم ؛ كقوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً ...) الآية [هود : ١٧].

ويحتمل : تمام ما ذكرنا تماما بالنعمة والكرامة.

ويحتمل : تماما بالحجة والبيان ، وتماما بالحكمة والعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ).

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٩٩) (١٤١٧٩ ، ١٤١٨٠) عن قتادة وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٠٦) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٩٨) (١٤١٧٦ ، ١٤١٧٧) عن مجاهد وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٠٦) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٣٩٩) (١٤١٧٩) (١٤١٨٠) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٠٦) وعزاه لعبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٣١٩

أي : للذي أحسن.

وفي حرف ابن مسعود (١) ـ رضي الله عنه ـ : تماما وعلى الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء ، أي : تبيانا لكل شيء ، وهدى من الضلال والشبهات ، ونعمة ، ورحمة من العذاب والعقاب.

(لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ).

أي : ليكونوا بلقاء ربهم يؤمنون ؛ هو على التحقيق.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) يقول : أتم له الكتاب على أحسنه على الذي بلغ من رسالته ، وتفصيل كل شيء : بيان كل شيء (وَهُدىً) ، أي : تبيانا من الضلالة (وَرَحْمَةً) ، أي : نعمة ، (لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) ، أي : بالبعث بعد الموت ، (يُؤْمِنُونَ) ، أي : ليكونوا مؤمنين بالبعث.

ومنهم من يقول (٢) في قوله : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) : إنه وإن أتى بحرف الترتيب ، فإنه على الإخبار ؛ كأنه قال : ثم قد كنا آتينا موسى الكتاب تماما ، معناه : وقد آتيناه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) يعني : القرآن أنزلناه.

(مُبارَكٌ).

قال أبو بكر الكيساني (٣) : البركة هي التي من تمسك بها أوصلته إلى كل خير وعصمته من كل شرّ ، وهو المبارك.

وقال الحسن (٤) : هو المبارك (٥) لمن أخذه واتبعه وعمل به ، فهو مبارك له ، وسمّي هذا القرآن مباركا ؛ لما يبارك فيه لمن اتبعه ، هو مبارك لمتبعه والعامل به ، وإلا من لم يتبعه فليس هو بمبارك له ، بل هو عليه شدة ورجس ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥] ، فهو ما ذكرنا مبارك لمن اتبعه وتمسك به ، وسمي مجيدا ـ أيضا ـ وكريما لمن اتبعه يصير مجيدا

__________________

(١) أخرجه ابن الأنباري كما في الدر المنثور (٣ / ١٠٧) وينظر تفسير البغوي والخازن (٢ / ٤٦٩).

(٢) ينظر تفسير البغوي مع الخازن (٢ / ٤٦٩).

(٣) قال أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٢٥٧) : والمبارك هو الثابت الدائم في ازدياد وهذا مشعر ببقائه ودوامه.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٤٠١) (١٤١٨٤) عن قتادة بنحوه ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ١٠٧) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة.

(٥) في ب : مبارك.

٣٢٠