تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

حقيقة ذلك من المراد والوقت حاجة (١) في أمر الدين ـ لكان يبين ذلك ، أو يرد في ذلك عن [رسول الله](٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكن العلم بحقيقة ذلك إذ هو علم الشهادة بما ليس لنا ، وعلينا بالوصول [عمل تكلف ، ولا تكلف الشهادة بوقت القول ، وهو متمكن فيه فحقه أن يتأمل وجه الحكمة في ذكر القصة وما فيها من الحجة في أمر الدين](٣) ، فهو ـ والله أعلم ـ يخرج على وجوه :

أحدها : على جعل ذلك حجة لرسالة رسوله ؛ إذ هو من أنباء الغيب ، ونبي الله نشأ بمكة ولم يكن ثم من يعلمه (٤) ذلك ، ولا فارق قومه واختلف إلى من عنده علم الأنبياء بتوارثهم كتب الأنبياء ، ولا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن يخط بيمينه أو يقف على المكتوب ؛ دل أنه علمه بالله سبحانه وتعالى ، مع ما كان في القصة حجج التوحيد ودفع عبادة الأصنام وتسفيه أهل ذلك ، فلم يحتمل أن يكون تعليم مثل ذلك من الدافعين لذلك المدعين على إبراهيم اليهودية والنصرانية ؛ وبعد فإن كتبهم بغير لسانه ، وفي العبارة بلسان [غيره] توهم (٥) الاختلاف والتغيير ، فلا يحتمل الاحتجاج بمثله بما يحتمل الإنكار والدفع.

[الثاني](٦) : وفيه استعطاف قوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ هم من ذرية إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بما يدعوهم إلى دين آبائهم ، مع ما كانوا هم أصحاب تقليد وحفظ آثار الآباء ، فألزمهم (٧) القول في آبائهم بما لا مدفع لهم القول بغير الذي قلدوا ؛ إذ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ عند جميع المشركين إمام يؤتم به أحق من كل أب ، مع ما كان كل مولود على دينه مذكورا محفوظا في الخلق ، ومن خالفهم فهو ممحوق الاسم والذكر جميعا ، فكان في ذلك أعظم الدليل أن هؤلاء من الأنبياء أحق بالتقليد (٨) من الذين اتبعوه ؛ وعلى ذلك اتفاق أهل الكتاب على موالاة إبراهيم من غير أن تهيأ لهم دفع ما أثبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من توحيده ، ولا ما قرره عندهم من دينه بشيء يجدونه خلافا لذلك في كتبهم.

والثالث : أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ صرف معرفة الرب من جهة خلقه ، ودان بدينه من جهة النظر في الآيات والبحث عنها ، دون أن يقلد أباه أو قومه ؛ ليعرف سبيل طلب

__________________

(١) في أ : الحاجة.

(٢) في ب : رسوله.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : يعلم.

(٥) في أ : يوهم.

(٦) سقط في أ.

(٧) في ب : وألزمهم.

(٨) في ب : الثقلين.

١٤١

الحق ووجه اتباعه ؛ ليكون ذلك تذكرة لجميع ذريته.

والرابع : أنه ذكر الخبر عن أحواله بمخرج ظاهر يوهم المكروه ، وله وجه الصرف إلى ما [ليس](١) فيه نفار عنه للطبع ، ولا يأباه للعقل ؛ ليمتحن عباده بالقول (٢) فيه والوقف في أمره.

والخامس : ليعلم أن المحاجة في الدين على قدر ما تحتمله العقول لازمة ؛ إذ بها أفحم إبراهيم قومه وأظهر دين ربه ، فيبطل بذلك قول كثير من المسلمين الذين يكرهون المناظرة في الدين ، ويرون في ذلك تقليد الإسنادين و (٣) ظواهر ما جاءت (٤) به الآثار ، التي في اتباع أمثالها تناقض عند العقلاء ، ولا قوة إلا بالله.

والسادس : أن (٥) المناظرة تكون بوجهين : بطلب الدلالة في (٦) تثبت القول ، وبإظهار الفساد بما يتمكن فيه من العيب ؛ إذ هو رد ما ادعوا من الربوبية فيمن ذكر ، بما في ذلك من آثار التدبير لغيره ؛ وكذلك قال في الأصنام : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢] ، وقال : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) [يس : ٢٢] ، وقال في موضع آخر : (الَّذِي خَلَقَنِي) [الشعراء : ٧٨] إلى آخر ما أخبر ؛ فمرة أبطل قولهم بالمعنى الذي بضده احتج في ثبات قوله ، [وجائز في كل ذلك أن يقول لهم](٧) : ما الدليل على ما تدعون لما تذكرون من الربوبية؟

والسابع (٨) : جواز التسليم بإظهار الموافقة ، وإن كان المسلم بحقيقة ذلك منكرا وله دافعا ، إذا كان في المساعدة بذلك في الظاهر نيل الفرصة والظفر بالبغية ؛ إذ على ذلك خرجت (٩) مناظرته قومه ، [وعلى ذكر](١٠) ما احتج به في قوله : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] إذ قال خصمه : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] ، وإقباله على حجة هي أوضح من ذلك وأقهر للعقل وألزم في الطبع ، فقال : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : القول.

(٣) في أ : أو.

(٤) في ب : جاء.

(٥) في ب : بأن.

(٦) في ب : على.

(٧) في ب : وجائز في كل صنع أمر الذي خلقني.

(٨) في ب : والرابع.

(٩) في ب : خرج.

(١٠) في ب : وعلى ذلك تركه.

١٤٢

الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) [البقرة : ٢٥٨].

والثامن : أن يعلم أن الله لم يهمل القوم في شيء من الأزمنة دون أن يجعل لهم أدلة للحق يظفرون بها لو تأملوا ، ولا ألزم خلقه في زمان من الأزمان بشيء لو بحث عنه لا يوقف عليه ولا يتهيأ له ؛ ولذلك أظهر الحجج وآثار البينات ؛ ليعلم أنه جعل أوامره كلها تالية الأدلة والبراهين ؛ ليقطع بها عذر من تأبى نفسه القيام بها (١).

والتاسع : أن يعلم أنه لا أحد يقوم بالحجاج ولا ينطق بحسن البيان إلا بعطية الله وامتنانه عليه بما ينطق به لسانه ويوفقه للقيام به بقوله : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٨٣].

ثم العاشر : أن يكون بفضله ينال الدرجات في أمر دينه ، ويرتقي إلى منازل الفضل والشرف بمشيئته ؛ كما قال : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) ، وأنه متى شاء الرفع كان ، والله أعلم.

وقد قال بعض أصحاب الإمامة (٢) في تأويل الآية : زعم أنهم أخذوه من شرح على أن تأويل النجم : المأذون ، والقمر : اللاحق ، والشمس : الإمام ، بمعنى : أنه قال للمأذون : هذا ربي عنى به رب التربية رباه (٣) بالعلم (٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا أَفَلَ).

__________________

(١) في ب : به.

(٢) الإمامية أربع وعشرون فرقة كما في الملل والنحل ومقالات الإسلاميين وهم مجمعون على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نص على استخلاف علي بن أبي طالب باسمه وأظهر ذلك وأعلنه وهم من الروافض لرفضهم إمامة سيدنا أبي بكر وعمر وفي شأنهم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب منهاج السنة (١ / ١٥٩) : والنفاق والزندقة في الرافضة أكثر منه في سائر الطوائف ، بل لا بد لكل منهم من شعبة نفاق ، فإن أساس النفاق الذي بني عليه هو الكذب ، وأن يقول الرجل بلسانه ما ليس في قلبه كما أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، والرافضة تجعل هذا من أصول دينها ، وتسميه «التقية» وتحكي هذا عن أئمة أهل البيت ـ برأهم الله تعالى عن ذلك! حتى يحكون عن جعفر الصادق أنه قال : التقية ديني ودين آبائي. وقد نزه الله المؤمنين من أهل البيت وغيرهم عن ذلك ، بل كانوا من أعظم الناس تصديقا وتحقيقا للإيمان ، وكان دينهم التقوى ، لا التقية ، وقول الله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) [آل عمران : ٢٨] إنما هو الأمر بالاتقاء من الكفار ، لا الأمر بالنفاق والكذب. اه. وللكلام بقية في الرد عليهم. لا نرى الإطالة بذكرها هنا ، فارجع إليها إن شئت في الموضع الذي دللناك عليه. ينظر : مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ص (٨٩).

(٣) زاد في ب : والله.

(٤) وهذا منهم غفلة وحمق ونعيذ أمير المؤمنين من هذه الخزعبلات التي لا تستند إلى صحيح أثر أو معقول. والله أعلم.

١٤٣

أي : فني ما عنده رغب عنه وقال : لا أحب هذا ، ثم ظفر باللاحق ، ثم كذلك بالإمام ، ثم توجه نحو التالي بالقبول من الرسول ؛ إذ التالي (١) عندهم هو الذي فطن ما ذكر ، فلما جاوز درجة المتم ـ وهو الإمام ـ صار إلى درجة الرسالة ، وهو القابل من التالي بالخيال والمصور للشرائع عندهم ، فألزموا بهذا عبادة أرباب ، وأن الارتفاع من درجة إلى درجة بأولئك.

وذلك أمر متناقض على المتأمل ؛ لأنه لما فني ما عند المأذون صار إلى اللاحق ، والمأذون كان به مأذونا فلم يكن الثاني بما يصير إليه أحق من الأول ؛ إذ لو كان (٢) به صار مأذونا ولو كان ثم درجة أخرى ، فإما أن يكون ينال (٣) تلك في الوقت (٤) الذي يلقى المأذون ذلك إلى غيره أو لا : فإن كان لا ينال فلا أسفه من المأذون ؛ حيث امتنع عما يعليه إلى الدرجة الثانية وبلغ غيره أو ينال معه ، فإذا صار هو معه في درجة المتم فكيف قال : لا أحبه ، وهو آثر الذي ذلك وصفه؟! ثم كيف قال لا أحب وذهاب ما به أخذ بحظه عن الأخذ من الآخر؟!

أو كيف صار ربه قبل أن يربيه ، فلما رباه تبرأ من ربوبيته وآثر ربا آخر؟!

فإذا عاقبة شكره وسعي ربه في شأنه كفرانه به ؛ وكذلك درجة فدرجة حتى يكفر بالتالي ثم بالعقل ، ثم يصير إلى رب العالمين ، وهو الربّ في الابتداء والانتهاء ، لا رب لأحد سواه [جل عن الشركاء](٥) ؛ إذ إليه حاصل الأمر ومصير الخلق ، ولو كان كل مرتق حدا يرتقي آخر لكانت تلك الحدود يكون أبدا آخرها ، فيكون الكل (٦) توالى أو مطلقا (٧) ، ويبطل الأولاء (٨) والمأذونون والأئمة (٩) جميعا ، وقد كرم الله ـ تعالى ـ عليا ـ كرم الله وجهه ـ عن هذا الخيال ، وعصمه عن هذا الوسواس ، والحمد لله.

قوله تعالى : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا

__________________

(١) في ب : الثاني.

(٢) في ب : إذا كان.

(٣) في أ : بيان.

(٤) في ب : الوقف.

(٥) في أ : عزوجل عن الشركاء. والصواب ما أثبتناه من ب.

(٦) في ب : الأول.

(٧) في ب : أو نطقا.

(٨) هكذا في الأصل ولعلها الأولياء.

(٩) في أ : والآية.

١٤٤

تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(٨٣)

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) ذكر محاجة قومه ولم يبين فيما حاجوه ، لكن في الجواب بيان أن المحاجة فيما كانت ، وهو قوله : (قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ).

ثم تحتمل المحاجة في الله : في توحيد الله ودينه. وتحتمل في اتباع أمر الله وطاعته.

وذكر في بعض القصة عن ابن عباس (١) ـ رضي الله عنه ـ قال : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) : في آلهتهم وخوفوه بها ، وقالوا : إنا نخاف آلهتنا ، وأنت تشتمها ولا تعبدها ، أن تخبلك وتفسدك. وذلك محتمل ؛ وهو كقول قوم هود لهود (٢) ـ عليه‌السلام ـ (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود : ٥٤].

ثم قال لهم إبراهيم (٣) ـ عليه‌السلام ـ : لما (٤) [لا] تخافون أنتم منها؟.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٤٨) (١٣٤٧٠) عن ابن جريج بنحوه وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤٨) وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ.

(٢) هو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام ابن نوح. وقيل : هو هود بن شالح بن أرفخشذ بن سام. وقيل غير هذا.

أرسله الله إلى قومه عاد حتى لا يشركوا به في عبادتهم ، وحتى يخلصوا في عبادتهم. وخوفهم أن يحل بهم من نقمة الله على كفرهم ، وما سيحل بهم إن هم كذبوه.

كان قوم عاد عربا يسكنون أرض الأحقاف في شمال حضرموت جنوبي الجزيرة العربية حيث نشأ بينهم. وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله تعالى ، كما كان يفعل قوم نوح من قبل.

وكانوا يسكنون الخيام ذوات الأعمدة الضخام ، وهم قوم إرم (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ)[الفجر : ٦ ـ ٧].

فأتى هود ملكهم شدادا ، فدعاه إلى الله وأمره بالإيمان والإقرار بربوبية الله ووحدانيته. فتمادى في الكفر والطغيان ، وذلك حين تملكه ٧٠٠ عام. وأنذره هود بالعذاب. وحذره وخوفه زوال ملكه ، فلم يرتدع عما كان عليه. ولم يجب هودا إلى ما دعاه إليه بينما كان ابنه مرشد بن شداد مؤمنا به. ونصح قومه ودعاهم خلفاء لنوح ، وزاد في أجسامهم طولا وعظما على أجسام قوم نوح نعمة منه عليهم ، وقال لهم : فاشكروا الله واذكروا نعمه وفضله بإخلاص العبادة وترك الإشراك به. ينظر معجم أعلام القرآن الكريم (٢٦٢).

(٣) إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه وسلامه قال الله تعالى (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) [النساء : ١٢٥] وقال تعالى (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [النحل : ١٢٠ ـ ١٢٢] وقال تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) [الأنبياء : ٥١] وقال تعالى (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة : ١٢٤] وقال تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) العنكبوت : ٢٧] وقال تعالى (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) [هود : ٧٥] وقال تعالى (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي ـ

١٤٥

__________________

ـ وَفَّى) [النجم : ٣٧] وقال تعالى (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) [البقرة : ١٣٠] وهو أبو إسماعيل إبراهيم بن آزر وهو تارح بمثناة من فوق وفتح الراء وبحاء مهملة قيل آزر اسم وتارح لقب وقيل عكسه والقولان مشهوران وباقي نسبه إلى آدم مختلف فيه ولا يصح في تعيينه شيء فتركته لهذا ولعدم الضرورة إليه.

أنزل الله تعالى عليه صحفا كما أخبر سبحانه في كتابه العزيز. قال أهل التواريخ كانت عشر صحائف وجعل له لسان صدق في الآخرين أي ثناء حسنا فليس أحد من الأمم إلا يحبه. وأكرمه بالخلة وبأن جعل أكثر الأنبياء من ذريته وختم ذلك سبحانه وتعالى بنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والآيات الكريمة في بيان أحواله معلومة.

هاجر صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العراق إلى الشام قيل بلغ عمره مائة وخمسا وسبعين سنة وقيل مائتي سنة. ودفن في الأرض المقدسة وقبره معروف بالبلدة المعروفة بالخليل بينها وبين بيت المقدس دون مرحلة.

روينا في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اختتن إبراهيم عليه‌السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم» روى القدوم بالتخفيف والتشديد وسنوضحه في موضعه من قسم اللغات إن شاء الله تعالى.

وروينا في صحيحهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه‌السلام» وروينا في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حين أسري بي ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به» وفي صحيح مسلم أيضا عن أنس أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا خير البرية قال : «ذاك إبراهيم» وهذا محمول على التواضع وإلا فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الخلق لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنا سيد ولد آدم» وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال «كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار حسبي الله ونعم الوكيل» وفي رواية في البخاري «قال حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار» وفي الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر عن ليلة الإسراء ورؤيته الأنبياء في السموات ورأى إبراهيم في السماء السادسة وفي رواية في السابعة مسندا ظهره إلى البيت المعمور. وفي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتاني الليلة اثنان فأتينا على رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا وإنه إبراهيم» ، وروينا في موطأ الإمام مالك عن سعيد بن المسيب رحمه‌الله قال «كان إبراهيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول الناس ضيف الضيف وأول الناس اختتن وأول الناس قص شاربه وأول الناس رأى الشيب فقال يا رب ما هذا فقال الله تبارك وتعالى وقار يا إبراهيم فقال يا رب زدني وقارا» ، ورويناه في تاريخ دمشق بزيادة «وأول من استحد وقلم أظفاره» وقد من الله الكريم علينا وجعل لنا رواية متصلة وسببا متعلقا بخليله إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما من علينا بذلك في حبيبه وخليله وصفيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أخبرنا الإمام أبو محمد عبد الرحمن ابن الإمام أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه أخبرنا أبو حفص بن طبرزد أنا أبو الفتح الكروخي أنا القاضي أبو عامر أنا أبو محمد بن الجراحي أنا أبو العباس المحبوبي أنا أبو عيسى الترمذي ثنا عبد الله بن أبي زياد ثنا سيار ثنا عبد الواحد بن زياد عن عبد الرحمن بن إسحاق عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها ـ

١٤٦

قالوا : كيف نخاف ونحن نعبدها؟! قال : لأنكم تسوون بين الصغير والكبير ، والذكر والأنثى ، أما تخافون الكبير إذ سويتموه (١) بالصغير ، وما تخافون الذكر إذ سويتموه (٢) بالأنثى؟!

ويحتمل أنهم خوفوه بالله بترك عبادة آلهتهم ، لما كانوا يقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، ويقولون : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] فخوفوا (٣) إبراهيم [بالله](٤) بترك عبادتهم لما كان عندهم أن عبادتهم إياها تقربهم إلى الله

__________________

ـ قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» قال الترمذي هذا حديث حسن.

روينا في تاريخ دمشق للحافظ أبي القاسم بن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ولد إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغوطة دمشق بقرية يقال لها برزة.

قال الحافظ كذا في هذه الرواية والصحيح أنه ولد بكوثى من إقليم بابل بالعراق وإنما نسب إليه هذا المقام لأنه صلى فيه إذ جاء معينا للوط صلى الله عليهما وسلم.

وفي التاريخ أن آزر كان من أهل حران وأن أم إبراهيم اسمها نونا وقيل أينونها وأن نمرود حبسه سبع سنين ثم ألقاه في النار وأنه كان يدعى أبا الضيفان.

وعن عكرمة أنه كان يكنى أبا الضيفان وأن تجارة إبراهيم في البز وأن النار لم تنل منه إلا وثاقه لتنطلق يداه.

قال الله تبارك وتعالى (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ)[الأنبياء : ٦٩] وإن النار بردت في ذلك الوقت على أهل المشرق والمغرب وإن جبريل عليه‌السلام مر به حين ألقي في الهواء فقال يا إبراهيم ألك حاجة فقال أما إليك فلا ، وفيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن البغال كانت تتناسل وكانت أسرع الدواب في نقل الحطب لنار إبراهيم فدعا عليها فقطع الله نسلها.

وعن الحسن البصري (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ)[البقرة : ١٢٤] قال ابتلاه بالكوكب فوجده صابرا ثم ابتلاه بالقمر فوجده صابرا ثم ابتلاه بالشمس فوجده صابرا ثم ابتلاه بالنار فوجده صابرا ثم ابتلاه بذبح ابنه فوجده صابرا وعن مجاهد أن إبراهيم وإسماعيل حجا ماشيين وعنه في قول الله تعالى (ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)[الذاريات : ٢٤] إكرامهم أنه خدمهم بنفسه وفي حديث مرفوع أنه كان من أغير الناس.

وعن كعب الأحبار وآخرين أن سبب وفاة إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أتاه ملك في صورة شيخ كبير فضيفه فكان يأكل ويسيل طعامه ولعابه على لحيته وصدره فقال له إبراهيم يا عبد الله ما هذا قال بلغت الكبر الذي يكون صاحبه هكذا قال وكم أتى عليك قال مائتا سنة ولإبراهيم يومئذ مائتا سنة فكره الحياة لئلا يصير إلى هذه الحال فمات بلا مرض وعن أبي السكن الهجري قال توفي إبراهيم وداود وسليمان صلى الله عليهم وسلم فجأة وكذلك الصالحون وهو تخفيف على المؤمن ، قال النووي : هو تخفيف ورحمة في حق المراقبين.

ينظر : تهذيب الأسماء واللغات (١ / ٩٨ ـ ١٠٢).

(٤) في ب : إما.

(١) في أ : سميتموه.

(٢) في أ : سميتموه.

(٣) في أ : فخوفوها.

(٤) سقط في أ.

١٤٧

زلفى وترك (١) العبادة لها يبعدهم ، فقال : (وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) وقد (٢) هداني ، ولا أخاف مما تشركون به.

ويحتمل قوله : (وَقَدْ هَدانِ) [ما ذكرنا في قوله (أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ)](٣) الدين والتوحيد وهداني طاعته والاتباع لأمره فقال : كيف أخاف وقد هداني.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) هذا يحتمل وجهين.

[الأول](٤) : يحتمل لا أخاف إلا إن عصيت ربي شيئا (٥) ، فعند ذلك أخاف ، وأما إذا (٦) هداني ربي فإني [لا] أخاف بتركي عبادتهم.

والثاني : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي) إلا أن يبتليني ربي بشيء من المعصية ، فعند ذلك أكون في مشيئته إن شاء عذبني ، وإن شاء لم يعذبني.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً).

أي : علم ذلك كله عنده عصيت أو أطعت.

وقوله ـ عزوجل ـ : [(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ) عن ابن عباس](٧)(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) به من الأصنام (وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) يقول : عذرا في كتابه (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ)؟ أي : أهل [دينين](٨) أنا وأنتم (أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أني (٩) أعبد إلها واحدا ، وأنتم تعبدون آلهة شتى؟!

وقيل (١٠) : إنهم كانوا يخوفونه بتركه عبادة آلهتهم وإشراكه إياها في عبادة الله ، فقال : وكيف أخاف ما أشركتم أنتم بالله من الآلهة ، ولا تخافون أنتم بما أشركتم بالله غيره ما لم ينزل به عليكم سلطانا؟! أي : حجة بأن معه شريكا.

ثم قال : (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) أنا أو أنتم (١١) من عبد إلها واحدا [يأمن عنده](١٢)

__________________

(١) في أ : بترك.

(٢) في ب : فقد.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : في شيء.

(٦) في ب : إذ.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

(٩) في أ : أنا.

(١٠) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٤٩) (١٣٤٧١) عن ابن إسحاق بنحوه.

(١١) في أ : وأنتم.

(١٢) سقط في ب.

١٤٨

[أحق](١) ، أم (٢) من عبد آلهة شتى صغارا وكبارا ذكورا وإناثا؟!

أو أن يقال : إني كيف أخاف آلهتكم التي تعبدون من دون الله بتركي عبادتها ، وهي لا تملك ضرا إن تركت ذلك ، ولا نفعا إن أنا فعلت ذلك ، ولا تخافون أنتم بترككم عبادة إلهي ، وهو يملك الضر إن تركتم عبادته ، والنفع إن عبدتموه ، فأي الفريقين أحق بالأمن : من عبد إلها يملك الضر والنفع ، أو من عبد إلها لا يملك ذلك؟!

فقيل : رد عليه قومه فقالوا : (الَّذِينَ آمَنُوا) برب واحد يملك الضر والنفع ، (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) قيل (٣) : لم يخلطوا تصديقهم وإيمانهم بشرك ، ولم يعبدوا غيره دونه ، (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) : من الضلالة والشرك.

قيل (٤) : الظلم ـ هاهنا ـ : الشرك ؛ روي عن ابن مسعود (٥) ـ رضي الله عنه ـ قال :

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : أو.

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٥٠) (١٣٤٧٧) عن محمد بن إسحاق بنحوه وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٠) وعزاه لابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٥٠ ـ ٢٥٤) عن كلّ من :

ابن زيد (١٣٤٧٨ ، ١٣٤٥١٠).

علقمة (١٣٤٨٥).

إبراهيم (١٣٤٨٦ ، ١٣٥٠٤).

أبي بكر (١٣٤٨٨ ، ١٣٤٨٩).

سلمان (١٣٤٩٠ ، ١٣٤٩١).

حذيفة (١٣٤٩٢ ، ١٣٤٩٣).

ابن عباس (١٣٤٩٤ ، ١٣٤٩٥ ، ١٣٤٩٦).

أبي بن كعب (١٣٤٩٧ ، ١٣٤٩٨ ، ١٣٤٩٩ ، ١٣٥٠٠ ، ١٣٥٠١).

أبي ميسرة (١٣٥٠٢ ، ١٣٥٠٣ ، ١٣٥٠٦).

قتادة (١٣٥٠٥).

السدي (١٣٥٠٩).

أبي عبد الرحمن (١٣٥١٣).

ابن إسحاق (١٣٥١٤).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤٩ ـ ٥٠) وزاد نسبته للفريابي وابن أبي شيبة والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه عن أبي بكر الصديق ولأبي الشيخ عن عمر بن الخطاب ، وللفريابي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وأبي عبيد وابن المنذر وأبي الشيخ عن حذيفة ، وللفريابي وعبد بن حميد وأبي الشيخ عن سلمان الفارسي ، ولعبد بن حميد وأبي الشيخ من طرق عن أبي بن كعب ، ولابن المنذر والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس عن أبي بن كعب ، ولعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ عن ابن عباس.

(٥) أخرجه البخاري (١٤ / ٢٦٣) في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة (٦٩١٨) وأطراف الحديث هي (٦٩٣٧) ، (٤٧٧٦) ، (٤٦٢٩) ، ومسلم ـ

١٤٩

لما نزلت هذه الآية : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) شق ذلك على المسلمين فقالوا : يا رسول الله ، فأينا لا يظلم نفسه؟! قال : «ليس ذلك إنما هو الشرك ، أو لم تسمعوا ما قال لقمان (١) لابنه : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣]».

وعن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ قال لأصحابه : ما تقولون في هاتين الآيتين : (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصلت : ٣٠] ، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ)؟ فقالوا : (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) : ثم عملوا له واستقاموا على أمره ، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) ، أي : لم يذنبوا فقال : لقد حملتمونا على أمر شديد ، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) : بشرك ، (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) : عليها فلم يعدلوا عنها بشرك ولا غيره (٢).

فإن ثبتت هذه الأخبار فهو ما ذكر فيها أن الظلم هو الشرك ، وإلا احتمل الظلم ما دون الشرك أن من لم يظلم ولم يذنب [فهو في أمن](٣) من الله ، ومن ارتكب ذنبا أو ظلما فله الخوف ، وهو في مشيئة الله : إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له وعفا عنه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ ...) الآية : ينقض (٤)

__________________

ـ (١ / ١١٤ ـ ١١٥) كتاب الإيمان باب صدق الإيمان وإخلاصه (٩٧ / ١٢٤) ، وابن جرير (٥ / ٢٥٠ ـ ٢٥١) (١٣٤٨٠ ، ١٣٤٨٢ ، ١٣٤٨٣ ، ١٣٤٨٤).

(١) قال الإمام أبو إسحاق الثعلبي في كتاب العرائس في القصص كان لقمان مملوكا وكان أهون مملوكي سيده عليه قال وأول ما ظهر من حكمته أنه كان مع مولاه فدخل مولاه الخلاء فأطال الجلوس فناداه لقمان أن طول الجلوس على الحاجة تتجع منه الكبد ويورث الباسور ويصعد الحرارة إلى الرأس فاقعد هوينا وقم فخرج مولاه وكتب حكمته على باب الخلاء وروي أنه كان عبدا حبشيا نجارا وقال الثعلبي : وقال أبو هريرة رضي الله عنه مر رجل بلقمان والناس مجتمعون عليه فقال ألست العبد الأسود الذي كنت تراعينا بموضع كذا قال بلى قال فما بلغ بك ما أرى قال صدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني قال وعن لقمان أنه قال ضرب الوالد ولده كالسماد للزرع وقال لقمان لابنه من يقارن قرين السوء لا يسلم قال ومن لا يملك لسانه يذم يا بني كن عبدا للأخيار يا بني كن أمينا تكن غنيا جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ولا تجادلهم خذ منهم إذا ناولوك والطف بهم في السؤال ولا تضجرهم إن ما تأذيت به صغيرا انتفعت به كبيرا كن لأصحابك موافقا في غير معصية ولا تحقرن من الأمور صغارها فإن الصغار غدا تصير كبارا إياك وسوء الخلق والضجر وقلة الصبر إن أردت غنى الدنيا فاقطع طمعك مما في أيدي الناس. وحكمه كثيرة مشهورة.

ينظر تهذيب الأسماء (٢ / ٧١ ـ ٧٢).

(٢) أخرجه ابن جرير بنحوه (٥ / ٢٥٢) (١٣٤٨٨) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤٩) وزاد نسبته للفريابي وابن أبي شيبة والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه.

(٣) في ب : فهو آمن.

(٤) في ب : تنقض.

١٥٠

قول من يقول بأن إبراهيم كان غير مؤمن في ذلك الوقت و [لا](١) عارفا بربه ؛ لأنه أخبر أنه آتاه حجته على قومه ، ولو كان هو على ما قالوا لكانت الحجة التي آتاه عليه ، فلما أخبر أنه آتاه حجته على قومه ، دل أنه ليس على ما قالوا ، ولكن كان عارفا بربه مخلصا له على ما سبق ذكره.

فإن قال قائل : إن الحجة التي أخبر أنه آتاها إبراهيم على قومه [هي](٢) قوله : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ ...) إلى آخر ما ذكر.

فيقال : إن هذه ليست بمحاجة ، إنما هو تقرير التوحيد والدين.

ألا ترى أنه قال : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) [الآية](٣) والمحاجة ما ذكر في قوله : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [الأنعام : ٧٦] وقوله : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٧٩] وغيرها من الآيات التي فيها وصف توحيد الربّ ـ عزوجل ـ وألوهيته وفساد آلهتهم ، من ذلك قوله : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٥ ـ ٩٦] ، وقوله : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢] ، وقوله (٤) : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ...) [الشعراء : ٧٢] إلى قوله : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء : ٨٠].

وفيه دليل نقض قول المعتزلة ؛ لأنه قال : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) والإيتاء هو الإعطاء ، والنجوم والشمس ، والقمر وما ذكر قد كانت ؛ دل أن الذي آتى إبراهيم هو محاجته قومه بما ذكرنا واحتجاجه عليهم بذلك ؛ دل أن له في محاجة إبراهيم قومه صنعا حيث أضافها إلى نفسه ، وهو أن خلق محاجته قومه ، وبالله العصمة.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) : الذين كانوا يعبدون الأصنام والأوثان ، وهو ما بين سفههم في عبادتهم الأصنام ، حيث قال في غير آية وعلى نمرود حين قال : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ...) إلى آخر الآية [البقرة : ٢٥٨].

وقوله ـ عزوجل ـ : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ).

فيه ـ أيضا ـ دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن الله قد شاء لكل أحد أن يبلغ المبلغ الذي إذا بلغ ذلك يصلح للنبوة والرسالة ، لكنهم شاءوا ألا يبلغوا ذلك المبلغ ،

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : أو قوله.

١٥١

يجعلون المشيئة في ذلك إلى أنفسهم دون الله ، والله أخبر أنه يرفع درجات من يشاء وهم يقولون : لا يقدر أن يرفع ، بل هم يملكون أن يرفعوا درجات أنفسهم ؛ فدلت الآية على أن من نال درجة أو فضيلة إنما ينال بفضل الله ومنّه.

ثم قوله : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ) : تحتمل الدرجات وجوها.

تحتمل : النبوة ، وتحتمل : الدرجات في الآخرة أن يرفع لهم.

وتحتمل : الذكر والشرف في الدنيا لما يذكرون في الملأ من الخلق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).

أي : حكيم في خلق الخلائق ، خلق خلقا يدل على وحدانيته ، ويدل على أنه مدبر ليس بمبطل في خلقهم ، ثم عليم بأعمالهم وعليم بمصالح الخلق وبما يصلح لهم ، [وبما لا يصلح](١) والحكيم : هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير.

قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٨٧)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ).

يحتمل ما ذكرنا من رفع الدرجات ما ذكر من [هبة](٢) هؤلاء.

وفيه دليل أن ما يكون له من الفضل في هبة (٣) أولاده يكون ذلك في أولاد أولاده.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : هيبة.

(٣) الهبة لغة مأخوذة من وهب يقال : وهب يهب وهبا وهبة ، والاسم : الموهب والموهبة ، ولا يقال وهبكه ، هذا قول سيبويه وحكى السيرافي عن أبي عمرو أنه سمع أعرابيا يقول لآخر : انطلق معي أهبك نبلا.

ووهبت له هبة وموهبة ووهبا إذا أعطيته ، ووهب الله له الشيء ، فهو يهب هبة ، وتواهب الناس بينهم ، أي يهب بعضهم بعضا ، وهي في الأصل مصدر محذوف الأول عوض عنه هاء التأنيث ، فأصلها : وهب بتسكين الهاء وتحريكها.

ومما تقدم من اشتقاق للفظ الهبة ، يتبين لي أنها تطلق في اللغة على التبرع والتفضل بما ينفع الموهوب له مطلقا على سواء أكان مالا أو غير مال.

فالهبة : العطية الخالية عن الأعواض والأغراض ، فإذا كثرت سمي صاحبها وهابا.

واصطلاحا :

عرفها الأحناف بأنها : تمليك بلا عوض.

وعرفها الشافعية بأنها : التمليك بلا عوض.

١٥٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) :

الهداية هدايتان : [هداية](١) إصابة الحق ، وهداية العلم بالحق ، وهي هداية البيان ، فهذه الهداية مما يشترك فيها المسلم والكافر جميعا.

وأما هداية إصابة الحق : فهي خاصة للرسل والأنبياء والمسلمين جميعا.

والهداية ـ هاهنا ـ هي إصابة الحق لا العلم بالحق ؛ لأنهم اشتركوا جميعا في العلم بالحق : الكافر والمسلم.

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ).

قيل (٢) : ذرية إبراهيم.

وقيل (٣) : ذرية نوح (٤) كانوا جميعا من ذرية نوح وإبراهيم ومن ذكر من الرسل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

__________________

ـ وعرفها المالكية بأنها : تمليك متمول بغير عوض. ـ وعرفها الحنابلة بأنها : تمليك جائز التصرف مالا معلوما أو مجهولا ، تعذر علمه.

ينظر : لسان العرب (٦ / ٤٩٢٩) فتح القدير (٩ / ١٩) ، حاشية ابن عابدين (٤ / ٥٠٨) ، الإقناع (٢ / ٨٥) مغني المحتاج (٢ / ٣٩٦) ، والمحلى على المنهاج (٣ / ١١٠) ، مواهب الجليل (٦ / ٤٩) ، شرح منتهى الإرادات (٢ / ٥١٧) ، المغني (٦ / ٢٤٦).

(١) سقط في ب.

(٢) ذكره ابن عادل في اللباب (٨ / ٢٦٥).

(٣) ذكره ابن جرير (٥ / ٢٥٦) وابن عادل في اللباب (٨ / ٢٦٤).

(٤) نبي الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال النووي : هو اسم أعجمي والمشهور صرفه وقيل يجوز صرفه وترك صرفه. انتهى.

وقيل إنه عربي واشتقاقه من ناح ينوح نوحا نياحة لأنه أقبل على نفسه باللوم والنوح.

واختلف في سبب ذلك فقيل : سببه أنه كان ينوح على قومه ويتأسف لكونهم غرقوا بلا توبة ورجوع إلى الله تعالى. وقيل في اسمه غير ذلك مما لا أصل له. قال جماعة : واسمه عبد الغفار. وهو آدم الثاني لأنه لا عقب لآدم إلا من نوح صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأثنى الله تعالى عليه في عدة آيات. قال ابن قتيبة : وكان نوح نجارا.

وروى الطبراني بسند رجاله ثقات عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بين نوح وآدم عشرة قرون».

قال الشعبي رحمه‌الله تعالى في العرائس : أرسل الله تعالى نوحا إلى ولد قابيل ومن تابعهم من ولد شيث.

وكان نوح عليه الصلاة والسلام أطول الأنبياء عمرا حتى قيل إنه عاش ألف سنة وثلاثمائة سنة.

ولما نزل عليه الوحي كان عمره ثلاثمائة سنة وخمسين سنة. فلبث ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم.

قال في (المطلع) : ما أسلم من الشياطين إلا شيطانان : شيطان نبينا محمد وشيطان نوح صلى الله عليهما وسلم.

وينظر : سبل الهدى والرشاد (١ / ٣٧٣ ـ ٣٧٥).

١٥٣

[أي : كذلك نجزي المحسنين](١) بالذكر والشرف والثناء الحسن إلى يوم القيامة ؛ كما جزى هؤلاء الرسل بالذكر والشرف والثناء الحسن في ملأ الناس.

ويحتمل أن يذكروا في ملأ الملائكة ؛ كما ذكروا في ملأ الخلق في الأرض.

ويحتمل : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) في الآخرة بالثواب ورفع الدرجات والجزاء الجزيل ، ثم ذكر في فريق : أنه (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ، وذكر في فريق آخر : (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) ، وذكر في فريق : (وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) ، وهذا ـ والله أعلم ـ ليس على تخصيص كل فريق بما ذكر من الذكر ، ولكن على الجمع أنهم محسنون صالحون مفضلون على العالمين.

ثم يحتمل التفضيل لهم بالنبوة : أنهم فضلوا على العالمين بالنبوة.

ويحتمل : أنهم كانوا مفضلين على العالمين بالإحسان والصلاح ، لو لم يكن لهم رسالة ولا نبوة.

ثم يحتمل أنه سماهم محسنين باختيارهم الحال التي كانوا أهلا للرسالة والنبوة ، فإن كان هذا فهم الرسل خاصة.

ويحتمل : محسنين باختيارهم الهداية وإصابة الحق ، فإن كان هذا فهو مما يشترك الأنبياء وأهل الإسلام فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) : أما آباؤهم : من تقدمهم ، وذرياتهم : من تأخرهم ، وإخوانهم : الذين يقارنونهم.

وقيل : ذرياتهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : المؤمنين من بعدهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاجْتَبَيْناهُمْ).

يحتمل : اجتباهم (٢) بالنبوة والرسالة.

(وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : فذلك لهم خاصة.

ويحتمل : اجتبيناهم بالتوحيد ودين الإسلام ، فذلك يعم الأنبياء والمؤمنين جميعا ؛ لأنه اجتباهم بذلك جميعا.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : اجتبيناهم.

١٥٤

ويحتمل (١) : اجتباهم بما ذكر من رفع الدرجات والفضائل ، ويكون صلة قوله : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) [الأنعام : ٨٣] ، وذلك ـ أيضا ـ يعم الرسل والمؤمنين ، والله أعلم بذلك.

وفي قوله : (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ...) الآية : دلالة أن من آبائهم وذرياتهم من لم يجتبهم بقوله : (وَمِنْ) ؛ إذ «من» هو حرف للتبعيض (٢).

قوله تعالى : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ)(٩٠)

قوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي : ذلك الهدي الذي هدى هؤلاء فبهداه اهتدوا.

وفي الآية [دلالة](٣) نقض قول المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن الله قد شاء أن يهدي (٤) الخلائق كلهم لكن لم يهتدوا ، وعلى قولهم لم يكن من الله إلى الرسل والأنبياء من الهداية والفضل إلا كان ذلك إلى جميع الكفرة ، فالآية تكون مسلوبة الفائدة على قولهم ؛ لأنه ذكر أنه يهدي من يشاء وهم يقولون : شاء أن يهدي الكل لكن لم يهتدوا ، فإن كان كما ذكروا لم يكن لقوله : (مَنْ يَشاءُ) فائدة ؛ دل أنه من الخلائق من قد شاء ألا يهديهم إذا علم منهم أنهم لا يهتدون ولا يختارون الهدى ، وبالله التوفيق.

__________________

(١) في ب : ويحمل.

(٢) «من» لها عدة معاني منها التبعيض ، كقوله : تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) [البقرة : ٢٥٣] وعلامتها إمكان سد البعض مسدها ، قال بعضهم : فقولك : «ويحه من رجل ، للتبعيض لأنك إنما أردت أن تجعله من بعض الرجال ، وقولك : هو أفضل من زيد ، إنما أردت أن تفضله على زيد وحده ولم تعم ، فجعلت ابتداء فضله من زيد ولم يعلم موضع الانتهاء ، فإن قلت : ما أحسنه من رجل ، فيحتمل أن يكون الابتداء الغاية ، كأنك بينت ابتداء فضله في الحسن ولم تذكر انتهاءه ، ويحتمل أن تكون للتبعيض ، كأنك قلت : ما أحسنه من الرجال إذا ميزوا رجلا رجلا ، ينظر : مصابيح المغاني (٤٥٧) والأزهية «٢٢٤» والجنى الداني ص «٣٠٨».

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : تهدي.

١٥٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

هذا بناء على الحكم فيهم لو أشركوا إلا أنهم [لا](١) يشركون ؛ لأن الله قد عصمهم واختارهم لرسالته واختصهم لنبوته ، فلا يحتمل أن يشركوا ، لكن ذكر هذا ؛ ليعلموا أن حكمه واحد فيمن أشرك في الله غيره وضيعا كان أو شريفا.

وقوله : (لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) : من الحسنات والخيرات التي كانت قبل الإشراك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) : قيل (٢) : الكتب التي أعطى الرسل. (وَالْحُكْمَ) قيل (٣) : العلم والفقه والفهم.

وقيل : الأحكام التي أعطاهم ، والنبوة هي أنباء الغيب ؛ وقد ذكرنا [هذا](٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ).

قيل : (بِها) كناية عن أنباء الغيب ، والنبوة التي ذكر.

وقيل : (بِها) كناية عن الكتب التي أنزلها على الرسل

وقيل : هي كناية عن الآيات والحجج التي أعطى رسوله.

وقوله : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ).

اختلف فيه قال بعضهم (٥) : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) ـ يعني : أهل مكة ـ (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) : أهل المدينة (٦) من الأنصار (٧) والمهاجرين (٨) ؛ وهو قول ابن عباس.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ذكره الرازي في تفسيره (١٣ / ٥٦) وابن عادل في اللباب (٨ / ٢٦٩).

(٣) ينظر السابق.

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٦٠) (١٣٥٢٩ ، ١٣٥٣٠) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٢) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٦) المدينة : علم على مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو علم بالغلبة لا بالوضع ، ولا يجوز نزع الألف واللام منها إلا في نداء أو إضافة ، وجمعها مدن ومدن ومدائن ، بهمز ودونه. وسئل أبو على الفسوي عن همزه ، فقال : من جعلها فعيلة من قولهم : مدن بالمكان ، إذا أقام ، همزه ، ومن جعلها «مفعلة» من دين إذا ملك لم يهمزه ، كما لم يهمز معايش ، ولها أسماء منها : طيبة ، وطابة ، ويثرب. ينظر المطلع ص ١٨٣ ـ ١٨٤.

(٧) الأنصار جمع نصير ، كشريف وأشراف ، وهم الحيان الأوس والخزرج ، وهما ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن عبد الله بن الأزد بن الغوث ـ

١٥٦

وقيل (١) : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) ، يعني : من عد (٢) من الرسل والأنبياء.

وقيل : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) ، يعني : أهل قرابتك وأهل وصلتك ، فقد وكلنا بها قوما من غير أهل قرابتك ليسوا بها بكافرين.

وقيل (٣) : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) ، يعني : أهل زمانك ، (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً) : من تقدمهم من آبائهم وأجدادهم ، (لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ).

وقيل (٤) : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) ، يعني : أهل الأرض ، (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً) ، يعني :

أهل السماء ، (لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ).

قال (٥) الحسن (٦) ـ رحمه‌الله ـ : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) ، يعني : أمتك ، فقد وكل الله بها النبيين والصالحين من الأمم الخالية ، (لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) ، والله أعلم بذلك وهو كما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ).

يحتمل [فبهديهم الذي هدوا هم](٧) اهد أنت أمتك.

__________________

ـ ابن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ ، وهما أبناء قيلة نسبوا إلى أمهم ، فولد الخزرج خمسة نفر : جشم ، وعوف ، والحارث ، وعمرو ، وكعب ، وولد الأوس مالكا ، فمنه تفرقت قبائل الأوس وبطونها. ينظر المطلع ص ٢٢٠.

(٨) المهاجرون : جمع مهاجر ، اسم فاعل من هاجر بمعنى هجر ، ضد وصل ، ثم غلب على الخروج من أرض إلى أرض ، وترك الأولى للثانية. والهجرة : هجرتان إحداهما : أن يدع الرجل أهله وماله ، وينقطع بنفسه إلى مهاجره ، ولا يرجع من ذلك بشيء.

والثانية : هجرة الأعراب ، وهي أن يدع البادية ، ويغزو مع المسلمين ، وهي دون الأولى في الأجر ، وكلاهما يسمى مهاجرا. ينظر المطلع ص ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٦٠ ـ ٢٦١) (١٣٥٣٣ ، ١٣٥٣٤) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٢) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) في ب : عده.

(٣) قال القرطبي (٧ / ٢٤) أي كفار عصرك يا محمد ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٦٠) (١٣٥٣١) عن أبي رجاء العطاردي. بنحوه وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٢) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن أبي جابر العطاردي.

(٥) في ب : وقال.

(٦) ذكره الرازي في تفسيره بنحوه (١٣ / ٥٦) وقال : وهو اختيار الزجاج ، وابن عادل في اللباب (٨ / ٢٦٩) وعزاه لقتادة والحسن والزجاج.

(٧) في أ : فبهداهم الذين هدوا منهم.

١٥٧

ويحتمل : فبهداهم الذي (١) هدوا هم اهتد أنت ؛ يأمره ـ عزوجل (٢) بالاقتداء بإخوانه (٣) الذين مضوا من الرسل.

والهدى : هو اسم ما يدان به ليس هو اسم الأفعال ، لا يقال : لتارك (٤) الصلاة (٥) والزكاة (٦) والصيام (٧) : هداك ، إنما يقال ذلك لمن دان بضد الهدى.

__________________

(١) في أ : الذين.

(٢) زاد في أ : بالأمر.

(٣) في أ : بإخوته.

(٤) في أ : التارك.

(٥) الصلاة أصلها في اللغة : الدعاء ؛ لقوله تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ١٠٣] أي ادع لهم.

وفي الحديث قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائما فليصل ، وإن كان مفطرا فليطعم» أي ليدع لأرباب الطعام.

وفي الاصطلاح : قال الجمهور : هي أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم مع النية بشرائط مخصوصة.

وقال الحنفية : هي اسم لهذه الأفعال المعلومة من القيام والركوع والسجود. ينظر فتح القدير (١ / ١٩١) ، مواهب الجليل (١ / ٣٧٧) ، مغني المحتاج (١ / ١٢٠) ، كشاف القناع (١ / ٢٢١).

(٦) الزكاة لغة : النماء والريع والزيادة ، من زكا يزكو زكاة وزكاء ، ومنه قول علي رضي الله عنه : «العلم يزكو بالإنفاق».

والزكاة أيضا الصلاح ، قال الله تعالى (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً)[الكهف : ٨١] قال الفراء : أي صلاحا ، وقال تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً)[النور : ٢١] أي ما صلح منكم (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ)[النور : ٢١] أي يصلح من يشاء.

وقيل لما يخرج من حق الله في المال زكاة ؛ لأنه تطهير للمال مما فيه من حق ، وتثمير له ، وإصلاح ونماء بالإخلاف من الله تعالى. وزكاة الفطر طهرة للأبدان.

وفي الاصطلاح : يطلق على أداء حق يجب في أموال مخصوصة ، على وجه مخصوص ويعتبر في وجوبه الحول والنصاب.

وتطلق الزكاة أيضا على المال المخرج نفسه ، كما في قولهم : عزل زكاة ماله ، والساعي يقبض الزكاة. ويقال : زكى ماله أي أخرج زكاته ، والمزكي : من يخرج عن ماله الزكاة. والمزكي أيضا : من له ولاية جمع الزكاة.

وقال ابن حجر : قال ابن العربي : إن الزكاة تطلق على الصدقة الواجبة والمندوبة ، والنفقة والحق ، والعفو. ينظر العناية بهامش فتح القدير (١ / ٤٨١) ، والدسوقي على الشرح الكبير (١ / ٤٣١) فتح الباري ٣ / ٦٢.

(٧) الصوم لغة : مطلق الإمساك ، ولو عن الكلام ونحوه. ومنه قوله تعالى حكاية عن مريم عليها‌السلام : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) [مريم : ٢٦] أي إمساكا وسكوتا عن الكلام ألا ترى قوله تعالى : (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)[مريم : ٢٦] وتقول العرب : فرس صائم ، أي : واقف ، ومنه قول النابغة الذبياني :

خيل صيام وخيل غير صائمة

تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

أي خيل ممسكة عن السّير والكرّ والفرّ ، وخيل غير صائمة ، أي : غير ممسكة عن ذلك ، بل سائرة للكرّ والفرّ ، وقال أبو عبيدة كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم. ـ

١٥٨

أمر رسوله أن يقتدي بهم بذلك ، وذلك يدل على أن الأنبياء والرسل كانوا على دين واحد ، وأن الدين لا يحتمل النسخ والتغيير.

ألا ترى (١) أنه قال في آية أخرى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣] أخبر [أنه شرع لنا الدين الذي وصى به نوحا](٢) ، وذلك يدل [على](٣) أن الدين واحد لا يحتمل النسخ ، وأما الشرائع : فهي مختلفة ؛ لأنها تحتمل النسخ ، وتحتمل الأمر بالاقتداء بهم ما ذكر.

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أي : اقتد بمن تقدم من الرسل ، ولا تأخذ على تبليغ الرسالة أجرا كما لم يأخذوا هم.

وفي قوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) دليل نقض قول من يجيز أخذ الأجر على تعليم القرآن والعلم ورواية الحديث وغير ذلك من العبادات (٤) ؛ وكذلك قوله :

__________________

ـ واصطلاحا عرفه الحنفية بأنه : عبارة عن إمساك مخصوص ، وهو الإمساك عن المفطرات الثلاثة ، بصفة مخصوصة.

وعرفه الشافعية بأنه : إمساك عن مفطر ، بنية مخصوصة ، جميع نهار ، قابل للصوم.

وعرفه المالكية بأنه : إمساك عن شهوتي البطن والفرج ، في جميع النهار بنية.

وعرفه الحنابلة بأنه : إمساك عن أشياء مخصوصة. ينظر : الصحاح (٥ / ١٩٧٠) ، ترتيب القاموس (٢ / ٨٧١) ، المصباح المنير (٢ / ٤٨٢) ، لسان العرب (٤ / ٢٥٢٩) ، الاختيار (١٥٨) بدائع الصنائع (٣ / ١٠٥٥) ، المبسوط (٣ / ١١٤) مغني المحتاج (١ / ٤٢٠) ، المجموع (٦ / ٢٤٧) ، الشرح الكبير بحاشية الدسوقي (١ / ٥٠٩) ، الكافي (١ / ٣٥٢) ، كشاف القناع (٢ / ٢٩٩) ، المغني (٦ / ١٨٦).

(١) زاد في أ : إلى.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

(٤) اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز الاستئجار على أداء فروض الأعيان من صلاة ، وصيام وحج بمعنى أنه لا يصح لإنسان أن يستأجر غيره على أداء ما ذكر عن المؤجر ، أو عن المستأجر ؛ لأن نفعه لا يتعدى فاعله فلا يستحق في مقابلته أجرا ، وبيان هذا أنه إن كان العمل متعينا على الأجير لزمه القيام به عن نفسه ، وبه تعود منفعته عليه ، ولا يجوز له أخذ الأجرة على ما عمل ضرورة أن من وجب عليه عمل فأداه لا يجوز له أن يأخذ عليه أجرا ، كما إذا قضى دينا عليه ، وإن كان العمل متعينا على المستأجر لزمه القيام به بنفسه ولا يقوم غيره مقامه في أدائه ؛ لأن التكاليف مقصود منها اختبار الشخص ومعرفة مقدار خضوعه وانقياده للتكاليف المطلوبة منه ، ولو قام غيره مقامه ، فلا يتحقق المعنى المقصود من التكاليف وهذا قدر متفق عليه بين الفقهاء ، ولكننا نراهم بعد ذلك اختلفوا فمنهم من اقتصر في المنع على فروض الأعيان وما شابهها في الصورة كنوافل الصلاة ، وأجاز في غيرها ، ومنهم من منع فيها وفي غيرها ، وتفصيل هذا فيما يلي :

أولا : أن المالكية قالوا إن كل عبادة تعينت على الأجير أو المستأجر لا يجوز الاستئجار على فعلها كالصلاة ، والصوم ، والحج المكتوبات ويلحق بذلك ما شابهه في الصورة كالصلاة على الميت وركعتي الفجر ، فكل هذا لا يقبل النيابة ، فلا تصح الإجارة عليه ، وأما ما يقبل النيابة ، وهو ما عدا ما ـ

١٥٩

__________________

ـ ذكر كفروض الكفاية من الإمامة ، والأذان ، وتعليم القرآن وقراءته وتجهيز الميت ، ونحوها ، فإنه تصح الإجارة على فعلها ؛ لأن فروض الكفاية ليست مطلوبة من شخص بعينه ، وهذا ما لم يتعين على شخص بأن لم يوجد غيره يقوم بها ، فإنه لا يصح أن يأخذ أجرا عليها.

وثانيا : أن الشافعية قسموا القرب إلى قسمين من حيث وجوب النية في فعلها وعدم وجوبها ثم قالوا : إن كل عبادة لا بد لصحتها من نية لا تقبل النيابة فلا تصح الإجارة على أدائها كالصلاة وما يتعلق بها كالإمامة سواء كانت الصلاة فرضا أم نفلا ، ولو كانت صلاة جنازة لتمحضها للعبادة ، وشبهها بالصلاة المفروضة عينا وكذلك الحكم عندهم في الإجارة على الحج عن الصحيح القادر والصوم عن الحي.

وإن كل ما لا يحتاج إلى نية يقبل النيابة ، فالإجارة على فعله جائزة كغسل الميت ، وتجهيزه ، ودفنه ، وتعليم القرآن والأذان ، وما إلى ذلك من كل شعار ديني لم تتوقف صحته على نية ؛ لأنه لم يقصد بهذه الأعمال اختبار شخص معين بأصل الخطاب بها ، وكذلك جوزوا الإجارة على فعلها ولو تعينت مراعاة لأصل الخطاب.

وإنما لم تجز الإجارة عندهم على الجهاد ، وإن لم يخاطب به شخص بعينه ؛ لأن الخطاب به ، وإن كان شائعا في الأصل يحتمله وغيره ، لكنه بحضور الصف يتعين عليه ، فلا يكون قابلا للنيابة ، فلا يصح أخذ الأجرة عليه.

وثالثا : أن متقدمي الحنفية كالإمام أبي حنيفة وصاحبيه يرون أن كل طاعة يختص فاعلها أن يكون مسلما لا يجوز الاستئجار على فعلها سواء أكانت فرضا ، أم نفلا أم واجبا ، وسواء أكان كل من الفرض والواجب عينيا أم كفائيا.

وهكذا نرى المتقدمين منهم يمنعون الإجارة في العبادات التي لم تتمحض للمالية ، فيدخل في ذلك البدنية الصرفة كالصلاة ، والصوم ، والإمامة ، والأذان وتعليم القرآن وكل عبادة لا شائبة للمال فيها ، كما يدخل في ذلك العبادة المركبة من المالية والبدنية كالحج ، فإنه لا يصح الاستئجار عندهم على أدائه.

وإنما جوزوا الحج عن العاجز على سبيل النيابة لا الإجارة.

وأما متأخروهم فإنهم جوزوا الاستئجار على تعليم القرآن والإمامة ، والأذان والإقامة ، والوعظ ، دون غيرها ، بحجة أن الناس قد تهاونوا في أداء هذه المهام حسبة لله تعالى لاشتغالهم بأمور المعاش فأخذهم الأجرة عليها يحفزهم على القيام بها والمحافظة عليها قالوا وإنما كره المتقدمون الإجارة عليها لأنه كان للقائمين بها أرزاق منظمة يأخذونها من بيت المال مع رغبة الناس الأكيدة يومئذ في المحافظة على شعائر الدين ثم قالوا : أما في زماننا فليس لهم أرزاق ، وإن كانت فهي بحيث لا تفي بحاجاتهم الدنيوية يضاف إلى ذلك أنهم لو اشتغلوا بها لتعطل عليهم أمر المعاش والحاجة شديدة إليه وقد قلت رغبة الناس في أداء هذه الأعمال حسبة لله.

فلذلك قلنا بجواز أخذ الأجرة على ما ذكرنا وبقى ما عداه على أصل الحظر.

ورابعا : أنه قد روي للحنابلة في ذلك روايتان : إحداهما توافق ما ذهب إليه متقدمو الحنفية من منع الاستئجار على القرب التي يشترط إسلام فاعلها ، والأخرى جواز الاستئجار عليها إن تعدى نفعها فاعلها كالإمامة والأذان ، والحج عن الغير وتعليم القرآن.

فهذه مذاهب الأئمة رحمهم‌الله في الإجارة على القرب :

ويمكننا أن نخرج فيها بأنهم اتفقوا على منع الاستئجار على كل عبادة بدنية ، ولو كان للمال فيها شائبة ، كالصلاة ، والصيام ، والحج عن الصحيح القادر. ـ

١٦٠