تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

__________________

ـ وعلى جواز الاستئجار على كل عبادة مالية صدقة كأداء الزكاة ، وإخراج الكفارات ؛ لأن المقصود من هذه الأمور سد خلة الفقير ودفع حاجته ، وهذا كما يتحقق بفعل المستأجر يتحقق بفعل الأجير.

واختلفوا فيما عدا ذلك من العبادات التي يتعدى نفعها للغير وتقبل النيابة كالأذان وتعليم القرآن والإمامة ، وغسل الميت وتجهيزه فمنع ذلك متقدمو الحنفية والإمام أحمد في رواية ، وأجازه المالكية والشافعية وأحمد في الرواية الأخرى إلا أن الشافعية لم يجوزوا الإجارة على الإمامة ؛ لأنها من متعلقات الصلاة ، ومتأخرو الحنفية لم يجوزوا الإجارة على قراءة القرآن لعدم الضرورة إليها ، بخلاف تعليمه ففي القرب التي يتعدى نفعها إلى غير فاعلها مذهبان على سبيل الإجمال : منع الإجارة عليها ، وجوازها.

وهذه أدلة كلّ وما يدور حولها من مناقشات :

أدلة المانعين :

أولا : ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن شبل الأنصاري قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به».

قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد رجاله ثقات ا ه.

وثانيا : ما رواه أحمد والترمذي عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اقرءوا القرآن واسألوا الله به ، فإن من بعدكم قوما يقرءون القرآن يسألون به الناس» ا ه.

قال الترمذي : هذا حديث حسن ليس إسناده بذاك.

وثالثا : ما رواه ابن ماجه عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : علمت رجلا القرآن فأهدى لي قوسا ، فذكرت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال «إن أخذتها أخذت قوسا من نار» فرددتها ا ه.

ورابعا : ما رواه أصحاب السنن الأربعة والحاكم وصححه عن عثمان ابن أبي العاص الثقفي أنه قال آخر ما عهد إلي رسول الله أن اتخذ مؤذنا لا يأخذ على الأذان أجرا.

فهذه الأحاديث صريحة في منع أخذ الأجرة على تعليم القرآن وعلى الأذان ، ويقاس عليهما غيرهما من القرب التي يتعدى نفعها إلى غير فاعلها بجامع أن كلّا قربة لله تعالى.

وخامسا : أن القربة إذا وقعت إنما تقع عن فاعلها ، فهو الذي ينتفع بثوابها ، ولا يحصل لغيره شيء من هذا الثواب. فأخذ الأجرة في مقابلتها لا يجوز لعدم المعارضة كمن يأخذ أجرة على حمل متاع نفسه ، أو خياطة ثوبه.

وسادسا : أن أخذ الأجرة على القرب المذكورة سبب لتنفير الناس عنها ، وفي ذلك تضييع للشعائر الدينية ، أو استثقال لها ، فلا يجوز.

وقد ناقش الجمهور هذه الأدلة بما يأتي :

أما الحديث الأول فهو أخص من محل النزاع لأن المنع من التأكل بالقرآن لا يستلزم المنع من الاستئجار على تعليمه ؛ لأن الأكل به محمول على اتخاذه وسيلة للسؤال ، كما يصنع بعض أهل زماننا وإنما حرم ؛ لما فيه من الزراية بالقرآن ، والذي سوغ الحمل على هذا المعنى هو الجمع بينه وبين قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» كما سيأتي ذلك في أدلة المجوزين ، ويؤيده حديث عمران بن حصين المذكور بعده.

وأما الحديث الثاني فليس فيه إلا تحريم السؤال بالقرآن ، وهذا غير اتخاذ الأجرة على تعليمه.

وأما الحديث الثالث ، فقد قال البيهقي إنه منقطع يعني بين عطية الكلاعي وأبي بن كعب ، وكذلك قال المزي ، وتعقبه الحافظ بأن عطية ولد في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأعله ـ

١٦١

__________________

ـ ابن القطان بالجهل بحال عبد الرحمن بن سلم الراوي له عن عطية وله طرق عن أبي قال ابن القطان : لا يثبت منها شيء.

وعلى فرض صحته ، فهو واقعة عين تحتمل أن يكون المنع فيها لمانع سوى كونه القوس هدية على القرآن كأن يكون دافعها تكلف دفعها حياء لا عن طيب نفس ، ووقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال ، فنزلت عنه درجة الاستدلال.

وأما الحديث الرابع :

فغايته أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد إلى عثمان بن أبي العاص الثقفي أن يتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا ، وكان عثمان عاملا ، والعامل إذا استأجر فإنما يستأجر من بيت مال المسلمين لا من ماله ، ولا ريب أن العامل يجب عليه أن يراعي المصلحة ، فلا ينفق مالا في الأمور التي يمكن تأديتها احتسابا لما فيه من التبذير.

فالمنع من الإجارة على الأذان في هذه الحالة ليس منشؤه نفس الإجارة وإنما منشؤه المحافظة على مال المسلمين العام فلا يلزم منه منع الإجارة من المال الخاص وكذا من المال العام إذا لم يوجد من يقوم به احتسابا.

وأما الدليل الخامس : فيقال فيه إن القرب المذكورة فيها جهتان ، أولاهما الثواب الخاص بفاعلها ، وليس الاستئجار عليها من هذه الجهة ، وثانيتهما النفع المتعدي إلى المسلمين ، والاستئجار عليها إنما هو من هذه الجهة ، فتعليم القرآن ثوابه للمعلم ، وأثره وهو التعلم حاصل للمتعلم ، وكذا الإمامة ، ثوابها للإمام ، وأثرها ربط صلاة المأمومين به ، وهو نفع واصل إليهم ، والأذان ثوابه للمؤذن وأثره معرفة القوم للوقت وذهابهم للصلاة ، وسقوط الطلب عنهم ، وأما القراءة فثوابها للقارئ ، وأثرها وهو الاستماع والاتعاظ وغيرهما واصل للحاضرين ، وفرق عظيم بين هذه الأمور وبين خياطة الإنسان ثوب نفسه ، أو حمل متاع نفسه فإن هذا لا نفع فيه لغير فاعله أصلا فلا يتصور استحقاقه أجرة عليه ، بخلاف ما معنا.

وأما الدليل السادس فيقال فيه إن المشاهدة تدل على خلافه ، فالمسلمون مفطورون على حب الإنفاق في سبيل إقامة هذه الشعائر ، وإنا لنجد أهل الخير يقفون الأوقاف العظيمة على المساجد والمقارئ والتعليم الديني ، ثم هو معارض بأن المنع من الإجارة على هذه الأمور يؤدي إلى اشتغال الناس بغيرها مما يعود عليهم بالثروة كالتجارة والصناعة فيؤدي ذلك إلى تضييعها.

أدلة المجوزين :

أولا ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن نفرا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مروا بماء فيهم لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من أهل الماء ، فقال : هل فيكم من راق ، فإن في الماء رجلا لديغا أو سليما ، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء ، فجاء بالشاء إلى أصحابه ، فكرهوا ذلك ، وقالوا أخذت على كتاب الله أجرا حتى قدموا المدينة فقالوا يا رسول الله أخذ على كتاب الله أجرا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله».

والحديث صريح في إباحة أخذ الأجرة على كتاب الله ، وهو بعمومه يتناول الرقية التي هي السبب ، وغيرها من تلاوة وتعليم.

وإذا جاز أخذ الأجرة على كتاب الله ، وهو قربة يتعدى نفعها جاز أخذها على سائر ما يتعدى نفعه من القرب ، إذ لا فرق.

وثانيا : ما أخرجه الشيخان عن سهل بن سعد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءته امرأة فقالت يا ـ

١٦٢

__________________

ـ رسول الله إني قد وهبت نفسي لك فقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال يا رسول زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل عندك من شيء تصدقها إياه فقال : ما عندي إلا إزاري هذا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك فالتمس شيئا ، فقال ما أجد شيئا ، فقال التمس ولو خاتما من حديد ، فالتمس فلم يجد شيئا ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل معك من القرآن شيء ، قال : نعم سورة كذا ، وسورة كذا لسور يسميها ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد زوجتكها بما معك من القرآن.

وفي رواية لهما : قد ملكتها بما معك من القرآن :

فالحديث يفيد جواز جعل تعليم القرآن صداقا ، وإذا جاز أن يكون التعليم عوضا في باب النكاح جاز أن يكون معوضا عنه في غيره.

وثالثا : أن الإجارة على أداء قربة يتعدى نفعها إلى غير فاعلها ، لا تعدو أن تكون إجارة على عمل معلوم مشروع واصل نفعه إلى المستأجر فيجوز كسائر أنواع الإجارة.

مناقشة الأدلة :

وقد ناقش المانعون هذه الأدلة بما يأتي :

أما الحديث الأول فإنه ورد في الرقية ، فيختص بجواز الأجرة عليها ، وهي من باب التداوي ، لا من باب العبادة فلا يقاس عليها غيرها ، فيبقى ما عداها على المنع.

على أنه يمكن حمل الأجر في الحديث على الثواب ، فلا يدل على جواز أخذ الأجرة أصلا ، كما يمكن أن يكون الأخذ من هؤلاء لأنهم كفار أو لأنه كان يجب عليهم أن يضيفوهم فكان هذا عوض ما استحقوه من الضيافة.

وأما الحديث الثاني فليس صريحا في أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل تعليم المرأة صداقا كما قلتم ، لاحتمال أن تكون الباء في قوله بما معك للسببية لا للمعاوضة ، ويكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد زوجه إياها بلا مهر إكراما لحفظه مقدارا من القرآن ، وقد كان الرسول يملك هذا الحق ، أو أن يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صدقها شيئا من عنده إكراما لهما ، أو سكت عن المهر فأصبح واجبا في ذمة الزوج مهر مثلها ، وأيا ما كان الأمر فلا دلالة في الحديث على جعل تعليم القرآن صداقا.

وأما الدليل الثالث فهو قياس في مقابلة النصوص المانعة من أخذ الأجرة على القرب فهو فاسد الاعتبار.

وأجيب عن هذه المناقشة بما يأتي :

أولا : أن حمل الحديث الأول على الرقية تخصيص بالسبب ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وقولهم : إن الأجر معناه الثواب مردود ؛ لأن سياق الحديث يأباه للتصريح بالشاء.

وقولهم : إن الرقية من باب التداوي لا من باب العبادة ، مسلم ، ولكنها مع هذا لا تخلو من أنها قربة ؛ نظرا لما تشتمل عليه من التلاوة ولو لا كونها قربة لما أفادت الشفاء بغير سبب ظاهر ، إذ إفادته بغير السبب الظاهر إنما نشأت عن بركة التلاوة ، وكيف يكون فيها البركة وهي غير قربة.

ودعوى أن الأخذ كان لكفرهم ، أو لوجوب الضيافة عليهم ، بعيدة عن سياق الحديث ، ولو كان ذلك هو الواقع لما ناط النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحقية أخذ الأجر بكونه على كتاب الله وسماه أجرا ، فلم يكن غنيمة ، ولا فيئا ، ولا ضيافة ، وكيف يكون عوض ضيافة ، وقد استغنوا عنه ، وجاءوا به كاملا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ـ

١٦٣

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) [الطور : ٤٠] ؛ كأنه ـ والله أعلم ـ يجعل لهم العذر في ترك الإجابة له بما يلحقهم من ثقل الأجر والغرم ، والله أعلم.

وفيه ـ أيضا ـ دلالة نقض مذهب القرامطة ؛ لأنهم يعرضون مذهبهم على الناس ، ويأخذون منهم المواثيق والجعل في ذلك ، وإنما أخذ المواثيق من الرسل على تبليغ الرسالة إلى قومهم ، وأمروا بتأليف قلوب الخلق ، وفي أخذ الجعل منهم نفور قلوبهم وطباعهم عن ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ).

أي : ما هذا القرآن إلا ذكرى ، أي : عظة وزجر للعالمين.

قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ

__________________

ـ وثانيا : أن احتمال كون الباء في الحديث الثاني للسببية غير ظاهر ؛ لأنه يرده ما في رواية مسلم : انطلق فقد زوجتكها فعلمها ما معك من القرآن. وما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البيهقي قال : ما تحفظ من القرآن ، قال سورة البقرة ، والتي تليها ، قال : فقم ، فعلمها عشرين آية ، وهي امرأتك.

فهاتان الروايتان تدلان على أن تعليم القرآن كان صداقا للمرأة.

هذا ، ومن نظر في أدلة الفريقين ، وما دار حولها من مناقشات وأجوبة ، لم يسعه إلا اختيار مذهب المجوزين لأخذ الأجرة على القرب التي يتعدى نفعها.

ولعمري إن من تأمل جليا وجد أغلب الأعمال التي يرد عقد الإجارة عليها إنما هي قرب ، وطاعات لو لا الأجرة ؛ ألا ترى أن إعانة الضعيف ، والحمل عن العاجز ، وخياطة الثياب للفقراء كلها من قبيل القرب التي يندب فعلها بلا أجرة ، وكلها يجوز الاستئجار عليها ، وأخذ الأجرة في مقابلتها؟!

غاية الأمر أن أخذ الأجرة يحبط ثوابها ، ما لم يكن فيها محاباة أو نية صالحة ، فإن مؤديها يكون له من الثواب بقدر ذلك فكذا هذه الأعمال يجوز الاستئجار عليها ، وأخذ الأجرة في مقابلتها يحبط ثواب نفعها المتعدي ، ويبقى ثواب نفعها الأصلي ؛ إذ لم يرد عقد الإجارة عليه.

وإيضاح ذلك أن المؤذن مثلا يقوم بالأذان عن نفسه وعن غيره فيستحق ثواب نيته وعمله عن نفسه وعن غيره ، فإذا أخذ الأجرة سقط الثواب المتعلق بغيره ، وبقي ثواب النية ، وثواب العمل المتعلق بنفسه وثواب ما يؤدي إليه من تذكر وتفكر.

قال ابن العربي : والصحيح أخذ الأجرة على الأذان ، والصلاة ، والقضاء ، وجميع الأعمال الدينية فإن الخليفة يأخذ أجرته على هذا كله ، وفي كل واحد منها يأخذ النائب أجره كما يأخذ المستنيب ا ه.

وهو يريد من الصلاة : الإمامة ؛ لاتفاق الأئمة رحمهم‌الله جميعا على أن الإجارة لا تجوز على الصلاة مطلقا ، كما يريد أيضا من كلمة وجميع الأعمال الدينية الأعمال التي يتعدى نفعها إلى غير فاعلها. ينظر الإجارات للدكتور : عبد الرحمن مندور.

١٦٤

وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)(٩٤)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) : قيل : نزلت سورة الأنعام في محاجة أهل الشرك إلا آيات نزلت في محاجة أهل الكتاب ، إحداها (١) هذه (٢) : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...) الآية ، وذكر في موضع آخر : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج : ٧٤] وقال في آية أخرى (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً ...) [الزمر : ٦٧] الآية.

ثم قال بعض أهل التأويل (٣) : ما عرفوا الله حق معرفته.

وقال غيرهم (٤) : ما عظموا الله حق عظمته ؛ ذكروا أن هؤلاء لم يعظموا الله حق عظمته ، ولا عرفوه حق معرفته ، ومن يقدر أن يعظم الله حق عظمته ، أو أن يعرفه حق معرفته ، أو من يقدر أن يعبد الله حق عبادته؟!

وكذلك روي في الخبر : «أن الملائكة يقولون يوم القيامة : يا ربنا ما عبدناك حق عبادتك» (٥) ، مع ما أخبر عنهم أنهم : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] ، وقال : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) [الأنبياء : ١٩] ، فهم مع هذا كله يقولون : «ما عبدناك حق عبادتك» ، ومن يقدر أن يعرفه حق معرفته ، أو يعظمه

__________________

(١) في أ : أحدها.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٦٤) (١٣٥٤٥ ، ١٣٥٤٧) عن مجاهد (١٣٥٤٦) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٣) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس ولابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٣) ذكره القرطبي (٧ / ٢٦) ونسبه لأبي عبيدة والخازن في تفسيره (٢ / ٤١٠) ونسبه للأخفش.

(٤) ذكره القرطبي (٧ / ٢٦) ونسبه للحسن ، والخازن (٢ / ٤١٠) ونسبه لابن عباس.

(٥) هو جزء من حديث طويل عن عمر بن الخطاب :

أخرجه الحاكم (٣ / ٨٧ ـ ٨٨) ، والبيهقي في شعب الإيمان (١ / ١٨٣) (١٦٦) ، وابن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (٢٥٥) وقال الحاكم صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه فتعقبه الذهبي فقال منكر غريب وما هو على شرط البخاري ، وعبد الملك ضعيف تفرد به.

وقال ابن كثير في تفسيره (٨ / ٢٩٧) هذا حديث غريب جدّا بل منكر نكارة شديدة.

١٦٥

حق عظمته؟!

ولكن تأويله ـ والله أعلم ـ أي : ما عرفوا الله حق المعرفة التي تعرف بالاستدلال ، ولا عظموه حق عظمته التي تعظم (١) بالاستدلال ، هذا تأويلهم ، وإلا لا أحد [يقدر أن](٢) يعرف الله حق معرفته ، ولا يعظمه حق عظمته حقيقة.

وهو يخرج على وجهين :

أحدهما : ما قدروا الله حق قدره ، ولا اتقوه (٣) حق تقواه مما كلفوا به وأطاقوه ومما (٤) جرى الأمر بذلك ، وإنما تجري الكلفة منه على قدر الطاقة والوسع ، وإلا لا يقدر أحد أن يعظم ربه حق عظمته ولا يتقيه (٥) حق تقواه ، لكن ما ذكرنا مما جرت [به](٦) الكلفة.

والثاني : ما قدروا الله حق قدره ولا حق تقاته على القدر الذي يعملون لأنفسهم ، أي : لو اجتهدوا في تقواه وعظمته القدر الذي لو كان ذلك العمل لهم فيجتهدون ، ويبلغ جهدهم في [ذلك](٧) ذلك فقد اتقوا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ).

لو كان هؤلاء في الحقيقة أهل الكتاب ما أنكروا الرسل ولا الكتب ؛ لأن أهل الكتاب يؤمنون ببعض الرسل وببعض الكتب ، وإن كانوا يكفرون ببعض ، لكن هؤلاء أنكروا الرسل لما كانوا أهل نفاق ، ويكون من اليهود أهل نفاق ، كما يكون من أهل الإسلام ، كانوا يظهرون الموافقة لهم ، ويضمرون الخلاف لهم والموالاة لأهل الشرك ، ويظاهرون عليهم ؛ كما كان يفعل ذلك منافقو أهل الإسلام ؛ كانوا يظهرون الموافقة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويضمرون الخلاف له ، ويظاهرون المشركين عليه ، فأطلع الله رسوله على نفاقهم ؛ ليعلم قومهم خلافهم ، وأن ما كان من تحريف (٨) الأحكام وتغيرها (٩) وكتمان نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته إنما كان من هؤلاء.

__________________

(١) في ب : يعظم.

(٢) سقط في : ب.

(٣) في ب : ولا اتقوا.

(٤) في أ : وما.

(٥) في ب : ولا اتقى.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في أ.

(٨) في أ : تخويف.

(٩) في أ : وتغييرها.

١٦٦

وذكر في بعض القصة أنها نزلت في شأن مالك بن الصيف (١) ، وكان من أحبار اليهود ، وكان سمينا فدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل تجد في التوراة أن الله يبغض كل حبر سمين؟ قال (٢) : نعم ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأنت حبر سمين يبغضك الله ، فغضب فقال : ما أنزل الله على بشر من شيء أنكر الرسل والكتب جميعا ، فأكذبه الله تعالى ، وأظهر نفاقه عند قومه (٣) ، فقال : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) ، قيل (٤) : تجعلونه قراطيس ، يعني : صحفا ، أي : كتبتموه في الصحف ، ثم تنكرون أنه ما أنزل الله على بشر من شيء ، أي : ما الذي كنتم (٥) كتبتموه (٦) إن لم ينزل الله على بشر من شيء (تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) ، يقول (٧) : تظهرون من الصحف ما ليس فيه صفة رسول الله ونعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتخفون ما فيه صفته ونعته وتغيرون.

وقيل (٨) : (تُبْدُونَها) أي : تظهرون قراءتها (وَتُخْفُونَ كَثِيراً) مما فيه نعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو (٩) : ما فيه من الأحكام التي لا تطيب بها أنفسهم من أمر الرجم (١٠) والقصاص (١١) وغير ذلك.

__________________

(١) مالك بن الصيف من أحبار اليهود الأشرار كان عدوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاندا متعنتا كافرا ، ينظر البداية والنهاية للحافظ ابن كثير (٣ / ٢٩٠).

(٢) في ب : فقال.

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣) (١٣٥٣٩) عن سعيد بن جبير مرسلا ، و (١٣٥٤٠) عن عكرمة ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٤) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير (١٣٥٥٠) وزاد نسبته لابن المنذر عن عكرمة.

(٤) قال أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ١٨١) أي أوراقا وبطائق ، وقال البغوي في تفسيره مع الخازن (٢ / ٤١١) أي تكتبون عنه دفاتر وكتبا مقطعة تبدونها.

(٥) في أ : كتبتم.

(٦) في ب : كتمتموه.

(٧) في ب : تقولون.

(٨) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٦٥) عن عكرمة ، ومجاهد بنحوه وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٤) وعزاه لابن المنذر عن ابن جريج.

(٩) في أ : أي.

(١٠) الرجم في اللغة : الرمي بالحجارة. ويطلق على معان أخرى منها : القتل. ومنها : القذف بالغيب أو بالظن. ومنها اللعن ، والطرد ، والشتم والهجران.

وفي الاصطلاح هو رجم الزاني المحصن بالحجارة حتى الموت.

قال ابن قدامة : لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الرجم على الزاني المحصن رجلا كان أو امرأة.

وقد ثبت الرجم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله وفعله ، في أخبار تشبه التواتر. وهذا قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

قال ابن قدامة : لا نعلم فيه مخالفا إلا الخوارج ، فإنهم قالوا : الجلد للبكر والثيب لقول الله ـ

١٦٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) ، سمى عزوجل جميع كتبه نورا وهدى ، وهو نور من الظلمات ، أي : يرفع الشبهات (١) ،

__________________

ـ تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ)[النور : ٢].

ينظر تاج العروس ولسان العرب ، مادة : «رجم» والقوانين الفقهية لابن جزي ص ٢٣٢.

(١١) القصاص : أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل. كذا في المغرب.

وفي الصحاح : القصاص : القود ، وقد أقص الأمير فلانا من فلان إذا اقتص منه فجرحه مثل جرحه أو قتله.

وقد اضطربت القوانين الوضعية في هذا القصاص ، واختلفت أنظار المفكرين في جوازه أو عدمه ، وأخذ كل يدافع عن فكرته ، ويحاجج عن رأيه ، حتى رمى بعض الغلاة الإسلام بالعنف في تقرير هذه العقوبة ، وقالوا : إنها غير صالحة لهذا الزمن ، وقد نسوا أن الإسلام جاء في ذلك بما يصلح البشر على مر الزمن مهما بلغوا في الرقي ، وتقدموا في الحضارة.

وقد كانت هذه العقوبة موجودة قبل الإسلام ، ولكن كان للإسراف فيها ضرره البالغ ، فحد الإسلام من غلوائها ، وقصر من عدوانها ، ومنع الإسراف فيها ، فقال تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً)[الإسراء : ٣٣] فلم يبح دم من لم يشترك في القتل قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى)[البقرة : ١٧٨] وقال عزّ من قائل (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ...)[المائدة : ٤٥] الآية ، ولكنه أفسح المجال للفصل بين الناس ، وترك للجماعة الراقية مع ذلك أن ترى خيرا في العفو عن الجاني فقال (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)[المائدة : ٤٥] على أن العقلاء الذين خبروا الحوادث ، وعركوا الأمور ، ودرسوا طبائع النفوس البشرية ونزعاتها وغرائزها ، قد هداهم تفكيرهم الصحيح إلى صلاح هذه العقوبة ؛ لإنتاج الغاية المقصودة ، وهي إقرار الأمن وطمأنة النفوس ، ودرء العدوان والبغي ، وإنقاذ كثيرين من الهلاك ، قال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ)[البقرة : ١٧٩].

ولقد فهم أولو الألباب هذه الحكم البالغة ، وقدروها حق قدرها ، وها نحن أولاء نرى اليوم أن الأمم التي ألغت هذه العقوبة عادت إلى تقريرها لما رأته في ذلك من المصلحة.

وأمكننا الآن أن نقول إنه ليس هناك من خلاف كبير بين الإسلام والقوانين الوضعية في هذا الموضوع.

أما القصاص في غير القتل مما ورد في الآية الكريمة (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) فهو في غاية الحكمة والعدالة ؛ إذ لو لم يكن الأمر كذلك لاعتدى القوي على الضعيف ، وشوه خلقته ، وفعل به ما أمكنته الفرصة لا يخشى من وراء ذلك ضررا يناله أو شرا يصيبه ، ولو اقتصر الأمر على الديات كما هو الحال في القوانين الوضعية لكان سهلا على الباغي يسيرا على الجاني ، ولتنازل الإنسان عن شيء من ماله في سبيل تعجيز عضو وتشويهه ما دامت القوة في يده ، ولكنه لو عرف أن ما يناله بالسوء من أعضاء عدوه سيصيب أعضاءه مثله كذلك ، لانكمش وارتدع وسلموا جميعا من الشر.

ينظر الصحاح (٣ / ١٠٥٢) ، القاموس المحيط (٢ / ٣٢٤) ، المغرب (٢ / ١٨٢).

(١) الشبهات جمع شبهة وهي لغة : من أشبه الشيء الشيء أي : ماثله في صفاته. والشّبه ، والشّبه ، والشبيه ، المثل. والجمع : أشباه ، والتشبيه : التمثيل. والشبهة المأخذ الملبس والأمور المشتبهة أي : المشكلة لشبه بعضها ببعض.

واصطلاحا هي : ما لم يتيقن كونه حراما أو حلالا ، أو ما جهل تحليله على الحقيقة ، وتحريمه ـ

١٦٨

ويجليها ، وهدى من الضلالات ، أي : بيانا ودليلا من الحيرة والهلاك ، وبالله العصمة والنجاة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) قال مجاهد : نزلت الآية في المسلمين (١) ؛ يقول : علّموا ما لم يعلموا ولا آباؤهم.

وقال الحسن (٢) : الآية في الكفرة ، أي : علمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم من تحريف أولئك الكتاب وتغييرهم إياه.

وقيل (٣) : وعلمتم ما في التوراة ما لم تعلموا أنتم ، ولم يعلمه آباؤكم.

ثم قال : (ثُمَّ ذَرْهُمْ) : قال بعضهم : قوله : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) هو صلة قوله : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً) [قل](٤) يا محمد الله أنزله على موسى.

وقيل : [صلة قوله : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً)](٥) [قل يا محمد الله : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ)](٦) ، قال : قل يا محمد الله علمكم.

ويحتمل أن يكون ـ عزوجل ـ سخرهم حتى قالوا ذلك ، فكان ذلك حجة عليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ).

هذا يحتمل وجهين :

[الأول](٧) يحتمل : ذرهم ولا تكافئهم بصنيعهم ؛ كقوله : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ)

__________________

ـ على الحقيقة. أو ما يشبه الثابت وليس بثابت.

ما تتناوله الشبهة عند العلماء :

فسر العلماء الشبهة بأربعة تفسيرات :

الأول : ما تعارضت فيه الأدلة.

الثاني : ما اختلف فيه العلماء وهو متفرع من الأول.

الثالث : المكروه.

الرابع : المباح الذي تركه أولى من فعله باعتبار أمر خارج عن ذاته.

ينظر اللسان والمصباح المنير (شبه).

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٦٦) (١٣٥٥٢) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٤) وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٢) قال الخازن والبغوي في تفسيرهما : أكثر المفسرين على أن هذا خطاب لليهود. وقال الحسن جعل لهم علم ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضيعوه ولم ينتفعوا به.

(٣) ينظر تفسير أبي حيان (٤ / ١٨٢).

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : هو صلة قوله : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) [الأنعام : ٩١].

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

١٦٩

[المائدة : ١٣].

الثاني : أنه قد أقام عليهم الحجج وظهرت عندهم البراهين ، لكنهم كابروا وعاندوا ، فأمره أن يذرهم لا يقيم عليهم الآيات والحجج بعد ذلك ، ولكن يدعوهم (١) إلى التوحيد لا يذر (٢) دعاءهم إلى التوحيد ، ولكن يذرهم (٣) ولا يقيم (٤) عليهم الحجج.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِي خَوْضِهِمْ) ؛ أي : في باطلهم وتكذيبهم يعمهون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ).

قيل (٥) : القرآن أنزلناه مباركا ؛ سماه مرة : مباركا (٦) ، ومرة نورا (٧) ، ومرة هدى (٨) ورحمة (٩) ، ومرة شفاء (١٠) ، ومجيدا (١١) وكريما (١٢) وحكيما (١٣) ، وليس يوصف هو في الحقيقة بنور ، ولا مبارك ، ولا رحمة ، ولا هدى ، ولا شفاء ، ولا مجيد ، ولا كريم ولا حكيم ؛ لأنه صفة ولا يكون للصفة صفة توصف بها ، ولو (١٤) كان هو في الحقيقة نورا ،

__________________

(١) في أ : تدعوهم.

(٢) في أ : تذر.

(٣) في أ : تذرهم.

(٤) في أ : تقيم.

(٥) ذكره ابن جرير (٥ / ٢٦٧) والسيوطي في الدر (٣ / ٥٥) وعزاه لابن أبي حاتم عن قتادة. وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى ، أو كماله في أمر من الأمور. أما ترى أن كثرة أسماء الأسد دلت على كمال قوته ، وكثرة أسماء القيامة دلت على كمال شدتها وصعوبتها ، وكثرة أسماء الداهية دلت على شدة نكايتها. وكذلك كثرة أسماء الله تعالى دلت على كمال جلال عظمته ، وكثرة أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دلت على علو رتبته ، وسمو درجته. وكذلك كثرة أسماء القرآن دلت على شرفه وفضيلته. ينظر بصائر ذوي التمييز (١ / ٨٨).

(٦) في قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) [الأنعام : ٩٢].

(٧) في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف : ١٥٧].

(٨) في قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢].

(٩) في قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [النمل : ٧٧].

(١٠) في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس : ٥٧].

(١١) في قوله تعالى : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) [البروج : ١٥].

(١٢) في قوله تعالى : (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) [الواقعة : ٤٤].

(١٣) في قوله تعالى : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) [يس : ٢].

(١٤) في ب : ولكن.

١٧٠

ورحمة ، وهدى أو ما ذكر [لكان يكون لكل واحد نورا وما ذكر](١) ، فلما ذكر أنه عمى على بعض ، وأخبر أنه يزداد بذلك رجسا إلى رجسهم دل أنه ليس هو في الحقيقة كذلك ؛ لأنه لو كان كذلك لكان لكل أحد ، لكن سماه بهذه الأسماء :

سماه نورا لما يصير نورا للمسترشدين ، ويصير شفاء ورحمة للمتبعين ليشفوا [من](٢) الداء الذي يحل في الدين. وسماه روحا لما يحيى به الدين. وسماه حكيما لما يصير من عرف بواطنه واتبعه حكيما.

وكذلك سماه مجيدا كريما لما يدعو الخلق إلى المجد والكرم ، فمن اتبعه تخلق بأخلاق حميدة ؛ فيصير مجيدا كريما.

وسماه مباركا لما به ينال كل بركة ، [والبركة اسم لشيئين : اسم كل بر وخير والثاني :](٣) اسم لكل ما [يثمر وينمو](٤) في الحادث ، فمن اتبعه نال به كل بر وخير وكل ثمرة ونماء في الحادث ؛ هذا وجه الوصف بما ذكرنا (٥).

وقوله ـ عزوجل ـ : (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)

من الكتب ؛ لأنه كان يدعو الخلق إلى ما كان يدعو سائر الكتب التي أنزلها على الرسل ، من توحيد الله والنهي عن إشراك غيره في الألوهية والربوبية ، ويدعو إلى كل عدل وإحسان ، وينهى عن كل فاحشة ومنكر ؛ وكذلك سائر الكتب دعت الخلق إلى ما دعا هذا ، لم يخالف بعضهم بعضا ، [بل كانت موافقة بعضها](٦) لبعض ؛ لذلك قال : (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها)

قيل (٧) : أم القرى : مكة (٨) ، وسميت أم القرى لوجهين :

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : يتم وينمو.

(٥) في ب : بما ذكر.

(٦) سقط في ب.

(٧) في أ : وقيل.

(٨) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٦٧) (١٣٥٥٤ ، ١٣٥٥٥) عن ابن عباس ، (١٣٥٥٦ ، ١٣٥٥٧) عن قتادة (١٣٥٥٨) عن السدي.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٥) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس ، ولابن أبي حاتم عن السدي ولعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة ، ولابن مردويه عن بريدة مرفوعا.

١٧١

أحدهما : لأنها متقدمة ، ومنها : دحيت الأرض على ما ذكر أهل التأويل.

والثاني : سميت : أم القرى ؛ لأنها مقصد الخلق في الحج ، وفيها تقضى المناسك (١) ، وإليها يقصدون ويأمون ، وإليها يتوجهون في الصلوات ، وهي مقصد أهل القرى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) أي : أهل أم القرى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ).

فإن قيل : أخبر أن من آمن بالبعث يؤمن بهذا الكتاب ، وأهل الكتاب يؤمنون بالبعث ولا يؤمنون به ، فما معناه؟

قيل (٢) : يحتمل هذا وجوها :

أحدها : أن يكون هذا في قوم مخصوصين إذا آمنوا بالبعث آمنوا به ؛ كقوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [يس : ١٠] ، هذا في قوم مخصوصين ؛ لأنه قد آمن كثير منهم بالإنذار ؛ فعلى ذلك الأول.

والثاني : قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) بالعلم والحجج آمنوا بالقرآن ؛ لأن القرآن جاء في تأييد حجج البعث وتأكيده ، فلا يجوز أن يؤمنوا بما يؤيده القرآن ولا يؤمنوا بالقرآن.

والثالث : يحتمل أن يكون إخبارا عن أوائلهم : أنهم كانوا مؤمنين بالبعث بالآيات والحجج راغبين فيه ، فلما جاء آمنوا به.

وأمكن أن تكون الآية في المؤمنين ، أخبر أنهم آمنوا بالآخرة وآمنوا بالقرآن ؛ ألا ترى (٣) أنه قال : (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ).

ويحتمل [أن](٤) الذين يؤمنون بالآخرة يحق لهم أن يؤمنوا بالقرآن ؛ لأنه به يتزود للآخرة.

ويحتمل [غير] ما ذكرنا من الوجوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً).

هذا في الظاهر استفهام وسؤال لم يذكر له جواب ، لكن أهل التأويل فسروا فقالوا : لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا ، وهذا جواب له [ليس](٥) هو تفسيره ، لكن ترك ذكر

__________________

(١) المناسك : جمع منسك بفتح السين وكسرها وهي عبادات الحج وأماكنها وأصل النسك العبادة مطلقا من حج وغيره غير أنه قد صار علما بالغلبة التحقيقية على الحج والعمرة ، ينظر حاشية الشرقاوي على التحرير (١ / ٤٥٨) وعمدة الحفاظ (٤ / ١٩٧).

(٢) ينظر تفسير أبي حيان الأندلسي (٤ / ١٨٣).

(٣) في ب : يرى.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

١٧٢

الجواب لمعرفة أهل الخطاب [به](١) ، وقد يترك (٢) الجواب لمعرفة أهله به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ أَظْلَمُ) : أكثرهم قد ظلموا أو كلهم قد ظلموا ؛ لكن كأنه قال : لا أحد أفحش ظلما ممن افترى على الله ؛ لأنه يتقلب في نعم الله في ليلة ونهاره وأحيانه ، فهو أفحش ظلما وأوحش كذبا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ).

في الآية دلالة أن نافي (٣) الرسالة عمن له الرسالة في الافتراء على الله والكذب ؛ كمدعي الرسالة لنفسه وليست له الرسالة ، سواء ، كلاهما مفتر على الله كذبا ؛ وكذلك من ادعى أنه ينزل مثل ما أنزل الله ، أو من ادعى أنه لم ينزل الله شيئا ، فهو في الافتراء على الله كالذي ادعى أنه ينزل مثل ما أنزل الله النافي (٤) والمدعي في ذلك سواء شرعا ؛ فعلى ذلك يكون نافي الشيء ومثبته (٥) في إقامة الحجة والدليل سواء (٦) ، والله أعلم.

وذكر أهل التأويل أن قوله : (أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) نزل في مسيلمة الكذاب (٧) ،

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : يعول.

(٣) في أ : أرنا في.

(٤) في ب : نافي.

(٥) في أ : ومنبته.

(٦) في ب : هو.

(٧) مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي الوائلي ، أبو ثمامة : متنبئ ، من المعمرين. وفي الأمثال «أكذب من مسيلمة». ولد ونشأ باليمامة ، في القرية المسماة اليوم بالجبيلة بقرب «العيينة» بوادي حنيفة ، في نجد. وتلقب في الجاهلية بالرحمن. وعرف برحمان اليمامة ولما ظهر الإسلام في غربي الجزيرة ، وافتتح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة ودانت له العرب ، جاءه وفد من بني حنيفة ، قيل : كان مسيلمة معهم إلا أنه تخلف مع الرحال ، خارج مكة ، وهو شيخ هرم ، فأسلم الوفد ، وذكروا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكان مسيلمة فأمر له بمثل ما أمر به لهم ، وقال : ليس بشركم مكانا. ولما رجعوا إلى ديارهم كتب مسيلمة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مسيلمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إلى محمد رسول الله : سلام عليك ، أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشا قوم يعتدون» فأجابه : «بسم الله الرحمن الرحيم : من محمد رسول الله ، إلى مسيلمة الكذاب ، السلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين». وذلك في أواخر سنة ١٠ ه‍ ، كما في سيرة ابن هشام (٣ / ٧٤) وأكثر مسيلمة من وضع أسجاع يضاهي بها القرآن. وتوفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل القضاء على فتنته ، فلما انتظم الأمر لأبي بكر ، انتدب له أعظم قواده «خالد بن الوليد» على رأس جيش قوي ، هاجم ديار بني حنيفة. وصمد هؤلاء ، فكانت عدة من استشهد من المسلمين على قلتهم في ذلك الحين ألفا ومائتي رجل ، منهم أربعمائة وخمسون صحابيا ، «كما في الشذرات» وانتهت المعركة بظفر خالد ومقتل مسيلمة «سنة ١٢» ولا تزال إلى اليوم آثار قبور الشهداء من الصحابة ظاهرة في قرية «الجبيلة» حيث كانت الواقعة ، وقد أكل السيل من أطرافها حتى إن ـ

١٧٣

ونزل قوله : (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) في عبد الله بن سعد (١) بن أبي سرح (٢) ، لكن ليس لنا إلى معرفة هذا حاجة ؛ هم وغيرهم ومن ادعى وافترى على الله كذبا سواء في الوعيد (٣).

وقوله : (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ).

ادعى بعضهم أنهم يقولون مثل ما قال الله إنكارا منهم له ؛ كقوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) [الأنفال : ٣١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ).

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال (٤) : قوله : (فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) : نزعات الموت وسكراته وغشيانه (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) : يقول ملك الموت وأعوانه الذين معه من

__________________

ـ الجالس في أسفل الوادي يرى على ارتفاع خمسة عشر مترا ، تقريبا ، داخل القبور ولحدها ، ولا يزال في نجد وغيرها من ينتسب إلى بني حنيفة الذين تفرقوا في أنحاء الجزيرة. وكان مسيلمة ضئيل الجسم ، قالوا في وصفه : «كان رويجلا ، أصيغرا ، أخينسا» كما في كتاب البدء والتاريخ. وقيل : اسمه هارون ومسيلمة لقبه كما في تاريخ الخميس ، ويقال : كان اسمه مسلمة وصغره المسلمون تحقيرا له ، قال عمارة بن عقيل :

أكان مسلمة الكذاب قال لكم

لن تدركوا المجد حتى تغضبوا مضرا

ينظر ابن هشام (٣ / ٧٤) والروض الأنف (٢ / ٣٤٠) والكامل لابن الأثير (٢ / ١٣٧ / ١٤٠) وفتوح البلدان للبلاذري (٩٤ / ١٠٠) وشذرات الذهب (١ / ٢٣).

(١) في ب : سعيد.

(٢) عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري ، من بني عامر بن لؤي ، من قريش : فاتح إفريقية ، وفارس بني عامر. من أبطال الصحابة. أسلم قبل فتح مكة ، وهو من أهلها. وكان من كتاب الوحي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان على ميمنة عمرو بن العاص حين افتتح مصر. وولي مصر سنة ٢٥ ه‍ ، بعد عمرو بن العاص ، فاستمر نحو ١٢ عاما ، زحف في خلالها إلى إفريقية بجيش فيه الحسن والحسين ابنا علي ، وعبد الله بن عباس ، وعقبة بن نافع. ولحق بهم عبد الله بن الزبير فافتتح ما بين طرابلس الغرب وطنجة ، ودانت له إفريقية كلها. وغزا الروم بحرا ، وظفر بهم في معركة «ذات الصواري» سنة ٣٤ ه‍ ، وعاد إلى المشرق ، ثم بينما كان في طريقه ، بين مصر والشام ، علم بمقتل عثمان وأن عليا أرسل إلى مصر واليا آخر هو قيس بن سعد بن عبادة فتوجه إلى الشام ، قاصدا معاوية ، واعتزل الحرب بينه وبين علي بصفين ومات بعسقلان فجأة ، وهو قائم يصلي. وهو أخو عثمان بن عفان من الرضاع. وأخباره كثيرة.

ينظر : أسد الغابة (٣ / ١٧٣) ، البداية والنهاية (٧ / ٢٥٠) معالم الإيمان (١ / ١١٠).

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٦٨) (١٣٥٥٩) عن عكرمة وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٦) وزاد نسبته لأبي الشيخ عن عكرمة ولعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن جرير.

(٤) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٧٠) (١٣٥٦٥) بنحوه ، وعن الضحاك (١٣٥٥٦) وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٨) وزاد نسبته لابن المنذر وأبي الشيخ عن ابن عباس.

١٧٤

[ملائكة الرحمة و](١) ملائكة العذاب ، (باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) : يقول : ضاربون بأيديهم أنفسهم يقولون لها : اخرجي ، يعني الأرواح ، وهو قوله : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) وهو عند الموت ؛ وكذلك يقول قتادة (٢).

وقال الحسن (٣) : ذلك في النار في الآخرة ضرب الوجوه والأدبار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) ، أي : كثرة العذاب وشدته ؛ يقال للشيء الكثير : الغمر (٤) ؛ وهو كقوله : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) [إبراهيم : ١٧] أي : أسباب الموت ، ولو كان هناك (٥) موت يموت لشدة العذاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) : بضرب الوجوه والأدبار ، (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) : على حقيقة الخروج منها ؛ كقوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) [المائدة : ٣٧] ، والأول ليس على حقيقة الخروج ، ولكن كما يقال عند نزول الشدائد : أخرج نفسك.

وقال مجاهد : هذا في القتال تضرب (٦) الملائكة وجوههم وأدبارهم ، يعني : الأستاه ، ولكنه يكون ـ وهو كقول (٧) ابن عباس رضي الله عنه وقتادة ـ : عند الموت.

قال أبو عوسجة (٨) : غمرات الموت : سكراته (٩) وشدائده ، والغمر : هو الماء الكثير ، والغمر : العداوة ، والغمر : الذي لم يجرب الأمور ، والغمر : الدسم ، والغمر : القدح

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر تفسير الخازن (٢ / ٤١٣ ـ ٤١٤)

(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٧٠ ـ ٢٧١) (١٣٥٦٧ ، ١٣٥٦٨) عن ابن عباس ، و (١٣٥٦٩) عن السدي.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٨ ـ ٥٩) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٤) وأصل الغمر : إزالة أثر الشيء وبه سمي الماء الكثير لإزالته أثر سيله. وقد غمره الماء : إذا غطاه وستره. قال الشاعر :

ترى غمرات الموت ثم تزورها

وسميت الشدة غمرة لأنها تغمر القلب ، أي تركبه فتغطيه. ومنه «اشتد مرضه حتى غمر عليه» ، وقد غمره الماء فهو غامر ، قال الشاعر :

نصف النهار الماء غامره

ورفيقه بالغيب لا يدري

وبه يشبه الرجل السخي ، قال الشاعر :

غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا

(٥) في ب : هنالك.

(٦) في أ : بضرب.

(٧) في أ : قول.

(٨) ينظر تفسير الخازن والبغوي (٢ / ٤١٣ ـ ٤١٤).

(٩) في ب : وسكراته.

١٧٥

الصغير من الخشب ، وغمرة الحرب : وسطها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) : قيل (١) : عذاب الهون لا رأفة فيه ولا رحمة ، أي : الشديد (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) ، بأن معه شريكا وآلهة ، (وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) ، أنه لم ينزل شيئا ولم يوح إليه شيء ، وإنما يوحي (٢) إليّ (٣) ، وغير ذلك من الافتراء الذي ذكروا (٤) ، وبالله العصمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

يحتمل هذا ـ والله أعلم ـ وجوها :

[الأول](٥) : أي : أعدناكم وبعثناكم فرادى بلا معين ولا ناصر ؛ كما خلقناكم أول مرة بلا معين ولا ناصر.

والثاني : أعيدكم وأبعثكم فرادى بلا أعوان لكم ولا شفعاء يشفعون لكم يعين بعضكم بعضا ؛ كما خلقناكم في الابتداء فرادى ، لم يكن لكم شفعاء ولا أعوان.

وقيل (٦) : يبعثكم ويعيدكم بلا مال ولا شيء من الدنياوية ؛ كما خلقكم في الابتداء ، ولم يكن لكم مال ولا شيء من الدنياوية.

وجائز أن يكون قوله : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) ليس معكم ما تفتخرون به من الخدم والأموال والقرابات التي افتخرتم [بها](٧) في الدنيا ؛ [وليس معكم ما تفتخرون به](٨) كما خلقناكم أول مرة.

وجائز أن يكون قوله : (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) منفصلا [عن] قوله : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا) ، لكن جواب سؤال : أن كيف يبعثون؟ فقال : أي تبعثون كما خلقناكم أول مرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ) [يحتمل وجهين](٩) :

يحتمل تركتموه وراء ظهوركم لا (١٠) تلتفتون إليه ولا تنظرون ؛ كالمنبوذ وراء

__________________

(١) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٩) وعزاه للطستي وابن الأنباري في الوقف والابتداء عن ابن عباس.

(٢) في ب : أوحى.

(٣) المقصود مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة كما جاء في نزول هذه الآية.

ينظر اللباب في علوم الكتاب (٨ / ٢٨٧) ، ومفاتيح الغيب (١٣ / ٦٨).

(٤) في ب : ذكر.

(٥) سقط في ب.

(٦) ينظر تفسير أبي حيان الأندلسي (٤ / ٨٥) وتفسير الخازن والبغوي (٢ / ٤١٤).

(٧) سقط في ب.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في أ.

(١٠) في أ : ولا.

١٧٦

ظهوركم ، إنما نظرتم إلى أعمالكم التي قدمتموها.

والثاني : لم تقدموا ما خولناكم ، ولم تنتفعوا منه ، بل تركتموه وراء ظهوركم لا تنتفعون به ، إنما منفعتكم ما قدمتموه وأنفقتم منه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (خَوَّلْناكُمْ).

قيل (١) : أعطيناكم.

وقيل : رزقناكم.

وقيل (٢) : مكناكم (٣) ؛ وهو واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ).

أنهم كانوا يجعلون لله شركاء في عبادته وألوهيته ، ويقولون : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] و : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، يقول الله : وما نرى [معكم شفعاءكم](٤) الذين زعمتم أنهم شركاء لله في عبادتكم ، وزعمتم أنهم شفعاؤكم عند الله بل شغلوا هم بأنفسهم ؛ يخبر عن سفههم وقلة نظرهم فيهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) : قرئ (٥) بالرفع والنصب جميعا.

فمن قرأ بالرفع (٦) يقول : لقد تقطع تواصلكم.

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ١١٦) وابن جرير (٥ / ٢٧٣) وابن عادل في اللباب (٨ / ٢٩٤).

(٢) قال ابن قتيبة (ص / ١٥٧) أي ملكناكم ، وينظر تفسير القرطبي (٧ / ٢٩) ، وتفسير الخازن (٢ / ٤١٥).

(٣) في ب : ملكناكم.

(٤) في أ : شفعاء.

(٥) قرأ نافع ، والكسائي ، وعاصم في رواية حفص عنه (بينكم) نصبا ، والباقون (بينكم) رفعا.

ينظر الدر المصون (٣ / ١٢٦) ، البحر المحيط (٤ / ١٨٦) ، إتحاف فضلاء البشر (٢ / ٢٢ ـ ٢٣) ، الحجة لأبي زرعة (٢٦١ ـ ٢٦٢) ، السبعة (٢٦٣) ، النشر (٢ / ٢٦٠) ، التبيان (١ / ٥٢٢) ، الزجاج (٢ / ٣٠٠) ، الفراء (١ / ٣٤٥) ، المشكل (١ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣) ، المستدرك (٢ / ٢٣٨) الحجة (٢٦٣).

(٦) وقراءة الرفع فيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه اتسع في هذا الظرف ، فأسند الفعل إليه ، فصار اسما كسائر الأسماء المتصرف فيها ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ)[فصلت : ٥] فاستعمله مجرورا ب (من) وقوله تعالى : (فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ)[الكهف : ٧٨](مَجْمَعَ بَيْنِهِما)[الكهف : ٦١](شَهادَةُ بَيْنِكُمْ)[المائدة : ١٠٦] وحكى سيبويه : (هو أحمر بين العينين) وقال عنترة :

وكأنما أقص الإكام عشية

بقريب بين المنسمين مصلم

وقال مهلهل :

كأن رماحنا أشطان بئر

بعيدة بين جاليها جرور

فقد استعمل في هذه المواضع كلها مضافا إليه متصرفا فيه ، فكذا هنا ، ومثله قوله :

 .......................................

وجلدة بين الأنف والعين سالم ـ

١٧٧

__________________

ـ وقوله في ذلك :

 ....................................

إلا قرابة بين الزنج والروم

وقول القائل في ذلك :

ولم يترك النبل المخالف بينها

أخا لاح قد يرجى وما ثورة الهند

يروى برفع (بينها) وفتحه على أنها فعل ل (مخالف) ، وإنما بني لإضافته إلى ذلك ومثله في ذلك : (أمام) و (دون) كقوله :

فغدت كلا الفرجين تحسب أنه

مولى المخافة خلفها وأمامها

برفع (أمام) ، كقول القائل في ذلك :

ألم تر أني قد حميت حقيقتي

وباشرت حد الموت والموت دونها

برفع (دون).

الثاني : أن (بين) اسم غير ظرف ، وإن معناها الوصل ، أي : لقد تقطع وصلكم.

ثم للناس بعد ذلك عبارة تؤذن بأن (بين) مصدر (بان يبين بينا) بمعنى (بعد) ، فيكون من الأضداد ، أي : أنه مشترك اشتراكا لفظيا يستعمل للوصل والفراق ك (الجون) للأسود ، والأبيض ، ويعزى هذا لأبي عمرو ، وابن جني ، والمهدوي ، والزهراوي ، وقال أبو عبيد : وكان أبو عمرو يقول : معنى (تقطع بينكم) تقطع فصارت هنا اسما بغير أن يكون معها (ما).

وقال الزجاج : والرفع أجود ، ومعناه : لقد تقطع وصلكم ، فقد أطلق هؤلاء أن (بين) بمعنى الوصل ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، إلا أن ابن عطية طعن فيه ، وزعم أنه لم يسمع من العرب البين بمعنى الوصل ، وإنما انتزع ذلك من هذه الآية الكريمة ، لو أنه أريد بالبين الافتراق ، وذلك عن الأمر البعيد ، والمعنى : لقد تقطعت المسافة بينكم لطولها ، فعبر عن ذلك بالبين.

قال شهاب الدين : فظاهر كلام ابن عطية يؤذن بأنه فهم أنها بمعنى الوصل حقيقة ، ثم رده بكونه لم يسمع من العرب ، وهذا منه غير مرض ؛ لأن أبا عمرو وأبا عبيد وابن جني ، والزهراوي ، والمهدوي ، والزجاج أئمة يقبل قولهم.

وقوله : (وإنما انتزع من هذه الآية) ممنوع ، بل ذلك مفهوم من لغة العرب ، ولو لم يكن من نقلها إلا أبو عمرو لكفى به ، وعبارته تؤذن بأنه مجاز ، ووجه المجاز كما قال الفارسي أنه لما استعمل (بين) مع الشيئين المتلابسين في نحو : (بيني وبينك رحم وصداقة) صارت لاستعمالها في هذه المواضع بمعنى الوصلة ، وعلى خلاف الفرقة ، فلهذا جاء : (لقد تقطع وصلكم) وإذا تقدر هذا ، فالقول بكونه مجازا أولى من القول بكونه مشتركا ؛ لأنه متى تعارض الاشتراك والمجاز ، فالمجاز خير منه عند الجمهور.

وقال أبو علي أيضا : ويدل على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفا أنه لا يخلو من أن يكون الذي هو مصدر ، فلا يجوز أن يكون هذا القسم ؛ لأن التقدير يصير : لقد تقطع افتراقكم ، وهذا خلاف المقصد والمعنى ، ألا ترى أن المراد وصلكم ، وما كنتم تتآلفون عليه؟!.

فإن قيل : كيف جاز أن يكون بمعنى : الوصل ، وأصله : الافتراق ، والتباين.

قيل : إنه لما استعمل مع الشيئين المتلابسين في نحو : (بيني وبينك شركة) فذكر ما تقدم عنه من وجه المجاز.

وأجاز أبو عبيدة والزجاج ، وجماعة : قراءة الرفع ، قال أبو عبيدة : وكذلك يقرؤها بالرفع ؛ لأنا قد وجدنا العرب تجعل (بين) اسما من غير (ما) ، ويصدق ذلك قوله تعالى : (بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما)[الكهف : ٦١] فجعل (بين) اسما من غير (ما) ، وكذلك قوله ـ تبارك وتعالى ـ : (هذا فِراقُ بَيْنِي ـ

١٧٨

ومن قرأ بالنصب (١) يقول : لقد تقطع ما كان بينكم (٢) من الوصل.

يخبر عزوجل عن قطع ما كان بينهم من التواصل ، وتعاون بعضهم بعضا في هذه الدنيا ، أنهم كانوا يتعاونون ويتناصرون بعضهم بعضا ـ يخبر أن ذلك كله ينقطع في الآخرة ، ويصير بعضهم أعداء بعض ، ويتبرأ بعضهم من بعض ؛ كقوله : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) [البقرة : ١٦٧] ؛ وكقوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧] ؛ وكقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) [الأحقاف : ٦] ؛ وكقوله : (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) [مريم : ٨٢] الآية ؛ يصير المعبودون أعداء للعابدين ، والعابدون أعداء للمعبودين ، وتصير الوصلة والمودة التي فيما بينهم في

__________________

ـ وَبَيْنِكَ)[الكهف : ٧٨] قال : (وقد سمعناه في غير موضع من أشعارها) ثم ذكر ما ذكرته عن أبي عمرو بن العلاء ، ثم قال : (وقرأها الكسائي نصبا) ، وكان يعتبرها بحرف عبد الله : (لقد تقطع ما بينكم).

وقال الزجاج : والرفع أجود ، والنصب جائز ، والمعنى : لقد تقطع ما كان من الشركة بينكم.

الثالث : أن هذا الكلام محمول على معناه ؛ إذ المعنى : لقد تفرق جمعكم وتشتت.

ينظر اللباب في علوم الكتاب (٨ / ٢٩٨ ـ ٣٠١) والدر المصون (٣ / ١٣٠) ، والكشاف (٢ / ٤٧) ، والكتاب (١ / ١٠٠) ، ومعاني القرآن (٢ / ٣٠٠) ، والحجة (٣ / ٣٥٨ ، ٣٥٩) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٣٢٥) ، والبحر المحيط (٤ / ١٨٦).

(١) والقراءة بالنصب ، فيها مذهبان :

أحدهما : أنه أضمر الفاعل في الفعل ودل عليه ما تقدم في قوله :

(وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) [الأنعام : ٩٤]

ألا ترى أن هذا الكلام فيه دلالة على التقاطع والتهاجر ، وذلك أن المضمر هو (الوصل) ، كأنه قال : لقد تقطع وصلكم بينكم.

وقد حكى سيبويه أنهم قالوا : (إذا كان غدا فائتني) فأضمر ما كانوا فيه من بلاء ورخاء لدلالة الحال عليه فصار دلالة الحال عليه بمنزلة جري الذكر وتقدمه.

والمذهب الآخر : انتصاب (البين) في قوله (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ)[الأنعام : ٩٤] على شيء يراه أبو الحسن ، وهو أنه يذهب إلى أن قوله (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) إذا نصب يكون معناه معنى المرفوع ، فلما جرى في كلامهم منصوبا ظرفا تركوه على ما يكون عليه في أكثر الكلام ، وكذلك يقول في قوله : (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) [الممتحنة : ٣].

وكذلك يقول في قوله : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) [الجن : ١١] ف (دون) في موضع رفع عنده ، وإن كان منصوب اللفظ ، ألا ترى أنك تقول : منا الصالح ومنا الطالح ، فترفع.

فالمسألة من باب التنازع ، تنازع (تقطع) (وضل) على (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام : ٩٤] فأعمل الثاني وهو ضل وأضمر في (تقطع) ضمير (ما) وهم الأصنام والمعنى : تقطع بينكم ما كنتم تزعمون وضلوا عنكم.

وزاد الألوسي وجها آخر ، وهو أن الفاعل ضمير المصدر والتقدير : وقع التقطع بينكم.

ينظر إملاء ما من به الرحمن (١ / ٢٥٤) البحر المحيط (٤ / ١٨٢ ـ ١٨٣) وروح المعاني (٧ / ٢٢٥).

(٢) في ب : منكم.

١٧٩

هذه الدنيا عداوة ، والرحم والقرابة اللتين (١) كانتا بينهم منقطعا ، حتى يفر بعضهم من بعض ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) [عبس : ٣٤ ، ٣٥] الآيات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ).

أي : ذهب عنكم وبطل ما كنتم تزعمون أنهم شفعاؤكم عند الله ، وبالله العصمة والنجاة.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٩٩)

قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى).

قيل (٢) : فالق الحب والنوى كما قال الله ـ تعالى ـ : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ١٤] ؛ وكقوله تعالى : (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ) [الإسراء : ٥١] أي : خلقكم يخبر أنه خالق (٣) الحب والنوى ، خص الحب [والنوى](٤) بالذكر لما منهما خلق جميع ما في الدنيا من الأنزال والحبوب ؛ كقوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) منذ (٥) ما خلق ما في الدنيا من البشر ، فأضاف ذلك إليه ؛ فعلى ذلك لما خلق هذه الأنزال كلها من الحب والنوى ، ومنها أخرج ، أضاف إليها (٦) ذلك ، والله أعلم.

ويحتمل : أن يكون ليس بإخبار عن ابتداء إنشاء ، ولكن إخبار عن لطفه.

والفلق : هو الشق ، يخبر أنه يشق النواة مع شدتها وصلابتها ، ويخرج منها نبتا أخضر لينا ، ما لو اجتمع كل الخلائق على إنفاذه وإخراج مثله من غير أذى يصيب ذلك النبت (٧) ما قدروا عليه ، يخبر عن لطفه وقدرته ، أي : من قدر على هذا لقادر على إعادة الخلق

__________________

(١) في أ : التي.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ٢٧٥) (١٣٥٨٨ ، ١٣٥٨٩) عن الضحاك (١٣٥٩٠) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٠) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٣) في أ : فالق.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : منه.

(٦) في ب : إليهما.

(٧) ينظر عمدة الحفاظ للسمين الحلبي (٣ / ٢٩٧).

١٨٠