تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

العج والثج» (١). وإنما سمى كلّا منها حجّا ؛ لما جعل لها أوقاتا معلومة يؤدى فيها.

__________________

 ـ الجارود (ص : ١٦٥) باب المناسك ، حديث (٤٦٨) ، والدارقطنى (٢ / ٢٤٠ ، ٢٤١) كتاب : الحج ، باب : المواقيت ، حديث (١٩) ، والحاكم (١ / ٤٦٤) كتاب : المناسك ، والبيهقى (٥ / ١١٦) كتاب : الحج ، باب وقت الوقوف لإدراك الحج.

وابن حبان (١٠٠٩ ـ موارد) ، وابن خزيمة (٤ / ٢٥٧) رقم (٢٨٢٢) ، والطحاوى فى شرح معانى الآثار (٢ / ٢٠٩ ـ ٢١٠) ، والحميدى (٢ / ٣٩٩) رقم (٨٩٩) ، وأبو نعيم فى الحلية (٧ / ١١٩ ـ ١٢٠) من طريق بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلى قال : شهدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو واقف بعرفة ، وأتاه ناس من أهل نجد فقالوا : يا رسول الله ، كيف الحج؟ قال : «الحج عرفة».

قال الترمذى : وقال ابن أبى عمر : قال سفيان بن عيينة : وهذا أجود حديث رواه سفيان الثورى.

وقال ابن ماجه : قال محمد بن يحيى ـ الذهلى ـ : ما أرى للثورى حديثا أشرف منه.

وصححه الحاكم وابن خزيمة وابن حبان.

وللحديث شاهد من حديث ابن عباس :

أخرجه الطبرانى فى الأوسط كما فى مجمع الزوائد (٣ / ٢٥٤) من طريق خصيف عن مجاهد عن ابن عباس قال : قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحج عرفات».

وقال الهيثمى : وفيه خصيف وثقه ابن معين وغيره وضعفه أحمد وغيره ا. ه.

وخصيف : ابن عبد الرحمن الجذرى ، قال الحافظ فى التقريب (١ / ٢٢٤) : صدوق سيئ الحفظ خلط بآخره ورمى بالإرجاء.

(١) أخرجه الترمذى (٣ / ١٨٩) كتاب الحج : باب ما جاء فى فضل التلبية والنحر حديث (٨٢٧) ، وابن ماجه (٢ / ٩٧٥) كتاب المناسك : باب رفع الصوت بالتلبية حديث (٢٩٢٤) ، والدارمى (٢ / ٣١) كتاب المناسك : باب أى الحج أفضل ، وأبو يعلى (١ / ١٠٨ ـ ١٠٩) رقم (١١٧) ، والبيهقى (٥ / ٤٢) كتاب الحج : باب رفع الصوت بالتلبية ، والحاكم (١ / ٤٥١) كلهم من طريق محمد بن أبى فديك عن الضحاك بن عثمان عن محمد بن المنكدر عن عبد الرحمن بن يربوع عن أبى بكر الصديق قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أى العمل أفضل؟ قال : «العج والثج».

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبى ، وقال الترمذى : حديث أبى بكر حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبى فديك عن الضحاك بن عثمان ، ومحمد بن المنكدر لم يسمع من عبد الرحمن بن يربوع وقد روى محمد بن المنكدر عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع عن أبيه غير هذا الحديث وروى أبو نعيم ضرار بن صرد هذا الحديث عن ابن أبى فديك عن الضحاك عن عثمان عن محمد بن المنكدر عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع عن أبيه عن أبى بكر عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخطأ فيه ضرار.

قال أبو عيسى : سمعت أحمد بن الحسن يقول : قال أحمد بن حنبل : من قال فى هذا الحديث : عن محمد بن المنكدر عن ابن عبد الرحمن بن يربوع عن أبيه فقد أخطأ.

وقال : وسمعت محمدا يقول : وذكرت له حديث ضرار بن صرد عن ابن أبى فديك فقال : هو خطأ فقلت : قد رواه غيره عن ابن أبى فديك أيضا مثل روايته فقال : لا شىء ، إنما رووه عن ابن أبى فديك ولم يذكروا فيه عن سعيد بن عبد الرحمن ، ورأيته يضعف ضرار بن صرد ا. ه.

قال الزيلعى فى (نصب الراية) (٣ / ٣٤ ـ ٣٥) : وهذه الرواية التى خطأها أحمد والبخارى هى عند ابن أبى شيبة فى مسنده. فقال : حدثنا محمد بن عمر الواقدى ثنا ربيعة عن عثمان والضحاك جميعا عن محمد بن المنكدر عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع عن أبى بكر الصديق سئل ـ

٦١

وأما الإحرام فإنه جعل الأشهر كلها وقتا له بقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ).

وقوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها).

لا معنى لعطف هذا على الأول إلا على إضمار السؤال ، كأنهم سألوه عن الأهلة وعن إتيان البيوت من ظهورها ، فأخبر : أن ليس البر فى إتيان البيوت من ظهورها.

(وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

ثم اختلف فى قصة هذا الكلام :

قال بعضهم (١) : إن بعض العرب إذا أحرم أحدهم لم يدخل بيته من بابه ، ولكن يدخل من ظهر البيت ؛ مخافة تغطية الرأس إذا دخل من بابه.

وقيل : إن بعض العرب إذا خرج أحدهم لحاجة ولم يقض حاجته ، فرجع لم يدخل البيت من بابه ، ولكن يدخل من وراء ظهره ، يكره دخول بيت غير منجح ـ يتطيرون به ـ ويتفاءلون قضاءها ثانيا. فقال الله عزوجل : (وَلَيْسَ الْبِرُّ) فيما تصنعون ، (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ

__________________

 ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... الحديث ، وذكر شيخنا الذهبى فى ميزانه عبد الرحمن بن يربوع فقال : ما روى عنه سوى ابن المنكدر ، وهذا غلط فإن البزار قال فى مسنده عقيب ذكره لهذا الحديث عن عبد الرحمن بن يربوع : قديم حدث عنه عطاء بن يسار ومحمد بن المنكدر وغيرهما ، وأظن أن الذى أوقع الذهبى فى ذلك كون المزى فى كتابه لم يذكر راويا عنه غير ابن المنكدر ، وكثيرا ما وقع له مثل ذلك فى كتبه ، والله أعلم.

وقال الدارقطنى فى كتاب العلل : هذا حديث يرويه محمد بن المنكدر واختلف عنه فرواه ابن أبى فديك عن الضحاك بن عثمان عن محمد بن المنكدر عن عبد الرحمن بن يربوع عن أبى بكر ، وقال : ضرار بن صرد عن ابن أبى فديك عن الضحاك عن ابن المنكدر عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع عن أبيه ، ورواه الواقدى عن ربيعة بن عثمان والضحاك جميعا عن محمد بن المنكدر عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع عن أبى بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ وقال الواقدى أيضا : عن المنكدر بن محمد عن أبيه بن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع عن جبير بن الحويرث عن أبى بكر ، والقول الأول أشبه بالصواب ، وقال أهل النسب : إنه عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع ومن قال : سعيد بن عبد الرحمن فقد وهم ا. ه.

وللحديث شواهد كثيرة من حديث ابن مسعود وجابر وابن عمر.

حديث ابن مسعود :

أخرجه أبو حنيفة فى مسنده رقم (٢٢٣) عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل الحج العج والثج» ، وأخرجه أبو يعلى (٩ / ١٩) رقم (٥٠٨٦) : حدثنا أبو هشام الرفاعى قال حدثنا أبو أسامة حدثنا أبو حنيفة به.

وذكره الهيثمى فى (المجمع) (٣ / ٢٢٧) ، وقال : رواه أبو يعلى وفيه رجل ضعيف.

(١) قاله البراء ، أخرجه ابن جرير عنه (٣٠٨٢ ، ٣٠٨٣) ، وعن ابن عباس (٣٠٩٢) ، ومجاهد (٣٠٨٥ ، ٣٠٨٦) ، وغيرهم. وانظر الدر المنثور (١ / ٣٦٨).

٦٢

اتَّقى) ، واتبع أمر الله ، وانتهى عما نهى عنه ، ويأتى (الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها).

ويحتمل : أن يكون على التمثيل والرمز ، ليس على التحقيق ؛ كقوله : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) [آل عمران : ١٨٧] ، وكقوله : (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) [البقرة : ١٠١] ، فهو ليس على حقيقة الطرح وراء الظهر ، ولكن كانوا لا يسمعون كلام الله ولا يعبئون به. وكذلك كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يسمعونه ولا يكترثون إليه ، فأخبر أنه كالمنبوذ والمطروح وراء الظهر لما لم يعملوا به ؛ فعلى ذلك الأول ، أخبر أنه (لَيْسَ الْبِرَّ) فى ترك اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والائتمار بأمره ، أى : ليس فعل البر مخالفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم [فيما يأمر](١) ، ولكن البر فى الاتباع له والائتمار بأمره.

وقال القرامطة : إن المراد من الأبواب هو على بن أبى طالب ، رضى الله تعالى عنه ، والبيوت بيوت (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أمروا بإتيان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند على ، رضى الله تعالى عنه ، على ما جاء أنه قال : «أنا مدينة العلم (٣) وعلى بابها» (٤). فمن أراد الدخول فى البيت ، لا بد من أن يأتى الباب فيدخل من الباب.

لكن الجواب لقولهم على قدر ما تأولوا ـ أنه ذكر البيوت (٥) ، وذكر الأبواب أيضا والبيوت كثيرة ، والأبواب كذلك أيضا ، فعلىّ وغيره من الصحابة من نحو أبى بكر ، وعمر ، وعثمان ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، فيه شرع سواء ؛ ألا ترى أنه قال : «أنا مدينة الحكمة» (٦) ، والمدينة لا يعرف لها باب واحد ، بل يكون لها أبواب ؛ فدل أن تأويلهم فى على ، رضى الله تعالى عنه ، خاصة ، لا يصح. وبالله العصمة.

وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ).

أى : اتقوا الله ولا تعصوه ، ولا تتركوا أمره ، وانتهوا عن مناهيه.

وقوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا).

__________________

(١) سقط فى ط.

(٢) فى أ : هو.

(٣) فى ب : الحكمة.

(٤) أخرجه الطبرانى فى الكبير (١١ / ٦٥ ـ ٦٦) (١١٠٦١) ، والعقيلى (٣ / ١٥٠) ، والحاكم (١ / ١٢٦ ـ ١٢٧) ، وصححه من حديث ابن عباس.

قال الذهبى فى تلخيص المستدرك : موضوع.

وقال الهيثمى فى المجمع (٩ / ١١٧) : وفيه عبد السلام بن صالح الهروى وهو ضعيف.

(٥) فى أ : البيت.

(٦) أخرجه ابن عدى (٥ / ١٧٧) فى ترجمة : عثمان بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ، ثم ساق له جملة من أحاديثه وذيلها بقوله : ولعثمان غير ما ذكرت من أحاديث موضوعات.

٦٣

(سَبِيلِ اللهِ) : دينه وطاعته ، أى : فى إظهار دينه.

قيل (١) : هى أول آية نزلت فى الأمر بالقتال.

وقيل : أول آية نزلت فى الأمر بالقتال قوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [الحج : ٣٩].

ويحتمل : أنه أخبر كأنهم نهوا أولا ثم أذن لهم فقاتلوا فأنكر عليهم ، فأنزل الله أنه أذن لهم إخبارا. فلا يدرى أيتهما أول ، ولكن فيه الأمر بالقتال ، والنهى عن الاعتداء هاهنا :

قيل (٢) : هو نهى عن قتل الذرارى والنساء والشيخ الفانى ، على ما جاء أنه بعث سرية أوصى لهم ألا يقتلوا وليدا ولا شيخا (٣).

وقيل : نهاهم أن يقاتلوهم (٤) فى الشهر الحرام إلا أن يبدأهم المشركون بالقتال. والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

أى أنه لا يحب الاعتداء ، لم يحب من اعتدى.

وقوله : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ).

قيل : لفظ (حَيْثُ) يعبر عن المكان ؛ ففيه إذن بقتلهم فى جميع الأمكنة ، وفى تعميم الأمكنة تعميم الأوقات ، فهو على عموم المكان إلا فيما استثنى من المسجد الحرام مطلقا.

وأما قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) [البقرة : ٢١٧] ، فالاستثناء فيه مقيد ، فلا يخرج عن (٥) ذلك العام. والله أعلم.

__________________

(١) قاله الربيع بن أنس ، أخرجه ابن جرير عنه (٣٠٩٥) ، وانظر تفسير البغوى (١ / ١٦١).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٣١٠٠) ، وعن عمر بن عبد العزيز (٣٠٩٧ ، ٣١٠١) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٧٠).

(٣) أخرجه أبو داود (٣ / ٨٦) كتاب : الجهاد ، باب : فى دعاء المشركين ، حديث (٢٦١٤) ، والبيهقى (٩ / ٩٠) كتاب : السير ، باب : ترك قتل من لا قتال فيه من الرهبان والكبير وغيرهم ، من رواية خالد ابن الفرز قال : حدثنى أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «انطلقوا بسم الله وعلى ملة رسول الله ، لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة ، ولا تغلوا وضموا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين».

وخالد بن الفرز روى له أبو داود ، وقال الحافظ فى التقريب (١ / ٢١٧) : مقبول.

يعنى عند المتابعة ، وإلا فهو لين الحديث.

(٤) فى ط : يقاتلوا.

(٥) فى ب : على.

٦٤

ثم منهم من جعل لهم القتال (١) فى الحرم وفى أشهر الحج بظاهر هذه الآية.

ومنهم من قال : لا يقتل فيهما جميعا.

وقال أصحابنا ـ رحمهم‌الله تعالى : يقتل فى الشهر الحرام (٢) ، ولا يقتل فى الحرم إلا أن يبدأهم بالقتال ، فحينئذ يقتلهم.

وكذلك يقولون فيمن قتل آخر ثم التجأ إلى الحرم : لم يقتل فيه ، ولكن لا يؤاكل ولا يشارب ولا يجالس حتى يضطر فيخرج ، فيقتل.

وإذا قتل فى الحرم يقتل. فعلى ذلك لا يقاتل فى الحرم إلا أن يبدأهم بالقتال ، فعند ذلك يحل القتل.

وإنما لم يحل القتال فى الحرم إلا أن يبدءوهم به ، وإن كان ظاهر قوله : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) يبيح القتل فى الأمكنة كلها ، بقوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) استثنى الحرم دون غيره من الأماكن.

وأما قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) [البقرة : ٢١٧] ظاهر هذه الآية يحرم القتال فى أشهر الحج ، لكن فيه دليل حل القتال بقوله : (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة : ٢١٧] ، يعنى بالفتنة الشرك ، جعل القتل فيه كبيرا ، ثم أخبر أن الشرك فيه أكبر وأعظم من القتل.

فالأصل عندنا : أن الابتلاء إذا كان من وجهين يختار الأيسر منهما والأخف ؛ فلذلك قلنا : إنه يختار القتل فى الحرم على بقاء الفتنة ـ وهو الشرك ـ إذ هو أكبر وأعظم. والله أعلم.

وقوله : (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ).

يحتمل : (وَأَخْرِجُوهُمْ) من مكة كما (أَخْرَجُوكُمْ) عام الحديبية.

ويحتمل : أن أمرهم بأن يضيقوا عليهم ويضطروهم إلى الخروج كما فعل أهل مكة بهم.

ويحتمل : الإخراج على ما جاء : «ألا لا يحجن مشرك بعد عامى هذا» (٣).

__________________

(١) فى ب : المقتل.

(٢) فى ب : أشهر الحرم.

(٣) أخرجه البخارى (٤ / ٢٨٧) كتاب الحج باب لا يطوف بالبيت عريان (١٦٢٢) ومسلم (٢ / ٩٨٢) كتاب الحج باب لا يحج البيت مشرك (٤٣٥ / ١٣٤٧) وأبو داود (١ / ٥٩٩) كتاب المناسك باب يوم الحج الأكبر (١٩٤٦) والنسائى (٥ / ٢٣٤) كتاب المناسك باب قوله عزوجل (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) من طريق حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة أخبره أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه بعثه ـ

٦٥

ويحتمل : أن يمنعوهم عن الدخول فيه ؛ كقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨] ، وكقوله : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧] ، المنع عن الشرك إخراجا.

وقوله : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ).

أى : الشرك أعظم جرما عند الله من القتل فيه.

وقوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ)

كما ذكرنا أن هذا وقوله : (وَاقْتُلُوهُمْ) ، كله يخرج على المجازاة لهم.

وفيه لغة أخرى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ).

فإذا قتلونا لا سبيل لنا أن نقتلهم ، فما معنى هذا؟

قيل : يحتمل قوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ) أى : إذا قتلوا واحدا منكم فحينئذ تقتلونهم ، أو لا تقتلوهم حتى يبدءوا هم بالقتل (١) ، أو أن يقول : لا تقتلوهم حتى يقتلوا بعضكم ، فإذا فعلوا ذلك فحينئذ تقتلونهم. والله أعلم.

وقوله : (كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ).

أى هكذا جزاء من لم يقبل نعم الله ، ولم يستقبلها بالشكر.

ويحتمل : كذلك جزاء من بدأ بالقتال فى الحرم أن يقتل.

وقوله : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

يحتمل وجهين :

يحتمل : (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الشرك ، وأسلموا يتغمدهم الله برحمته.

ويحتمل : (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن بدء القتال ، وأسلموا ، فإن الله يرحمهم ويغفر ذنوبهم.

وقوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).

أنه أمرنا بالقتال مع الكفرة ليسلموا.

فإن قيل : أيش الحكمة فى قتل الكفرة ، وهو فى الظاهر غير مستحسن فى العقل؟

قيل : إنا نقاتلهم ليسلموا ، ولا نقتلهم إلا أن يأبوا الإسلام ، فإذا أبوا ذلك ثم لم نقتلهم لا يسلمون أبدا ؛ لذلك قتلناهم ، إذ فى القتل ذهاب الفتنة.

ويحتمل : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) على وجه الأرض ، أى تطهر من الشرك.

__________________

 ـ فى الحجة التى أمره عليها رسول الله قبل حجة الوداع يوم النحر فى رهط يؤذن فى الناس : «ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان».

(١) فى ط : يبدأهم بقتلكم.

٦٦

وقال قوم : (وَالْفِتْنَةُ) هاهنا العذاب ، أى : قاتلوا حتى لا يقدروا عليه كفار.

وقوله : (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).

أى : ليكون (الدِّينُ) دين الله فى الأرض لا الشرك. و (الدِّينُ) : الحكم.

وقوله : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ).

فإن قيل : فإذا صار الدين كله لله ، فلا ظالم هنالك ، فما معنى هذا الكلام؟

قيل : يحتمل : أن لا عدوان إلا على الظالم الذى أحدث الظلم من بعد.

ويحتمل : أن لا عدوان إلا على من بقى منهم مع الظلم.

فإن قيل : فلم سمى عدوانا ، والعدوان هو ما لا يحل؟

قيل : لأنه جزاء العدوان ، وإن لم يكن هو فى الحقيقة عدوانا ، فسمى باسمه كما سمى جزاء السيئة سيئة وإن لم يكن هو سيئة فى الحقيقة ؛ كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] ، وكما سمى جزاء الاعتداء اعتداء وإن لم يكن هو فى الحقيقة اعتداء ؛ فكذلك الأول.

وقوله : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ).

قيل (١) : خرج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الشهر الحرام يريد مكة فصده المشركون عن دخولها ، فجاء من عام قابل فى الشهر الحرام فدخلها وأقام ثلاثا ، وقضى عمرته التى فاتته فى العام الأول ، فسميت عمرة القضاء ، فذلك تأويل قوله : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) هذه الثانية صارت قصاصا بالأول.

وقيل : إن [فى] الجاهلية كانوا يعظمون الشهر الحرام ، ولا يقاتلون فيه ، فلما أن ظهر الإسلام عظمه أهل الإسلام أيضا ، ولم يقاتلوا فيه ، حتى جعل الكفار يغيرون على أهل الإسلام ويستنصرون عليهم ، حتى نسخ ذلك وأمروا بالقتال فيه بقوله : (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا) [البقرة : ٢١٧] ، كأنه قال : ما هتكتم من حرمة الشهر قصاص لما هتكوا.

وقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ).

قد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ).

يحتمل : (وَاتَّقُوا) مخالفة الله.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٣١٣٦ ، ٣١٤٤) ، وعن قتادة (٣١٣٩) ، ومقسم (٣١٤٠) ، وغيرهم. وانظر الدر المنثور (١ / ٣٧٢ ـ ٣٧٣).

٦٧

أو : (وَاتَّقُوا) عذاب الله.

وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

يعنى : مع المؤمنين جملة.

ويحتمل : (وَاتَّقُوا) القتال فى الحرم قبل أن يبدءوا هم ، ف (أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) فى النصر والمعونة لهم.

وقوله : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

قيل فيه بوجوه :

قيل (١) : [أمر بالإنفاق ترتيبا](٢) على الخروج إلى الجهاد ، وإلا فكلّ منفق على نفسه بما يعلم حاجته إليه ، ولا يلقى نفسه فى الهلاك من حيث منع الإنفاق.

وقيل (٣) : فى قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، هو أن يذنب ذنبا ثم ييأس عن العفو عنه.

وقيل : (وَأَنْفِقُوا) أى : لا تضنوا بالإنفاق مخافة الفوت فى الوقت الثانى ؛ فإنه يخلف لكم ما أنفقتم.

وقيل : (وَأَنْفِقُوا) أى : أعينوا أصحابكم ، ولا تلقوهم إلى التهلكة بترك المعونة لهم بالإنفاق والتجهيز لهم.

وقيل : (وَأَنْفِقُوا) أى : تصدقوا ، فإن فيه حياة أبدانكم وأنفسكم.

وقوله : (وَأَحْسِنُوا).

قيل (٤) : (وَأَحْسِنُوا) إلى أصحابكم بالإعانة والتصدق.

وقيل (٥) : (وَأَحْسِنُوا) الظن بالله فى الإنفاق.

وقيل : (وَأَحْسِنُوا) الظن بربكم فى الخروج إلى الغزو.

ويحتمل : (وَأَحْسِنُوا) أى أسلموا.

__________________

(١) قاله حذيفة ، أخرجه ابن جرير عنه (٣١٥٠ ، ٣١٥١) ، وعن ابن عباس (٣١٥٢ ، ٣١٥٣ ، ٣١٥٤ ، ٣١٥٥) ، وعكرمة (٣١٥٦) ، ومجاهد (٣١٦٠) ، وقتادة (٣١٦١ ، ٣١٦٢) ، وغيرهم ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٧٤).

(٢) فى ط : الإنفاق ترغيبا.

(٣) قاله البراء بن عازب ، أخرجه ابن جرير عنه (٣١٧٣ ، ٣١٧٤ ، ٣١٧٥ ، ٣١٧٦ ، ٣١٧٧ ، ٣١٧٨) ، وعن عبيدة (٣١٧٩ ، ٣١٨٠ ، ٣١٨١) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٧٥).

(٤) قاله ابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنه (٣١٩٠).

(٥) قاله عكرمة ، أخرجه ابن جرير عنه (٣١٨٩) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٧٥).

٦٨

وعلى ذلك يخرج قوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يعنى : المؤمنين.

قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ)(١٩٧)

وقوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)

اختلفوا فى تأويله وفى قراءته :

قال بعض الناس (١) : العمرة فريضة بهذه الآية ؛ لأنه أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج (٢).

وقيل (٣) : هى الحجة الصغرى.

وأما عندنا : هى ليست بفريضة ، وليس فى قوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) دليل

__________________

(١) قاله علىّ ، أخرجه ابن جرير عنه (٣٢١٧) ، وعن ابن مسعود (٣٢١٨) ، والشعبى (٣٢١٠) ، ومسروق (٣٢١١ ، ٣٢١٢) ، وغيرهم ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٧٦).

(٢) ذهب المالكية وأكثر الحنفية إلى أن العمرة سنة مؤكدة فى العمر مرة واحدة ، وذهب بعض الحنفية إلى أنها واجبة فى العمر مرة واحدة على اصطلاح الحنفية فى الواجب. والأظهر عند الشافعية ـ وهو المذهب عند الحنابلة ـ : أن العمرة فرض فى العمر مرة واحدة ، ونص أحمد على أن العمرة لا تجب على المكى ؛ لأن أركان العمرة معظمها الطواف بالبيت وهم يفعلونه فأجزأ عنهم.

وقد استدل الحنفية والمالكية على سنية العمرة بأدلة ، منها : حديث جابر بن عبد الله ـ رضى الله عنهما ـ قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن العمرة أواجبة هى؟ قال : «لا ، وأن تعتمروا هو أفضل» ، وبحديث طلحة بن عبيد الله ـ رضى الله عنه ـ : «الحج جهاد والعمرة تطوع».

واستدل الشافعية والحنابلة على فرضية العمرة بقوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ، أى : افعلوهما تامّين ؛ فيكون النص أمرا بهما فيدل على فرضية الحج والعمرة. وبحديث عائشة ـ رضى الله تعالى عنها ـ قالت : قلت : يا رسول الله ، هل على النساء جهاد؟ قال : «نعم ، عليهن جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة».

ينظر : المنهاج للنووى وشرحه للمحلى بحاشيتى القليوبى وعميرة (٢ / ٩٢) ، والمغنى (٣ / ٢٢٣ ، ٢٢٤) ، والفروع لابن مفلح (٣ / ٢٠٣) ، وكشاف القناع (٢ / ٣٧٦).

(٣) ورد فى معناه حديث أخرجه الشافعى فى الأم عن عبد الله بن أبى بكر أن فى الكتاب الذى كتبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمرو بن حزم «أن العمرة هى الحج الأصغر».

وهو قول ابن مسعود ، أخرجه ابن مردويه ، والبيهقى فى سننه والأصبهانى فى الترغيب عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٣٧٦ ، ٣٧٨).

٦٩

فرضيتها (١) ؛ لأنا لم نعرف فرضية الحج بهذه الآية ، ولكن إنما عرفناه بقوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧].

ثم فى الأمر بالإتمام وجوه :

أحدها : أنهم كانوا يفتتحون الحج بالعمرة ، فأمروا بإتمامها ، على ما روى عن عمر ، رضى الله عنه ، قال : «متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا (٢) أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة الحج ، ومتعة النساء» (٣).

والثانى : أنهم كانوا لا يجعلون العمرة لله ، فأمروا بجعلها لله.

وعلى ذلك روى فى حرف ابن مسعود ، رضى الله تعالى عنه ، أنه قرأ : (وَأَتِمُّوا (٤) الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)(٥) [بالرفع على الابتداء ، ويحتمل الأمر بالإتمام ما روى عن على وابن مسعود رضى الله عنهما سئلا عن قول الله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قالا](٦) : «من تمامهما أن تحرم من دويرة أهلك» (٧).

واحتج أصحابنا ، رحمهم‌الله تعالى ، أيضا بما روى عن جابر رضى الله تعالى عنه : «أن رجلا قال : يا رسول الله ، العمرة واجبة هى؟ قال : لا. وأن تعتمر خير لك» (٨).

وروى أيضا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «الحج مكتوب ، والعمرة تطوع» (٩) ، وفى بعضها قال : «الحج جهاد ، والعمرة تطوع» (١٠).

وعن ابن مسعود ، رضى الله تعالى عنه ، أنه قال : «الحج فريضة ، والعمرة تطوع» (١١).

__________________

(١) فى أ : فريضة.

(٢) فى أ : وإنما.

(٣) أخرجه البيهقى فى السنن الكبرى (٧ / ٢٠٦) ، وأصله فى صحيح مسلم (١٧ / ١٤٠٥).

(٤) فى ط : وأقيموا.

(٥) أخرجه ابن جرير (٣١٩١) ، وأبو عبيد فى فضائله وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن الأنبارى كما فى الدر المنثور (١ / ٣٧٦).

(٦) بدل ما بين المعقوفين فى ط : وعن على وأبى هريرة رضى الله عنهما قال : إن.

(٧) أخرجه ابن جرير (٣١٩٨ ، ٣١٩٩) ، ووكيع وابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم والنحاس فى ناسخه والحاكم وصححه ، والبيهقى فى سننه عن على بن أبى طالب.

وأخرجه ابن أبى عدى والبيهقى عن أبى هريرة مرفوعا كما فى الدر المنثور (١ / ٣٧٦).

(٨) أخرجه أحمد (٣ / ٣١٦ ، ٣٥٧) ، والترمذى (٢ / ٢٥٩) كتاب الحج ، باب ما جاء فى العمرة أواجبة هى أم لا (٩٣١) ، وأبو يعلى (١٩٣٨) ، وابن خزيمة (٣٠٦٨) ، والدارقطنى (٢ / ٢٨٥ ، ٢٨٦) ، والحاكم (٣ / ٦٣٧) ، والبيهقى (٤ / ٣٤٩).

(٩) أخرجه ابن أبى داود عن أبى صالح ماهان مرسلا كما فى كنز العمال (١١٨٧٩).

(١٠) أخرجه الشافعى فى الأم ، وعبد الرزاق ، وابن أبى شيبة وعبد بن حميد عن أبى صالح ماهان مرسلا كما فى الدر المنثور (١ / ٣٧٨).

(١١) أخرجه ابن أبى شيبة وعبد بن حميد كما فى الدر المنثور (١ / ٣٧٨).

٧٠

وعن عائشة ، رضى الله تعالى عنها ، قالت : «قلت : يا رسول الله ، أكل أهلك يرجع بحجة وعمرة غيرى؟ قال : انفرى فإنه يكفيك» (١). إلى هذه الأخبار ذهب أصحابنا.

والأصل : احتج أصحابنا أيضا بشيء من النظر ؛ وذلك أن الله تعالى فرض الصلاة والزكاة والصيام فى أوقات خصها بها ، وأجمع أهل العلم أن المتطوع بالصدقة والصلاة والصيام يفعل ذلك متى شاء ، ثم أجمعوا أن العمرة لا وقت لها ؛ فدل ذلك على أنها تطوع ؛ إذ لو كانت فريضة كان لها وقت مخصوص يفعل فيه كغيرها من الفرائض.

فإن قيل : إن الحج التطوع مخصوص بوقت كمخصوص المفروض منه ، فكما لا يدل الخصوص الذى فى الحج التطوع على وجوبه ، فكذلك العموم الذى فى العمرة لا يدل أنها تطوع

قيل : وجدنا الفرض كله مخصوصا بوقت ، ووجدنا التطوع على ضربين : منه ما هو مخصوص ؛ كالحج ، ومنه ما هو غير مخصوص ؛ كالصلاة والصيام والصدقة. فلما لم نجد فى الفرض ما ليس بمخصوص بوقت ، [جعلنا كل ما ليس بمخصوص بوقت تطوعا](٢) غير فرض.

واحتجوا أيضا : بأنا وجدنا العمرة تفعل فى أشهر الحج ، ولم نجد صلاتين تفعلان فى وقت واحد فريضتين ، ولكن تفعل الصلاة التطوع فى وقت الفريضة ؛ فثبت لما جاز أن يجمع بين فعل الحج والعمرة فى وقت واحد أنها تطوع ؛ كالصلاة التى تفعل فى وقت الظهر وغيرها.

واحتج من جعلها فرضا بأن قال : لم نجد شيئا يتطوع به إلا وله أصل فى الفرض (٣) ، فلو كانت العمرة تطوعا لكان لها أصل فى الفرض.

قيل : العمرة إنما هى الطواف والسعى ، ولذلك أصل فى الفرض ـ فرض الحج ـ مع ما أنا وجدنا الاعتكاف تطوعا ، وليس له أصل فى الفرض. فعلى ذلك العمرة.

والأصل : أن كل ما يبتدئ الله إيجابه على عباده فإنه يوجب فعلها بأوقات أو يجعل لأدائها أوقات ، والعمرة ليس لوجوبها وقت ، ولا لأدائها. ثبت أنها ليست مما أوجبها الله تعالى.

وقوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ).

قوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية على الإضمار ، كأنه قال ـ والله أعلم ـ :

__________________

(١) أخرجه الطحاوى فى شرح معانى الآثار (٢ / ٢٠١).

(٢) سقط فى ط.

(٣) فى ب : القرآن.

٧١

فإن أحصرتم : عن الحج ، فأردتم أن تحلوا فاذبحوا ما استيسر من الهدى ؛ إذ الإحصار (١) نفسه لا يوجب الهدى ، لكنه إذا أراد الخروج منه يخرج بهدى (٢) ؛ وعلى ذلك يخرج

__________________

(١) من معانى الإحصار فى اللغة : المنع من بلوغ المناسك بمرض أو نحوه ، وهو المعنى الشرعى أيضا ، على خلاف عند الفقهاء فيما يتحقق به الإحصار.

وقد استعمل الفقهاء مادة (حصر) بالمعنى اللغوى فى كتبهم استعمالا كثيرا ، ومن أمثلة ذلك : قول صاحب «تنوير الأبصار» وشارحه فى (الدر المختار): (والمحصور فاقد الماء والتراب الطهورين ، بأن حبس فى مكان نجس ، ولا يمكنه إخراج مطهر ، وكذا العاجز عنهما لمرض ـ يؤخر الصلاة عند أبى حنيفة ، وقالا : يتشبه بالمصلين وجوبا ، فيركع ويسجد إن وجد مكانا يابسا ، وإلا يومئ قائما ثم يعيد). ومنه أيضا قول صاحب (تنوير الأبصار): (وكذا يجوز له أن يستخلف إذا حصر عن قراءة قدر المفروض). وقال أبو إسحاق (الشيرازى): (ويجوز أن يصلى بتيمم واحد ما شاء من النوافل ؛ لأنها غير محصورة ، فخف أمرها). إلا أنهم غلبوا استعمال هذه المادة (حصر) ، ومشتقاتها فى باب الحج والعمرة للدلالة على منع المحرم من أركان النسك ؛ وذلك اتباعا للقرآن الكريم ، وتوافقت على ذلك عباراتهم حتى أصبح (الإحصار) اصطلاحا فقهيا معروفا ومشهورا.

ويعرف الحنفية الإحصار بأنه : هو المنع من الوقوف بعرفة والطواف جميعهما بعد الإحرام بالحج الفرض ، والنفل ، وفى العمرة عن الطواف. وهذا التعريف لم يعترض عليه. ويعرفه المالكية بأنه : المنع من الوقوف والطواف معا أو المنع من أحدهما. ويمثل مذهب الشافعية هذا التعريف الذى أورده الرملى الشافعى فى (نهاية المحتاج) ، ونصه : (هو المنع من إتمام أركان الحج أو العمرة). وينطبق هذا التعريف للشافعية على مذهب الحنابلة فى الإحصار ؛ لأنهم يقولون بالإحصار عن أىّ من أركان الحج أو العمرة ، على تفصيل يسير فى كيفية التحلل لمن أحصر عن الوقوف دون الطواف.

واختلف الفقهاء فى المنع الذى يتحقق به الإحصار هل يشمل المنع بالعدو والمنع بالمرض ونحوه من العلل ، أم يختص بالحصر بالعدو؟ فقال الحنفية : الإحصار يتحقق بالعدو ، وغيره : كالمرض ، وهلاك النفقة ، وموت محرم المرأة أو زوجها فى الطريق ، ويتحقق الإحصار بكل حابس يحبسه ـ يعنى المحرم ـ عن المضى فى موجب الإحرام. وهو رواية عن الإمام أحمد. وهو قول ابن مسعود ، وابن الزبير ، وعلقمة ، وسعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، ومجاهد ، والنخعى ، وعطاء ، ومقاتل بن حيان ، وسفيان الثورى ، وأبى ثور. ومذهب المالكية : أن الحصر يتحقق بالعدو ، والفتنة ، والحبس ظلما. كذلك هو مذهب الشافعية والمشهور عند الحنابلة ، مع أسباب أخرى من الحصر بما يقهر الإنسان ، كمنع الزوج زوجته عن المتابعة.

واتفقت المذاهب الثلاثة على أن من يتعذر عليه الوصول إلى البيت بحاصر آخر غير العدو ، كالحصر بالمرض أو بالعرج أو بذهاب نفقة ونحوه ـ أنه لا يجوز له التحلل بذلك. لكن من اشترط التحلل إذا حبسه حابس له حكم خاص عند الشافعية والحنابلة. وهذا القول ينفى تحقق الإحصار بالمرض ونحوه من علة ، وهو قول ابن عباس وابن عمر وطاوس والزهرى وزيد بن أسلم ومروان بن الحكم.

ينظر : نهاية المحتاج (٢ / ٤٧٣) ، تحفة المحتاج (٤ / ٢٠٠) ، فتح القدير (٢ / ٢٩٥).

(٢) الهدى : هو ما يهدى إلى الحرم من حيوان وغيره. لكن المراد هنا وفى أبحاث الحج خاصة : ما يهدى إلى الحرم من الإبل والبقر والغنم والماعز خاصة. ـ

٧٢

قوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة : ١٨٣] ، كأنه قال ـ والله أعلم ـ : من كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر ، فعدة من أيام أخر ، وكقوله : (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) معناه ـ والله أعلم ـ أو به أذى [فلو أزال](١) من رأسه ففدية ، وإلا كون الأذى فى رأسه لا يوجب عليه الفداء حتى يزيل ، كقوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ١٨٣] ، أى من اضطر فأكل منها غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه. والاضطرار نفسه لا يوجب الإثم.

ثم اختلف أهل العلم فى الإحصار : ما هو؟ وبم يكون؟ وهل يحل؟

روى عن ابن مسعود (٢) ، رضى الله تعالى عنه ، أنه قال : «إذا أحصر الرجل من مرض أو حبس أو كسر أو شبه ذلك ، بعث الهدى وواعد يوم النحر ومكث على إحرامه على أن يبلغ الهدى محله ، وعليه الحج والعمرة جميعا من قابل».

وعن (٣) عروة بن الزبير (٤) قال : «الحصر (٥) من كل شىء يحبسه : عدو ومرض».

وروى مرفوعا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من كسر أو عرج فقد حل ، وعليه الحج

__________________

 ـ وقد ذهب جمهور العلماء إلى وجوب ذبح الهدى على المحصر لكى يتحلل من إحرامه ، وأنه لو بعث به واشتراه ، لا يحل ما لم يذبح. وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة وقول أشهب من المالكية. وذهب المالكية إلى أن المحصر يتحلل بالنية فقط ، ولا يجب عليه ذبح الهدى ، بل هو سنة ، وليس شرطا. وقد استدل الجمهور بقوله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) على ما سبق. واحتج الجمهور أيضا بالسنة : «بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يحل يوم الحديبية ولم يحلق رأسه حتى نحر الهدى» ؛ فدل ذلك على أن من شرط إحلال المحصر ذبح هدى إن كان عنده. وأما وجه قول المالكية ودليلهم فهو دليل من جهة القياس ، وهو كما ذكره أبو الوليد الباجى أنه تحلل مأذون فيه ، عار من التفريط وإدخال النقص ؛ فلم يجب به هدى ، أصل ذلك : إذا أكمل حجه.

ينظر : الهداية وشروحها (٢ / ٢٩٧) ، البدائع (٢ / ١٧٧ ـ ١٧٨) ، متن التنوير ورد المحتار (٢ / ٣٢١) ، المهذب (٨ / ٢٤٢) ، المغنى (٣ / ٣٥٧ ، ٣٥٨) ، الكافى (١ / ٦٢٥).

(١) سقط فى أ.

(٢) أخرجه سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم من طريق إبراهيم عن علقمة عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٣٨٣).

(٣) زاد فى أ ، ب : وعن ابن الزبير.

(٤) أخرجه ابن جرير (٣٢٣٧) ، وابن أبى شيبة كما فى الدر المنثور (١ / ٣٨٤).

وهو : عروة بن الزبير بن العوام الأسدى ، أبو عبد الله المدنى ، أحد الفقهاء السبعة ، وأحد علماء التابعين ، وقال الزهرى : عروة بحر لا تكدره الدلاء ، مات سنة اثنتين وتسعين ، وقال خليفة : سنة ثلاث. وقال ابن سعد : سنة أربع. وقال يحيى بن بكير : سنة خمس. قلت : قيل : عروة عن أبيه مرسل ينظر الخلاصة (٢ / ٢٢٦) (٤٨٢٦).

(٥) فى أ ، ب : المحصر.

٧٣

من قابل» (١) ، ومعنى قوله : «فقد حل» ، أى جاز له أن يحل [لا أن يحل](٢) بغير دم ؛ لأن الله تعالى أذن له فى الإحلال بدم.

وهذا عندنا كقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر» (٣) ، فمعناه : فقد حل له الإفطار. فعلى ذلك الأول : حل له أن يحل.

ثم قال بعض أهل اللغة من نحو الكسائى وأبى معاذ : إن الإحصار من المرض ، والحصر من العدو.

فإن قيل : روى عن ابن عباس (٤) وابن عمر (٥) ، رضى الله تعالى عنهما ، أنهما قالا : «لا حصر إلا عن حصار العدو».

ولكن فى هذا نسخ الكتاب بقولهما ، إن ثبت ، وهو لا يرى نسخ الكتاب بالسنة فضلا أن يراه بقول واحد من الصحابة ، رضى الله تعالى عنهم ، مع ما ترك قولهما ؛ لأنه روى عن ابن عباس ، رضى الله تعالى عنه ، أنه قال : ذهب الحصر.

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢ / ٤٣٣) كتاب : المناسك (الحج) ، باب : الإحصار ، حديث (١٨٦٢) ، والترمذى (٣ / ٢٧٧) كتاب : الحج ، باب : ما جاء فى الذى يهل بالحج فيكسر أو يعرج ، حديث (٩٤٠) ، والنسائى (٢ / ١٩٨) كتاب : الحج ، باب : فيمن أحصر بعدو ، وابن ماجه (٢ / ١٠٢٨) كتاب : المناسك ، باب : المحصر ، حديث (٣٠٧٧) ، والحاكم (١ / ٤٧٠) كتاب : المناسك ، والبيهقى (٥ / ٢٢٠) كتاب : الحج ، باب : من رأى الإحلال بالإحصار بالمرض.

وأبو نعيم فى الحلية (١ / ٣٥٧ ـ ٣٥٨) ، وابن سعد فى الطبقات (٤ / ٢٣٨) ، والطبرانى فى الكبير (٣ / ٢٥٣) ، والدارقطنى (٢ / ٢٧٨) كتاب : الحج ، باب : المواقيت من طريق عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصارى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى».

قال عكرمة : فذكرت ذلك لأبى هريرة وابن عباس فقالا : صدق.

قال الترمذى : هذا حديث حسن.

وقال الحاكم : صحيح على شرط البخارى ، ولم يخرجاه ووافقه الذهبى.

(٢) سقط فى أ ، ط.

(٣) أخرجه البخارى (٤ / ٢٣١) ، كتاب الصوم : باب متى يحل فطر الصائم حديث (١٩٥٤) ، ومسلم (٢ / ٧٧٢) ، كتاب الصيام ، باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار ، حديث (٥١ / ١١٠٠) ، والترمذى (٣ / ٨١) ، كتاب الصوم : باب ما جاء إذا أقبل الليل وأدبر النهار ، حديث (٦٩٨) ، وأحمد (١ / ٢٨ ، ٣٥ ، ٤٨) ، وعبد الرزاق (٧٥٩٥) ، وابن الجارود فى المنتقى رقم (٣٩٣) ، وأبو نعيم فى الحلية (٨ / ٣٧١ ـ ٣٧٢) ، والبيهقى (٤ / ٢١٦) كتاب الصيام : باب الوقت الذى يحل فيه فطر الصائم ، والبغوى فى شرح السنة (٣ / ٤٧١) كلهم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عاصم ابن عمر عن عمر به.

وقال الترمذى : حديث حسن صحيح.

(٤) أخرجه ابن جرير (٣٢٤٠ ، ٣٢٤١ ، ٣٢٤٢) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٨٤).

(٥) أخرجه ابن أبى شيبة كما فى الدر المنثور (١ / ٣٨٤).

٧٤

ثم يقال للشافعى ـ رحمه‌الله تعالى ـ : إذا جاز أن تجعل المرأة بمنزلة المحصر من غير أن تخاف عدوّا ، لكنها لما منعها من له أن يمنعها جعلتها محصرة ، فهلا جعلت المريض مثلها ، وإن كان النص فى القرآن جاء فى المحصر من العدو على زعمك؟

فقال : لأن المرأة حبسها من له أن يحبسها ، فهى أشد حالا ممن حبسه عدو ، وليس له أن يحبسه.

فيقال له : المريض أمرضه من له أن يمرضه فاجعله أشد حالا من الذى حبسه عدو وليس له أن يحبسه ، أو فرق بين المرأة والمريض ، فقال : بل بينهما فرق.

وذلك أن الخائف بعدو يخاف القتل على نفسه ، وقد أباح الله للخائف فى القتال أن يتحيز إلى فئة ، فينتقل بذلك من الخوف إلى الأمن.

قيل له : كما رخص للخائف فى ذلك فقد رخص للمريض ألا يحضر القتال ؛ فالرخصة له أكثر من الرخصة للخائف.

فإن قال : إن المريض لا يبرأ بالقعود ، والخائف يأمن.

قيل له : إن الرخص التى جعلت للأعذار لا تجعل لترفعها (١) ، ولكن الرخصة لتوفّيه المشقة. فيقال له أيضا : قد جعلت المرأة محصرة إذا منعها زوجها وهى لا تخاف القتل على نفسها. فبطلت علته وانتقضت.

فإن قال : إنكم لم تجعلوا من ضل الطريق محصرا وهو ممنوع من المضى على حجه ، فما الفرق بينه وبين المريض؟

فيقال : لو جعلنا الضال عن الطريق محصرا ، لم يجز له أن يحل من إحرامه إلا بدم يوجهه إلى الحرم فيذبح عنه.

وإذا وجد من يذهب إلى الحرم فيذبح هديه ، فليس بضال ؛ لأنه قد وجد دليلا يدله على طريقه ؛ لذلك افترقا.

وبعد ، فإن المرض أحق أن يكون عذرا فى ذلك من العدو وغيره ؛ لأنه يقاتل العدو والسباع فيدفع عن نفسه الإحصار ، والمرض لا سبيل له إلى دفعه. دل أنه أحق أن يجعل عذرا.

وقال بعضهم : يكون محصرا من الحج ، ولا يكون من العمرة ؛ لأن الحج مما يحتمل الفوت ، والعمرة لا.

وأما عندنا : فإنه يكون محصرا منهما جميعا ؛ لأن الله عزوجل ذكر الإحصار على إثر

__________________

(١) فى ط : لترخصها.

٧٥

ذكر العمرة بقوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ، وروى فى الخبر ، يرويه ابن عمر ، رضى الله تعالى عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج معتمرا ، فحال كفار قريش بينه وبين البيت الشريف ، فنحر هديه ، وحلق رأسه بالحديبية (١) ، وقوله : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ، فيه دلالة أن المحصر يبقى حراما على حاله ، لا يحل حتى ينحر عنه الهدى.

واختلف أهل العلم : أين يذبح الهدى؟

فعندنا : أنه لا يجوز أن يذبح إلا فى الحرم ؛ روى عن ابن مسعود (٢) ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنه قال : «يبعث بهدى ويواعدهم يوما ، فإذا نحر عنه حل». وعن ابن عباس (٣) ، رضى الله تعالى عنهما ، مثل ذلك. وعن ابن الزبير (٤) وعروة ابن الزبير ـ رضى الله تعالى عنهما ـ : أن المحصر يبعث بالهدى فإذا نحر عنه حلق.

وظاهر القرآن يدل على ما روى عن هؤلاء ؛ لأن الله تعالى قال : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ، فجعل للهدى محلّا يبلغه ، وبين موضع محله فقال : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٩٥] ، وكانت الكعبة محلّا لجزاء الصيد والدم المحصر.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : المحل : اسم الموضع الذى يحل فيه. ولو كان كل موضع له محلّا لم يكن لذكر المحل فائدة.

واحتج من خالف أصحابنا رحمهم‌الله بما روى أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذبح الهدى يوم الحديبية ثم قال : ولم يبلغنا أنه نحره فى الحرم. قيل روى أنه نحر هديه يوم الحديبية فى الحرم ، يرويه مروان بن الحكم.

وعن ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ قال : نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحديبية فحال المشركون بينه وبين دخول مكة ، وجاء سهيل بن عمرو يعرض عليهم الصلح فصالحهم رسول الله

__________________

(١) أخرجه البخارى (٤ / ٤٦٨ ـ ٤٦٩) كتاب المحصر باب إذا أحصر المعتمر (١٨٠٦ ، ١٨٠٩) ، وابن جرير (٣٣٢١).

(٢) أخرجه ابن جرير من (٣٢٩٩) إلى (٣٣٠٤).

(٣) أخرجه ابن جرير (٣٣٠٥ ، ٣٣٠٦ ، ٣٣١١).

(٤) هو : عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدى أبو خبيب ـ بمعجمة مضمومة ـ المكى ثم المدنى ، أول مولود فى الإسلام وفارس قريش. له ثلاثة وثلاثون حديثا ، اتفقا على حديث ، وانفرد البخارى بستة ، وانفرد مسلم بحديثين. وعنه ابناه عباد وعامر ، وأخوه عروة وعطاء وطاوس. شهد اليرموك وبويع بعد موت يزيد ، وغلب على اليمن والحجاز والعراق وخراسان ، وكان فصيحا شريفا شجاعا لسنا أطلس. قتل بمكة سنة ثلاث وسبعين ، ومولده بعد الهجرة بعشرين شهرا ، ينظر الخلاصة (٢ / ٥٦) (٣٤٩٦).

٧٦

صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمرهم أن يسوقوا البدن حتى تنحر حيث شاء ، ولا يتوهم أن يكون النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهدى الهدى فى الحل وقد أطلق له المشركون أن ينحرها حيث شاء ولا يتوهم أن يكون النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بقرب الحرم بل هو فيه.

وروى عن مروان والمسور بن مخرمة قالا : نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية فى الحل وكان يصلى فى الحرم ، هذا يبين أنه كان قادرا أن ينحر هديه فى الحرم حيث كان يصلى.

ولا يحتمل أن يترك نحر الهدى فى الحرم وهو على ذلك قادر ، ولأن الحديبية مكان مجمع الحل والحرم جميعا فإنما ذبح فى الحرم لا فى الحل ؛ لما ذكرنا أنه لا يحتمل أن يذبح فى الحل ، وله سبيل [إلى] الذبح فى الحرم.

فإن قيل : حل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية من إحصاره بغير [هدى ؛ لأن الهدى إلى نحره كان هديا ساقه لعمرته لا لإحصاره ، فنحر هديه على النية الأولى ، وحل من إحصاره بغير](١) دم.

قلنا : ليس الأمر عندنا هكذا ؛ لأنه لا يتوهم على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكون حل بغير دم ، وقد أمر الله المحصر بالدم.

فإن قال كذلك قال : وليس فى حديث صلح الحديبية أنه نحر دمين ، وإنما نحر دما واحدا (٢) ، فما وجه ذلك عندكم؟

قيل : وجه ذلك عندنا ـ والله أعلم ـ أن الهدى الذى ساقه كان هدى متعة أو قران فلما منع عن البيت سقط عنه دم القران فجاز له أن يجعله من دم الإحصار. فإن قيل : فكيف قلنا : إن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أزال الهدى عن سبيله ، وأنت تزعم أن من باع هديه فهو مسىء؟ قيل له : إن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصرف الهدى عن نحره لله والتقرب به إليه ، وإنما صرف النية إلى ما هو أفضل منها وأوجب ، فكان ذلك فى فعله متبعا والذى باعه صرفه عن سبيله وترك أن ينحره بعد أن كان نوى به القربة فكان مسيئا ، ومما يدل على أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل الهدى لإحصاره ما روى أنه لم يحلق حتى نحر هديه ، وقال : «يا أيها الناس انحروا وحلوا».

ثم المسألة ما يجب على المحصر بالحج والعمرة من القضاء إذا حل ، فعلى قول أصحابنا إذا كان محرما بالحج يلزمه الحج مكان الأول وعمرة بتفويت الحج ؛ قال الله

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى ط.

(٢) من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، أخرجه البخارى (٣ / ٢٥٢ ـ ٢٥٨) ، كتاب الشروط ، باب (٢٧٣١ ، ٢٧٣٢) ، وأحمد (٤ / ٣٢٣ ، ٣٢٨) ، وأبو داود (٢ / ٩٣ ـ ٩٤) كتاب الجهاد ، باب فى صلح العدو (٢٧٦٥).

٧٧

تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) اختلف أهل العلم فى تأويل ذلك ، فروى عن ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ فيما يكون الرجل به محصرا أنه قال : فإذا أمنتم من الخوف أو المرض فمن تمتع بالعمرة أى اعتمر فى أشهر الحج ، كأنه يقول : إن عليه لإحلاله بغير الطواف عمرة ، فإن أخرها حتى يقضيها مع الحج فى أشهره فعليه لجمعه بينهما دم ، وروى عن ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ قال فى رجل أهل بعمرة وأحصر : يبعث بهديه ، فإذا بلغ الهدى محله حل ، فإن اعتمر من وجهه ذلك إذا برأ فليس عليه هدى ، وإن اعتمر من قابل بعد حج فليس عليه هدى ، فإن وصلها من قابل بعد حج فعليه هدى ، والحاج إذا أحصر فإنه يبعث بهدى ، فإذا بلع محله حل ، وإن اعتمر من وجهه ذلك إذا برأ فإنه يحج من قابل وليس عليه هدى ، وإن لم يزر البيت حتى يحج وجعلها سفرا واحدا كان عليه هدى آخر ، سفران وهدى أو هديان وسفر.

وقال قوم : عليه حج واحد.

وروى عن ابن عباس ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال : أمر الله بالقصاص فيأخذ منكم العدد ، أى حجة بحجة وعمرة بعمرة.

وروى فى خبر عمر ، رضى الله تعالى عنه ، عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قال : «فقد حل وعليه الحج من قابل» (١) ، هذا يدل على قول ابن عباس ، رضى الله تعالى عنه ، لأنه قال : «وعليه الحج من قابل» (٢) ، ولم يذكر عمرة.

إلا أنه قد يجوز أن يكون عليه العمرة وإن لم تذكر فى الحديث ، كما أن الدم عليه واجب وإن لم يذكر فى الحديث ، فعلى ذلك العمرة يجوز وجوبها وإن لم تذكر. أما إيجابهم العمرة لفسخ الحج بغير طواف وحجة مكان حجته : فإن كان التأويل فى قوله : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ) أى : بالعمرة التى لزمته بإحلاله كما قال ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير ـ رضى الله عنهم ـ فكفى به حجة ، وإن كان تأويل الآية غير ذلك فإنا وجدنا من يفوته الحج يلزمه أن يطوف بالبيت ثم يجب بعد ذلك قضاء الحج فأوجبوا على المحصر عمرة مكان الطواف الذى يجب على من يفوته الحج وأوجبوا الحج لما دخل فيه.

فإن قيل يجب أن تسقط عنه العمرة التى يجب على من يفوته الحج لأن الذى يفوته الحج لا يحل منه بدم وإنما يحل بالطواف ، والمحصر قد حل بالدم فقام الدم الذى لزمه يحل به مقام الطواف الذى يفوته الحج.

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

٧٨

قيل له : إن المحصر لو لم يذبح عنه هديا احتاج أن يقوم على إحرامه حتى يصل إلى البيت فيطوف به ولو إلى سنين ثم يحج بعد ذلك مكان الحجة التى دخل فيها فجعل له أن يتعجل إلى الخروج من إحرامه ويؤخر الطواف الذى لزمه بدم يهريقه فبالدم جاز له أن يحل ولم يبطل الطواف عنه وإذا لم يبطل الدم عنه الطواف ولم يجعل بدلا منه فعليه أن يأتى به بإحرام جديد فيكون ذلك عمرة.

فإن قيل : ما الدليل على أن الدم الذى يحل به المحصر جعل عليه ليتعجل به الإحلال ، ولم يجعل بدلا عن الطواف؟

قيل : لأن أهل العلم أجمعوا على أن الذى يفوته الحج ليس له أن يفسخ الطواف الذى لزمه بدم يهريقه يجعله بدلا عن الطواف ، فدل أنه إنما يهريق الدم ليتعجل به إلى الإحلال ، لا بدلا عن الطواف. والله أعلم.

وقوله : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).

روى عن على (١) وابن عباس (٢) ، رضى الله تعالى عنهما ، أنهما قالا : «شاة» وأصحابنا ، رحمهم‌الله تعالى ، يرون الشاة مجزئا فى المتعة ، والإحصار ، والفدية ، والحجّة لهم فى ذلك ما ذكرنا من قول الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال لكعب بن عجرة (٣) : «النسك شاة» (٤) ، وإجماع الناس على أنها مجزئة فى الأضحية.

ثم المسألة فى المحرم إذا حلق رأسه من أذى :

رخص الله تعالى للمتأذى حلق رأسه بفدى ، بقوله : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) ، روى فى الخبر عن كعب بن عجرة ، أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا كعب ، أيؤذيك هوام رأسك ، قلت : نعم يا رسول الله. قال : فاحلقه ، واذبح شاة أو أطعم ستة مساكين». وقال كعب : فىّ نزلت هذه الآية (٥).

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٣٢٦٨ ، ٣٢٦٩) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٨٦).

(٢) أخرجه ابن جرير من (٣٢٤٤) إلى (٣٢٥٠) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٨٦).

(٣) كعب بن عجرة بن أمية بن عدى بن عبيد بن الحارث القضاعى البلوى حليف القواقل أبو محمد المدنى روى سبعة وأربعين حديثا اتفقا على حديثين ، وانفرد مسلم بمثلها. وعنه بنوه محمد ، وإسحاق ، وعبد الملك. قال خليفة : مات سنة إحدى وخمسين ، ينظر الخلاصة (٢ / ٣٦٥) (٥٩٥٩).

(٤) أخرجه ابن مردويه والواحدى عن ابن عباس كما فى الدر المنثور (١ / ٣٨٦).

(٥) أخرجه البخارى (٤ / ٤٨٣) كتاب المحصر ، باب قول الله تعالى : (أَوْ صَدَقَةٍ) وهى إطعام ستة مساكين (١٨١٥) ، ومسلم (٢ / ٨٦٠) كتاب الحج ، باب جواز حلق الرأس للمحرم (٨٢ / ١٢٠١) ، ـ

٧٩

ثم اختلف أهل العلم فى الذبح : أين يذبح؟

قال أصحابنا ـ رضى الله تعالى عنهم ـ : لا يجوز أن يذبح الفدية إلا بمكة (١).

وأما الصدقة والصوم فإنه يأتى به حيث شاء.

وذلك عندهم بمنزلة هدى المتعة ؛ لأن هدى المتعة إنما وجب بجمعه بين الحج والعمرة فى سفر واحد ؛ ولأنه لو شاء أن يفرد لكل واحد منهما سفرا فعل ، فبأخذه بالرخصة لزمه دم.

وكذلك دم الفدية إنما وجب لأخذه بالرخصة فى حلق رأسه ، فصار سبيل الدمين سواء ، يجبان بمكة ، وكذلك دم الإحصار إنما وجب ؛ لأنه أخذ بالرخصة فى حلق رأسه فحل من إحرامه. ولا يجوز أن يذبح إلا بمكة. فدم الفدية أينما كان إنما وجب ؛ لأنه رخص له فى حلق مثل ذلك.

__________________

 ـ وأحمد (٤ / ٢٤١ ، ٢٤٢ ، ٢٤٣) ، وأبو داود (١ / ٥٧٤) كتاب المناسك ، باب فى الفدية (١٨٥٦ ، ١٨٥٧ ، ١٨٥٨ ، ١٨٥٩ ، ١٨٦٠) ، والنسائى (٥ / ١٩٤) كتاب المناسك ، باب فى المحرم يؤذيه القمل فى رأسه ، والترمذى (٢ / ٢٧٦ ـ ٢٧٧) كتاب الحج ، باب ما جاء فى المحرم يحلق رأسه (٩٥٣).

(١) ذهب الشافعية والحنابلة فى رواية إلى أن المحصر يذبح الهدى حيث أحصر ، فإن كان فى الحرم ذبحه فى الحرم ، وإن كان فى غيره ذبحه فى مكانه. حتى لو كان فى غير الحرم وأمكنه الوصول إلى الحرم فذبحه فى موضعه أجزأه على الأصح فى المذهبين. وذهب الحنفية ـ وهو رواية عن الإمام أحمد ـ إلى أن ذبح هدى الإحصار مؤقت بالمكان ، وهو الحرم ، فإذا أراد المحصر أن يتحلل يجب عليه أن يبعث الهدى إلى الحرم فيذبح بتوكيله نيابة عنه فى الحرم ، أو يبعث ثمن الهدى ليشترى به الهدى ويذبح عنه فى الحرم. ثم لا يحل ببعث الهدى ولا بوصوله إلى الحرم ، حتى يذبح فى الحرم ، ولو ذبح فى غير الحرم لم يتحلل من الإحرام ، بل هو محرم على حاله. ويتواعد مع من يبعث معه الهدى على وقت يذبح فيه ليتحلل بعده. وإذا تبين للمحصر أن الهدى ذبح فى غير الحرم فلا يجزئ. وفى رواية أخرى عن أحمد : أنه إن قدر على الذبح فى أطراف الحرم ففيه وجهان.

وقد استدل الشافعية والحنابلة بفعل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه نحر هديه فى الحديبية حين أحصر ، وهى من الحل ؛ بدليل قوله تعالى : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ). واستدلوا كذلك من جهة العقل بما يرجع إلى حكمة تشريع التحلل من التسهيل ورفع الحرج ، كما قال فى المغنى : (لأن ذلك يفضى إلى تعذر الحل ؛ لتعذر وصول الهدى إلى الحرم) أى : وإذا كان كذلك دل على ضعف هذا الاشتراط. واستدل الحنفية على توقيت ذبح الهدى بالحرم بقوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ، وتوجيه الاستدلال بالآية عندهم من وجهين : الأول : التعبير (الهدى). الثانى : الغاية فى قوله : (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) وتفسير قوله : (مَحِلَّهُ) بأنه الحرم. واستدلوا بالقياس على دماء القربات ؛ لأن الإحصار دم قربة ، والإراقة لم تعرف قربة إلا فى زمان ، أو مكان ، فلا يقع قربة دونه. أى دون توقيت بزمان ولا مكان ، والزمان غير مطلوب ؛ فتعين التوقيت بالمكان.

ينظر : الهداية وشروحها (٢ / ٢٩٧) ، شرح الكنز (٢ / ٧٨) ، والبدائع (٢ / ١٧٩) ، المجموع (٨ / ٢٤٧).

٨٠