تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

وروى عن عائشة (١) ، رضى الله تعالى عنها ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تسموا شهر رمضان رمضان ، فإنما هو اسم من أسماء الله تعالى. انسبوه إلى ما نسبه لكم القرآن» (٢).

وقوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

أضاف عزوجل الفعل إلى الشهر بقوله : (فَلْيَصُمْهُ) ؛ فلذلك إذا قصد به صوم الشهر جائز الصوم وإن لم ينو الفرض سوى ما ذكرنا. وكذلك سائر الفرائض نحو الظهر والعصر ينوى ذلك ، فيكون ذلك على ما جعله الله من فرض وإن لم ينو الفرض. ولا قوة إلا بالله.

وعلى ذلك من نوى بالصيام غير صيام الشهر جائز عن صيام الشهر ، لما أمرنا بصيام الشهر ولم نؤمر بأن نجعل ذلك لشىء سواه ، والشهر موجود لنفسه لا يحتاج صاحبه إلى أن يوجده كان من ذلك على كل حال. وكذلك كل حق معين فى شىء لم يزل عنه نيته إلى غيره ؛ كمن يأمر إنسانا بشراء شىء بعينه لم يتحول عنه بالنية ، على أن ذلك كالظهر والعصر ونحو ذلك ؛ فيحال على تحقيق ذلك قصد غير ، وبعد فإن كلا يجمع ألا يجوز غير ؛ فثبت أن استحقاق الشهر بصومه لا يستحق عليه غيره من الصيام فجاز عنه.

وعلى ذلك أجاز أبو حنيفة فى السفر غيره ، من حيث أذن له فى تأخير هذا ، أو غيره فرض عليه نحو صوم الظهار والقتل ، ولا رخصة له فى تأخيره ، فجاز فيه ؛ إذ هو وقت صيام حول إلى وقت غيره ، فصار هذا الوقت بالحكم لغيره ، وليس كنية المتطوع ؛ لأنه فى موضع الرخصة وفى العمل به وقد يكون له مقدار التطوع من الفضل على غيره فهو أولى به. ولما قد يجوز النفل بلا نية نفل ، فكأنه لم ينو النفل. فهو رجل لم يعمل برخصة الله بل عمل بوجه العزم. ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

قيل (٣) : (تَتَّقُونَ) الأكل والشرب والجماع.

ويحتمل : (تَتَّقُونَ) المعاصى ؛ لأن النفس إذا جاعت شبعت عن جميع ما تهوى

__________________

(١) عائشة بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنهما التيمية ، أم عبد الله الفقيهة أم المؤمنين الربانية ، حبيبة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها ألفان ومائتان وعشرة أحاديث قال عروة : ما رأيت أعلم بالشعر من عائشة. وقال القاسم : كانت تصوم الدهر. وقال هشام بن عروة : توفيت سنة سبع وخمسين. ودفنت بالبقيع.

ينظر : الخلاصة : (٣ / ٣٨٧) (١٠٦).

(٢) أخرجه ابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن عدى والبيهقى فى سننه (٤ / ٢٠١) ، والديلمى كما فى الدر المنثور (١ / ٣٣٤) عن أبى هريرة مرفوعا وموقوفا «لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله ولكن قولوا شهر رمضان».

(٣) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٣٣) ، وانظر تفسير البغوى (١ / ١٤٩) ، والدر المنثور (١ / ٣٢٣).

٤١

وتشتهى. وإذا شبعت تمنت الشهوات ، وتتمنى ما تهوى.

ويحتمل : (تَتَّقُونَ) عذاب الله وعقابه. والله أعلم.

وقوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

ألزم بعض الناس على المريض والمسافر قضاء عدة الأيام وإن صاموا ، فاستدلوا بظاهر الآية فقالوا : أوجب عليهم القضاء على غير ذكر الإفطار فيها.

واحتجوا أيضا بما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «الصائم فى السفر كالمفطر فى الحضر» (١) ، فقد حقق له حكم الإفطار فى أن لا صوم له ؛ فدل أنه لم يجز ، فكان كتقديم الصوم عن وقته.

وأما عندنا : فهو على إضمار الإفطار ، كأنه قال : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) فأفطر ، (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). وهو كما ذكر عزوجل فى المتأذى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة : ١٩٦] ، أى : من كان به أذى فرفع من رأسه ففدية. وكما قال فى المضطر : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ١٧٣] ، ومثله كثير فى القرآن. فلا يجوز لأحد أن يأتى ذلك ، ولأن المرض والسفر أعذار رخص الإفطار فيها تخفيفا وتوسيعا على أربابها ، فلو كان على ما قال هو لكان فيه تضييق عليهم ؛ ولأنه إذا قضى فى عدة من الأيام إنما يقضى عن ذلك الوقت ، فلو لم يجز الفعل فى ذلك الوقت وفى تلك الحال ، لكان لا يأمر بالقضاء عن ذلك الوقت ولا عن تلك الحال ؛ فدل أنه على ما ذكرنا. والله أعلم.

وأصله : ما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه صام فى السفر (٢) ، وروى أنه أفطر (٣) ، وروى عن الصحابة ، أنهم صاموا فى السفر (٤). ولو كان لا يجوز لكان لا معنى لصومهم.

__________________

(١) تقدم.

(٢) فى الباب عن أبى الدرداء :

أخرجه البخارى (٤ / ٦٩٢) كتاب الصوم (١٩٤٥) ، ومسلم (٢ / ٧٩٠) ، كتاب الصيام ، باب التخيير فى الصوم (١٠٨ / ١١٢٢) من طريق أم الدرداء عنه قال : «خرجنا مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بعض أسفاره فى يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا ما كان من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وابن رواحة».

(٣) فى الباب عن ابن عباس :

أخرجه البخارى (١٩٤٤) ، ومسلم (٨٨ / ١١١٣) من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى مكة فى رمضان فصام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس.

(٤) فى الباب عن أنس بن مالك :

أخرجه البخارى (١٩٤٧) ، ومسلم (٩٨ / ١١١٨) من طريق حميد الطويل عنه قال : كنا نسافر مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.

٤٢

وأما قوله : «الصائم فى السفر كالمفطر فى الحضر» ، فهو عندنا : إذا كان الصوم أجهده وضعفه لزمه أن يفطر ، صار كالذى أفطر فى الحضر. والله أعلم.

وروى عن أنس ـ رضى الله عنه [أنه](١) ـ قال : «الصوم أفضل والفطر رخصة» (٢).

وقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ).

قرأ بعضهم (٣) : «وعلى الذين يطوّقونه» ، فمعناه يكلفونه.

وقال بعضهم : «لا يطيقونه». لكن هذا لا يحتمل ؛ وذلك أنه قال : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ، دل أن قوله : «لا يطيقونه» لا يحتمل.

وقيل : كان أول ما ترك الصوم كان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا كل يوم ، فلما نزل صوم شهر رمضان نسخ ما كان قبله عمن يطيق الصوم ، ويثبت الرخصة لمن لا يطيق من نحو الشيخ الفانى ، والحبلى والمرضع إذا خافت على ولدها.

وقيل : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) ، أى : الفدية.

وقيل (٤) : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) ، ثم عجزوا ، (فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) كل يوم.

وقيل : إن المريض والمسافر إن شاءا أفطرا وقضيا ، وإن شاءا أفطرا وفديا.

لكن ذلك كله منسوخ بما ذكرنا بنزول (شَهْرُ رَمَضانَ).

وروى عن أنس ، رضى الله تعالى عنه ، أنه قال : «أحيل الصوم ثلاثة أحوال : فمرة يقضى ، ومرة يطعم ، ومرة يصام ، ثم نسخ هذا كله» (٥).

ثم الأصل فى هذا : أن من عجز عن قضائه جعل له الخروج بالفداء بعجزه عن ابتدائه ، من نحو الشيخ الفانى وغيره.

ومن لم يعجز عن قضائه ، لم يجعل له الخروج بالفداء ، من نحو المرضع والحبلى والمريض والمسافر ؛ لأنهم لم يعجزوا عن غير المفروض والبدل أبدا ، إنما يجب إذا عجز عن إتيان الأصل. والله أعلم.

وقوله : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً).

يحتمل : زيادة الطواف.

__________________

(١) سقط فى ط.

(٢) أخرجه ابن أبى شيبة وعبد بن حميد كما فى الدر المنثور (١ / ٣٤٦).

(٣) منهم عبد الله بن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٧٢ ، ٢٧٧٣ ، ٢٧٧٤ ، ٢٧٧٥ ، ٢٧٨٥) ، وعن عائشة (٢٧٧٩) ، وعكرمة (٢٧٧٦) ، وغيرهم.

(٤) قاله عكرمة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٧٨).

(٥) تقدم عن معاذ بن جبل.

٤٣

ويحتمل : نفس الحج.

ويحتمل : أصل التطوع أن كل ما يتطوع به فهو خير له إذا تطوع فى الأصل خير.

وقوله عزوجل : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ).

قوله : (هُدىً لِلنَّاسِ).

قيل : يهتدون به الطريق المستقيم.

وقيل (١) : بيان للناس من الضلالة.

وقوله : (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى).

قيل : حجج للناس إذا تأملوه.

وقيل (٢) : (وَبَيِّناتٍ) أى : فيه الحلال ، والحرام ، والأحكام ، والشرائع.

وقوله : (وَالْفُرْقانِ).

قيل : يفرق بين الحق والباطل.

وقيل : (وَالْفُرْقانِ) ، المخرج فى الدّين من الشبهة والضلالة.

قال ابن عباس (٣) ـ رضى الله تعالى عنه ـ : «نزل الفرقان إلى السماء الدنيا من اللوح جملة فى شهر رمضان فى ليلة القدر ـ فى ليلة مباركة ـ جملة واحدة ، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلا رسلا فى الشهور والأيام على قدر الحاجات».

وقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

يحتمل قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) وهو مقيم صحيح ، (فَلْيَصُمْهُ). ثم رخص للمريض والمسافر الإفطار بقوله عزوجل : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

ويحتمل قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أى : من شهد منكم بعقله الشهر (فَلْيَصُمْهُ) فلا يدخل فى الخطاب المجانين ولا الصبيان ، ألا ترى أن أول الخطاب خرج للمؤمنين بقوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) فهؤلاء لم يدخلوا فيه ؛ فدل أن قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أى : شهد منكم بعقله ، (فَلْيَصُمْهُ).

ثم يحتمل أن تكون فرضية الصوم بقوله عزوجل : (فَلْيَصُمْهُ).

__________________

(١) انظر : تفسير البغوى (١ / ١٥١).

(٢) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٨٣٠) ، وانظر تفسير البغوى (١ / ١٥١)

انظر : تفسير البغوى (١ / ١٥١).

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٨٢٣ ، ٢٨٢٤ ، ٢٨٢٥ ، ٢٨٢٦ ، ٢٨٢٨ ، ٢٨٢٩) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٤٣).

٤٤

ويحتمل : لا بهذا ، ولكن بقوله : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) ؛ إذ لا يجب إكمال العدة لما مضى إلا على حق الفرضية.

والثانى : قال الله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) ، بما رخص للمريض والمسافر الإفطار ، ولو كان غير فرض لم يكن لما ذكر من الامتنان علينا بالتيسير معنى ؛ لأن المنة لا تذكر فيما له تركه ؛ فدل أنه فرض.

ويحتمل : أن يكون فرضيته بقوله عزوجل : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) ؛ لأن قوله : (كُتِبَ) ، أى : فرض. فدلت هذه الآيات على أنه فرض.

ثم اختلف فى قضاء ما فات منه برخصة الإفطار فى السفر أو فى المرض :

قال بعضهم (١) : لا يجوز إلا متتابعا. وكذلك روى فى حرف أبى بن كعب فى قوله : «فعدة من أيام أخر متتابعات» (٢).

وأما عندنا : فإنه يجوز متتابعا ومتفرقا ؛ اتباعا لما روى عن خمسة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنهم قالوا : «إن شاء تابع ، وإن شاء فرق» سوى أن عليّا (٣) ، رضى الله تعالى عنه ، قال : يتابع ، لكنه إن فرق جاز ، ثم عن على ، وعبد الله بن عباس ، وأبى سعيد الخدرى (٤) ، وأبى هريرة ، رضى الله تعالى عنهم ، وآخر لست أذكره ، أنهم قالوا : بجواز ذلك (٥) ، ولا يحتمل أن التتابع شرطا فيه خفى ذلك على هؤلاء ، أو تركوه إن عرفوه ؛ فدل

__________________

(١) قلت : روى فى ذلك حديثا مرفوعا عن أبى هريرة أخرجه الدارقطنى بإسناد ضعيف عنه مرفوعا كما فى الدر المنثور (١ / ٣٤٨) بلفظ : «من كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يفرقه».

(٢) أخرجه ابن المنذر والدارقطنى وصححه ، والبيهقى فى سننه عن عائشة كما فى الدر المنثور (١ / ٣٤٨). قالت : نزلت (فعدة من أيام أخر متتابعات) فسقطت (متتابعات) قال البيهقى : أى نسخت.

(٣) أخرجه ابن أبى شيبة (٩١٣٦) من طريق أبى إسحاق عن الحارث عنه قال : «من كان عليه صوم رمضان فليصمه متصلا ولا يفرقه».

(٤) سعد بن مالك بن سنان ـ بنونين ـ ابن عبد بن ثعلبة بن عبيد بن خدرة ـ بضم المعجمة ـ الخدرى أبو سعيد ، بايع تحت الشجرة ، وشهد ما بعد أحد ، وكان من علماء الصحابة ، له ألف ومائة حديث وسبعون حديثا ، اتفقا على ثلاثة وأربعين ، وانفرد البخارى بستة وعشرين ، ومسلم باثنين وخمسين وعنه طارق بن شهاب ، وابن المسيب ، والشعبى ، ونافع ، وخلق. قال الواقدى : مات سنة أربع وسبعين.

ينظر : تهذيب الكمال (١ / ٤٧٣) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٤٧٩) ، تقريب التهذيب (١ / ٢٨٩) ، خلاصة تهذيب الكمال (١ / ٣٧١) ، الكاشف (١ / ٣٥٣) ، تاريخ البخارى الكبير (٤ / ٤٤).

(٥) أخرجه ابن أبى شيبة عن ابن عباس وأبى هريرة (٩١١٤) ، (٩١١٦) قالا : لا بأس بقضاء رمضان متفرقا.

وأخرجه أيضا عن أنس (٩١١٥) قال : إن شئت فاقض رمضان متتابعا وإن شئت متفرقا.

وعن معاذ بن جبل (٩١١٩) أنه سئل عن قضاء رمضان قال : أحص العدة وصم كيف شئت. ـ

٤٥

أنه لا يصح ذكر التتابع شرطا فيه ، وليس كذكر التتابع فى صوم كفارة اليمين فى حرف ابن مسعود ، رضى الله تعالى عنه ؛ لأنه لم يخالفه أحد من الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، فى ذلك ، فصار كالمتلو. وهاهنا قد خالفوا أبيّا فى حرفه ؛ فلم يصر كالمتلو ؛ لذلك افترقا. والله أعلم.

وقراءة أبى إن ثبتت عنه ، فهو على الأرب ؛ لما ذكر من إجماع الصحابة ، رضى الله تعالى عنهم ، وبما أنه وجب بوقت ، وكل ذى وقت فليس التتابع بشرط فيه فى غير ذلك الوقت.

ولو كان التتابع شرطا ، لكان حق الإفطار يلزم الكل ؛ حتى يكون القضاء موصولا أو الابتداء.

فأما إذا جاز التفريق بين بعض له حكم الابتداء وبعض له حكم القضاء ، لجاز فى غيره من الأبعاض ؛ إذ كل ذلك له فى الابتداء جاز الفعل والترك. فصار حق كل يوم فى القضاء لنفسه لا لغيره ؛ إذ كذلك حقه فى الترك القضاء ، وفى الفعل فى الابتداء. ولا قوة إلا بالله.

وما ذكر من المسائل فهى مبنية على هذا الذى ذكرت : أن التتابع للفعل لا يحتمل اعتراض رخصة التفريق على إمكان الجمع ؛ ثبت أن الجمع شرط فيه. وما نحن فيه يحتمل صوم كل يوم على الانفراد أن يؤخر فعله فى الشهر بالرخصة عن غيره كذلك القضاء. والله أعلم.

وبعد ، لو كان التتابع شرطا لم يكن لقوله : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ، وقوله عزوجل : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) ، كبير فائدة ؛ لأن فى التتابع شرط الجملة ، لا أن يكلف له العدد ، وعلى الرجل أن يتم المدة التى للقضاء ، لا أن يحفظ الحساب لإكمال العدة. والله أعلم.

والأصل : أن كل صوم يؤمر بالتتابع بحيث الفعل يكون التتابع شرطا فيه حيثما كان الفعل. وكل صوم يكون التتابع فيه بحيث الوقت ، ففوت ذلك الوقت يسقط حق التتابع.

ولهم على هذا مسائل :

إذا قال : «لله علىّ أن أصوم شعبان» ، فلزمه أن يصوم متتابعا ، لكنه إذا فات شىء منه يقضى إن شاء متتابعا ، وإن شاء متفرقا ؛ لأن التتابع بحيث الوقت يسقط لسقوطه.

__________________

 ـ وعن ابن عمر (٩١٣٢) قال : صمه كما أفطرته.

وعن أبى عبيدة بن الجراح (٩١٣٣) سئل عن قضاء رمضان متفرقا قال : أحص العدة وصم كيف شئت.

٤٦

ولو قال : «لله علىّ أن أصوم شهرا متتابعا» ، يلزمه أن يصوم متتابعا ، لا يخرج من نذره إلا به ؛ لأن التتابع ذكر للصوم ، فهو لا يسقط عنه أبدا.

والثانى : ما قال عزوجل : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) ، واليسر رخصة ، لم يجز أن يجعل فيه ما هو عسر وضيق : وهو التتابع. والله أعلم.

ثم فى قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ، دلالة أنه إذا صام من غيره لم يجز ؛ لأنه أضاف عزوجل الصوم إلى الشهر ، وأشار إليه بقوله عزوجل : (فَلْيَصُمْهُ) فلو جاز له أن يصوم من (١) غيره لكان فيه صرف إلى غير ما جعله الله ، وفى ذلك خوف اعتراض لأمره ، وإشراك فى حكمه. ونسأل الله العصمة من الزيغ عن الحق.

وأما قوله عزوجل : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

قالت المعتزلة : من صام فى السفر أو فى المرض فعل ما لم يرد الله ؛ لأن الله عزوجل أخبر أنه لم يرد العسر ، وإنما أراد اليسر ، فإذا صام فى المرض أو فى السفر أراد العسر ، والله تعالى أخبر أنه لم يرد ، فدل أنه فعل ما لم يرد الله.

لكن الوجه عندنا : أن قوله : (يُرِيدُ اللهُ) ، معناه : أراد الله بكم اليسر لما رخص لكم الإفطار فى السفر ؛ لأنهم أجمعوا على أن الصوم فى السفر أفضل ، والإفطار رخصة ، ولا جائز أن يقال : لم يرد الله ما هو أفضل ، وأراد ما هو دونه على قولهم ، ولكن يقال : أراد لمن أفطر اليسر ، وأراد لمن ترك الإفطار العسر ، وإرادته نافذة ، فلا جائز أن ينفذ فى وجه ولا ينفذ فى وجه آخر.

وقوله عزوجل : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) ، أى : يريد أن ييسر عليكم بالإذن فى الفطر ، لا أن يعسر عليكم بالنهى عنه.

وقد يحتمل الفعل ، لكنه لم يذكر عن أحد أن الله تعالى أراد به اليسر فصام ؛ فثبت أن الإرادة موجبة ، مع ما لا يحتمل على قولهم أن يكون الصائم فى السفر غير مراد ، وقد قضى به فرض الله ، وأطاع الله فيه. والمعتزلة يقولون بالإرادة فى كل فعل الطاعة فضلا عن الفريضة.

وقوله : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ).

قيل (٢) : يعنى تعظمون الله ، (عَلى ما هَداكُمْ) لأمر دينه. ويجوز أن يريد بالتعظيم الأمر بالشكر لما أنعم عليهم من أنواع النعم من التوحيد والإسلام وغيره.

__________________

(١) فى ب : عن

(٢) قاله ابن جرير (٢ / ١٦٣) ، والبغوى (١ / ١٥٣).

٤٧

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) :

أى : ربكم بهذه النعم التى أنعمها عليكم.

ويحتمل : أنه أمر بالتعظيم له والشكر لما رخص لهم الإفطار فى السفر والمرض. والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(١٨٧)

وقوله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ).

هو على الإضمار ـ والله أعلم ـ كأنه قال : وإذا سألك عبادى : «أين أنا عن إجابتهم» ، فقل لهم : إنى قريب الإحسان ، والبر ، والكرامة لمن أطاعنى.

ويحتمل : (فَإِنِّي قَرِيبٌ). قرب العلم والإجابة ، لا قرب المكان والذات كقرب بعضهم من بعض فى المكان ؛ لأنه كان ولا مكان ، ويكون على ما كان ، وكذلك قوله : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة : ٧] وكقوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] ، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) [الواقعة : ٨٥] ، كل ذلك يرجع إلى قرب العلم والإحاطة وارتفاع الجهات ، لا قرب الذات على ما ذكرنا.

وإن كانت القصة على ما قاله بعض أهل التفسير (١) : بأن اليهود قالوا : كيف يسمع ربك دعاءنا ، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام ، وأن غلظ كل سماء مسيرةخمسمائة عام؟! فنزل قوله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) ، هذا لما لم يعرفوا الصانع ؛ ألا تراهم جعلوا له الولد ، وجعلوا له شركاء ، فخرج سؤالهم ، إن كان ، مخرج سؤال المتعنت (٢) ، لا سؤال المسترشد.

__________________

(١) ذكره البغوى (١ / ١٥٥) ، من طريق الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس.

(٢) فى أ : التعنت.

٤٨

وقوله : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ).

أى : أقبل توحيد الموحد. وكذلك قال ابن عباس ، رضى الله تعالى عنه ، فى قوله : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦] ، أى : وحدونى أغفر لكم.

وقيل : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) ، على حقيقة الإجابة.

وقوله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي).

أى : إلى ما دعوتهم.

يحتمل : على ما ذكرنا فى قوله : (أُجِيبُ) لكم ، إذا استجبتم لى بالطاعة والائتمار.

ويحتمل : (أُجِيبُ) لكم ، إذا أخلصتم الدعاء لى.

ويحتمل : على ابتداء الأمر بالتوحيد ، كأنه قال : وحدونى.

ألا ترى أنه قال : (وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) إذا فعلوا ذلك.

وقوله : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ).

سماه (لَيْلَةَ الصِّيامِ). الليل مضاف إلى يومه ، كأنه قال : ليلة يوم الصوم ، وإن لم يكن فيها صوم فى الحقيقة ؛ لانتظار الصيام فيها بالنهار ، على ما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قال : «منتظر الصلاة ما دام ينتظرها فى الصلاة» (١) ، وكذلك قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ، أضاف الصوم إلى الشهر يدخل فيه الليل والنهار ؛ لأن اسم الشهر يجمع الليل والنهار جميعا.

وقوله : (الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ).

قيل (٢) : (الرَّفَثُ) ، الجماع. وهو قول ابن عباس ، رضى الله تعالى عنه.

وقيل (٣) : (الرَّفَثُ) ، هو حاجات الرجال إلى النساء من نحو الجماع ، والمس ، والتقبيل وغيره.

وقوله : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ).

__________________

(١) أخرجه مالك (١ / ١٠٨ ـ ١١٠) فى كتاب الجمعة (١٦) ، وأحمد (٢ / ٤٨٦) ، وأبو داود (١ / ٦٣٤ ، ٦٣٥) كتاب الصلاة ، باب تفريع أبواب الجمعة ، باب فضل يوم الجمعة (١٠٤٦) ، والترمذى (٢ / ٣٦٢ ـ ٣٦٣) أبواب الصلاة ، باب ما جاء فى الساعة التى ترجى فى يوم الجمعة (٤٩١) ، والنسائى (٣ / ١١٣ ـ ١١٥) كتاب الجمعة ، باب ذكر الساعة التى يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة ، والبغوى فى شرح السنة (٢ / ٥٥٤) ، عن عبد الله بن سلام بنحوه.

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٩٢٨ ، ٢٩٢٩ ، ٢٩٣٠ ، ٢٩٣٤) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٥٩) ، وتفسير البغوى (١ / ١٥٦).

(٣) قاله الزجاج كما فى تفسير البغوى (١ / ١٥٧).

٤٩

قيل (١) : هن ستر لكم عما لا يحل ، وأنتم ستر لهن أيضا. يعف الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل.

وقيل (٢) : هن سكن لكم ، وأنتم سكن لهن. يسكن الزوج بالزوجة ، والزوجة بالزوج. وهو كقوله : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) ، [النبأ : ١٠] أى : سكنا ، (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) [غافر : ٦١].

ويحتمل : أن يكون أحدهما لباس الآخر بالليالى. والله أعلم.

وقوله : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ).

(تَخْتانُونَ) وتخونون واحد.

قيل (٣) : نزلت الآية فى شأن عمر ، رضى الله تعالى عنه ، وذلك أن الناس إذا صاموا ، ثم نام أحد منهم ، حرم عليهم الطعام والجماع حتى يفطر من الغد ، فواقع عمر ، رضى الله تعالى عنه ، امرأته يوما بعد ما نام أو نامت. فغدا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بذلك ، فنزل قوله : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) ، أى : تظلمون ؛ لأن كل خائن ظالم نفسه ، فتاب الله عليه وعفا عنه ، ثم رخص لهم المباشرة بقوله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ)

على الرخصة ، هو على الإباحة ، لا على الأمر به.

وقوله : (وَابْتَغُوا).

أى : اتبعوا (٤).

(ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ).

قيل : فيه بوجوه :

قيل (٥) : (ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، من الولد.

وقيل (٦) : (ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، من ليلة القدر ، وما فيه من نزول الرحمة.

__________________

(١) قاله ابن جرير (١ / ١٦٩).

(٢) قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدى ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٩٤٢ ، ٢٩٣٨ ، ٢٩٣٩ ، ٢٩٤٠) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٥٨ ـ ٣٥٩).

(٣) أخرجه ابن جرير من طرق عن ابن عباس (٢٩٤٨ ، ٢٩٤٩ ، ٢٩٥٠ ، ٢٩٥١) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٥٧).

(٤) فى أ : ابتغوا.

(٥) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٩٧٨) ، وعن مجاهد (٢٩٧٣ ، ٢٩٧٩ ، ٢٩٨٠) ، والحاكم (٢٩٧٤) ، وعكرمة (٢٩٧٥) ، وغيرهم.

وانظر الدر المنثور (١ / ٣٥٩).

(٦) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٩٨٥ ، ٢٩٨٦) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٥٩).

٥٠

وقيل (١) : (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، من الرخصة ، والإباحة فى الجماع فى ليلة الصيام ، والأكل بعد النوم وهو كما جاء : «من لم يقبل رخصنا كما يقبل عزائمنا ، فليس منّا» (٢).

وقوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ).

ذكر عن عدى بن حاتم (٣) ، أنه قال : كنت أضع خيطين تحت وسادتى بعد نزول هذه الآية : أحدهما أبيض ، والآخر أسود ، فكنت انظر فيه متى ما تبين لى إلى أن أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبرته ، فقال : «إن وسادك لعريض» (٤) ، يعنى أن الفجر هو المتعرض فى الأفق.

وروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «لا يغرنكم الفجر المستطيل ، إنما الفجر

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٩٨٧ ، ٢٩٨٨).

(٢) فى الباب عن عبد الله بن عمر : أخرجه أحمد (٢ / ١٠٨) ، وابن حبان فى صحيحه (٦ / ٤٥١) (٢٧٤٢) ، (٨ / ٣٣٣) (٣٥٦٨) ، والبزار (١ / ٤٦٩) (٩٨٨ ، ٩٨٩ ـ كشف الأستار) ، والبيهقى (٣ / ١٤٠) كتاب الصلاة ؛ باب كراهية ترك التقصير والمسح على الخفين وما يكون رخصة رغبة عن السنة.

والخطيب فى تاريخه (١٠ / ٣٤٧) ، والقضاعى فى مسند الشهاب (١٠٧٨) قال الهيثمى فى المجمع (٣ / ١٦٥) :

رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ، والبزار ، والطبرانى فى الأوسط ، وإسناده حسن ا. ه.

وله شاهد من حديث ابن عباس :

رواه الطبرانى فى الكبير (١١٨٨٠ ، ١١٨٨١) ، وابن حبان فى صحيحه (٢ / ٦٩) (٣٥٤) ، والبزار (٩٩٠ ـ كشف) ، وأبو نعيم فى الحلية (٨ / ٢٧٦).

قال الهيثمى فى المجمع (٣ / ١٦٥) :

رواه الطبرانى فى الكبير ، والبزار ، ورجال البزار ثقات ، وكذلك رجال الطبرانى ا ه.

وللحديث شواهد أخرى يراجع لها مجمع الزوائد (٣ / ١٦٥ ـ ١٦٦).

(٣) عدى بن حاتم بن عبد الله بن سعيد بن حشرج بن امرئ القيس بن عدى الطائى الجواد ابن الجواد.

وفد فى شعبان سنة سبع ، وروى ستة وستين حديثا ، اتفقا على ستة ، وانفرد البخارى بثلاثة ، ومسلم بحديثين. وعنه هشام بن الحارث وخيثمة بن عبد الرحمن والشعبى وابن سيرين وطائفة. قال ابن سعد : توفى سنة ثمان وستين. ينظر الخلاصة (٢ / ٢٢٣) (٤٨١٠).

(٤) أخرجه البخارى (٩ / ٣٨) كتاب التفسير ، باب قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ ...) (٤٥٠٩ ، ٤٥١٠) ، ومسلم (١ / ٧٦٦) كتاب الصيام ، باب بيان أن الدخول فى الصوم يحصل بطلوع الفجر (٣٣ / ١٠٩٠) ، وأحمد (٤ / ٣٧٧) ، وأبو داود (١ / ٧١٧) ، كتاب الصيام باب وقت السحور (٢٣٤٩) ، والترمذى (٥ / ٨٠) كتاب تفسير القرآن ، باب (من سورة البقرة) (٢٩٧٠ ، ٢٩٧١) ، والنسائى (٤ / ١٤٨) كتاب الصيام ، باب تأويل قول الله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) ... الآية وابن خزيمة (١٩٢٥ ، ١٩٢٦).

٥١

المستطير فى الأفق» (١).

وروى أنه قال : «الفجر فجران : فجر مستطيل فى السماء ، وفجر مستطير فى الأفق ، هو الذى يحرم الطعام على الصائم ويحل الصلاة» (٢).

وروى أنه قال : «لا يغرنكم أذان بلال (٣) ، فإنه إنما يؤذن بالليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم» (٤).

وفى بعض الأخبار قال : «لا يغرنكم أذان بلال عن سحوركم ، فإنه إنما يؤذن بليل» (٥) ، أو كلام نحو هذا.

والأصل فى هذا : أن الله عزوجل جعل حد الصيام من وقت تبين النهار إلى وقت غيبوبة الشمس وأباح من وقت غيبوبة الشمس إلى وقت تبين النهار ، الطعام ، والشراب ، والجماع تخفيفا منه.

وقوله : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ).

وقد اختلف أهل التأويل فى معنى المباشرة :

قيل (٦) : (المباشرة) عنى الله به : الجماع وما دون الجماع ، فإنما نهوا عنها.

__________________

(١) أخرجه مسلم (٢ / ٧٦٩) كتاب الصيام باب بيان أن الدخول فى الصوم يحصل بطلوع الفجر (٤١ / ١٠٩٤) ، وأحمد (٥ / ٧ ، ٩ ، ١٣ ، ١٨) ، وأبو داود (١ / ٧١٦) كتاب الصيام ، باب وقت السحور (٢٣٤٦) ، والترمذى (٢ / ٧٩) كتاب الصوم ، باب ما جاء فى بيان الفجر (٧٠٦) ، والنسائى (٤ / ١٤٨) كتاب الصيام ، باب كيف الفجر ، وابن خزيمة (١٩٢٩) ، والدارقطنى (٢ / ١٦٦ ، ١٦٧) عن سمرة بن جندب بألفاظ متقاربة.

(٢) أخرجه الحاكم (١ / ١٩١) عن جابر بلفظ :

«الفجر فجران ، فأما الفجر الذى يكون كذنب السرحان فلا تحل الصلاة فيه ولا يحرم الطعام ، وأما الذى يذهب مستطيلا فى الأفق فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام».

قال البيهقى : روى موصولا ومرسلا والمرسل أصح.

(٣) هو بلال بن رباح المؤذن مولى أبى بكر ، له كنى شهد بدرا والمشاهد كلها وسكن دمشق. له أربعة وأربعون حديثا ، اتفقا على حديث وانفرد البخارى بحديثين ومسلم بحديث. قال أنس : بلال سابق الحبشة. قال عمر : أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا. وكان بلال ممن عذب فى الله تعالى. مات سنة عشرين ، عن بضع وستين سنة. ينظر الخلاصة (١ / ١٤٠) (٨٦٥).

(٤) أخرجه البخارى (٢ / ٣١١) كتاب الأذان ، باب الأذان قبل الفجر (٦٢١) ، ومسلم (٢ / ٧٦٨ ـ ٧٦٩) كتاب الصيام ، باب بيان أن الدخول فى الصوم يحصل بطلوع الفجر (٣٩ / ١٠٩٣) عن ابن مسعود بلفظ :

«لا يمنعن أحدكم ـ أو أحدا ـ منكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن أو ينادى ـ بليل ؛ ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم وليس أن يقول الفجر أو الصبح. وقال : بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل ـ حتى يقول هكذا».

(٥) انظر ما تقدم.

(٦) قاله عطاء أخرجه ابن جرير عنه (٣٠٤٥) ، وعن الضحاك (٣٠٤٦ ، ٣٠٤٧ ، ٣٠٤٨) ، والربيع ـ

٥٢

وقيل : (المباشرة) كناية عن الجماع.

ثم قوله : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) فيه أدلة من أوجه الآية ، كأنها نزلت فى نازلة بلوا بها ، لا أن كانوا يباشرون نساءهم فى المساجد ؛ لأن المساجد كانت أجل عندهم من أن يجعلوها مكانا لوطء النساء. ولكنه ـ والله أعلم ـ أن الاعتكاف (١) : هو اللبث فى مكان ، يأخذ الحق فى نفسه عند عكوفه فى المسجد وخروجه منه ، فذكر أن العكوف نفسه يحرم الجماع فى الأحوال كلها ، ليس كالصوم الذى يحرم حالا دون حال فى الوقت الذى لم يكونوا فيها ، ليعلموا أن حكم المقام فى المساجد أخذ لهم وليسوا هم

__________________

 ـ (٣٠٤٩) ، وقتادة (٣٠٥٠) ، وغيرهم.

وانظر الدر المنثور (١ / ٣٦٣).

(١) الاعتكاف لغة : الافتعال ، من عكف على الشىء ، عكوفا وعكفا من بابى : قعد ، وضرب : إذا لازمه وواظب عليه ، وعكفت الشىء : حبسته. ومنه قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ). وعكفته عن حاجته : منعته. والاعتكاف : حبس النفس عن التصرفات العادية. وشرعا : اللبث فى المسجد على صفة مخصوصة بنية.

والاعتكاف فيه تسليم المعتكف نفسه بالكلية إلى عبادة الله تعالى طلب الزلفى ، وإبعاد النفس من شغل الدنيا التى هى مانعة مما يطلبه العبد من القربى ، وفيه استغراق المعتكف أوقاته فى الصلاة إما حقيقة أو حكما ؛ لأن المقصد الأصلى من شرعية الاعتكاف انتظار الصلاة فى الجماعات ، وتشبيه المعتكف نفسه بالملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ويسبحون الليل والنهار لا يفترون.

والاعتكاف سنة ، ولا يلزم إلا بالنذر ، لكن اختلف الفقهاء فى مرتبة هذه السنية :

فقال الحنفية : إنه سنة مؤكدة فى العشر الأواخر من رمضان ، ومستحب فيما عدا ذلك.

وفى المشهور عند المالكية : أنه مندوب مؤكد وليس بسنة. وقال ابن عبد البر : إنه سنة فى رمضان ومندوب فى غيره.

وذهب الشافعية إلى أنه سنة مؤكدة ، فى جميع الأوقات ، وفى العشر الأواخر من رمضان آكد ؛ اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطلبا لليلة القدر.

وقال الحنابلة : إنه سنة فى كل وقت ، وآكده فى رمضان ، وآكده فى العشر الأخير منه.

قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف سنة ، لا يجب على الناس فرضا ، إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرا ، فيجب عليه. ومما يدل على أنه سنة فعل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومداومته عليه تقربا إلى الله تعالى ، وطلبا لثوابه ، واعتكاف أزواجه معه وبعده. أما أن الاعتكاف غير واجب فلأن أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يلتزموا الاعتكاف كلهم ، وإن صح عن كثير من الصحابة فعله. وأيضا فإن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأمر أصحابه بالاعتكاف إلا من أراده ، لقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان اعتكف معى ، فليعتكف العشر الأواخر» أى من شهر رمضان ، ولو كان واجبا لما علقه بالإرادة.

ويلزم الاعتكاف بالنذر ؛ لقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من نذر أن يطيع الله فليطعه» ، وعن عمر ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : يا رسول الله ، إنى نذرت أن أعتكف ليلة فى المسجد الحرام ، فقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوف بنذرك».

ينظر : البيجرمى على المنهج (٢ / ٥٩١) ، المغنى (٢ / ١٨٣) ، الفتاوى الهندية (١ / ٢١١) ، الشرح الصغير (١ / ٧٢٥).

٥٣

فيها. ولو لم يكن شرطا فى ذلك لكان قوله : (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ) كافيا إذ لم يكونوا فى المساجد وقت لحوق النهى للمباشرة. والله أعلم.

وفيه دليل أن الاعتكاف لا يكون إلا فى المسجد (١) ، حيث خص المساجد دون غيرها من الأمكنة.

وفيه دليل أن المعتكف قد يخرج من معتكفه (٢) ، لكنه لا يخرج إلا لما لا بد

__________________

(١) أجمع الفقهاء على أنه لا يصح اعتكاف الرجل والخنثى إلا فى مسجد ؛ لقوله تعالى : ( وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ) وللاتباع ؛ لأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعتكف إلا فى المسجد. واتفقوا على أن المساجد الثلاثة أفضل من غيرها ، والمسجد الحرام أفضل ، ثم المسجد النبوى ، ثم المسجد الأقصى. واتفقوا على أن المسجد الجامع يصح فيه الاعتكاف ، وهو أولى من غيره بعد المساجد الثلاثة ، ويجب الاعتكاف فيه إذا نذر الاعتكاف مدة تصادفه فيها صلاة الجمعة ؛ لئلا يحتاج إلى الخروج وقت صلاة الجمعة ، إلا إذا اشترط الخروج لها عند الشافعية.

ثم اختلفوا فى المساجد الأخرى التى يصح فيها الاعتكاف : فذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه لا يصح الاعتكاف إلا فى مسجد جماعة. وعن أبى حنيفة : أنه لا يصح الاعتكاف إلا فى مسجد تقام فيه الصلوات الخمس ؛ لأن الاعتكاف عبادة انتظار الصلاة ، فيختص بمكان يصلى فيه ، وصححه بعضهم. وقال أبو يوسف ومحمد : يصح فى كل مسجد. وصححه السروجى. وعن أبى يوسف : أنه فرق بين الاعتكاف الواجب والمسنون ، فاشترط للاعتكاف الواجب مسجد الجماعة ، وأما النفل فيجوز فى أى مسجد كان. ويعنى الحنفية بمسجد الجماعة : ما له إمام ومؤذن ، أديت فيه الصلوات الخمس أو لا. واشترط الحنابلة لصحة الاعتكاف فى المسجد أن تقام الجماعة فى زمن الاعتكاف الذى هو فيه ، ولا يضر عدم إقامتها فى الوقت الذى لا يعتكف فيه ، وخرج من ذلك المرأة والمعذور والصبى ومن هو فى قرية لا يصلى فيها غيره ؛ لأن الممنوع ترك الجماعة الواجبة ، وهى منتفية هنا. والمذهب عند المالكية والشافعية أنه يصح الاعتكاف فى أى مسجد كان.

ينظر : ابن عابدين (٢ / ٤٤١) ، حاشية العدوى (١ / ٤١٠) ، المجموع (٦ / ٤٨٣) ، مغنى المحتاج (١ / ٤٥٠).

(٢) اتفق الفقهاء على أن الخروج من المسجد للرجل والمرأة ـ وكذلك خروج المرأة من مسجد بيتها عند الحنفية ـ إذا كان لغير حاجة فإنه يفسد الاعتكاف الواجب ، وألحق المالكية وأبو حنيفة ـ فى رواية الحسن عنه ـ بالواجب الاعتكاف المندوب أيضا ، سواء أكان الخروج يسيرا أم كثيرا. أما إذا كان الخروج لحاجة فلا يبطل الاعتكاف فى قولهم جميعا إلا أنهم اختلفوا فى الحاجة التى لا تقطع الاعتكاف ولا تفسده على النحو التالى :

أ ـ الخروج لقضاء الحاجة والوضوء والغسل الواجب :

اتفق الفقهاء على أنه لا يضر الخروج لقضاء الحاجة والغسل الذى وجب مما لا يفسد الاعتكاف ، لكن إن طال مكثه بعد ذلك فسد اعتكافه. قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول ؛ لأن هذا مما لا بد منه ، ولا يمكن فعله فى المسجد ، فلو بطل الاعتكاف بخروجه له لم يصح لأحد الاعتكاف ، ولأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعتكف ، وقد علمنا أنه كان يخرج لحاجته. وروت عائشة أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا ، وله الغسل والوضوء والاغتسال فى المسجد إذا لم يلوث المسجد عند ـ

٥٤

__________________

 ـ الحنفية والحنابلة. وعند الشافعية إن أمكنه الوضوء فى المسجد لا يجوز له الخروج فى الأصح ، والثانى : يجوز. وذهب المالكية إلى كراهة دخول منزل أهله وبه أهله ـ أى زوجته ـ إذا خرج لقضاء الحاجة ؛ لئلا يطرأ عليه منهما ما يفسد اعتكافه. أما إذا كان له منزلان فيلزمه أقربهما عند الشافعية والحنابلة ، واختلف الحنفية فى ذلك. وإذا كانت هناك ميضأة يحتشم منها لا يكلف التطهر منها ، ولا يكلف الطهارة فى بيت صديقه ، لما فى ذلك من خرم المروءة ، وتزيد دار الصديق بالمنة بها. أما إذا كان لا يحتشم من الميضأة فيكلّفها. وألحقوا بالخروج لما تقدم : الخروج للقيء وإزالة النجاسة ، فلا يفسد الاعتكاف أيضا فى قولهم جميعا. ولا يكلف الذى خرج لحاجة الإسراع ، بل له المشى على عادته.

ب ـ الخروج للأكل والشرب :

ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أن الخروج للأكل والشرب يفسد اعتكافه إذا كان هناك من يأتيه به ، لعدم الضرورة إلى الخروج ، أما إذا لم يجد من يأتيه به فله الخروج ؛ لأنه خروج لما لا بد منه. وذهب الشافعية والقاضى من الحنابلة إلى أنه يجوز له الخروج للأكل ؛ لأن الأكل فى المسجد يستحيا منه. وكذا للشرب إذا لم يكن فى المسجد ماء. وخص الشافعية جواز الخروج للأكل إذا كان اعتكافه فى مسجد مطروق ، أما إذا كان المسجد مهجورا فلا يحق له الخروج.

ج ـ الخروج لغسل الجمعة والعيد :

ذهب المالكية إلى أن للمعتكف الخروج لغسل الجمعة والعيد ولحرّ أصابه فلا يفسد الاعتكاف خلافا للجمهور. وصرح الشافعية والحنابلة بأنه لا يجوز الخروج لغسل الجمعة والعيد ؛ لأنه نفل وليس بواجب وليس من باب الضرورة. فإن اشترط ذلك جاز.

د ـ الخروج لصلاة الجمعة :

من وجبت عليه الجمعة ، وكان اعتكافه متتابعا ، واعتكف فى مسجد لا تقام فيه الجمعة فهو آثم ، ويجب عليه الخروج لصلاة الجمعة ؛ لأنها فرض. فإذا خرج للجمعة فقد ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن خروجه للجمعة لا يفسد اعتكافه ؛ لأنه خروج لما لا بد منه ، كالخروج لقضاء الحاجة. وبه قال سعيد بن جبير والحسن البصرى والنخعى وأحمد وعبد الملك بن الماجشون وابن المنذر. وذهب المالكية فى المشهور عندهم والشافعية إلى أن خروج المعتكف لصلاة الجمعة يفسد اعتكافه وعليه الاستئناف ؛ لأنه يمكنه الاحتراز من الخروج بأن يعتكف فى المسجد الجامع ، فإذا لم يفعل وخرج بطل اعتكافه ، واستثنى الشافعية ما لو شرط الخروج فى اعتكافه لصلاة الجمعة ، فإن شرطه يصح ، ولا يبطل اعتكافه بخروجه. وذهب الحنفية إلى أن الخروج لصلاة الجمعة يكون وقت الزوال ، ومن بعد مسجد اعتكافه خرج فى وقت يدركها. أما الحنابلة فإنهم قالوا بجواز التكبير إليها. واتفقوا على أن المستحب بعد صلاة الجمعة التعجيل بالرجوع إلى مكان الاعتكاف. لكن لا يجب عليه التعجيل ؛ لأنه محل للاعتكاف ، وكره تنزيها المكث بعد صلاة الجمعة ؛ لمخالفة ما التزمه بلا ضرورة.

ه ـ الخروج لعيادة المرضى وصلاة الجنازة :

اتفق الفقهاء على عدم جواز الخروج لعيادة المريض وصلاة الجنازة ؛ لعدم الضرورة إلى الخروج ، إلا إذا اشترط الخروج لهما عند الحنفية والشافعية والحنابلة. ومحل ذلك ما إذا خرج لقصد العيادة وصلاة الجنازة. أما إذا خرج لقضاء الحاجة ثم عرّج على مريض لعيادته ، أو لصلاة الجنازة ، فإنه يجوز بشرط ألا يطول مكثه عند المريض ، أو بعد صلاة الجنازة عند الجمهور ، بألا يقف عند المريض إلا بقدر السلام ؛ لقول عائشة ـ رضى الله عنها ـ : «إن كنت أدخل البيت للحاجة ، والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارة». وفى سنن أبى داود مرفوعا ـ

٥٥

منه ، على ما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه كان لا يخرج إلا لحاجة الإنسان» (١) ، وحاجة الإنسان يحتمل وجهين :

يحتمل : لما يرفع إليه من الحوائج.

ويحتمل : حاجة الإنسان : الحاجة المعروفة التى لا يحتمل قضاؤها فى المسجد.

ثم الضرورة تقع بالخروج فى العكوف بوجهين : مرة فى نفسه ، ومرة فى أفعال يكتسبها.

وبهذا يقول أصحابنا ، رحمهم‌الله تعالى ، فى فرضية الخروج إلى الجمع ؛ لأن من اعتكف على ألا يشهد الجمعة لا يؤذن له فى ذلك ، لما لا جائز أن يؤذن بإيجاب قربة هى ليست عليه بتضييع أخرى هى عليه ؛ إذ ذلك فرض كفاية يسقط بأداء البعض ، لذلك كان ما ذكرنا.

فإن قيل : روى أنه كان [يخرج](٢) لاتباع الجنازة وعيادة المريض.

__________________

 ـ عنها : «أنه عليه الصلاة والسلام كان يمر بالمريض ، وهو معتكف ، فيمر كما هو ولا يعرّج يسأل عنه». فإن طال وقوفه عرفا ، أو عدل عن طريقه وإن قل لم يجز ، وعند أبى يوسف ومحمد : لا ينتقض الاعتكاف إذا لم يكن أكثر من نصف النهار. أما المالكية فإنهم مع الجمهور فى فساد الاعتكاف لخروج عيادة المريض وصلاة الجنازة ، إلا أنهم أوجبوا الخروج لعيادة أحد الأبوين المريضين أو كليهما ، وذلك لبرهما ؛ فإنه آكد من الاعتكاف المنذور ، ويبطل اعتكافه به ويقضيه.

و ـ الخروج فى حالة النسيان :

ذهب الحنفية والمالكية إلى أن الخروج من المسجد عمدا أو سهوا يبطل الاعتكاف. وعللوا ذلك بأن حالة الاعتكاف مذكّرة ، ووقوع ذلك نادر ، وإنما يعتبر العذر فيما يغلب وقوعه. وذهب الشافعية والحنابلة إلى عدم البطلان إذا خرج ناسيا ، لقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عفى لأمتى عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».

ز ـ الخروج لأداء الشهادة :

ذهب الحنفية والمالكية إلى أن الخروج لأجل الشهادة مفسد للاعتكاف. وصرح المالكية بأن من وجبت عليه شهادة ، بألا يكون هناك غيره ، أو لا يتم النصاب إلا به لا يخرج من المسجد لأدائها ، بل يجب أن يؤديها فى المسجد إما بحضور القاضى ، أو تنقل عنه. وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه يلزمه الخروج لأداء الشهادة متى تعينت عليه ويأثم بعدم الخروج ، وكذلك التحمل للشهادة إذا تعين ، فيجوز له الخروج ولا يبطل اعتكافه بذلك الخروج ؛ لأنه خروج واجب على الأصح عند الشافعية ، أما إذا لم تتعين عليه ، فيبطل اعتكافه بالخروج.

ينظر : الشرح الكبير مع حاشية الدسوقى (١ / ٥٤٣) ، تبيين الحقائق (١ / ٣٥٠) ، وابن عابدين (٢ / ٤٤٥) ، كشاف القناع (٢ / ٣٥٦) ، الروضة (٢ / ٤٠٤) ، بدائع الصنائع (٣ / ١٠٧١).

(١) أخرجه الدارقطنى ، والبيهقى فى الشعب من طريق الترمذى عن سعيد بن المسيب وعن عروة عن عائشة قالت : «... والسنة فى المعتكف ألا يخرج إلا لحاجة الإنسان».

انظر الدر المنثور (١ / ٣٦٤).

(٢) سقط فى ط.

٥٦

قيل : إن ثبت هذا فهو إذ خرج لوجه أذن [له](١) بالخروج لذلك الوجه فخرج ثم عاد مريضا ، أو شهد جنازة ، وذلك جائز ، ولو كان يؤذن لذلك لكان يؤذن لكل قربة ؛ إذ الجنازة إذا شيعها الكافى سقط فرض التشييع ، فإذا لم يؤذن فى غير هذا ، وهذا مثل ذلك ، أو دونه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وفى ذلك دليل أن الخبر على ما بينت ، والله أعلم.

وروى عن عائشة ، رضى الله تعالى عنها ، أنها قالت : «إن من السنة ألا يخرج المعتكف من معتكفه» (٢). دل هذا من عائشة ، رضى الله تعالى عنها ، أن خبر على بن أبى طالب ، رضى الله تعالى عنه ، على ما ذكرنا ، إن ثبت.

وفى قوله : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) دليل أن الاعتكاف يكون فى جميع المساجد ؛ لأنه عم المساجد.

وما روى : أن «لا اعتكاف إلا فى المسجد الحرام» (٣) إن ثبت ، فهو على التناسخ ؛ لأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتكف فى مسجد المدينة (٤) ، فدل فعله أنه منسوخ. والله أعلم.

وقوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

قيل (٥) : (تِلْكَ) المباشرة معصية ، (فَلا تَقْرَبُوها) فى الاعتكاف ، فحد الأمر ألا تقربوها.

وقيل : إنه جعل لكل طاعة وأمر ونهى حدّا وغاية ، فلا يجاوز ولا يقصر عنه.

وقيل (٦) : (تِلْكَ) فرائض الله.

__________________

(١) سقط فى ط.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه البيهقى فى السنن الكبرى (٤ / ٣١٦) عن ابن مسعود.

(٤) ورد فى معناه أحاديث منها :

حديث عائشة : أخرجه البخارى (٤ / ٣١٨) كتاب الاعتكاف ، باب الاعتكاف فى العشر الأواخر (٢٠٢٥) ، ومسلم (٢ / ٨٣١) كتاب الاعتكاف ، باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان (٥ / ١١٧٢).

حديث أبى هريرة وعائشة معا :

أخرجه أحمد (٢ / ٢٨١) ، (٦ / ١٦٩) ، والترمذى (٢ / ١٤٧) كتاب الصوم ، باب ما جاء فى الاعتكاف (٧٩٠).

حديث عبد الله بن عمر :

أخرجه البخارى (٢٠٢٦) ، ومسلم (١ / ١١٧١).

(٥) قاله الضحاك ، أخرجه ابن أبى حاتم عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٣٦٦).

(٦) قاله شهر بن حوشب كما فى تفسير البغوى (١ / ١٥٩).

٥٧

وقيل : (تِلْكَ) سنن الله. وكان الأول أقرب والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١٨٨)

وقوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ).

قيل (١) : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، ولا تدلوا بها إلى الحكام. وقراءة أبىّ (٢) : «فلا تدلوا بها إلى الحكام» ، وجهان :

على إضمار لا ؛ كقوله : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) [البقرة : ٤٢] ، أى : ولا تكتموا الحق.

وقيل : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) بما تلبسوا على الحكام ، وتقيموا على ذلك حججا باطلة ، على ما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «إنكم تختصمون إلىّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض ، فمن قضيت له بحق أخيه المسلم فكأنما قضيت له بقطعة من النار» (٣).

__________________

(١) قاله قتادة بنحوه ، أخرجه ابن جرير (٣٠٧٠) ، وابن المنذر كما فى الدر المنثور (١ / ٣٦٦).

(٢) ينظر : اللباب فى علوم الكتاب (٣ / ٣٢٤) ، والدر المصون (١ / ٤٧٧).

(٣) أخرجه مالك (٢ / ٧١٩) كتاب : الأقضية ، باب : الترغيب فى القضاء حديث (١) ، والبخارى (١٢ / ٣٣٩) كتاب : الحيل ، باب : (١٠) حديث (٦٩٦٧) ، ومسلم (٣ / ١٣٣٧) كتاب : الأقضية ، باب :

الحكم بالظاهر واللحن بالحجة حديث (٤ / ١٧١٣) ، وأبو داود (٤ / ١٢) كتاب : الأقضية ، باب : فى قضاء القاضى إذا أخطأ حديث (٣٥٨٣) ، والترمذى (٣ / ٦٢٤) كتاب : الأحكام ، باب : التشديد على من يقضى له بشيء حديث (١٣٣٩) ، والنسائى (٨ / ٢٣٣) كتاب : آداب القاضى ، باب : الحكم بالظاهر ، وابن ماجه (٢ / ٧٧٧) كتاب : الأحكام : باب : أقضية الحاكم لا تحل حراما حديث (٢٣١٧).

والشافعى (٢ / ١٧٨) كتاب : الأحكام فى الأقضية حديث (٦٢٦) ، والحميدى (١ / ١٤٢) رقم (٢٩٦) ، وابن الجارود فى المنتقى رقم (٩٩٩) ، وأبو يعلى (١٢ / ٣٠٥) رقم (٦٨٨٠) ، وابن حبان (٥٠٤٧ ، ٥٠٤٩ ـ الإحسان) ، والدارقطنى (٤ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠) كتاب : الأقضية والأحكام حديث (١٢٧) ، والبيهقى (١٠ / ١٤٣) كتاب : آداب القاضى ، باب : من قال : ليس للقاضى أن يقضى بعلمه ، والطحاوى فى شرح معانى الآثار (٤ / ١٥٤) باب الحاكم يحكم بالشىء فيكون فى الحقيقة بخلافه فى الظاهر ، والطبرانى فى الكبير (٢٣ / ٣٤٣) رقم (٧٩٨) ، والبغوى فى شرح السنة (٥ / ٣٤٧) كلهم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة زوج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار».

وقال الترمذى : حسن صحيح.

وأخرجه البخارى (٥ / ١٠٧) كتاب : المظالم ، باب : إثم من خاصم فى باطل وهو يعلمه ، ـ

٥٨

وقوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) ، جعل مال أخيه كماله ، ونفس أخيه كنفسه بقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩]. فإذا أكل مال أخيه بالباطل لزمه مثله ، جعل كأكل ماله بباطل ، وجعل قتل نفس أخيه بالباطل كقتل نفسه بالباطل ؛ لأنه إذا قتله بباطل قتل به.

ثم من الناس من استدل بهذا على أبى حنيفة ، رضى الله تعالى عنه ، فيما يقول بمضى العقد إذا شهد الشهود على ذلك عند الحاكم ، وقضى به ، ثم ظهر أن الشهود شهود زور ؛ حيث قال : (وَلا تَأْكُلُوا) ، وكما روى من الوعيد للأخذ مكان ما أخذ قطعة من نار ، فإذا لم يحل ذلك لم يمض العقد.

غير أن الأصل عندنا فى كل ما لو اجتمع الخصمان على ذلك بسبب جعل ذلك لهما ، فإذا قضى الحاكم بذلك السبب نفذ.

وقوله : (لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

يعنى : طائفة من أموال الناس.

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢)

__________________

 ـ حديث (٢٤٥٨) ، ومسلم (٣ / ١٣٣٨) كتاب : الأقضية ، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة حديث (٤ / ١٧١٣) ، وأحمد (٦ / ٣٠٨) ، والدارقطنى (٤ / ٢٣٩) كتاب : الأقضية والأحكام حديث (١٢٦) ، والطحاوى فى شرح معانى الآثار (٤ / ١٥٤) ، والبيهقى (١٠ / ١٤٣) كتاب : آداب القاضى ، باب : من قال : ليس للقاضى أن يقضى بعلمه ، كلهم من طريق الزهرى عن عروة عن زينب عن أم سلمة به.

وللحديث طريق آخر عن أم سلمة.

أخرجه أبو داود (٤ / ١٢) كتاب : الأقضية ، باب : فى قضاء القاضى إذا أخطأ حديث (٣٥٨٤ ، ٣٥٨٥) ، وأحمد (٦ / ٣٢٠) ، وابن أبى شيبة (٧ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤) رقم (٣٠١٦) ، وابن الجارود رقم (١٠٠٠) ، وأبو يعلى (١٢ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥) رقم (٦٨٩٧) ، والطحاوى فى شرح معانى الآثار (١٥٤ ـ ١٥٥) ، وفى المشكل (١ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠).

والدارقطنى (٤ / ٢٣٨ ـ ٢٣٩) كتاب : الأقضية والأحكام ، والحاكم (٤ / ٩٥) ، والطبرانى فى الكبير (٢٣ / ٢٩٨) رقم (٦٦٣) ، والبغوى فى شرح السنة (٤ / ٣٤٩) كلهم من طريق أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع عن أم سلمة به.

وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ، ووافقه الذهبى.

٥٩

وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(١٩٥)

وقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ).

يحتمل : (يَسْئَلُونَكَ) أى : سألوك عن الأهلة.

ويحتمل : (يَسْئَلُونَكَ) [أنهم يسألونك](١) من بعد ، فإن كان على هذا ففيه دليل رسالته ؛ لأنه كان كما أخبر من السؤال له.

ثم معنى السؤال عن الأهلة ـ والله أعلم ـ هو أنهم لما رأوا الشمس تطلع دائما على حالة واحدة ، ورأوا القمر مختلف الأحوال من الزيادة والنقصان فحملهم ذلك على السؤال عن حال القمر ، فأخبر ـ عزوجل ـ أنه جعل الهلال معرفا للخلق الأوقات والآجال والمدد ومعرفة وقت الحج ؛ لأنه لو جعل معرفة ذلك بالأيام لاشتد حساب ذلك عليهم ، ولتعذر معرفة السنين والأوقات بالأيام. فجعل ـ عزوجل ـ بلطفه وبرحمته ، الأهلة ليعرفوا بذلك الأوقات والآجال ، ويعرفوا وقت الحج ، ووقت الزكاة ؛ طلبا للتخفيف والتيسير عليهم.

ثم قال : (هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) جعل الأهلة كلها وقتا للحج. ولهذا قال أصحابنا : إنه يجوز الإحرام فى الأوقات كلها ، على ما يجوز بقاء الإحرام فى الأوقات كلها.

وأما أفعال الحج : فإنها لا تجوز إلا فى وقت فعل الحج ، وهو قوله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) [البقرة : ١٩٧] ، فإنما هى على أفعال فيه ، دليله قوله : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) [البقرة : ١٩٧] ، ولا تفرض من الحج فى غير الإحرام ؛ دل أنه عنى به أفعال الحج ، وقد جاء : أنه سمى الإحرام على الانفراد حجّا ، وسمى الطواف بالبيت حجّا ، والوقوف حجّا ، وقال : «الحج عرفة» (٢) وسمى الذبح حجّا ، حيث قال : «أفضل الحج

__________________

(١) سقط فى أ.

(٢) أخرجه أبو داود (٢ / ٤٨٥ ، ٤٨٦) كتاب : المناسك (الحج) ، باب : من لم يدرك عرفة ، حديث (١٩٤٩) ، والترمذى (٣ / ٢٣٧) كتاب : ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج ، حديث (٨٨٩) ، والنسائى (٥ / ٢٥٦) كتاب : الحج ، باب : فرض الوقوف بعرفة ، وابن ماجه (٢ / ١٠٠٣) كتاب : المناسك ، باب : من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع ، حديث (٣٠١٥) ، والطيالسى (١ / ٢٢٠) كتاب : الحج والعمرة ، باب : وجوب الوقوف بعرفة وفضله ، والدعاء عن ذلك ، حديث (١٠٥٦) ، وأحمد (٤ / ٣٣٥) ، والدارمى (٢ / ٥٩) كتاب : المناسك ، باب : بما يتم الحج ، وابن ـ

٦٠