تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

أي : مجيب الدعاء.

وقوله : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ).

دل هذا أن المحراب هو موضع الصلاة (١).

(أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى).

فيه دلالة لقول أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ أن الرجل إذا حلف ألا يبشر فلانا فأرسل إليه غيره يبشره ـ حنث في يمينه (٢) ؛ لأنه هو البشير ، وإن كان المؤدي غيره ؛ ألا ترى أن البشارة ـ هاهنا ـ أضيفت إلى الله ـ تعالى ـ فكان هو البشير ؛ فكذلك هذا.

وقوله : (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ).

(بِكَلِمَةٍ) قيل : عيسى ـ عليه‌السلام ـ كان بكلمة من الله (٣) ، فيحيى صدّقه برسالته.

وقيل : أول من صدق عيسى ـ يحيى بن زكريا (٤) ، ولهذا وقع على النصارى شبهه ؛ حيث قالوا : عيسى ابن الله ، بقوله : (بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ ، وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء : ١٧١] ظنوا أنه في معنى «فيه» ؛ لكن ذلك إنما يذكر إكراما لهم وإجلالا ، ولا يوجب ذلك ما قالوا ؛ ألا ترى أن الله ـ عزوجل ـ قال : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] ونحو ذلك ، لم يكن فيه أن النعمة منه في شيء ؛ فعلى ذلك الأول (٥).

وقوله : (وَسَيِّداً) :

قيل : سيّدا في العلم والعبادة (٦).

وقيل : السيّد : الحكيم هاهنا (٧).

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٧) وعزاه إلى ابن المنذر عن السدي.

(٢) ينظر : الفتاوى الهندية للجنة من العلماء برئاسة نظام الدين البلخي (٢ / ١٠٣) ، وفتح القدير للكمال ابن الهمام (٥ / ١٤٤) ، البحر الرائق لابن نجيم (٤ / ٣٦٢) ، رد المحتار (٣ / ٧٩٢).

(٣) أخرجه الطبري (٦ / ٣٧٣) (٦٩٦١) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٢٣٥) (٤٥٩) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٨) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر. وأخرجه الطبري (٦٩٥١) عن مجاهد ، وبرقم (٦٩٦٥) عن الحسن ، وبرقم (٦٩٥٦) عن قتادة. وينظر : «الدر المنثور» (٢ / ٣٨).

(٤) أخرجه الطبري (٦٩٦٠) عن الضحاك ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(٥) وقال أبو عبيد : معنى (بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) : بكتاب من الله.

والعرب تقول : أنشدني كلمة : أي قصيدة.

ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ٢٩) ، ثم قال القرطبي معقبا : وقيل غير هذا من الأقوال ، والقول الأول أشهر ، وعليه من العلماء الأكثر.

(٦) أخرجه الطبري (٦ / ٣٧٤) (٦٩٦٦ ، ٦٩٦٧) عن قتادة.

(٧) الذي روي عن ابن عباس وغيره : حليما تقيا. أخرجه الطبري (٦ / ٣٧٦) (٦٩٧٨) ، وابن أبي حاتم ـ

٣٦١

وقيل : السيد : الذي يطيع ربه ولا يعصيه ، فكذلك كان صلوات الله عليه (١).

وقيل : السيد : الحسن الخلق (٢).

وقيل : السيّد : التقى (٣).

وقيل : اشتق يحيى من أسماء الله ـ تعالى ـ من : «حي» ، والله ـ عزوجل ـ هو الذي سمّاه يحيى ؛ وكذلك عيسى ـ روح الله ـ هو الذي سمّاه مسيحا ؛ بقوله : (يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) [آل عمران : ٤٥] وذلك إكراما لهم وإجلالا ، على ما سمى إبراهيم : خليل الله ، ومحمد : حبيب الله ، وموسى : كليم الله ؛ إكراما لهم وإجلالا ؛ فكذلك الأوّل.

وجائز أن يكون «يحيى» بما حيى به الدّين.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في قوله : (بِيَحْيى) : قيل : سمّاه به ؛ لما حيى به الدّين والمروءة ، أو حيى به العلم والحكمة ، أو حيى به الأخلاق الفاضلة ، والأفعال المرضية ؛ ولهذا ـ والله أعلم ـ سمي سيّدا ؛ لأن السؤدد (٤) في الخلق يكتسب بهذا النوع من الأحوال (٥).

وسمي مسيحا بما مسح بالبركة ، أو يبارك في كل شيء يمسحه بيده ؛ نحو أن يبرأ به ويحيى ، والله أعلم.

وحقيقة السؤدد أنه يكتسب بالأخلاق الحسنة ، والأفعال المرضية ، وجائز أن يكون ـ عليه‌السلام ـ جمعهما فيه ؛ فسمّي به ، والله أعلم.

والأصل في هذا ونحوه : أن الأسماء إن جعلت للمعارف ، ليعلم بها المقصود ـ فالكف عن التكلف في المعنى الذي له سموا له أسلم ، وإن كان في الجملة يختار ما يحسن منه في الأسماع ، دون ما يقبح على المقال ، أو على الرغبة في ذكره على ما يختار

__________________

 ـ (٢ / ٢٣٨) (٤٦٩) عن ابن عباس ، وأخرجه الطبري (٦٩٧٤) ، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (ص ـ ٦٠) عن الضحاك ، وينظر تفسير ابن أبي حاتم (٤٦٩ ـ ٤٧٦).

(١) ذكره ابن عادل في اللباب في علوم الكتاب (٥ / ١٩٨) ونسبه لسعيد بن جبير.

(٢) أخرجه الخرائطي في «مكارم الأخلاق» (ص ٦٠) عن الضحاك ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٩) وزاد نسبته إلى أحمد في «الزهد».

(٣) تقدم عن ابن عباس وغيره.

(٤) أصحاب السؤدد : هم أصحاب المجد والشرف.

ينظر : تاج العروس (٨ / ٢٢٥) (سود).

(٥) قال القاسمي : لفظ «يحيى» معرب عن يوحنا اسمه في العبرانية ، ومعنى يوحنا : نعمة الرب.

ينظر : محاسن التأويل (٤ / ٩٥).

٣٦٢

من كل شيء ، والله أعلم.

وقوله : (وَحَصُوراً) :

قيل : الحصور : الذي لا ماء له ولا شهوة (١).

وقيل : هو المأخوذ عن النساء ، والممنوع منهن (٢).

وقيل : هو الذي لا يشتهي النساء (٣).

وكله واحد (٤) ، والله أعلم.

(وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) :

ذكر أنه من الصالحين ، وإن كان كل نبي لا يكون إلّا صالحا ؛ على ما سمي كل نبي صدّيقا ، وإن كان لا يكون إلا صدّيقا ، ووجه ذكره صالحا : أنه كان يتحقق فيه ذلك ؛ لأن غيره من الخلق ، وإن كان يستحق ذلك الاسم ـ إنما يستحق بجهة ، والأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ يتحقق ذلك فيهم من الوجوه كلها.

والثاني : دعاء أن يلحق بالصالحين في الآخرة ، والله أعلم.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : ما ذكر في كل نبي أنه كان من الصالحين ـ يخرج على أوجه : على جميع الصلاح ، وعلى البشارة لهم في الآخرة أنهم يلحقون بأهل الصلاح ، وعلى أنهم منهم ؛ لو لا النبوة ؛ ليعلم أن النبوة إنما تختار في الدين لمن تم لهم وصف الصلاح ، وعلى الوصف به أنهم كذلك على ألسن الناس ، وأن الذين ردّوا عليهم ـ ردّوا

__________________

(١) أخرجه الطبري (٦ / ٣٧٩) (٦٩٩٧) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٢٤٦) (٤٩٣) عن ابن عباس بلفظ : الحصور الذي لا ينزل الماء. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٩) وزاد نسبته إلى أحمد في «الزهد» وابن المنذر. وأخرجه الطبري (٦٩٩١ ، ٦٩٩٢) وابن أبي حاتم (٤٩٤) عن الضحاك.

(٢) وهو قول ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير وأبي صالح وأحد قولي الضحاك وعكرمة ومجاهد وعطية وجابر بن زيد وآثارهم عند الطبري (٦ / ٣٧٧ ـ ٣٨٠) (٦٩٨٠ ـ ٧٠٠٠) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٢٤٣ ـ ٢٤٥) (٤٨٤ ـ ٤٩٢) ، وينظر : «الدر المنثور» (٢ / ٣٩).

(٣) هو بالمعنى السابق.

(٤) وقيل : الحصور : العنين الذي لا ذكر له يتأتى له به النكاح ولا ينزل. وقيل معناه : الحابس نفسه عن معاصي الله ، عزوجل. ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ١٥) ، وقد ساق قبل هذا تفسيرين للحصور :

الأول : لا يأتي النساء ؛ كأنه ممنوع مما يكون في الرجال. والثاني : هو الذي يكف عن النساء ولا يقربهن مع القدرة.

ثم قال : وهذا أصح الأقوال لوجهين :

أحدهما : أنه مدح وثناء عليه ، والثناء إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب.

الثاني : أن «فعولا» في اللغة من صيغ الفاعلين ... ؛ فالمعنى أنه يحصر نفسه عن الشهوات ، ولعل هذا كان شرعه ، فأما شرعنا فالنكاح كما تقدم.

٣٦٣

بعد علمهم بصلاحهم ، أو على الوصف به كالوصف بالصدّيق ، وإن كان كل نبي كذلك ؛ مع ما لعل لذلك حد عند الله ؛ لذلك (١) أراد لم يكن أطلع غيره عليه ، والله أعلم.

وجائز أن يكون «يحيى» بما حيى به الأخلاق المحمودة ، والأفعال المرضية ؛ ولذلك سمى سيدا ؛ وجملته أن لله أن يسمي من شاء بما شاء ، وليس لنا تكلف طلب المعنى ، فيما سمى الله الجواهر به ؛ إذ الأسماء للتعريف ، لكن يختار الأسماء الحسنة في السمع على التفاؤل ، والله أعلم.

وقوله : وروح الله وكلمته ـ كقوله : خليل الله وحبيبه ، وذبيح الله ، وكليم الله ، ليس على توهم معنى يزيل معنى الخلقة ، ويوجب معنى الربوبية أو النبوة ، وذلك على ما قيل : من بيوت الله ، وعلى ما قيل لدينه : نور الله ، وقيل لفرائضه : حدود الله ، لا على معنى يخرج عن جملة خلقه ؛ بل على تخصيص لذلك في الفضل على أشكاله ، وذلك كما قال لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى : ١١] ، وقال في الجملة : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] لا على ما توهمته النصارى في المسيح (٢) ، فمثله الأول ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً)(٣) :

بشارة ببقائه إلى أن يصير كهلا.

وفيه وجه آخر : وهو أن في ذلك بيان أن كلامه في المهد كلام مختار ؛ إذ ذلك وصف كلام الكهل (٤) ؛ ليعلم أن قوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم : ٣٠] إلى آخره : إنما هو حقيقة الخضوع لله ، والإنباء عنه ، لا على خلقه ؛ كنطق الجوارح في الآخرة ، والله أعلم.

أو لتكون آية له دائمة ؛ إذ لم يكن على ما عليه أمر البشر : من التغيير ، على أن آيات الجوهرية تزول عند الفناء ، نحو العصا فيما تعود إلى حالها ، واليد ، ونحو ذلك ؛ ليخص هو بنوع من الآيات الحسية بالدوام ، ولا قوة إلا بالله.

__________________

(١) في ب : ذلك.

(٢) سيأتى الكلام على مذاهب النصارى في طبيعة المسيح بأوسع من هذا في سورة المائدة ، عند قول الله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة : ٧٢].

(٣) لا أدري ما المناسبة في ذكره هذه الآية هنا ، والكلام ما زال متصلا عن يحيى وزكريا ـ عليهما‌السلام ـ وهذه الآية عن عيسى بن مريم؟! وسيذكر المصنف هذه الآية في موضعها ، وإن كان كلامه هناك أخصر مما هنا.

(٤) الكهل : الرجل إذا وخطه الشيب ، ومن الرجال : الذي جاوز الثلاثين ووخطه الشيب.

ينظر : اللسان (٥ / ٣٩٤٧) (كهل).

٣٦٤

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) الآية.

يحتمل هذا الكلام وجوها :

أحدها : على الإنكار ، أي : لا يكون ، لكن هاهنا لا يحتمل ؛ لأنه كان أعلم بالله وقدرته أن ينطق به ، أو يخطر بباله.

والثاني : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) أي : كيف وجهه وسببه ، وكذلك قوله : (أَنَّى لَكِ هذا) ، وقوله : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) [البقرة : ٢٥٩] ، (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) [البقرة : ٢٤٧] أي : كيف وجهه وما سببه.

والثالث : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) في الحال التي أنا عليها ، أو أردّ إلى الشباب ؛ فيكون لي الولد (١).

هذان الوجهان يحتملان ، وأمّا الأول : فإنه لا يحتمل.

وقوله : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ)

وذكر في سورة مريم : (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) [مريم : ٨] : ذكر على التقديم والتأخير.

[وكذلك قوله : (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) أو (ثَلاثَ لَيالٍ) [مريم : ١٠] والقصّة واحدة ؛ ذكر على التقديم والتأخير](٢) ، وعلى اختلاف الألفاظ واللّسان ؛ دل أنه ليس على الخلق حفظ اللفظ واللسان (٣) ؛ وإنما عليهم حفظ المعاني المدرجة المودعة فيها ، وبالله التوفيق ، ويعلم أنه لم يكن على كلا القولين ، ولم يكن بهذا اللّسان.

وقوله : (قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) ، وقوله : (كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) [مريم : ٩] وإن اختلف في اللّسان.

وقوله : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) :

طلب من ربّه آية ؛ لما لعله لم يعرف أن تلك البشارة بشارة الملائكة ، أو وساوس ؛ فطلب آية ليعرف أن تلك البشارة بشارة الملائكة من الله ـ عزوجل ـ لا بشارة إبليس ؛ لأنه لا يقدر أن يفتعل في الآية ؛ لأن فيها تغير الخلقة والجوهر ، وهم لا يقدرون [على](٤)

__________________

(١) وقيل : إنه سأل هل يكون له الولد من امرأته العاقر أو من غيرها؟

وقيل : المعنى : بأي منزلة استوجب هذا وأنا وامرأتي على هذه الحال؟ على وجه التواضع.

ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ٥١).

(٢) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٣) في ب : اللسان.

(٤) سقط من ب.

٣٦٥

ذلك ، ولعلهم يقدرون على الافتعال في البشارة ؛ ألا ترى أن إبراهيم ـ صلوات الله على نبيّنا وعليه ـ لما نزل به الملائكة لم يعرفهم بالكلام وهابوه ، حتى قال : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) [الحجر : ٦٢] ، حتى قالوا : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٠] ، فذهب ذلك الروع منه بعد ما أخبروه أنهم ملائكة ، رسل الله ، أرسلهم إليه.

وقوله : (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً)

قال بعض أهل التفسير (١) : حبس لسانه عقوبة له بقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) لكن ذلك خطأ ، والوجه فيه : منعه من تكليم الناس ، ولم يمنعه عن الكلام في نفسه ؛ ألا ترى أنه أمره أن يذكر ربّه ، ويسبّح بالعشى والإبكار ؛ كقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)؟!.

ويحتمل أن يكون أراه آية في نفسه من نوع ما كان سؤاله ؛ إذ كان عن العلم بالولد في غير حينه ، فأراه بمنع اللسان عن النطق ، وأعلى أحوال الاحتمال ؛ ليكون آية للأوّل.

وقيل في قوله : (اجْعَلْ لِي آيَةً) : أنه طلب آية ؛ لجهله بعلوق الولد ، وجعلها ليعرف متى يأتيها؟ (٢).

وقوله : (إِلَّا رَمْزاً) : قيل : الرّمز : هو تحريك الشفتين (٣).

وقيل : هو الإيماء بشفتيه (٤).

وقيل : هو الإشارة بالرأس (٥).

وقيل : هو الإشارة باليد (٦) ، والله أعلم بذلك (٧).

__________________

(١) ورد عن قتادة : أنه عوقب بذلك لأنه سأل الآية بعد ما شافهته الملائكة فبشرته بيحيى ، أخرجه الطبري (٦ / ٣٨٦) (٧٠٠٥ ، ٧٠٠٦) وابن أبي حاتم (٢ / ٢٥٢) (٥٠٦) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٠) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وعبد بن حميد ، وهذا القول قاله أكثر المفسرين كما في تفسير القرطبي (٤ / ٥٢).

(٢) قاله أبو مسلم ، وينظر : «اللباب في علوم الكتاب» (٥ / ٢٠٩).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٢٥٣) (٥٠٧) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤١) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه الطبري (٦ / ٣٨٩) (٧٠١١ ، ٧٠١٢) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤١) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.

(٥) أخرجه الطبري (٦ / ٣٨٩) (٧٠١٤) عن الضحاك ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤١) وعزاه للطبري.

(٦) أخرجه الطبري (٦ / ٣٨٩) (٧٠١٥) عن ابن عباس.

(٧) قال السيوطي في «الإكليل» : في الآية الحث على ذكر الله ـ تعالى ـ وهو من شعب الإيمان. قال محمد بن كعب : لو رخص الله لأحد في ترك الذكر لرخص ـ زكريا ؛ لأنه منعه من الكلام وأمره ـ

٣٦٦

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ)(٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٤٧)

وقوله : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ) :

قال أهل التفسير (١) : هو جبريل ـ عليه‌السلام ـ لكن ذلك لا يعلم إلا بالخبر ، فإن صحّ الخبر ـ فهو كذلك ، وإلا لم يقل (٢) من كان من الملائكة قال ذلك.

وقوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) : أن صفاها لعبادة نفسه ، وخصّها له ، ما لم يكن ذلك لأحد من النساء ؛ فيكون ذاك صفوتها (٣).

وقيل : اصطفاها بولادة عيسى ـ عليه‌السلام ـ إذ أخرج منها نبيّا مباركا تقيّا ، على خلاف ولادة البشر (٤).

وقوله : (وَطَهَّرَكِ) :

قيل : من الآثام والفواحش (٥).

وقيل : وطهرك من مسّ الذكور ، وما قذفت به (٦).

__________________

 ـ بالذكر. أخرجه ابن أبي حاتم.

(١) ينظر : اللباب لابن عادل (٥ / ٢١٤).

(٢) في ب : نقل.

(٣) قيل : المراد بالاصطفاء الأول أمور :

أحدها : أنه ـ تعالى ـ قبل تحريرها ـ مع كونها أنثى ـ ولم يحصل هذا لغيرها.

وثانيها : قال الحسن : إن أمها لما وضعتها ما غذتها طرفة عين ، بل ألقتها إلى زكريا ، فكان رزقها يأتيها من الجنة.

وثالثها : أنه ـ تعالى ـ فرغها لعبادته ، وكفاها أمر رزقها.

ورابعها : أنه ـ تعالى ـ أسمعها كلام الملائكة شفاها ، ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها. ينظر : «اللباب في علوم الكتاب» (٥ / ٢١٥).

(٤) ينظر : «اللباب» (٥ / ٢١٥) ، وقال السيوطي في «الإكليل» : استدل بهذه الآية من قال بنبوة مريم.

ينظر : محاسن التأويل للقاسمي (٤ / ٩٧).

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٣) عن ابن عباس وعزاه إلى إسحاق بن بشر وابن عساكر.

(٦) ينظر : «اللباب في علوم الكتاب» (٥ / ٢١٥) ، وقيل : من الكفر ، قاله مجاهد والحسن كما في تفسير القرطبي (٤ / ٥٣).

٣٦٧

(وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) :

هو ما ذكرنا من صفوتها ؛ إذ جعلها لعبادة نفسه خالصا ، أو ما قد ولدت من ولد من غير أب ، على خلاف سائر البشر.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «خطّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعة خطوط ، ثمّ قال : هل تدرون ما هذه؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : «أفضل نساء أهل الجنّة : خديجة ، وفاطمة ، ومريم ، وآسية امرأة فرعون» (١). وكذلك روى أنس ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٢).

وقوله : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) :

يحتمل وجهين :

الأمر بالقنوت : القيام ، ثم الأمر بالسجود ، أي : الصّلاة ، ثم الأمر بالركوع مع الراكعين ؛ وهو الصلاة بجماعة ؛ ففيه الأمر بالصلاة بالجماعة ، على ما هو علينا ؛ لأنه قال : (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) وعلى ذلك روي في الخبر : أنه سئل عن أفضل الصّلاة؟ فقال : «طول القنوت» (٣).

ويحتمل أنه الأمر بالركوع ، ثم بالسجود ؛ فيدل أن السجود ـ وإن كان مقدما ذكره على الركوع ـ فإنه ليس في تقديم ذكر شيء على شيء ، ولا تأخير شيء عن شيء في الذكر دلالة وجوب الحكم كذلك.

وقيل : القنوت : هو الخضوع والطاعة (٤) ؛ كقوله : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) [البقرة : ٢٣٨]

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك (٣ / ١٦٠) من حديث ابن عباس وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي.

(٢) أخرجه أحمد (٣ / ١٣٥) ، والترمذي (٣٨٧٨) ، وعبد الرزاق (٢٠٩١٩) ، وأبو يعلى (٣٠٣٩) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (١ / ٥٠) ، وابن حبان (٦٩٥١ ، ٧٠٠٣) ، والحاكم (٣ / ١٥٧) ، وأبو نعيم في الحلية (٢ / ٣٤٤) ، والبغوي في شرح السنة (٧ / ٢٣٠) من حديث أنس. وقال الترمذي : هذا حديث صحيح.

(٣) أخرجه مسلم (١ / ٥٢٠) كتاب صلاة المسافرين : باب أفضل الصلاة طول القنوت حديث (١٦٤ ، ١٦٥ ـ ٧٥٦) والترمذي (٣٨٧) ، وابن ماجه (١٤٢١) ، وأحمد (٣ / ٣٩١) ، والحميدي (١٢٧٦) ، والبيهقي (٣ / ٨) من حديث جابر. وقال الترمذي : حسن صحيح.

(٤) ورد هذا مرفوعا من حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة». أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (٢ / ٢٦١) (٥٣١) من طريق دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري به. وإسناده ضعيف ؛ لضعف هذه الرواية. وقال ابن كثير (١ / ١٦١) ورفع هذا الحديث منكر وقد يكون من كلام الصحابي أو من دونه.

٣٦٨

أي : خاضعين مطيعين (١).

فإن قيل : كيف أمرت بالركوع مع الراكعين؟! قيل : كانوا ـ والله أعلم ـ ذوى قرابة منها ورحم ؛ ألا ترى أنهم كيف اختصموا في ضمّها وإمساكها ، حتى أراد كل واحد منهم ضمها إلى نفسه ، وأنه الأحق بذلك؟! دلّ أن بينهم وبينها رحما وقرابة.

وقيل في قوله : (اقْنُتِي) : أي : أطيلي الركوع في الصّلاة (٢) والله أعلم.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : يحتمل (مَعَ الرَّاكِعِينَ) : أي : ممن يركع ويخضع له بالعبادة ، لا على الاجتماع ـ والله أعلم ـ كيف كان الأمر في ذلك؟.

وقوله : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) : أي : من أخبار الغيب لم تشهده أنت يا محمّد ولم تحضر ، بل نحن أخبرناك وذكرناك عن ذلك.

ثم في ذلك وجوه الدلالة :

أحدها : أراد أن يخبره عن صفوة هؤلاء وصنيعهم ؛ ليكون على علم من ذلك.

والثاني : دلالة إثبات رسالته ؛ لأنّه أخبر على ما كان من غير أن اختلف إلى أحد ، أو أعلمه أحد من البشر على علم منهم ذلك ؛ دل أنه إنما علم ذلك بالله عزوجل.

والثالث : أن يتأمل وجه الصفوة لهم ؛ أنهم بما نالوه ؛ فيجتهدوا في ذلك ، والله أعلم. وفي ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى أن ظهر ذلك بإلقاء الأقلام.

وقوله : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) الآية.

قيل : إنهم ألقوا أقلامهم على جرية الماء ، فذهبت الأقلام كلها مع الجرية ؛ إلا قلم زكريا ؛ فإنه وقف على وجه الماء (٣).

وقيل : طرحوا أقلامهم في الماء ، وكان من شرطهم أن من صعد قلمه عاليا (٤) مع الجرية ، فهو أحق بها ، ومن سفل قلمه مع الجرية فهو المقروع ، فصعد قلم زكريا ، وتسفلت أقلامهم ؛ فعند ذلك ضمّها زكريا إلى نفسه (٥).

__________________

(١) تقدم في سورة البقرة الآية (٢٣٨).

(٢) أخرجه الطبري (٦ / ٤٠٢) (٧٠٣٩ ، ٧٠٤٠) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٣) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٢٦٦) (٥٤٤) عن عكرمة ، وبرقم (٥٤٨).

وينظر : «الدر المنثور» (٢ / ٤٣) ، وأخرجه أيضا الطبري (٦٩٠٢ ، ٦٩٠٣) عنهما ، وينظر : الوسيط للواحدي (١ / ٤٣٦ ـ ٤٣٧).

(٤) في ب : مغالبا به.

(٥) ينظر : المصادر السابق ذكرها.

٣٦٩

ثم من الناس من احتج بجواز القرعة (١) والعمل بها ـ بهذه الآية (٢) ؛ حيث ضمّها زكريا ـ مريم ـ إلى نفسه ، لما خرجت القرعة له ؛ لكن القرعة في الأنبياء لتبيين الأحق من غيره ؛ لوجهين :

لحق الوحي.

والثاني : لظهور إعلام في نفس القرعة ؛ ما يعلم أنه كان بالله ذلك لا بنفسه ؛ كارتفاع القلم على الماء ، ومثل ذلك لا يكون للقلم ، والمحق من المبطل ، وفيما بين سائر الخلق ؛ لدفعهم التهم ؛ فهي لا تدفع أبدا.

ويحتمل استعمال القرعة فيها لتطييب الأنفس بذلك ، أو علموا ذلك بالوحي ، فليس اليوم وحي ؛ لذلك بطل الاستدلال لجواز العمل بالقرعة اليوم ، والله أعلم.

أو كان ذلك آية ، والآية لا يقاس (٣) عليها غيرها ؛ نحو : قبول قول قتيل بني إسرائيل ـ

__________________

(١) قرع يقرع : من باب قطع يقطع ، وجمع يجمع ، ومعناه : الطرق والضرب ؛ وذلك لأن إجراء القرعة كان في المعتاد يجرى بطرق السهام أو ما يشبهها وضربها ليخرج السهم الفائز منها بالقرعة ، وقد تسمى بالسهمة عند بعض الفقهاء مثل ابن رشد.

ينظر : القاموس المحيط (ص : ٦٧٤ ، ٦٧٥) (قرع) ، أساس البلاغة للزمخشري (٢ / ٢٤٥) (قرع) ، بداية المجتهد لابن رشد (٢ / ٢٦٧).

أما القرعة كدليل إثبات فقد نفاها أبو حنيفة ومالك وأخذ بها الإمام الشافعي وأحمد وابن حزم.

ينظر : فتح القدير لابن الهمام (٢ / ٥١٩) ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (٢ / ٣٤٣) ، الأم للشافعي (٥ / ٩٩) ، المهذب للشيرازي (٢ / ٣٠٨) ، كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي (٤ / ٢٢٩) ، والمحلى لابن حزم الظاهري (٥ / ٤٣٦ ـ ٤٣٧).

(٢) وواضح أن هذا الاستدلال بهذه الآية المباركة قائم على مبدأ أصولي مهم ، وهو : أن شريعة من قبلنا تعتبر شريعة لنا ما لم يرد في شريعتنا ما ينسخها ، ولم يرد عندنا في الإسلام نهي صريح صحيح عن القرعة فتبقى مشروعيتها في الشرائع السابقة قائمة لدينا. وقد أشار الله عزوجل ـ إلى هؤلاء الرسل السابقين ، فقال : ( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) [الأنعام : ٩٠] ، ولكن هذا المبدأ الأصولي لم يسلم من مخالفة بعض العلماء له وجدالهم فيه ، لكننا نجد الدليل بل الأدلة الواضحة القوية على مشروعية الاقتراع والقرعة في صحيح السنة النبوية ، بل إن الإمام البخاري قد عقد بابا خاصّا ، بعنوان : باب القرعة في المشكلات. راجع : البخاري (٥ / ٦٢٩ ـ مع فتح الباري).

(٣) القياس لغة : هو التقدير والمساواة.

واصطلاحا : إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت.

واتفق العلماء على أن القياس حجة في الأمور الدنيوية ، واختلفوا في الشرعية ، فذهب الجمهور إلى وجوب العمل بالقياس شرعا ، وذهب الشاشي من الشافعية وأبو الحسين البصري من المعتزلة إلى أن العقل قد دل على ذلك. وقال القاشاني والنهرواني : يجب العمل به في صورتين : إحداهما : أن تكون علة الأصل منصوصة إما بصريح اللفظ أو بالإيماء إليها. والثانية : أن يكون الفرع بالحكم أولى من الأصل كقياس الضرب على التأفف.

وأنكر داود الظاهري التعبد به شرعا ، وإن كان جائزا عقلا ، وذهب إلى أنه يستحيل التعبد ـ

٣٧٠

آية ، ليس به معتبر في جواز قول قتيل آخر قبل الموت.

وقوله : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ) :

يحتمل : (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) : أن قال : «كن» ـ فكان من غير أب ولا سبب ، وسائر البشر لم يكونوا إلا بالآباء والأسباب : من النطفة ، ثم من العلقة ، ثم من مضغة مخلقة على ما وصف ـ عزوجل ـ في كتابه (١) ، وكان أمر عيسى ـ عليه‌السلام ـ على خلاف ذلك.

ويحتمل (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) : ما ذكر أنه كلم الناس في المهد : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ) الآية [مريم : ٣٠]. وذلك مما خص به عيسى ، وهو بكلمة من الله قال ذلك.

فإن قيل : ما معنى قوله : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) ؛ والكهل : مما يكلم الناس؟ قيل : لأن كلامه في المهد آية ، والآية لا تدوم ؛ كقوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ) الآية [النور : ٢٤] ، وإنما يكون ذلك مرة لا أنها تشهد وتنطق أبدا ، فأخبر أن تكليمه الناس في المهد ـ وإن كانت آية ـ فإنه ليس بالذي لا يدوم ، ولا يكون إلا مرّة (٢).

والثاني : أمن من الله لمريم ، وبشارة لها عن وفاته إلى وقت كهولته ، والله أعلم.

وقوله : (اسْمُهُ الْمَسِيحُ).

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : «المسيح : المبارك» ، أي : مسح بالبركة (٣).

وقيل : سمى مسيحا ؛ لأنه كان يمسح عين الأعمى والأعور فيبصر (٤).

وقيل : المسيح : العظيم ؛ لكنّه ـ والله أعلم ـ بلسانهم ؛ فيسأل : ما المسيح بلسانهم.

وقوله : (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا) : بالمنزلة ، ومكينا في الآخرة ، (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) في الدرجة

__________________

 ـ بالقياس عقلا ، وهو رأي النظّام والشيعة.

ينظر : لسان العرب (٥ / ٣٧٩٣) (قيس) ، نهاية السول للإسنوي (٤ / ٢) ، البحر المحيط للزركشي (٥ / ٥) ، الإبهاج لابن السبكي (٣ / ٣) ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي (٤ / ٢).

(١) قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٤].

(٢) إذا كانت العادة أن من تكلم في المهد لم يعش.

ينظر : القرطبي (٤ / ٥٨). وقد نقل القرطبي قول أبي العباس : كلّمهم في المهد حين برّأ أمّه فقال : إني عبد الله الآية [مريم : ٣٠] الآية وأما كلامه وهو كهل فإذا أنزله الله تعالى من السماء أنزله على صورة ابن ثلاثين سنة ـ وهو الكهل ـ فيقول لهم : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) كما قال في المهد.

(٣) أخرجه الطبري (٦ / ٤١٤) (٧٠٦٦) عن سعيد بن جبير ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٥) وعزاه للطبري.

وينظر : تفسير البغوي (١ / ٣٠١) ، وتفسير الرازي (٨ / ٤٤).

(٤) ينظر : الوسيط (١ / ٤٣٧) ، وتفسير الرازي (٨ / ٤٩) ، والبحر المحيط (٢ / ٤٦٠) ، وغرائب النيسابوري (٣ / ١٩٨).

٣٧١

والرفعة ، ومن كان وجيها في الدنيا والآخرة فهو مقرب فيهما.

وقوله : (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) :

عرفت مريم أن الولد يكون بمسّ البشر ، وعلمت ـ أيضا ـ أنها لا تتزوج ، ولا يمسّها بشر أبدا ؛ لأنها قالت : (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) فإن لم يكن مسها أحد قبل ذلك ، فلعله يمسّها في حادث الوقت ؛ فيكون لها منه الولد ، فلما لم يقل لها يمسسك ؛ ولكن قال : (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) دل ذلك أنها علمت أنها لا تتزوج أبدا ؛ لأنها كانت محررة لله ، مخلصة له في العبادة ، والله أعلم.

ويحتمل قوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ)

أي : من أي وجه يكون لى ولد بالهبة ؛ لأنها بشرت أن يهب لها ولدا ، فقالت : من أي وجه يكون لي ولد بالهبة ، (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ)؟

ثم قال : (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) تأويله : ما ذكر في سورة مريم حيث قالت : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) الآية [مريم : ٢٠] الآية ، ثم قال : (كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) [مريم : ٢١] أي : خلق الخلق علىّ هين : بأب ، وبغير أب ، وبمسّ بشر ، وبغير مسّ (١) ، [وبسبب ، وبغير سبب ؛ على ما خلق آدم بغير أب ولا أم ؛ فعلى ذلك يخلق بتوالد بعض من بعض ، وبغير توالد بعض من بعض](٢) ؛ كخلق الليل والنهار ، يخلق بلا توالد أحدهما من الآخر ؛ فكذلك يخلق لك ولدا من غير أب ولا مسّ بشر ، وبالله الحول والقوة.

وقوله : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) :

أي : إذا قضى أمرا بتكوين أحد ، أو بتكوين ـ فإنما يقول له : كن ، لا يثقل عليه ، ولا يصعب خلق الخلق وتكوينهم ؛ كقوله : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان : ٢٨] أي : خلق الخلق كلهم ابتداء ، وبعثهم بعد الموت ـ كخلق نفس واحدة ؛ أن يقول : (كُنْ فَيَكُونُ) ؛ وإنما يثقل ذلك على الخلق ويصعب ؛ لموانع تمنعهم وأشغال تشغلهم ، فأمّا الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن أن يشغله شغل ، أو يمنعه مانع ، أو يحجب عليه حجاب.

وقوله : (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) :

ذكر ـ والله أعلم ـ هذا الحرف ؛ لأنه ليس في كلام العرب حرف أو جزء منه يعبر فيفهم معناه ، لا أن كان منه ـ عزوجل ـ كاف أو نون ، أو حرف ، أو هجاء ، أو صفة

__________________

(١) في ب : مس بشر.

(٢) ما بين المعقوفين سقط من ب.

٣٧٢

يفهم ويعرف حقيقته ، أو يوصف هو بمعنى من معاني [كلام](١) الخلق أو صفاتهم ، أو يكون لتكوينه وقت أو مدة أو حال ، أو يكون تكوين بعد تكوين ، على ما يكون من الخلق ، إنما هو أوجز حرف يفهم معناه ، بالعبارة إخبار منه ـ عزوجل ـ الخلق عن سرعة نفاذ أمره ومشيئته.

قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٥١)

وقوله : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ) : بشارة منه لها ـ أيضا ـ : أنه يعلمه الكتاب ، ثم اختلف في (الْكِتابَ) ؛ قيل : (الْكِتابَ) : الخط هاهنا يخط بيده (٢) ، ويحتمل (الْكِتابَ) : الكتاب نفسه : التوراة والإنجيل (٣) ، ويحتمل (الْكِتابَ) : كتب النبيين (٤).

(وَالْحِكْمَةَ) ؛ قيل : الحكم بين الخلق ، وقيل : الفقه ، وقيل : الحلال والحرام (٥) ، وقيل : السنة (٦).

(وَالْحِكْمَةَ) : هي الإصابة ، وقد ذكرناه فيما تقدم (٧).

وقوله : (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) : أي : [جعله رسولا إلى بنى إسرائيل](٨) ، وهذا ـ أيضا ـ بشارة لها منه ، وكان عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أوّل أمره إلى آخره آية ؛ لأنه ولد من غير أب ،

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٢٧٦) (٥٧٥) عن ابن عباس ، وينظر : تفسير اللباب (٥ / ٢٣٦) ، والوسيط (١ / ٤٣٨) ، والدر المنثور (٢ / ٤٦).

(٣) وقيل : هو كتاب غير التوراة والإنجيل علمه الله ـ عزوجل ـ عيسى ، عليه‌السلام.

ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ٦٠٠).

(٤) ينظر : المصادر السابقة.

(٥) ينظر : البحر المحيط (٢ / ٤٨٤).

(٦) أخرجه الطبري (٦ / ٤٢٣) (٧٠٨١ ، ٧٠٨٢) عن قتادة ، وينظر تفسير ابن أبي حاتم (٢ / ٢٧٨) (٥٨٣). وأخرجه الطبري (٧٠٨٣) ، عن ابن جريج ، وأخرجه ابن أبي حاتم (٥٨٠) عن الحسن وهو قول أبي مالك ومقاتل بن حيان وغيرهما وينظر تفسير ابن كثير (١ / ١٨٤) ، وقيل : تهذيب الأخلاق. ينظر : محاسن التأويل للقاسمي (٤ / ١٠٢).

(٧) تقدم في سورة البقرة ، الآية (١٢٩).

(٨) سقط من ب.

٣٧٣

على خلاف ما كان سائر البشر ، يكلم الناس في المهد ، وأقرّ بالعبودية له ، ولم يكن لأحد من البشر ذلك ، وإبراء الأكمه والأبرص (١) ، وإحياء الموتى (٢) ، وأنباء ما كانوا يأكلون ويدّخرون (٣) ، وما (٤) كان له مأوى يأوى إليه ، ولا عيش يتعيش هو به ، والبشر لا يخلو عن (٥) ذلك ، ثم ألقى شبهه على غيره ؛ فقتل به ، ورفع هو إلى السماء (٦) ؛ وذلك كله آية ، وكانت آياته كلها حسّية يعلمها كل أحد ، وآيات رسول الله ـ عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات ـ كانت حسّية وعقلية :

أمّا الحسّية : فهو انشقاق القمر (٧) ، ونبع الماء من بين أصابعه (٨) ، وكلام الشاة

__________________

(١) لم ينفرد عيسى ـ عليه‌السلام ـ بمعجزة عمن سبقه من أنبياء بني إسرائيل ، وذلك واضح في التوراة المحرّفة التي بين أيديهم : «فقام اليسع ـ عليه‌السلام ـ بشفاء الأبرص ، وإبراص الطاهر». سفر الملوك الثاني [٥] وانظر : حقيقة النصرانية من الكتب المقدسة ، على الجوهري ص (٤٠).

(٢) وكذلك أحيا اليسع ـ عليه‌السلام ـ ميتا دفن في قبره من بعد موته. انظر : سفر الملوك الثاني [١٣ ، ٢٠ ، ٢١]. حقيقة النصرانية ص (٤٤).

(٣) وكان من معجزات اليسع أيضا ـ عليه‌السلام ـ الإنباء بالغيب. انظر : سفر الملوك [٢ ـ ٧].

وحقيقة النصرانية ص (٤٣).

(٤) في ب : ولا.

(٥) في ب : من.

(٦) وسيعرض المصنف لهذا عند قول الله ـ تعالى ـ : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [آل عمران : ٥٥].

(٧) وردت قصة انشقاق القمر من حديث ابن مسعود. رواه الإمام أحمد والشيخان وابن جرير وأبو نعيم من طرق متقاربة أدخلت بعضها في بعض : أن بعض أهل مكة : قال ابن عباس ـ كما عند أبي نعيم ـ منهم الوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد المطلب ، والنضر ابن الحارث ، ونظراؤهم ، سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يريهم آية ، فقالوا : إن كنت صادقا فاشقق لنا القمر فرقتين : نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان ـ فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن فعلت تؤمنوا؟ قالوا : نعم ـ وكانت ليلة بدر ـ فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه أن يعطيه ما سألوا ، فأمسى القمر قد مثل نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينادي : اشهدوا اشهدوا ، فنظر الكفار ، ثم قاموا بأبصارهم فمسحوها ، ثم أعادوا النظر فنظروا ، ثم مسحوا أعينهم ، ثم نظروا ؛ فقالوا : سحر محمد أعيننا ، فقال بعضهم لبعض : لئن كان محمد سحرنا ما يستطيع أن يسحر الناس كلهم ، فانظروا إلى السفار فإن أخبروكم أنهم رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق ، فقد كانوا يتلقون الركبان فيخبرونهم أنهم قد رأوه فيكذبونهم ، فأنزل الله عزوجل : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر].

وانظر القصة في : مسند أحمد (١ / ٣٧٧) ، صحيح البخاري (٩ / ٦٠١) كتاب التفسير باب : قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) رقم (٤٨٦٤) ، ومسلم (٤ / ٢١٥٨) : كتاب صفات المنافقين وأحكامهم : باب انشقاق القمر ، رقم (٤٤ ـ ٢٨٠٠) ، من حديث ابن مسعود.

وراجعه كذلك في كتاب سبل الهدى والرشاد ، للإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي (٩ / ٥٩٩ ، ٦٠٠).

(٨) قال أبو العباس القرطبي : قصة نبع الماء من بين أصابع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكررت منه في عدة مواطن ، في ـ

٣٧٤

المسمومة (١) ، وقطع مسيرة شهر في ليلة (٢) ، وغير ذلك من الآيات مما يكثر عددها ؛ هذه كلها كانت حسّية (٣).

وأمّا العقلية : فهذا القرآن الذي نزل عليه ، وهو بين أظهرهم ، وهم (٤) فصحاء وبلغاء وحكماء ، يتلى عليهم : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ..). الآية [البقرة : ٢٣] ، وقوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ

__________________

 ـ مشاهد عظيمة ، ووردت عنه من طرق كثيرة ، يفيد عمومها العلم القطعى ، المستفاد من التواتر المعنوي ، ولم يسمع بمثل هذه المعجزة العظيمة من غير نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث نبع الماء من بين عظمه وعصبه ولحمه ودمه.

قال قتادة وغيره عن أنس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالزوراء ، وحانت صلاة العصر ، والتمس الناس الوضوء ، فلم يجدوا ماء ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوضوء ، فوضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده في فتحة الإناء فحين بسط يده منه ، فضم أصابعه ، فأمر الناس أن يتوضئوا منه ، فرأيت الماء ينبع من بين أصابع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتوضئوا من عند آخرهم.

قال قتادة : قلت لأنس : كم كنتم؟ قال : كنا زهاء ثلاثمائة. رواه الشيخان.

وراجع : المواهب اللدنية للقسطلاني (٥ / ١٥٢) ، سبل الهدى والرشاد (١٠ / ١٣).

(١) وأخرج قصة الشاة المسمومة البخاري «عن أبي هريرة قال : لما فتحت خيبرا أهديت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاة فيها سم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اجمعوا من كان هاهنا من اليهود ، فجمعوا له ، فقال لهم : إنى سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقى؟ قالوا : نعم ، قال : من أبوكم؟ قالوا : فلان. قال : كذبتم ، بل أبوكم فلان. قالوا : صدقت وبررت ، قال : أجعلتم في هذه الشاة سمّا؟ قالوا : نعم. قال : ما حملكم على ذلك؟ قالوا : أردنا إن كنت كاذبا استرحنا منك ، وإن كنت نبيّا لم يضرك» ، أما كلام الشاة المسمومة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أخرجه أبو داود (٤٥١٠) ، ومن طريقه البيهقي (٤ / ٢٦٢) من طريق الزهري عن جابر قال : «إن يهودية سمت شاة مصلية ثم أهدتها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذراع فأكل منه وأكل رهط من أصحابه معه ، ثم قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ارفعوا أيديكم». وأرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اليهودية فدعاها. فقال لها : «أسممت الشاة؟» فقالت : نعم ، ومن أخبرك؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخبرتني هذه في يدي : الذراع ، فقالت : نعم ...» الحديث.

وهذا منقطع ؛ لأن الزهري لم يسمع من جابر ، قاله الحافظ ابن حجر في الفتح (٨ / ٢٨٢).

ينظر : صحيح البخاري (٥ / ٥٥٠) : كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها ، باب قبول الهدية من المشركين ، رقم (٢٦١٧) ، ومسند أحمد (٢ / ٤٥١) ، (٣ / ٢١٨) ، والخصائص الكبرى للسيوطي (١ / ٤٢٥).

(٢) المراد بذلك معجزة الإسراء من البيت الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالشام. وورد ذلك في صحيح البخاري (٧ / ٦٠٠ ـ ٦٠٢) : كتاب مناقب الأنصار : باب المعراج ، رقم (٣٨٨٧) ، ومسلم (١ / ١٤٥ ـ ١٤٧) : كتاب الإيمان : باب الإسراء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السموات ، وفرض الصلوات ، رقم (٢٥٩ ـ ١٦٢) ، من حديث أنس بن مالك مطولا ، فانظره في الصحيحين.

(٣) وقد صنف العلماء كتبا في الخصائص والمعجزات منهم :

الإمام البيهقي والإمام أبو نعيم في دلائل النبوة ، وابن طولون في الخصائص ، والسيوطي في الخصائص الكبرى ، والإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي في سبل الهدى والرشاد في الجزءين التاسع والعاشر.

(٤) في ب : ومنهم.

٣٧٥

ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨] ، فلو كان بهم طاقة أو قدرة أن يأتوا بمثله ، لجهدوا كل جهد ، وتكلفوا كل تكلف ؛ حتى يطفئوا هذا النور ؛ ليتخلصوا عن قتلهم ، وسبي ذراريهم ، واستحياء نسائهم ، فلمّا لم يفعلوا ذلك ـ دلّ أنه كان آية معجزة ، عجزوا جميعا عن إتيان مثله ، فأيّ (١) آية تكون أعظم من هذا؟! وبالله المعونة والنجاة.

وقوله : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) :

أي : بعلامة أني رسول منه إليكم ، ثم فسّر الآية ، فقال : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ)

قوله : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ)

هو على المجاز ، لا على التخليق [والتكوين](٢) ؛ لأن الخلق ليس هو من فعل المخلوق ، وإنما هو من فعل الله ـ عزوجل ـ لأن التخليق : هو الإخراج من العدم إلى الوجود ، وذلك فعل الله ـ تعالى ـ لا يقدر المخلوق على ذلك ؛ فهو على المجاز ؛ ألا ترى أنه قال في آخره : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) ، وليس إلى الخلق تحليل شيء أو تحريمه ، إنما ذلك إلى الله ـ عزوجل ـ فمعناه : أنى أظهر لكم حل بعض ما حرم عليكم ؛ فعلى ذلك قوله : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أي : أظهر لكم بيدي ما خلق الله من الطين طائرا ؛ فيكون آية لرسالتي إليكم ؛ وكذلك الآيات ليس مما ينشئ (٣) الأنبياء ، ولكن تظهر على أيديهم.

وإنما لم يجز إضافة التخليق إلى الخلق ؛ لما ذكرنا : أنه إخراج الشيء من العدم إلى الوجود ، وذلك ليس إلى الخلق.

والثاني : أن التخليق هو إخراج الفعل على التقدير ، وفعل العبد إنما يخرج على تقدير الله ، لا يخرج على تقديره ؛ لذلك لم يجز إضافة ذلك إلى الخلق ، إلا على المجاز. والله أعلم.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : الخلق : اسم المجاز والحقيقة ، والتخليق : فعل حقيقة خاصّة ، وآيات الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ هي التي تخرج على خلاف الأمر المعتاد فيما بينهم ، يجريها الله ـ سبحانه وتعالى ـ على أيديهم ؛ ليعلموا أن ذلك لم يكن بهم ، إنما كان ذلك بالمرسل الذي أرسلهم ؛ ليدل على صدقهم ، ولا قوة إلا بالله.

__________________

(١) في ب : فأية.

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب : ينشئها.

٣٧٦

«وإبراء الأكمه والأبرص» هو من آيات النبوة ؛ لخروجها عن الأمر المعتاد فيما بينهم. فإن قيل : إن إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص من آيات النبوة ؛ [لعجزهم عن إتيان مثله ، وخروجه عن المعتاد فيما بينهم ، ولكن أنباء ما يأكلون وما يدّخرون لم كان من آيات النبوة](١) ، ويجوز أن يكون ذلك من منجّم (٢)؟

قيل : له جوابان ـ إن كان يكون مثل ذلك بالنجوم ـ :

أحدهما : أنه مضموم إلى الآيات ؛ فصار آية بما ضم إليها.

والثاني : أن هذا ـ وإن كان يعلم بالنجوم ـ فعيسى ـ عليه‌السلام (٣) ـ لما علم قومه أنه لم يختلف إلى أحد في تعلم علم النجوم ، ثم عرف ذلك وأنبأهم بذلك ـ دل أنه إنما علم ذلك بالله ؛ فكان آية ، وبالله التوفيق (٤).

مع ما كان في قومه أطباء وحكماء وبصراء ـ لم يدّع أحد شيئا من هذه الآيات التي جاء بها (٥) عيسى ـ عليه‌السلام ـ دل ترك اشتغالهم في ذلك على إقرارهم بأنها آية سماوية ، لكنهم تعاندوا وكابروا فلم يؤمنوا به.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : الخلق : اسم المجاز والحقيقة ، والتخليق : فعل حقيقة خاصّة.

وقوله (بِإِذْنِ اللهِ).

قيل : بأمر الله.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٢) النجم : بفتح النون في الأصل : اسم لكل واحد من كواكب السماء ، وهو بالثريا أخص ، ثم جعلت العرب مطالع منازل القمر ومساقطها ، مواقيت لحلول ديونها ، ثم غلب حتى صار عبارة عن الوقت. فمعنى منجم : مؤقت.

وجاء في الوسيط : المنجّم : من ينظر في النجوم يحسب مواقيتها وسيرها ويستطلع من ذلك أحوال الكون. ينظر : المطلع على أبواب المقنع (١ / ٣١٦) ، الوسيط (٢ / ٩٠٥).

(٣) في ب : صلوات الله عليه.

(٤) قال الطبري : قيل : إن المتنجم والمتكهن معلوم منهما عند من يخبرانه بذلك ـ أنهما ينبئان عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه ، ولم يكن ذلك كذلك من عيسى ـ صلوات الله عليه ـ ومن سائر أنبياء الله ورسله ؛ وإنما كان عيسى يخبر به عن غير استخراج ولا طلب لمعرفته باحتيال ، ولكن ابتداء بإعلام الله إياه ، من غير أصل تقدم ذلك احتذاه ، أو بنى عليه أو فزع إليه كما يفزع المتنجم إلى حسابه والمتكهن إلى رئيّه ، فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها ، وبين علم سائر المتكذبة على الله ، أو المدعية علم ذلك.

ينظر : جامع البيان (٦ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠).

إنما وحّد ، وهي آيات ؛ لأنها من جنس واحد في الدلالة على رسالته. قاله القرطبي. ينظر : تفسيره (٤ / ٦٢).

(٥) في ب : به.

٣٧٧

وقيل : بمشيئة الله.

واختلف في «الأكمه» :

عن مجاهد ، قال : «الأكمه : الذي يبصر بالنهار ، ولا يبصر بالليل» (١).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : «الأكمه : الأعمى الممسوح العين» (٢) ، وقيل : هو الذي ولد من أمّه أعمى (٣) لا يتكلف أحد [من](٤) الأطباء إبراء مثله ، ولا اشتغل بدوائه ، دل أنه عرف ذلك بالله تعالى ، والأطباء يتكلفون في دفع العلل العارضة الحادثة ، وأما ما كان خلقة من جبلّة ـ فلا.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) :

قيل : قال : إن هذا آية لكم ؛ إن كنتم صدقتم أني رسول الله إليكم.

وقيل : قال : إن في ذلك لآية لكم في رسالتي ؛ إن كنتم مؤمنين بالمرسل.

ويحتمل (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ) أي : بالآيات أنها تعرّف ما جعلن له ، والله أعلم.

وقوله : (جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ..). الآية : ما ذكر.

وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ) :

يحتمل : فاتقوا الله في تكذيبي في الآيات ، و (وَأَطِيعُونِ) في تصديقي.

وقوله : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) : ظاهر ، قد ذكرنا فيما تقدم.

قوله تعالى : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٥٣)

وقوله : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) : قيل : أحسّ : علم.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٦ / ٤٢٨) (٧٠٨٨ ، ٧٠٨٩) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٢٨٢) (٥٩٨) عن مجاهد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٧) وزاد نسبته إلى أبي عبيد والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن الأنباري في الأضداد. وقول مجاهد علقه البخاري (٦ / ٤٧١) كتاب أحاديث الأنبياء : باب «إذ قالت الملائكة يا مريم ...».

(٢) أخرجه الطبري (٦ / ٤٢٩) (٧٠٩٢) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٢٨١) (٥٩٢) من طريق الضحاك عن ابن عباس ، وعلقه البخاري (٦ / ٤٧١) كتاب أحاديث الأنبياء ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٧) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

وأخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٢٨٢) (٥٩٧) من طريق عطاء عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٧) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٣) ينظر : الأثر السابق. وينظر : أيضا الزاهر للأنباري (١ / ٣٨٠) ، مجاز القرآن لأبي عبيدة (١ / ٩٣) وفتح القدير للشوكاني (١ / ٣٤٣) ، والدر المنثور (٢ / ٥٧) والوسيط للواحدي (١ / ٤٣٩).

(٤) سقط من ب.

٣٧٨

وقيل : أحسّ : رأي ؛ وهو كقوله : (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) [مريم : ٩٨].

وقيل : أحسّ ، أي : وجد ، وهو قول الكيساني ، وقيل : عرف ؛ وهو كله واحد (١).

ثم قوله : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) :

يحتمل ـ والله أعلم ـ أن قومه لما سألوه أن يسأل ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء ؛ تكون لهم آية لرسالته وصدقه ؛ ففعل الله ـ عزوجل ـ ذلك ، وأنزل عليهم المائدة ، ثم أخبر أن من كفر منهم بعد إنزال المائدة يعذبه عذابا لا يعذبه أحدا ، فكفروا به ؛ فعلم أن العذاب ينزل عليهم ؛ فأحبّ أن يخرج بمن آمن به ؛ لئلا يأخذهم العذاب ، فقال : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) ؛ يؤيد ذلك قوله : (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ ..). الآية [الصف : ١٤].

ويحتمل أن يكونوا أظهروا الإسلام له (٢) ، وكانوا في الحقيقة على خلاف ذلك ، فلما علم ذلك منهم ، وقد همّوا على قتله ، قال عند ذلك : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) ؛ أحبّ أن يكون معه أنصار مع الله ينصرونه ؛ فيظهر المؤمنون من غيرهم ، فنصرهم الله على أعدائهم ؛ ليظهر المؤمنون من غيرهم ، وهو قوله : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) [الصف : ١٤].

ومن الناس من يقول : إنه لم يكن في سنّة عيسى ـ عليه‌السلام ـ الأمر بالقتال ، وفي الآية إشارة إلى ذلك بقوله : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) [الصف : ١٤] أخبر أنهم أصبحوا ظاهرين على عدوهم ؛ فلا يخلو إمّا أن يكون قتالا أو غلبة بحجة أو بشيء ما (٣) يقهرهم ، والله أعلم.

وقوله : (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) :

اختلف في الحواريين :

قال بعضهم : هم القصّارون الغسّالون للثياب (٤) ، ومبيّضوها (٥).

__________________

(١) تنظر هذه الأقوال في : معانى القرآن للزجاج (١ / ٤٢١) ، وللفراء (١ / ٢١٦) ، الوسيط (١ / ٤٤٠) ، وفتح القدير (١ / ٣٤٤) ، وتفسير الرازي (٨ / ٥٤) ، وتفسير القرطبي (٤ / ٦٢).

(٢) في ب : له كقوله.

(٣) في ب : مما.

(٤) ينظر : العين للخليل (٥ / ٥٩) ، والمحكم لابن سيده (٦ / ٢٣) ، ولسان العرب لابن منظور (٢ / حور).

(٥) أخرجه الطبري (٦ / ٤٥٠) (٧١٢٥) عن أبي أرطأة ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦٢) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد. وأخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٢٩١) (٦٢٦) عن الضحاك ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦٣) وعزاه إلى عبد بن حميد.

٣٧٩

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «إنّما سمّوا الحواريّين ؛ لبياض ثيابهم» ، وكانوا يصيدون السّمك (١).

وقيل : الحواري : الوزير (٢) ، والناصر (٣) ، والخاص (٤) ؛ على ما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لكلّ نبيّ حواريّين ، وحواريّي فلان وفلان» (٥) ، ذكر نفرا من الصحابة ـ [رضوان الله عليهم أجمعين](٦) ـ وإنما أراد ـ والله أعلم ـ الناصر والوزير (٧).

ويحتمل أن يكونوا سمّوا بذلك ؛ لصفاء قلوبهم ، وهم أصفياء عيسى ، [عليه‌السلام](٨). كذلك روي عن ابن عباس (٩) ـ رضي الله عنه ـ والله أعلم بهم.

وقوله : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ)

إن الله يتعالى عن أن ينصر ، ولكن يحتمل (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) ، أي : أنصار دين الله ، أو أنصار نبيه ، أو أنصار أوليائه ؛ تعظيما (١٠).

وكذلك قوله : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] : إن الله لا ينصر ؛ ولكن ينصر دينه أو رسله أو أولياؤه ؛ وهو كقوله : (يُخادِعُونَ اللهَ) [البقرة : ٩] : إن الله لا يخادع ، ولا يمكر ، ولكن لما خادعوا أولياءه أو دينه ، أضاف ذلك إلى نفسه ؛ فعلى ذلك لما نصروا دين الله ونبيّه ووليّه ، أضاف [ذلك] إلى نفسه.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٦ / ٤٤٩) (٧١٢٤) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٢٩٠) (٦٢٤) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦٢) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٢٩٣) (٦٣٠) وعبد الرزاق كما في «الدر المنثور» (٢ / ٦٣) عن قتادة.

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٢٩٢) (٦٢٨) عن سفيان بن عيينة وقد رجح هذا الوجه الحافظ ابن كثير في تفسيره (١ / ٣٦٥).

(٤) ينظر : اللباب في علوم الكتاب (٥ / ٢٦٠) ، وسموا بذلك ؛ لأنهم كانوا خاصة الأنبياء ؛ لنقاء قلوبهم ، قاله قتادة والضحاك.

ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ٦٣) ..

(٥) أخرجه البخاري كتاب الجهاد والسير : باب فضل الطليعة حديث (٢٨٤٦) ، وباب سير الرجل وحده بالليل حديث (٢٩٩٧) ، وكتاب المناقب : باب مناقب الزبير حديث (٣٧١٩) ، وكتاب المغازي : باب غزوة الخندق حديث (٤١١٣) ، وأحمد (٣ / ٣١٤) ، والترمذي (٣٧٤٤) ، والبيهقي في «الدلائل» (٣ / ٤٣١) من حديث جابر. مرفوعا «إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير».

(٦) سقط من ب.

(٧) وقيل : الحواري : هو الذي يصلح للخلافة ، وقيل : الخالص ، وقيل : الخليل.

ينظر : فتح الباري (٨ / ٤٤٥).

(٨) سقط من ب.

(٩) أخرجه الطبري (٦ / ٤٥٠) (٧١٢٧) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٢٩٣) (٦٢٩) عن الضحاك. وهو أيضا قول أبي البقاء ، وينظر : اللباب في علوم الكتاب (٥ / ٢٦١).

(١٠) ينظر : «اللباب في علوم الكتاب» (٥ / ٢٦٣) ، وتفسير الرازي (٨ / ٥٧).

٣٨٠