تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

يحتمل هذا لما جعل الله ـ تعالى ـ على العبد في كل حال نعمة ليست تلك في غيرها من الأحوال ، نحو : أن جعل القيام نعمة في قضاء حوائجه وتقلبه في تلك الحال ، وجعل القعود راحة له عند الإعياء ، وكذلك الاضطجاع ؛ فاستأداهم بالشكر له في كل نعمة على حال من تلك الأحوال ، ومدحهم على ذلك إذا فعلوا.

ويحتمل : أن يكون ـ تعالى ـ أمرهم أن يذكروه (١) في كل حال : في حال الرخاء والشدة ، وفي الضراء والسراء ، لا في حال دون حال ، على ما يفعله بعض خلقه : يذكرونه في حال الشدّة والضراء ، ولا يذكرونه في حال الرخاء واليسر ، ويذكرونه في (٢) حال الرخاء واليسر ، ولا يذكرونه في حال الشدة والبلاء ، فمدح المؤمنين أنهم يذكرونه في كل حال ، لا على ما يفعله أهل الشرك [على إرادة نفس القيام](٣) ، ونفس القعود والاضطجاع ؛ ولكن على كل حال وفي (٤) كل وقت ، والله أعلم.

وقيل : إنه جاء في رخصة صلاة المريض : يصلّي قائما إن استطاع ، وإلا فقاعدا إن لم يستطع ، وإلا فمضطجعا ، وكذلك روي عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال ذلك (٥).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

إذ في خلقهما دليل وحدانيته ، وشهادة ربوبيته.

(رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) :

أي : عبثا ، ولكنّ خلقهم دليل على وحدانيتك ، وشاهد على ربوبيتك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سُبْحانَكَ) :

هو للتبرئة ، والتنزيه : هو إبعاده عن العيب ، وتبريئه (٦) منه ، وتطهيره عما يقول الكفار ، وهو حرف يقدم عند حاجات ترفع إليه ، ودعوات يدعى بها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) :

__________________

(١) في ب : بذكره.

(٢) في ب : على.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في ب : على غير إرادة القيام.

(٤) في ب : في.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ١٩٨).

وقال الرازي : والحمل على الأول أولى ؛ لأن الآيات الكثيرة ناطقة بفضيلة الذكر. ينظر : مفاتيح الغيب (٩ / ١١١).

(٦) في ب : تبرئة.

٥٦١

قيل : أذللته وفضحته وأهنته (١).

(وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) :

أي : مانع يمنع عنهم العذاب ويدفع ، ويحتمل الأنصار : الأعوان ، أي : ليس لهم أعوان يعينونهم في الآخرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) :

يحتمل هذا وجهين :

أحدهما : على حقيقة السمع أن سمعوا مناديا يدعوهم إلى الإيمان ، وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو القرآن ، كلاهما يدعوان الخلق إلى الإيمان بالله.

ويحتمل قوله : (سَمِعْنا)، أي : عقلنا ، وعقل كلّ أحد يدعو (٢) إلى التوحيد والإيمان به.

وقيل : سمعوا دعوة الله فأجابوها ، وصبروا عليها (٣).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : المنادى : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قرأ : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ..). الآية (٤) [الأنعام : ١٩].

وعن غيره : المنادى هو القرآن (٥) ، يدعوهم (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ).

[وقوله ـ عزوجل ـ : (فَآمَنَّا رَبَّنا)

فيه دلالة أن الإيمان ليس هو جميع الطاعات ، على ما يقول بعض الناس ؛ ولكنه فرد تصديق ؛ لأنه لما قال لهم : آمنوا بربكم لم يطلبوا التفسير ، ولا قالوا : كم أشياء تكون؟! ، ولكن أجابوه إجابة موجزة ، فقالوا : (فَآمَنَّا رَبَّنا)](٦). ثم فيه دلالة أن لا ثنيّا في الإيمان ؛ لأنهم أطلقوا القول في الإخبار عن إيمانهم من غير ذكر حرف الثنيا ؛ دلّ أن

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي (٩ / ١١٥) ، واللباب في علوم الكتاب (٦ / ١١٥ ـ ١١٦).

(٢) في ب : يدعى.

(٣) قاله قتادة : أخرجه عنه الطبري (٧ / ٤٨١) (٨٣٦٥) ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٢ / ١٩٦).

(٤) وقاله ابن جريج : أخرجه عنه الطبري (٧ / ٤٨١) (٨٣٦٣) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٢ / ١٩٦) ، وقاله أيضا ابن زيد. أخرجه عنه الطبري (٧ / ٤٨١) (٨٣٦٤) ، وقاله ابن مسعود وابن عباس وأكثر المفسرين كما في اللباب (٦ / ١٢٠).

(٥) قاله محمد بن كعب القرظى : أخرجه عنه الطبري (٧ / ٤٨٠) (٨٣٦٢) ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والخطيب في «المتفق والمفترق» كما في الدر المنثور (٢ / ١٩٦) ، وأجاب من قال : إنه محمد ـ : إن من سمع القرآن فكأنما لقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا صحيح المعنى ، أفاده القرطبي في تفسيره (٤ / ٢٠٢).

(٦) ما بين المعقوفين سقط من ب.

٥٦٢

الإيمان مما لا يحتمل الثنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) :

قيل : قولهم : (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا): التي كانت فيما مضى من عمرنا ، (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) أي : اعصمنا فيما بقى من عمرنا ، أو : وفقنا للحسنات التي تكفر سيئاتنا ؛ لما قد يلزم العبد التكفير لما أساء.

وقيل : المغفرة والتكفير كلاهما سواء ؛ لأن المغفرة هي الستر ، وكذلك التكفير ؛ ولذلك سمّى الحراثون : كفارا ؛ لسترهم البذر في الأرض ؛ وكذلك الكافر سمى كافرا ؛ لستره الحق بالباطل ، ولستره جميع ما أنعم الله عليه بتوجيه الشكر إلى غيره ، والله أعلم (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) :

يحتمل قوله : (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) ، أي : توفنا واجعلنا مع الأبرار. ويحتمل : وتوفنا من الأبرار وفي الأبرار.

ثم اختلف في البرّ : قيل : هو الذي لا يؤذى أحدا (٢) ، وقيل : الأبرار : الأخيار.

ويحتمل : توفنا على ما عليه توفيت الأبرار ، وتوفنا وإنّا أبرار. والبر : الطاعة ، والتقوى : ترك المعصية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) :

قيل فيه بوجهين :

قيل : وآتنا ما وعدتنا على ألسن رسلك ، على إضمار «ألسن» كقوله ـ عزوجل ـ : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً) [الأحزاب : ٤٧]

وقيل : (ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) ، أي : ما جعلت عليهم من الاستغفار للمؤمنين (٣) ؛ كقوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [محمد : ١٩] ، وكقول إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) [إبراهيم : ٤١] ، وكقول نوح ـ عليه‌السلام ـ : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [نوح : ٢٨].

ثم بيننا وبين المعتزلة كلام في الآية : قالت المعتزلة : يجوز الدعاء والسؤال عنه بما قد أعطى ، وما عليه أن يعطي نحو ما ذكر من السؤال بما وعد ، وما وعد لا شك أنه يعطي ،

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي (٩ / ١١٧) ، واللباب في علوم الكتاب (٦ / ١٢١).

(٢) قاله الحسن : أخرجه عنه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٢ / ٢٩٩).

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي (٩ / ١٢٠).

٥٦٣

وأنه لا يخلف الميعاد ، ونحو قوله ـ عزوجل ـ : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) [الأنبياء : ١١٢] وهو لا يحكم بالجور.

وأما عندنا : أن السؤال عما عليه أن يعطي ـ يخرج مخرج الدعاء له ربنا لا تجر ولا تظلم ، إن هذا لا يقال إلا لمن يخاف الجور منه والظلم ؛ إذ يعلم أن ذلك عليه ، والسؤال عما قد أعطى محال ؛ لأنه يخرج مخرج كتمان ما أعطى ، أو ليس عنده ما يعطيهم ؛ فيخرج مخرج السخرية به ؛ لذلك بطل السؤال ، والله أعلم.

ثم تأويل الآية عندنا على وجوه :

أحدها : قوله : (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) ، يحتمل أن يكون الوعد منه لرسله باستغفار الرسل ، إذا كان من المؤمنين استغفار وسؤال ؛ كقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ..). الآية [النساء : ٦٤] : وعد لهم المغفرة لهم باستغفار الرسول ؛ إذا كان منهم (١) استغفار وسؤال ، يقول : اجعل دعائى دعاء من جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستغفرا فاستغفر له ، وكقوله ـ أيضا ـ : (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) [الفرقان : ١٦].

والثاني : يحتمل أن يكون الوعد لهم ؛ إذا ماتوا على ذلك ، فالدعاء كان منهم ، والسؤال : أنه إذا أماتهم يميتهم على الإيمان ، على ما كانوا أحياء ، والمغفرة والرحمة حينئذ تكون لهم ؛ ألا ترى أنه قال : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) [الأنعام : ١٦٠] فله كذا ، ولم يقل : من عمل بها فله كذا ، ولكن ذكر مجيئه بها ، فعلى ذلك الأوّل ، والله أعلم.

ثم يحتمل ما ذكرنا ، والله أعلم.

وفيما ذكر من تأويل الآية في الابتداء كفاية من ذلك ، والله أعلم.

والثالث : يدعو ؛ ليجعلهم من الجملة الذين كان لهم الوعد ؛ إذ الوعد غير مبيّن لمن هو ؛ فسألوا أن يجعلهم في تلك الجملة ، والله أعلم.

قوله تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ)(١٩٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ)

هذا يدل أن الوعد لهم كان مقرونا بشرط السؤال ؛ لأنه قال : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ) ،

__________________

(١) في ب : بينهم.

٥٦٤

والاستجابة تكون على أثر السؤال ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ..). الآية [البقرة : ١٨٦].

وقوله تعالى : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).

قيل : من الخلق كلهم ، لكن جعل جزاء أعمال الكفرة في الدنيا ؛ كقوله تعالى : (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) [هود : ١٥] وأمّا المؤمنون : في الدنيا والآخرة ، وأمّا الكفار فإنما يعطيهم ابتداء ليس بجزاء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ) ، أي : نردها عليهم ، وهم لا يبخسون أرزاقهم.

وقيل : قوله : (مِنْكُمْ) ـ إشارة إلى المؤمنين خاصّة ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) الآية [التوبة : ٧١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي ..). الآية : الذين هاجروا : إلى الله تعالى ورسوله طوعا ، (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) ، أي : اضطروهم حتى خرجوا من ديارهم فهاجروا ، (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) ، أي : في طاعتي ، (وَقُتِلُوا) :حتى (وَقُتِلُوا).

ويحتمل هذا كله أن هاجر بعض طوعا ، وبعض أخرجوا من ديارهم حتى هاجروا ، وقاتل بعض حتى قتلوا ، وقاتل بعض ولم يقتلوا ، وقتل بعض.

وقوله : (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ..). الآية

تأويلها ظاهر.

قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٢٠٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ* مَتاعٌ قَلِيلٌ) :

يحتمل تقلبهم وجوها.

وذلك نعمة من الله عليهم ؛ لتركهم يتّجرون في البلدان مع كفرهم بربهم.

والثاني : أعطاهم أموالا يتنعمون فيها ويتلذذون.

٥٦٥

والثالث : ما أخر عنهم العذاب والهلاك إلى وقت.

يقول : لا يغرنك يا محمد ذلك ؛ إنما هو متاع يسير ، [و] مصيرهم إلى النار ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ..). الآية [التوبة : ٥٥] ؛ وكقوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً ..). الآية [آل عمران : ١٧٨].

قال : وليس الاغترار في نفس التقلب ؛ لأنه جهد ومشقة ؛ ولكن لما فيه من الأمن والسعة والقوة ؛ دليله قوله ـ تعالى ـ : (مَتاعٌ قَلِيلٌ) ثم قال : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) ، وسعيهم للآخرة متاع لا ينقطع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ)

يعني : الشرك (١)

(لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ..). إلى آخر ما ذكر (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ).

يحتمل أن يكون الأمر ما ذكر في بعض القصّة : أن بعض المؤمنين قالوا : إن الكفار في خصب ورخاء ، ونحن في جهد وشدة ؛ فنزل : لا يغرنك تقلبهم في ذلك ؛ إنما هو متاع قليل ، وذلك ثوابهم في الدنيا ، وأما ثواب الذين اتقوا ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ... إلى آخر ما ذكر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ)

يعني : القرآن.

(وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ)

يعني : التوراة.

ثم اختلف في نزوله : قال بعضهم : نزل في شأن عبد الله بن سلام وأصحابه : أقرّوا بأنه واحد لا شريك له ، وصدقوا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أنزل عليه ... الآية (٢).

وقيل : نزل في شأن النجاشي (٣) ، وروي عن جابر بن عبد الله (٤) ـ رضي الله عنه ـ أن

__________________

(١) في ب : الشركة.

(٢) قاله مجاهد : أخرجه عنه الطبري (٧ / ٤٩٩) (٨٣٨٤) ، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٢ / ٢٠٠). وقال الطبري : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله مجاهد.

وقاله الحسن : أخرجه عنه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٢ / ٢٠٠).

(٣) النجاشي ملك الحبشة هو أصحمة الحبشي ، ملك عادل أسلم ، ولم ير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما مات نعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه ، وصلى عليه صلاة الغائب ، ويعد من الصحابة. ينظر : سير أعلام النبلاء (١ / ٤٢٨) رقم (٨٥).

(٤) جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام ، الصحابي المشهور ، روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحاديث كثيرة. مات ـ

٥٦٦

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما صلى على النجاشى قال أناس (١) من المنافقين : يصلي على حبشى مات في أرض الحبشة؟! فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ ..). الآية (٢).

وعن الحسن قال : لما مات النجاشي ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استغفروا لأخيكم» قالوا : يا رسول الله ، لذلك العلج؟! فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ ..). الآية ، وقيل : لما صلّى عليه [رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٣) ؛ قال المنافقون : صلى على من ليس من أهل دينه ؛ فأنزل الله الآية (٤).

وعن الزهري (٥) عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى على النجاشي ، فكبّر عليه أربع تكبيرات ، وصففنا في المصلّى خلفه ، وكان مات بالحبشة (٦).

قال : والنوازل على وجهين : من ترك بسببه خيرا وسعة فله فيه فضل ؛ لأنه كان مفتاح الخير ، ومن ترك بسببه ضيقا فعليه فضل لوم ؛ كأنه مفتاح الضيق.

وأمّا الأحكام : فإنه ينظر إلى ما فيه نزل فيشترك فيه الخلق ، ولا يجوز أن يقال : نزل في شأن فلان ؛ إنما أنزل لما في شأن فلان ، لا في شأنه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا)

قيل : على أداء الفرائض والعبادات ، وقيل : اصبروا على البلايا والمصائب والشدائد :

__________________

 ـ سنة ٧٨ ه‍.

ينظر : الخلاصة (١ / ١٥٦) ، سير الأعلام (٣ / ١٨٩) رقم (٣٨).

(١) في ب : ناس.

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ٤٩٦) (٨٣٧٦) وقال : ذلك خبر في إسناده نظر.

(٣) سقط من ب.

(٤) أخرجه عبد بن حميد كما في الدر المنثور (٢ / ٢٠٠) ، وأخرجه النسائي في التفسير (١ / ٣٥٦) رقم (١٠٨) ، والبزار (٨٣٢ ـ كشف الأستار) من حديث أنس. ينظر : تذكرة الحفاظ (١ / ١٠٢).

(٥) هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أحد أكابر الحفاظ والفقهاء تابعى من أهل المدينة توفي سنة ١٢٤ ه‍.

(٦) أخرجه مالك (١ / ٢٢٦) رقم (١٤) ، ومن طريقه أحمد (٢ / ٤٣٨ ، ٤٣٩) والبخاري (٣ / ٥٦٢) : كتاب الجنائز : باب التكبير على الجنازة أربعا (١٣٣٣) ، ومسلم (٢ / ٦٥٦) : كتاب الجنائز : باب في التكبير على الجنازة ، (٦٢ ـ ٩٥) ، وأبو داود (٢ / ٢٣٠) : كتاب الجنائز : باب في الصلاة على المسلم يموت في بلاد الشرك ، (٣٢٠٤) ، والنسائي (٤ / ٧٠) : كتاب الجنائز : باب الصفوف على الجنازة ، من طريق ابن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه ، وخرج بهم إلى المصلّى ، فصفّ بهم وكبّر عليه أربع تكبيرات.

٥٦٧

(وَصابِرُوا)

في الجهاد لعدوكم (١).

وقيل : اصبروا على أمر الله وفرائضه ، وصابروا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله وصحبه في المواطن (٢).

وعن الحسن قال : أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضى الله لهم ، وهو الإسلام ، ولا يدعوا دينهم ؛ لشدة ولا لرخاء ، ولا ضراء ، ولا سراء ، حتى يموتوا ، ويكونوا يصابرون الكفار ، حتى يكونوا هم يميلون عن دينهم ، وأمروا أن يرابطوا المشركين (٣).

وقيل : اصبروا على الجهاد ، وصابروا لعدوكم

(وَرابِطُوا)

أي : داوموا على دينكم (٤).

(وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) :

قال : والصبر في نفسه خاصة في طاعة يصبر عليها ، ومعصية يصبر عنها وفي بلوى ، والمصابرة مع غيره ، وقد يكون كل واحد على المعنيين ؛ لأنه لا يخلو عن مصابرة عدوّ فيما يطيع ربه.

وقيل : رابطوا مع عدوكم ما أقاموا ، واتقوا الله فيما أمركم به ، فلا تدعوا ذلك مع نبيكم ، وذروا ما نهاكم عنه (٥) ، ولا قوة إلا بالله.

* * *

__________________

(١) قاله الحسن : أخرجه عنه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٢ / ٢٠٢).

(٢) قاله سعيد بن جبير : أخرجه عنه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور.

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ٥٠١ ، ٥٠٢) (٨٣٨٦) ، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٢ / ٢٠١).

(٤) قاله زيد بن أسلم أخرجه عنه الطبري (٧ / ٥٠٣) (٨٣٩٢) ، والبيهقي في الشعب (٤ / رقم ٤٢٠٥) ، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٢ / ٢٠١).

(٥) قال بنحوه محمد بن كعب القرظي : أخرجه عنه الطبري (٧ / ٥١٠) (٨٣٩٩) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٢ / ٢٠١).

٥٦٨

فهرس المحتويات

آية ١٧٧....................................................................... ٣

من آية ١٧٨ إلى ١٧٩........................................................... ٦

من آية ١٨٠ إلى ١٨٢......................................................... ١٦

من آية ١٨٣ إلى ١٨٥......................................................... ٢٢

من آية ١٨٦ إلى ١٨٧......................................................... ٤٨

آية ١٨٨..................................................................... ٥٨

من آية ١٨٩ إلى ١٩٥......................................................... ٥٩

من آية ١٩٦ إلى ١٩٧......................................................... ٦٩

من آية ١٩٨ إلى ٢٠٣......................................................... ٩٣

من آية ٢٠٤ إلى ٢٠٧....................................................... ١٠٠

من آية ٢٠٨ إلى ٢١٢....................................................... ١٠٢

من آية ٢١٣ إلى ٢١٥....................................................... ١٠٧

من آية ٢١٦ إلى ٢١٨....................................................... ١١٢

من آية ٢١٩ إلى ٢٢٠....................................................... ١١٦

آية ٢٢١.................................................................... ١٢٢

من آية ٢٢٢ إلى ٢٢٣....................................................... ١٣٢

من آية ٢٢٤ إلى ٢٢٧....................................................... ١٣٩

من آية ٢٢٨ إلى ٢٣٠....................................................... ١٥٤

من آية ٢٣١ إلى ٢٣٢....................................................... ١٧٠

آية ٢٣٣.................................................................... ١٧٦

٥٦٩

من آية ٢٣٤ إلى ٢٣٥....................................................... ١٨٥

من آية ٢٣٦ ٢٣٧........................................................... ١٩٥

من آية ٢٣٨ إلى ٢٣٩....................................................... ٢٠٩

من آية ٢٤٠ إلى ٢٤٢....................................................... ٢١٥

من آية ٢٤٣ إلى ٢٤٥....................................................... ٢١٧

من آية ٢٤٦ إلى ٢٤٨....................................................... ٢٢٢

من آية ٢٤٩ إلى ٢٥٢....................................................... ٢٢٦

من آية ٢٥٣ إلى ٢٥٤....................................................... ٢٣٢

آية ٢٥٥.................................................................... ٢٣٤

من آية ٢٥٦ إلى ٢٥٧....................................................... ٢٣٨

من آية ٢٥٨ إلى ٢٦٠....................................................... ٢٤٤

من آية ٢٦١ إلى ٢٦٣....................................................... ٢٥٠

من آية ٢٦٤ إلى ٢٦٦....................................................... ٢٥٢

من آية ٢٦٧ إلى ٢٧١....................................................... ٢٥٩

من آية ٢٧٢ إلى ٢٧٤....................................................... ٢٦٥

من آية ٢٧٥ إلى ٢٨١....................................................... ٢٦٩

من آية ٢٨٢ إلى ٢٨٣....................................................... ٢٧٤

من آية ٢٨٤ إلى ٢٨٦....................................................... ٢٨٩

تفسير آل عمران

من آية ١ إلى ٧.............................................................. ٢٩٦

من آية ٨ إلى ٩.............................................................. ٣١٣

من آية ١٠ إلى ١١........................................................... ٣١٧

من آية ١٢ إلى ١٣........................................................... ٣١٨

من آية ١٤ إلى ١٧........................................................... ٣٢١

٥٧٠

من آية ١٨ إلى ٢٠........................................................... ٣٣٠

من آية ٢١ إلى ٢٢........................................................... ٣٣٩

من آية ٢٣ إلى ٢٥........................................................... ٣٤٣

من آية ٢٦ إلى ٢٧........................................................... ٣٤٤

من آية ٢٨ إلى ٢٩........................................................... ٣٥٠

من آية ٣٠ إلى ٣٢........................................................... ٣٥٢

من آية ٣٣ إلى ٣٧........................................................... ٣٥٤

من آية ٣٨ إلى ٤١........................................................... ٣٦٠

من آية ٤٢ إلى ٤٧........................................................... ٣٦٧

من آية ٤٨ إلى ٥١........................................................... ٣٧٣

من آية ٥٢ إلى ٥٣........................................................... ٣٧٨

من آية ٥٤ إلى ٥٧........................................................... ٣٨١

من آية ٥٨ إلى ٦٣........................................................... ٣٨٨

آية ٦٤..................................................................... ٣٩٣

من آية ٦٥ إلى ٦٨........................................................... ٣٩٤

من آية ٦٩ إلى ٧١........................................................... ٤٠٠

من آية ٧٢ إلى ٧٤........................................................... ٤٠٢

من آية ٧٥ إلى ٧٦........................................................... ٤٠٧

من آية ٧٧ إلى ٨٠........................................................... ٤١١

من آية ٨١ إلى ٨٣........................................................... ٤١٥

من آية ٨٤ إلى ٨٥........................................................... ٤١٩

من آية ٨٦ إلى ٨٩........................................................... ٤٢٠

من آية ٩٠ إلى ٩٢........................................................... ٤٢٢

من آية ٩٣ إلى ٩٤........................................................... ٤٢٥

من آية ٩٥ إلى ٩٧........................................................... ٤٢٧

٥٧١

من آية ٩٨ إلى ١٠٠......................................................... ٤٤٠

من آية ١٠١ إلى ١٠٣....................................................... ٤٤٢

من آية ١٠٤ إلى ١٠٩....................................................... ٤٤٨

من آية ١١٠ إلى ١١٢....................................................... ٤٥٤

من آية ١١٣ إلى ١١٥....................................................... ٤٥٩

من آية ١١٦ إلى ١١٧....................................................... ٤٦١

من آية ١١٨ إلى ١٢٠....................................................... ٤٦٣

من آية ١٢١ إلى ١٢٢....................................................... ٤٦٦

من آية ١٢٣ إلى ١٢٧....................................................... ٤٦٨

من آية ١٢٨ إلى ١٢٩....................................................... ٤٧٣

من آية ١٣٠ إلى ١٣٢....................................................... ٤٧٥

آية ١٣٣.................................................................... ٤٧٩

من آية ١٣٤ إلى ١٣٦....................................................... ٤٨٣

من آية ١٣٧ إلى ١٣٩....................................................... ٤٨٩

من آية ١٤٠ إلى ١٤٢....................................................... ٤٩١

من آية ١٤٣ إلى ١٤٥....................................................... ٤٩٧

من آية ١٤٦ إلى ١٤٨....................................................... ٥٠٠

من آية ١٤٩ إلى ١٥٢....................................................... ٥٠٤

من آية ١٥٣ إلى ١٥٥....................................................... ٥٠٨

من آية ١٥٦ إلى ١٥٨....................................................... ٥١٣

من آية ١٥٩ إلى ١٦٠....................................................... ٥١٤

من آية ١٦١ إلى ١٦٤....................................................... ٥١٨

من آية ١٦٥ إلى ١٦٨....................................................... ٥٢٢

من آية ١٦٩ إلى ١٧١....................................................... ٥٢٨

من آية ١٧٢ إلى ١٧٥....................................................... ٥٣١

٥٧٢

من آية ١٧٦ إلى ١٧٨....................................................... ٥٣٦

آية ١٧٩.................................................................... ٥٤٠

من آية ١٨٠ إلى ١٨٢....................................................... ٥٤٢

من آية ١٨٣ إلى ١٨٤....................................................... ٥٤٩

آية ١٨٥.................................................................... ٥٥١

من آية ١٨٦ إلى ١٨٨....................................................... ٥٥٣

آية ١٨٩.................................................................... ٥٥٦

من آية ١٩٠ إلى ١٩٤....................................................... ٥٥٩

آية ١٩٥.................................................................... ٥٦٤

من آية ١٩٦ إلى ٢٠٠....................................................... ٥٦٥

٥٧٣