تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

الآية : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى ..). الآية.

وفى الآية دليل جواز المناهدات والمؤاكلات فى الأسفار وغيرها حيث أباح لهم المخالطة بأموال اليتامى. فإذا احتمل ذلك مال الصغار من اليتامى فاحتماله فى مال الكبير أشد ؛ إذ مال الكبير يحتمل الإباحة والإذن ، ومال الصغير لا.

وفى الآية دليل جواز القليل من المعروف واليسير منه فى ملك الصغير ، واحتماله ذلك ؛ لأنه ـ جل وعزّ ـ أباح لهم المخالطة مع اليتامى على العلم فى الاستيفاء مبلغ الكبير بل يقصر عنه.

وفيه دليل أن علة الربا ليس هو الأكل ، على ما قاله بعض الناس ، ولكن هو الكيل والوزن ؛ لأنه أباح لهم المخالطة فى المأكول من الطعام والمشروب من الشراب ، على غير كيل ولا وزن ، على العلم بقصور الصغير عن الاستيفاء قدر الكبير وبلوغه مبلغه ، فلو كان علته الأكل لكان لا يبيح لهم أكل الربا ؛ فدل أن علته ليس الأكل ، ولكن هى الفضل عن الكيل أو الوزن فى الجنس.

وفيه دليل جواز بيع الثمرة بالثمرتين لخروجه عن الكيل.

وهكذا كل شىء خرج عن الكيل والوزن ، لترك للناس مكايلته وموازنته ، وإن كان كيليّا يجوز بيع واحد باثنين. والله أعلم.

وفيه دليل أن لا بأس بأن يؤدب الرجل اليتيم بما هو صلاح له. وذلك كما يؤدب ولده وأن يعلمه بما فيه الاعتياد لمحاسن الأخلاق والتوسيع ، كما أمر بالصلاة إذا بلغ سبعا ، والضرب عليها إذا بلغ عشرا اعتيادا. ألا ترى أنه روى فى الخبر : «شر الناس الذى يأكل وحده ويشرب وحده». وفى المخالطة التخلق بالأخلاق الحسنة ، وفى تركها التخلق بالأخلاق السيئة ، والاعتياد بعادة السوء.

وقوله : (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) ، فيه دليل إضمار ، وهو طلب الصلاح لهم : إما بالتولى لهم فى أموالهم والنظر لهم بما يعقب نفعا لهم ، وطلب التخلق بالأخلاق الحسنة والاعتياد بالعادة المحمودة ؛ فذلك (إصلاح) خير ، بطلبكم الصلاح لهم ، أو خير لهم بما يعود نفع ذلك إليهم. وإلا فظاهر الصلاح حسن لكل أحد ، فلا وجه لتخصيصهم به ؛ فدل أنه على طلب النفع والنظر لهم. والله أعلم.

[وقوله : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) فيه دليل الترغيب ؛ كقوله : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) [الأحزاب : ٥] ، رغبهم عزوجل بما أخبر أنهم (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) ، بطلب الصلاح والنظر والنفع لهم ، إذ

١٢١

يستوجب بعضهم قبل بعض المعونة لهم والحفظ والصلاح ، كقوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). دل قوله : (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) على أن الصغير قد يعق والديه فى أمر الدين ، ويجوز منهم التدين إذا عقلوه وإن لم يكونوا بلغوا. والله أعلم].

ثم أوعدهم عزوجل بقوله :

(وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ).

أى ـ والله أعلم ـ يعلم طالب النفع والنظر لهم من طالب الفساد والإسراف فى أموالهم.

وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ).

قيل (١) : يضيق عليكم ، ولم يأذن لكم بالمخالطة معهم.

وقيل : لأعنتكم ، فلم يرض لكم فى الخلطة.

وقيل : لأحرجكم. وهو واحد.

وأصل العنت : الإثم ، كقوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) [التوبة : ١٢٨] ، يعنى : أثمتم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

فيه وعيد لهم على ما ذكرنا. والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(٢٢١)

اختلف أهل التأويل فى تأويل هذه الآية :

فقال قائلون (٢) : الحظر على كل مشرك ومشركة ـ كتابيّا كان أو غير كتابى ـ ثم نسخ بقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [المائدة : ٥]. فالإماء على الحصر ؛ لأنه إنما استثنى الحرائر دون الإماء بقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [المائدة : ٥].

وقال آخرون : هو على المشركات خاصة دون الكتابيات ، والكتابيات مستثنيات ،

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٤٢٠٧) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٤٥٧).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٤٢١٥) ، وعن عكرمة والحسن البصرى (٤٢١٦) ، ومجاهد (٤٢١٧ ، ٤٢١٨) ، والربيع (٤٢١٩) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٤٥٨).

١٢٢

فدخلت كل كتابية ـ حرة كانت أو أمة ـ [تحت الاستثناء](١) ؛ لأن الاستثناء إذا كان عن جملة الأديان سوى دين الكتابيات لم يحتمل دخول بعض أهل ذلك الدين دون بعض ، والذى يدل عليه قوله تعالى : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) ، فجعل الأمة المؤمنة خيرا بالنكاح من المشركة ، ومن قوله إنه بالقدرة على طول الحرة الكافرة لا يباح له نكاح الأمة المؤمنة. فبان أن موقع الآية ليس على التناسخ على ما يقوله على أن الإماء يدخلن تحت قوله عزوجل : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) ، دليله قوله تعالى : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) [النساء : ٢٥]. فثبت أنهن قد يتعففن فيستوجبن اسم الإحصان ، وقد جعل شرط الحل هو ذكر الإحصان. وقوله أيضا : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) [النور : ٣٣] ، وقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النساء : ٢٤] ، مستثنيا الإماء من جملة المحصنات ؛ دل أنهن دخلن فى الخطاب. وقد أجمع على أنهن تحل لنا بالسبى ، وكل مذكور فى الكتاب يستوى الحل فيه إلا من جهة العدو. فإذا أبيح لنا تزويج المسبيات منهن كالحرائر ، ثبت أنه محكوم بحكمهن فى النكاح. فبطل قول من أبطل نكاح الإماء ؛ إذ ثبت أن الآية بخلاف ما قال. وبالله التوفيق.

ثم الآية تضمنت أحكاما :

منها : أن من قول أصحابنا ـ رحمهم‌الله تعالى أجمعين ـ : أن المناهى بحيث النهى لا توجب الحرمة.

والثانى : أن الآية كيف كان حملها على الخصوص فى بعض أحق والعموم فى بعض ومخرج الخطابين واحد.

والثالث : أن فى الآية ذكر المنع ، لعلة وهى الدعوة إلى النار ، فكيف لم يلزم حفظ ما لأجله وجب الحرمة على وجوده؟ وهذا هو الأصل : أن تحفظ الأحكام المعللة (٢) بالعلل ما دامت توجد العلل.

والرابع : البيان فى تولى النكاح ؛ إذ للأولياء خرج الخطاب بقوله : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا).

وأما قولنا فى النهى : فإن النهى يوجب الانتهاء ، ولكن لا يوجب الحرمة إلا بدليل يقوم على مراد الحرمة فى النهى ، لما رأينا من المناهى كثيرة لم توجب الحرمة ، فلو كان

__________________

(١) سقط فى أ.

(٢) فى أ : المعلقة.

١٢٣

نفس النهى موجبا ذلك لوجب أن يوجب فى كل ذلك ، فلما لم يوجب ذلك ، دل أن نفسه لا توجب الحرمة ، ولكن الدليل هو الموجب للحرمة.

وأما قولهم وسؤالهم عن الخصوص والعموم : فذلك جائز عندنا ، خروج الآية على العموم يعقل بها الخصوص. وهو كثير فى القرآن مما لا يحتاج إلى ذكره وشرحه ، ومن ذلك قوله عزوجل : (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) [المائدة : ١٢] ، عقل إيجاب تعظيم الرسل [والأنبياء والإيمان لهم على العموم ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فى حق البعض دون البعض](١) ، وكذا قوله : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) [التوبة : ١٢٠] ، فالتخلف غير موجود فى بعض الأحيان ، وإنّ حق النهى عن الرغبة عن نفسه أخذ الجميع ، فعلى ذلك هاهنا يجوز خروجه عامّا يخص بالعقول.

وأما قولهم : وجوب الحكم لعلة ، وهو الدعاء إلى النار ، فله وجهان :

أحدهما : أن الكتابى أقر بكتاب (٢) ، يقدر على إلزام الدين بالدعاء إليه ، ففيه رجاء الإسلام ، وغيرهم من أهل الشرك لا طمع [فيهم](٣) بمثله.

والثانى : أن علة الحظر قوله : (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) والزوجات لا يدعون أزواجهن إلى ذلك ، بل الأزواج هم الأصل فى الدعاء ، وهم الأمراء على الزوجات ، والزوجات بين الأتباع للأزواج والمذللات فى أيديهم ؛ لذلك أبيح.

ثم الأصل : أن النكاح جعل لأمرين : إما لإبقاء النسل ، وإما للتحصن والتعفف عن السفاح. ثم قد ينكح من لا نسل فيه ، فما بقى إلا وجه المنع عن السفاح. ثم الدعاء إلى النار أعظم من السفاح ، بهذا لم يبح النكاح.

ثم الدلالة على تخصيصها على وجهين :

أحدهما : قول الخصوم بالنسخ : أنه ورد على بعض دون بعض ، وما ذلك إلا الخصوص.

والثانى : أن ذكر ذلك فى الكتابيات لم يجر بحيث إظهار ما يحل وما يحرم ، إذ شرط نكاحهن إنما هو عند العجز عن الحرائر ، فجرى الذكر فيهن ، إذ هن الأصل فى عقود النكاح ، وأن الإماء دخيلات فى حق النكاح ، وإنما جرى الذكر فى حلهن بملك اليمين ؛

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين فى أ : والأنبياء الكل وبعضها للخاص.

(٢) فى ط : بالكتاب.

(٣) سقط فى ط.

١٢٤

لذلك ترك ذكرهن مع ما يجوز دخول الإماء فى قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [المائدة : ٥] ؛ لما أوجب لهن العفة والتحصن بقوله : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) [النساء : ٢٥] ، وبقوله : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) [النساء : ٢٥].

وأما قولهم : خاطب الأولياء فى النهى بقوله : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ) ، وخاطب الأولياء أيضا فى الأمر بإنكاح الأيامى بقوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) فدل أن الولى شرط فى جواز النكاح.

فجوابنا : أنه إنما خاطب الأولياء فى النهى عن النكاح ، وفى الأمر بالنكاح ، لما العرف فى الأمة ألّا يتولى النساء [النكاح](١) بأنفسهن ، بل الأولياء هم الذين يتولون عليهن النكاح برضائهن وأمرهن وتدبيرهن ؛ لذلك خرج الخطاب للأولياء مع ما ليس فى تخصيص [الأولياء](٢) بالخطاب دليل إخراج النساء عن ولاية النكاح. ألا ترى أنه ذكر فى الآية (الصلاح) بقوله : (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) لم يصر ذلك شرطا فى الجواز ، فعلى ذلك الأولى. وهذا يدل أيضا على أن ليس فى تخصيص المحصنات من الكتابيات حظر نكاح الإماء منهن.

والثانى : أن قوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) ، يحتمل أن يكون فى الصغار خاصة ، نهى الأولياء عن تزويج الصغار من المسلمين المشركات من غير الكتابيات. فإذا كان محتملا ما ذكرنا ، لم يكن لمخالفنا الاحتجاج به علينا فى إبطال نكاح المرأة نفسها دون وليها. والله أعلم.

وقوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ).

اختلف فى تأويله :

قال قوم (٣) : هو فى غير الكتابيات ، يبين ذلك قوله : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [المائدة : ٥] ، فنسق الكتابيات بالإحلال على ما لم يختلف فيه أحوال الحل من أول الإسلام إلى الأبد ولا من قبل ذلك نحو الطيبات من الطعام ـ من طعام المؤمنين

__________________

(١) سقط فى أ.

(٢) سقط فى ط.

(٣) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٤٢٢٠ ، ٤٢٢١ ، ٤٢٢٢) ، وعن سعيد بن جبير (٤٢٢٣) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٤٥٨).

١٢٥

وأهل الكتاب ونحو المحصنات من المؤمنات ، فمثله الكتابيات ، إذ نسق (١) نكاحهن على من ذكر. ولو كان التأويل هذا ، كانت الآية نطقت بألا تنكحوا المشركات غير الكتابيات ؛ فلا يكون فى الآية تحريم الإماء من أهل الكتاب ، ولا النهى عن ذلك ، وإنما يعرف إن كان يجوز أو لا ، بدليل آخر سوى هذه الآية.

فإن قيل : على ذلك لم لا كانت آية الإحلال فى التخصيص بذكر المحصنات دليلا على حرمة نكاح الإماء؟

قيل : يكون الجواب لأوجه :

أحدها : أن ذكر الحل فى حال لا يدل على الحرمة فى غيرها. كذلك ذكر الحل فى صنف لا يدل على حرمة فى غيره. ولو كان ذا يدل ، لكان يجىء أن يكون حكم ما لا يرد فيه السمع مخالفا لما يرد فيه. وذلك فاسد ؛ إذ السمع هو دليل الحكم فيما لا سمع فيه بالمعنى الذى ضمن فيه. والله أعلم. وأيد ذلك قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) [المائدة : ٥] ، ثم هن يحللن وإن لم يؤتين أجورهن ؛ فمثله الأول.

والثانى : أنه منسوق (٢) على مثله فى المؤمنات. ثم لم يكن ذلك فى المؤمنات على تحريم الإماء ؛ فمثله فى الكتابيات.

فإن قيل : لما بين فى إماء المؤمنات؟

قيل لهم : لم يزعم أحد أن ذلك على نسخ هذه الآية ؛ فثبت أنه ليس فى الذكر فى المحصنات تحريم الغير ؛ فكذلك فى المنسوق على ذلك مع ما لو كان فى مثل هذا الاستدلال على الحرمة ، لكان فى قوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) ؛ إذ وقع على غير الكتابيات ـ دليل على الإحلال ، فيكون ذكر الحرمة فى نوع دليل الحل فى غيره على مثل ذكر الحل فى نوع. وفى ذلك تناقض الأدلة. والله أعلم.

ووجه آخر : أن (وَالْمُحْصَناتُ) ، يحتمل أن يريد به العفائف ، وأهل الصلاح ، والإماء قد يستحققن هذا الاسم ، كقوله تعالى : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) وقوله : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) [النساء : ٢٥] وقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) [النساء : ٢٤] وإذا استحققن الاسم فهن فى الآية حتى يظهر الإخراج. والله

__________________

(١) فى ط : يسبق.

(٢) فى ط : مسوق.

١٢٦

أعلم.

وبعد ، فإنا نقول : أكثر ما فى ذلك أن يكون فى ذلك النهى عن تزوج الإماء من أهل الكتاب ، فإن النهى فى ذلك لا يدل على الحرمة ؛ لأنه معلوم المعنى الذى له يقع النهى عن نكاح الإماء ـ أنه لمكان رق الأولاد ، ولمكان مخالطة الإماء الرجال وخلوتهن بالموالى ـ وذلك مما ينفر عنه الطباع ، ثم كان (١) النساء الزانيات جميع ذلك فيهن موجود ، والنهى قائم ، وقد يلحق أولادهن أعظم الشين (٢) الذى يضعف على الرق ، ثم لم يمنع النهى جواز نكاحهن بما هو نهى نفار الطباع ، لا معنى فى ذلك له بكون الحرمة ؛ فمثله أمر الإماء. والله الموفق.

ثم دليل حلهن : أن كل امرأة حرمت لنفسها ، فسواء وجه الحل بها فى ملك اليمين والنكاح ، وكل امرأة كانت حرمتها بالحق فيختلف فيها المكان ، فإذا كانت هذه محللة بملك اليمين ثبت أنها لم تحرم لنفسها ، فهى تحل بالنكاح كما تحل بملك اليمين. على هذا الأصل أمر المجوسيات والمحارم ونحوها. والله أعلم.

وقال قوم (٣) : الآية فى جميع المشركات والكتابيات ، ثم نسخت الكتابيات بالآية التى فى سورة المائدة ، وكان النسخ بشرط الإحصان ، فبقيت الإماء على الحرمة. دليل ذلك وجهان :

أحدهما : قوله تعالى : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ) ، أنه يدخل فى ذلك الكتابى وغيره ؛ فكذا فى الأول.

والثانى : قوله تعالى : (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ..). الآية.

[والثالث](٤) : أن الكتابى مشرك فى الحقيقة ، إذ هو بما لا يغفر له ، والكتابى فى الدعاء إليها وغيره سواء ؛ فلذلك كان على ما ذكرت.

فنحن نقول فى ذلك ـ وبالله التوفيق ـ : ليس فيما ذكر دليل على ما ادعى ؛ لأنه جائز خروج آية واحدة فى أمرين يختلف موقعهما من الخصوص والعموم بالدليل [نحو قوله](٥) : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا

__________________

(١) فى ط : كانت.

(٢) فى أ : الشىء.

(٣) تقدم.

(٤) سقط فى ط.

(٥) سقط فى أ ، ط.

١٢٧

بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ..). الآية [التوبة : ١٢٠] ، أنه قد يجوز التخلف عنه لعذر ، ولا يجوز الرغبة عنه بحال ، وقال فى قوله : (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ..). الآية [المائدة : ١٢] ، أن ليس كل ذلك مما يقتضى عموم الخلق وإن كان الظاهر فى الكل بالمخرج واحد ، ثم ما ذكرت من الآية دليل الفصل.

والثانى : أنه يجوز أن تكون الآية فى غير أهل الكتاب. دليل ذلك الأمر بالمعروف من التفرقة فى التسمية ، وإن كانوا فى الشرك مجتمعين ؛ قال الله تعالى : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) [البقرة : ١٠٥] ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) [البينة : ٦] ، وغير ذلك مما قد فصل (١) الله بينهم فى النسبة وإن كانوا فى حقيقة الشرك مجتمعين ، فجائز أن تكون الآية على ذلك ، ثم حرم تزويج المسلمات من أهل الكتاب لا بهذه الآية ، لكن بغيرها من الأدلة.

ألا ترى أنا لا نترك مماليك أهل الإسلام تحت أيديهم لا بهذه الآية؟! فمثله أمر الإنكاح. والله أعلم.

ثم فى الآية دليل ذلك ، وهو قوله تعالى : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ ..). الآية ، وكل يجمع ألا يحل نكاح الأمة المؤمنة على الحرة الكتابية ، فلو كانت هى مرادة فى هذه الآية لكان نكاح من هو خير منها فى النكاح لا يحرم عليه ، حتى إن الذى يقول بهذا التأويل يحرم لطول الكتابية فضلا عن نكاحها. ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) دليل أن الإماء غير داخلات فى الخطاب ؛ لأنهن لا يدعون بل الغالب عليهن أن يتبعن ويجبن لمن هن تحتهم فيما دعين إليه ، لا أن يدعون. هذا الأمر المتعارف. والله أعلم.

ثم نقول : جعل كأن الآية نزلت فى الكتابيات ، فقال : «ولا تنكحوا الكتابيات» ، فإن الكتاب فى جميع ما جرى به الذكر فى حقوق النكاح والطلاق والأحكام تضمن خطاب الأحرار ، خاصة فيما أبهم ، وعرف أمر الحرمة فى الإماء والعبيد بالأدلة العقلية مما دلت عليه أحكام السمع ؛ فكذا هذا. والله الموفق.

وقوله : (وَلا تَنْكِحُوا) ، محمول على التحريم باتفاق الأمة وإن احتمل ما هو بهذا المخرج على غير التحريم ، على أن الله تعالى قد بين بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ

__________________

(١) فى أ : فضل.

١٢٨

الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) [الممتحنة : ١٠] ، أن النكاح قد انفسخ حيث أباح لغير الأزواج التزوج. وفى قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النساء : ٢٤] ، أنه الاستمتاع بذوات الأزواج إذا سبين ، وقال : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [الممتحنة : ١٠] ، ذكر جملة النساء ونهى الرجل (١) عن التمسك بعصمتهن. واسم الشرك اسم لفريق بالإطلاق ، واسم الكفر للجملة ، على ما قال : (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) [النساء : ١٠٢] الآية ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ ..). الآية [البينة : ٦] ، وغير ذلك مما جمع فى اسم الكفر وعرف (٢) بأسماء المذاهب ، وجعل اسم (الشرك) فى التفريق (٣). فدلت هذه الآيات على الحرمة فى قوله : (وَلا تَنْكِحُوا ..). الآية ، ويدل قوله فى آخر الآية : (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) على ذلك ، ومعلوم أن أول دعائهم إلى النكاح ، فصير ذلك سببا للنار ، وما يوجبها حرام.

ثم فيها دلالة عموم الآية فى الذكور ؛ لأنه فى تعارف الخلق : أن الرجال هم الذين يدعون ، لا النساء ، والنساء تتبعهم. وذلك المعنى فى رجال أهل الكتاب وغيرهم سواء ، فتكون الحرمة فيهم سواء. وعلى ذلك المروى من الخبر : أن رجلا أسلم وتحته ثمانى نسوة وأختان ونحو ذلك فأسلمن. دل أنهن يتبعن الرجال ، لا أنهن يدعون إلى ما يخترن من الدين. والله أعلم.

ثم الدليل على أن النهى أيضا نهى تحريم فى قوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) ، أنه لو لا خبث فيهن فى الحقيقة يوجب حرمة الاستمتاع لكان لا ينهى عن التناكح ، وذلك من أبلغ أسباب دعوتهن إلى الإسلام بما ذكرت من الفرق فى طاعتهن الأزواج فيما يختارون من الدين فى المتعارف بمن رويت فيهن الخبر ، وخاصة ذلك فى المشركات أحق فى الحل منه فى الكتابيات ؛ إذ هن إنما أخذن دينهن عن آبائهن بالاعتياد والتقليد ، ومعلوم اعتيادهن ما فيه رضاء الأزواج وإيثار ذلك على ما فيه رضاء الآباء حتى يؤثرنهم عليهم بما جعل الله بينهم مودة ورحمة. والكتابيات أخذن دينهن بما علمن أنه دين الرسل وأنهن أمرن بالتمسك به. فإذا نهوا عن نكاح المشركات وأبيحوا نكاح الكتابيات ـ

__________________

(١) فى ط : الرسل.

(٢) فى أ : وفرق.

(٣) فى ط : الطريق.

١٢٩

والإسلام فيهن بالنكاح أرجى ـ ثبت أن ذلك كان لخبث نهوا ، وقد حرم الله الخبائث. والله أعلم.

ثم الله ـ سبحانه وتعالى ـ أخبر أنه حرم الخبائث وأحل الطيبات ، فلو لا أن فيما حرم خبثا ، يحتمل الوقوف عليه ، وفيما أحل طيبا لسوى الحرمة والحل (١) له ـ كان كذلك لم يحتمل التسمية فى وصف التحريم والتحليل هو لا غير. وهذا كما وصف المؤمن بالحياة والسمع والبصر ، والكافر بضد ذلك بما فى كل معنى ذلك ، لا أنه اسم لقب دون أن يكون له حقيقة له يسمى. فمثله الذى ذكرت.

ثم كان (الخبث) يكون من وجهين :

من خبث الأحوال ، ومن خبث الأفعال ، وله سمى الكفر (رجسا) ، وكذا الخمر والميسر ، وذلك كله بخبث الأفعال. وعلى ذلك يجوز أن يكون تحريم تزويج المسلمات المشركين لخبث الفعل : وهو خوف وقوع الكفر ؛ إذ هن يتبعن الرجال فيما يؤثرون من الأفعال ويقلدونهم الدين ، فيكون التحريم لهذا الخوف ؛ إذ هو الوجه الذى عليه جرى حرمات النكاح من ذلك نحو نكاح ما كثر عددهن بقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) [النساء : ٣] ، فمنع عن الخمس ، وأكثر الخوف وقوع الجور الذى هو فى العقل خبيث ، ونكاح الأمة بعد الحرة ؛ إذ الطبع ينفر عن مناكحة من يخالط الرجال ويخلو بهم ، لا يؤمن عليه السفاح ، فما يؤثر مثلها عند الغناء بالحرة عنده عنها إلا لأمر حدث بينهما مما يبعث ذلك على الجور ، فنهوا عن ذلك. وكذلك نكاح المحارم بما قد يجرى من الأمور فى النكاح مما يحمل على تضييع الحدود وأنواع النشوز الذى يمنع ذلك القيام بحق النسب وصلته ، فيكون فى ذلك تضييع الفرض. وكذلك محارم المرأة ، وعلى هذا يجب تحريم المسلمة على الكتابى وغيره لخوف وقوع فعل الخبث بينهما ، وهو الكفر. ولم يقع النهى عن نكاح الزانية والزانى على ذلك ؛ لأنه ليس فى الطباع احتمال اتباع أحدهما الآخر فى ذلك الوجه بل ينفر عن ذلك أشد النفار ، فلا يخاف فيه هذا ، فهو على الأدب بما يلحق الولد الطعن وصاحبه يشتم به ، لا أن يلحقه وصفه موافقة ما ثم إلا لمكان الآخر يكون النهى نهى تحريم ، بل كان على الإرشاد بما يلحق من الطعن دون ما أن يحدث من تعدى حد أو جور فى الفعل. وعلى ذلك أمر نكاح الأمة. والله أعلم.

ثم وجه التفصيل بين الكتابية والمشركة ـ والله أعلم ـ فى إباحة التناكح : أن المشركة

__________________

(١) فى ب : واحلل.

١٣٠

آثرت فعل البهيمى فى الدين على فعل البشرى ، والكتابية آثرت فعل البشرى ، وهو ما يدعو إليه العقل لا الطباع ؛ لأنهن يرجعن فى الاختيار إلى الإيمان بالرسل لكن أنهى إليهن أنهم نهوا عن الإيمان بمن يدعوهن إليه ، فاعتقدن على ذلك بالآثار عندهن من الحجج ، كما اعتقدنا نحن بأن لا نبى بعد نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكن خبرنا صحيح وخبرهم فاسد. وإلا فوجه الاعتقاد على ما فى العقل ذلك. وأما المشركة لم تختر ذلك بحجة أنما كان لوجود الآباء على ذلك من غير الإنهاء إلى من فى العقل اتباعه ؛ كما قالوا : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ ...) الآية [الزخرف : ٢٢] ، فحرم علينا نكاحها لخبث اختيارها (١) واتباع فعل البهيمى ، وإيثاره على فعل البشرى. والله أعلم.

وعلى ذلك لو أسلمت لم يعظم درجة إسلامها ، لو لا أنا نرجو من رحمة الله أن الله ـ إذا قبلت هى الإسلام ـ بالاختيار لينير قلبها حتى ينشرح صدرها للحق لكان لا يكون لإسلامها فضل حمد (٢). والله الموفق.

ووجه آخر : أن الكتابية لما آمنت بكتب الأنبياء ، عليهم الصلوات والسلام ، فى الجملة ، فقد آمنت بذلك بالرسل جميعا ، لكنها كذبت [ـ من كذبت ـ](٣) لما وقع الخبر عندها بخلاف الحقيقة ، فأمكن أن تنبه عن حقيقة ذلك بالكتاب الذى آمنت به ؛ ليكون إيمانها فى الحقيقة إيمانا بمن كذبته بما ظنت أن فى ذلك الكتاب تصديقا. والمشركة احتيج فيها إلى ابتداء الإلزام ، لا أن كان معها ما به اللزوم مما قد وجد إيمانها به. والله أعلم. وعلى هذا لا يسلم للمرتد حق الكتاب إذا اختاره ؛ لأنا نعلم أنه يظهر ذلك ، لا أنه فى الحقيقة مختار ؛ إذ كتابنا مصدق كتابهم ، فلم يجز أن تظهر له بما به التصديق التكذيب ليرجع إلى رد هذا بقبول الآخر. فلذلك لم تحل ذبائحهم. والله أعلم.

ودليل النهى عن النكاح والإنكاح حتى يكون الإيمان ، [أن الإيمان](٤) معروف عندهم ، يعلمون به حقيقة الشرط. والله أعلم.

ومخاطبات الأولياء فى قوله : (وَلا تَنْكِحُوا) ، يخرج على الأمر المعروف من التولى ، أو على الوقت الذى إليهم حق التولية ، أو على أن الحق لهن عليهم فى التزويج إذا أردن ، فنهوا عن ذلك ؛ ليعلم أن لا حق يجب لهم فى ذلك. والله أعلم (٥).

__________________

(١) فى أ ، ط : اختيار.

(٢) فى ب : جهد.

(٣) سقط فى أ.

(٤) سقط فى أ.

(٥) فى أ : والله الموفق.

١٣١

وقوله : (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) ، يحتمل وجهين :

أحدهما : الخبر عما يدعو بعضهم بعضا إلى عبادة غير الله ، وذلك دعاء إلى النار ، كما قال الله تعالى : (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [فاطر : ٦] ، بما يوجب الفعل الذى دعوا إليه ذلك فكأنما دعوا إلى ذلك ، إذ هو المقصود من الثانى. وعلى ذلك تسمية الجزاء باسم العمل الذى له الجزاء. والله أعلم.

ويحتمل : (يَدْعُونَ) فى التناكح للهو واستكثار الأتباع فى معاداة الله تعالى ومعاداة أوليائه بالتناكح ، والله يدعو الى التعفف واستكثار الأتباع على ما ينال به مغفرته ورحمته. والله أعلم.

وقوله : (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) يعنى : يدعون إلى العمل الذى يستوجب به النار.

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) ، يعنى يدعو إلى العمل الذى يوجب لهم الجنة والمغفرة والله أعلم ، وقوله : (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(٢٢٣)

وقوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ).

دل جوابه على أن السؤال كان عن قربان النساء فى الحيض (١) ، أو كان عن موضع

__________________

(١) الحيض لغة مصدر حاض ، يقال : حاض السيل ، إذا فاض ، وحاضت السمرة : إذا سال صمغها ، وحاضت المرأة : سال دمها. والمرة حيضة ، والجمع : حيض ، والقياس : حيضات. والحياض : دم الحيضة. والحيضة بالكسر : الاسم ، وخرقة الحيض ، هى الخرقة التى تستثفر بها المرأة. وكذلك المحيضة ، والجمع : المحايض. وفى حديث بئر بضاعة : «تلقى فيها المحايض». والمرأة : حائض ؛ لأنه وصف خاص. وجاء (حائضة) أيضا ؛ بناء له على حاضت ، وجمع الحائض : حيّض وحوائض ، وجمع الحائضة : حائضات. وتحيضت المرأة : قعدت عن الصلاة أيام حيضها.

وللحيض فى الاصطلاح تعريفات كثيرة ، وهى متقاربة فى الغالب : فقد عرفه صاحب «الكنز» من الحنفية بقوله : هو دم ينفضه رحم امرأة سليمة عن داء وصغر. وقال ابن عرفة من المالكية : الحيض : دم يلقيه رحم معتاد حملها دون ولادة. وعرفه الشافعية بأنه : دم جبلّة يخرج من أقصى رحم المرأة بعد بلوغها على سبيل الصحة من غير سبب فى أوقات معلومة. وعرفه الحنابلة بأنه : دم طبيعة يخرج مع الصحة من غير سبب ولادة من قعر الرحم يعتاد أنثى إذا بلغت فى أوقات معلومة. وللحيض أسماء منها : الطمث ، والعراك ، والنفاس. ـ

١٣٢

الحيض. فأخبر ـ عزوجل ـ أنه (أَذىً). والعرب تفعل ذلك ـ ربما أن تفهم من الجواب مراد السؤال ، وربما تبين المراد فى السؤال ـ وإذا جاز أن يتبع غير وقت الأذى وقت الأذى بالاتصال [ومن بعد انقطاع الدم قبل أن تغتسل يجوز أن تتبع غير مكان الأذى مكان الأذى بالاتصال](١) ، والله أعلم ، ولا يحتمل أن يكون الأمر بالاعتزال يقع على اعتزال الأبدان والأشخاص بالاتفاق ؛ إذ كل يجمع أن له أن يمسها باليد وأن يقبلها وغير ذلك ، إلا أنهم اختلفوا فى موضع الاستمتاع :

قال أبو حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ : يستمتع بها ما فوق السرة وما تحت الركبة ، ويجتنب غير ذلك (٢).

وقال محمد ـ رضى الله تعالى عنه ـ : يجتنب شعار الدم ، على ما جاء عن عائشة ، رضى الله تعالى عنها ، أنها قالت : «يتقى شعار الدم ، وله ما سوى ذلك». ثم دل هذا

__________________

 ـ ينظر : لسان العرب والقاموس المحيط (حيض) ، حاشية ابن عابدين (١ / ١٨٨) ، حاشية الدسوقى (١ / ١٦٨) ، مغنى المحتاج (١ / ١٠٨).

(١) سقط فى ط.

(٢) اتفق الفقهاء على حرمة وطء الحائض فى الفرج ؛ لقوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) ولقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اصنعوا كل شىء إلا النكاح» ، وحكى النووى الإجماع على ذلك ، واستثنى الحنابلة من به شبق لا تندفع شهوته بدون الوطء فى الفرج ، ويخاف تشقّق أنثييه إن لم يطأ ، ولا يجد غير الحائض ، بألا يقدر على مهر امرأة أخرى. واختلف الفقهاء فى الاستمتاع بما بين السرة والركبة ؛ فذهب جمهور الفقهاء ـ الحنفية والمالكية والشافعية ـ إلى حرمة الاستمتاع بما بين السرة والركبة ، لحديث عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : «كانت إحدانا إذا كانت حائضا فأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يباشرها أمرها أن تتزر ثم يباشرها. قالت : وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يملك إربه؟!» ، وعن ميمونة ـ رضى الله عنها ـ نحوه ، وفى رواية : «كان يباشر المرأة من نسائه وهى حائض إذا كان عليها إزار» ، ولأن ما بين السرة والركبة حريم للفرج ، ومن يرعى حول الحمى يوشك أن يخالط الحمى. وقد أجاز الحنفية والشافعية الاستمتاع بما بين السرة والركبة ، من وراء حائل. ومنعه المالكية. كما منع الحنفية النظر إلى ما تحت الإزار ، وصرح المالكية والشافعية بجوازه ولو بشهوة. ونص الحنفية على عدم جواز الاستمتاع بالركبة ، لاستدلالهم بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما دون الإزار» ، ومحله العورة التى يدخل فيها الركبة. وأجاز المالكية والشافعية الاستمتاع بالسرة والركبة. وقد ذكر الحنفية والشافعية حكم مباشرة الحائض لزوجها ، وقرروا أنه يحرم عليها مباشرتها له بشيء مما بين سرتها وركبتها فى جميع بدنه. وذهب الحنابلة إلى جواز الاستمتاع من الحائض بما دون الفرج ، فله أن يستمتع بما بين السرة والركبة ، وهذا من مفردات المذهب. ويستحب له حينئذ ستر الفرج عند المباشرة ، ولا يجب على الصحيح من المذهب ، قال فى (النكت) : وظاهر كلام إمامنا وأصحابنا : أنه لا فرق بين أن يأمن على نفسه مواقعة المحظور أو يخاف ، وصوب المرداوى أنه إذا لم يأمن على نفسه من ذلك حرم عليه ؛ لئلا يكون طريقا إلى مواقعة المحظور.

ينظر : حاشية ابن عابدين (١ / ١٩٥) ، حاشية الدسوقى (١ / ١٧٣) ، مغنى المحتاج (١ / ١١٠) ، المجموع (٢ / ٣٦٨).

١٣٣

الخبر على أن النهى فى الموضع الذى فيه الأذى. دليله : أول الآية : (قُلْ هُوَ أَذىً).

وحجة أبى حنفية ، رضى الله تعالى عنه ، ما روى أنه قال : لها ما تحت السرة ، وله ما فوقها ، وما روى أن أزواج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حضن أمرهن أن يتزرن ثم يضاجعهن (١).

وأما محمد ، رحمه‌الله تعالى ، فإنه ذهب إلى ما ذكرنا : أنه ينهى عن قربان ذلك الموضع للأذى ، وأما الموضع الذى لا أذى فيه فلا بأس. ويجوز أن ينهى عن قربان هذه الأعضاء من نحو الفخذ وغيرها ؛ لاتصالها بالموضع الذى فيه الأذى.

ويحتمل أن يكون ذكر الإزار كناية عن الموضع الذى فيه الأذى ؛ وعلى ذلك روى عن عائشة ، رضى الله تعالى عنها ، أنها سئلت : عما يحل للرجل من امرأته وهى حائض؟ فقالت : «يحل له كل شىء إلا النكاح» (٢). وسئلت : عما يحل للمحرم من امرأته؟ فقالت : لا يحل له شىء إلا الكلام.

وقوله : (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) أى : لا تجامعوهن.

(حَتَّى يَطْهُرْنَ) فيه لغتان :

فى حرف بعضهم (يَطْهُرْنَ) بضم الهاء وتخفيفها (٣) ، وفى حرف آخرين بتشديد الهاء وفتحها :

فمن قرأ بالتخفيف فهو عبارة عن انقطاع الدم ، ومن قرأ بالتشديد فإنه عبارة عن حل قربانها بعد الاغتسال.

ثم من قول أصحابنا ـ رحمهم‌الله تعالى ـ : إن المرأة إذا كانت أيامها عشرا تحل لزوجها أن يقربها قبل أن تغتسل (٤) ، وإذا كانت أيامها دون العشر لم يحل له أن يقربها إلا

__________________

(١) فى الباب عن عائشة وميمونة.

حديث عائشة :

أخرجه البخارى (١ / ٥٣٦) كتاب الحيض ، باب مباشرة الحائض (٢٩٩ ، ٣٠٠ ، ٣٠١ ، ٣٠٢) ، ومسلم (١ / ٢٤٢) ، كتاب الحيض ، باب مباشرة الحائض (١ / ٢٩٣).

حديث ميمونة :

أخرجه البخارى (٣٠٣) ، ومسلم (٣ / ٢٩٤) فى الكتاب والباب السابق.

(٢) أخرجه ابن جرير من (٤٢٤٥) إلى (٤٢٥١) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٤٦٣).

(٣) ينظر : اللباب (٤ / ٧٤) ، وشرح الطيبة (٤ / ٩٩) ، والعنوان (٧٤) ، وإتحاف الفضلاء (١ / ٤٣٨).

(٤) ذهب جمهور الفقهاء ـ المالكية والشافعية والحنابلة ـ إلى أنه لا يحل وطء الحائض حتى تطهر ـ بانقطاع الدم ـ وتغتسل. فلا يباح وطؤها قبل الغسل ، قالوا : لأن الله تعالى شرط لحل الوطء شرطين : انقطاع الدم ، والغسل ، فقال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) أى : ينقطع دمهن (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) أى : اغتسلن بالماء (فَأْتُوهُنَّ). وقد صرح المالكية بأنه لا يكفى التيمم لعذر بعد انقطاع الدم فى حل الوطء ؛ فلا بد من الغسل حتى يحل وطؤها. وفرق الحنفية بين أن ينقطع الدم لأكثر مدة ـ

١٣٤

بعد الاغتسال.

ويحتمل : أن تكون الآية فيما كانت أيامها دون العشر فى اللغتين ؛ إذ الغالب كان على أن الحيض لا يحيط بكل وقت ، على ما روى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لحمنة بنت جحش : «تحيّضى فى علم الله من الشهر ستا أو سبعا» (١). فعلى ذلك أنه إنما يحل قربانها بالاغتسال.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله تعالى ـ فى قوله : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) : إنه على ما دون العشر من المدة [بما](٢) الغالب كان على ألا يمتد إلى أكثر الوقت ولا يقصر عن الأقل ، على ما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال فى النساء : «هن ناقصات عقل ودين» (٣).

ووصف نقصان دينهن : أن تحيض إحداهن فى الشهر ستّا أو سبعا ، ووصفهن جملة بنقصان دينهن ، ثم ذكر ما بين فى التفسير عن الجملة ، ثبت أن ذلك كان الغالب فى الجملة حتى خرج عليه الجواب أنه لا يمتد إلى الأكثر ولا يقصر (٤) عن الأقل. والله أعلم.

وأيد هذا ما أخبر عن ابتداء الآية أنه الأذى ، وأمر بالاعتزال ، ثم جعل لها بعد الانقطاع قبل الاغتسال حكم الأذى ؛ فلم يجز أن يجعل الحكم لما ليس بحقيقة حكم الأذى ، فيجعل للطهر الذى هو ضده ذلك الحكم ، والله أعلم ، وبما [أنه] ليس لذلك حكم الأذى

__________________

 ـ الحيض وبين أن ينقطع لأقله ، وكذا بين أن ينقطع لتمام عادتها وبين أن ينقطع قبل عادتها : فذهبوا إلى أنه إذا انقطع الدم على أكثر المدة فى الحيض ولو حكما بأن زاد على أكثر المدة ، فإنه يجوز وطؤها بدون غسل ، لكن يستحب تأخير الوطء لما بعد الغسل. وإن انقطع دمها قبل أكثر مدة الحيض أو لتمام العادة فى المعتادة بأن لم ينقص عن العادة ، فإنه لا يجوز وطؤها حتى تغتسل أو تتيمم ، أو أن تصير الصلاة دينا فى ذمتها ، وذلك بأن يبقى من الوقت بعد الانقطاع مقدار الغسل والتّحريمة فإنه يحكم بطهارتها بمضى ذلك الوقت ، ولزوجها وطؤها بعده ولو قبل الغسل. وإذا انقطع الدم قبل العادة وفوق الثلاث ، فإنه لا يجوز وطؤها حتى تمضى عادتها وإن اغتسلت ؛ لأن العود فى العادة غالب ، فكان الاحتياط فى الاجتناب ، فلو كان حيضها المعتاد لها عشرة فحاضت ثلاثة وطهرت ستة لا يحل وطؤها ما لم تمض العادة.

ينظر : حاشية ابن عابدين (١ / ١٩٥) ، حاشية الدسوقى (١ / ١٧٣) ، مغنى المحتاج (١ / ١١٠) ، المجموع (٢ / ٣٦٨) ، كشاف القناع (١ / ١٩٩).

(١) أخرجه أبو داود (١ / ٧٦ ـ ٧٧) كتاب الطهارة ، باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة (٢٨٧) ، والترمذى (١ / ٢٢١ ـ ٢٢٢) كتاب الطهارة ، باب المستحاضة تجمع بين الصلاتين بغسل واحد (١٢٨) ، وابن ماجه (١ / ٢٠٣) كتاب الطهارة باب ما جاء فى المستحاضة التى قد عدت أيام أقرائها (٦٢٢).

(٢) سقط فى أ ، ط.

(٣) أخرجه البخارى (١ / ٥٣٩) كتاب الحيض ، باب ترك الحائض الصوم (٣٠٤) ، ومسلم (١ / ٨٧) ، كتاب الإيمان ، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات (٨٠) عن أبى سعيد الخدرى.

(٤) فى أ : يقتصر.

١٣٥

فى العشر إن كان الوقت يضيق عنه فى رفع الصلاة ، فكذا فى أمر القربان. والله أعلم.

وعلى ما ذكرت من العرف ينصرف أمر الوقت : أنها لو أخرت الاغتسال عن وقت الصلاة فإن (١) للزوج أن يقربها بما لزمها من قضاء الصلاة ، وهذا النوع من الأذى لا يمنع لزوم القضاء. وحصل الخطاب على الوقت بالعرف أنهن لا يتأخرن ، وبما ذكرت عن لزوم القضاء الذى يمنعه حكم الأذى ، وبذلك صار غسل الحيض كغسل غيره من الأحداث ، وهو لا يمنع القربان. والله أعلم.

وحرم إتيان الأدبار (٢) ، بما عليه اتفاق الآثار ، وبما خص المكان بالأمر بالقربان ، وبما أمر بالاعتزال للحيض ، ولو كان يحل غشيانهن فى الأدبار لم يكن للأمر بالاعتزال معنى ؛ إذ قد بقى أحد الموضعين من المقصود بالغشيان لو احتمل. والله أعلم.

والأصل فى ذلك : أن الحل فى الابتداء لم يتعلق بقضاء الشهوات ، ولا كان هذا لها ، وإنما القضاء للشهوات خاصة الجنة ، فأما الدنيا فإنما جعلت لقضاء الحاجات ؛ إذ بها يكون بقاء النسل والأبدان ، وبها يكون قوام الأبدان ودوام الحياة إلى انقضاء الأعمار ، وركبت فيهم الشهوات لتبعثهم على قضاء تلك الحاجات ؛ إذ لو لا الشهوات لكان كل أمر من ذلك على الطباع يكون كالأدوية الكريهة والمحنة الشديدة ، فخلق الله تعالى فيهم الشهوات ليدوم ما به جرى تدبيره فى أمر العالم ، ولا تتعلق الحاجات بإتيان الأدبار. ولو أحلت لكان الحل لحق الشهوة خاصة ، والدنيا لم تخلق لها ؛ فلذلك لم تجعل بها حل مع ما لو كان يحتمل ذلك لاحتمل التناكح فى نوع ؛ فإذا لم يحتمل بان أن ذلك إنما جعل للنسل. والله الموفق.

وقال بشر : إذ حرم الغشيان للحيض بما هو أذى ، وهو يكون على ما يتقذر ، فالذى مجراه الدبر والذى منه يخرج من الأذى أوحش وأخبث ، وذلك قائم فى كل الأوقات ، كقيام الحيض فى أوقاته ، فالحرمة لذلك أشد ، ذكر بوجه ، أمكن أن يبسط ما قال على الذى وصفته. والله أعلم.

وقوله : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ).

قيل فيه بوجوه :

__________________

(١) فى أ : كان.

(٢) اتفق الفقهاء على تحريم الإتيان فى دبر الرجال ، وهو ما يسمى باللواط ، وقد ذمه الله تعالى فى كتابه المجيد ، وعاب من فعله ، فقال : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ* إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ). وقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعن الله من عمل عمل قوم لوط» ثلاثا.

١٣٦

قيل (١) : معنى قوله : (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) : لا تأتوهن صائمات ، ولا معتكفات ، ولا مصليات.

ويحتمل : لا تأتوهن حيّضا ، ولكن (فَأْتُوهُنَ) طهرا.

وقيل (٢) : (فَأْتُوهُنَ) فى الموضع الذى أباح لكم إتيانها ، وهو القبل ، ولا تأتوهن فى أدبارهن.

ويشبه ـ إذ «حيث» يعبر به عن المكان ـ أن يكون (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) أن تبتغوا الولد ، بقوله : (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ).

وقوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) من الذنوب.

(وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).

من الأحداث والأذى.

والثانى : ممن فعل هذا قبل النزول (الْمُتَطَهِّرِينَ) أنفسهم بالتكفير ، والتواب هو الرجاع عما ارتكب ، والتارك عن العود إلى ذلك ، غير مصر على الذنب.

ويحتمل : التواب : الذى لا يرتكب الذنب.

وقوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ).

الحرث : هو الزرع. وفيه دليل النهى عن الاعتزال عنها ؛ لأن الزرع إذا ترك سدى فيضيع ويخرب.

وفيه دليل أن الإباحة فى إتيان النساء طلب التناسل والتوالد ، لا قضاء الشهوة ؛ لأنه سمى ذلك حرثا ، والحرث ما يحرث فيتولد من ذلك الولد.

وفيه دليل أن الإتيان فى غير موضع الحرث يحرم منهن ، وعلى ذلك جاءت الآثار أنها سميت اللوطية الصغرى (٣) ، ما جاء أنه نهى عن إتيان النساء فى محاشهن ، يعنى : فى أدبارهن (٤) ، وفى بعض الأخبار : إتيان النساء فى أدبارهن كفر (٥).

__________________

(١) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ١٩٧).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٤٢٧٩ ، ٤٢٨٠ ، ٤٢٨٢) ، وعن عكرمة (٤٢٨١) ، ومجاهد (٤٢٨٣ ، ٤٢٨٤ ، ٤٢٨٥ ، ٤٢٨٦) ، وغيرهم ، وانظر الدر المنثور (١ / ٤٦٦).

(٣) فى الباب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أخرجه أحمد (٢ / ١٨٢ ، ٢١٠) ، والنسائى فى الكبرى (٥ / ٣٢٠).

(٤) فى الباب عن جابر بن عبد الله :

أخرجه الحسن بن عرفة فى جزئه وابن عدى والدارقطنى عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٤٧١) ، وروى عن ابن مسعود مرفوعا وموقوفا ، والموقوف أصح قاله ابن كثير نقله السيوطى فى الدر (١ / ٤٧٣).

(٥) فى الباب عن أبى هريرة مرفوعا وموقوفا. ـ

١٣٧

وقوله : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).

يعنى : على أى جهة شئتم بعد أن يكون ذلك فى المزرع ، ولا بأس بالاعتزال عنها إذا أذنت ؛ لما ذكرنا أن الأمر بذلك أمر بطلب النسل ، لا قضاء الشهوة. فإذا كان كذلك فلها ألا تتحمل مشقة تربية الولد ، وأما الزوج فإنما عليه المؤنة ، وذلك مما ضمن الله لكل ذى روح بقوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) [هود : ٦] ؛ لذلك نهى هو عن الاعتزال (١) دون إذنها ، ولم تنه هى عن الإذن عن ذلك. والله أعلم.

__________________

 ـ فأما المرفوع فأخرجه ابن عدى ، وأما الموقوف : فأخرجه عبد الرزاق وابن أبى شيبة وعبد بن حميد والنسائى والبيهقى كما فى الدر المنثور (١ / ٤٧٢) ، والموقوف أصح قاله ابن كثير.

(١) العزل عن الزوجة والأمة : هو أن يجامع الرجل حليلته ، فإذا قارب الإنزال نزع وأنزل خارج الفرج ، وسبب ذلك إما العزوف عن علوق المرأة وتكوين حمل فى رحمها ، وإما أسباب صحية تعود إلى المرأة أو إلى الجنين أو إلى الطفل الرضيع.

وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز عزل السيد عن أمته مطلقا سواء أذنت بذلك أو لم تأذن ؛ لأن الوطء حقه لا غير ، وكذا إنجاب الولد وليس ذلك حقا لها.

واختلف الفقهاء فى الزوجة الحرة على رأيين :

الرأى الأول : الإباحة مطلقا أذنت الزوجة أو لم تأذن ، إلا أن تركه أفضل وهو الراجح عند الشافعية ؛ وذلك لأن حقها الاستمتاع دون الإنزال ، إلا أنه يستحب استئذانها.

الرأى الثانى : الإباحة بشرط إذنها ، فإن كان لغير حاجة كره ، وهو قول عمر وعلى وابن عمر وابن مسعود ومالك ، وهو الرأى الثانى للشافعية ، وبه قال الحنفية ، إلا أنهم استثنوا ما إذا فسد الزمان فأباحوه دون إذنها.

واستدل القائلون بالإباحة المطلقة بما روى عن جابر ـ رضى الله عنه ـ قال : «كنا نعزل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ينزل» ، وفى رواية مسلم ، «كنا نعزل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبلغ ذلك النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم ينهانا».

واستدل القائلون بالإباحة بشرط الاستئذان بما روى الإمام أحمد فى مسنده ، وابن ماجه عن عمر ابن الخطاب ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنه قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها» ، وأخرج عبد الرزاق والبيهقى عن ابن عباس قال : «نهى عن عزل الحرة إلا بإذنها» وأما أدلة الكراهة : إن كان العزل بدون عذر ؛ فلأنه وسيلة لتقليل النسل ، وقطع اللذة عن الموطوءة ؛ إذ قد حث النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تعاطى أسباب الولد فقال : «تناكحوا تكثروا» ، وقال : «تزوجوا الودود الولود ؛ فإنى مكاثر بكم الأمم».

والعذر فى العزل يتحقق فى الأمور التالية :

 ـ إذا كانت الموطوءة فى دار الحرب وتخشى على الولد الكفر.

 ـ إذا كانت أمة ويخشى الزوج الرق على ولده.

 ـ إذا كانت المرأة يمرضها الحمل أو يزيد فى مرضها.

 ـ إذا خشى على الرضيع من الضعف.

 ـ إذا فسد الزمان وخشى فساد ذريته.

ينظر : بلغة السالك (٢ / ٢٨٢) ، مغنى المحتاج (٢ / ٣٩٣) ، المبدع (٥ / ٣٣٧) ، ابن عابدين (٣ / ١٧٦) ، المغنى بأعلى الشرح الكبير (٨ / ١٣٤).

١٣٨

وأما الاعتزال عن الإماء وملك اليمين فإنه لا بأس ؛ لأنه لا يطلب النسل من الإماء فى المتعارف ؛ لذلك لم يكره ، ولأن فى إحبالهن إتلافا ، وللرجل ألا يتلف ملكه ؛ لذلك افترقا. والله أعلم.

والأصل : أن الشهوات مجعولة لما بها إمكان قضاء الحاجات التى يقضى بها جرى تدبير العالم ، وبه يكون دوام النسل ، وبقاء الأبدان ، والحاجة لا تحتمل الوقوع فى الأدبار ؛ لذلك لم يجعل فيها.

وقوله : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ).

قيل فيه بوجهين :

قيل (١) : (وَقَدِّمُوا) العمل الصالح.

وقيل (٢) : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) من الولد تحفظونه عند الزيغ عما لا يجب.

وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

يحتمل قوله : (أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) أى : ما قدمتم من العمل الصالح فتجزون على ذلك ؛ كقوله : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) [البقرة : ١١٠].

ويحتمل : (أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) أى : ملاقو ربكم بوعده ووعيده.

قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٢٧)

وقوله : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ).

قيل (٣) : كان الرجل يحلف ألا يصنع المعروف ، ولا يبر ، ولا يصلح بين الناس ، فإذا أمر بذلك ، قال : إنى حلفت على ذلك ، فنهوا عن ذلك ، يقول : لا تحلفوا على أمر هو لى معصية ألا تصلوا القرابة ، وألا تبروا ، وألا تصلحوا بين الناس ، وصلة القرابة خير لكم من الوفاء باليمين فى معصية الله تعالى. و «العرضة» العلة ، يقول : لا تعللوا ، أى : لا يمنعكم أن تبروا أو ما ذكر.

__________________

(١) قاله السدى كما فى تفسير ابن جرير (٢ / ٤١١).

(٢) قاله عكرمة ، أخرجه ابن أبى حاتم عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٤٧٨).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٤٣٦٤) ، وعن إبراهيم (٤٣٦٥ ، ٤٣٦٦ ، ٤٣٦٧) ، ومجاهد (٤٣٦٨) ، وغيرهم ، وانظر الدر المنثور (١ / ٤٧٩).

١٣٩

وقوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

حرفان يخرجان على الوعيد : (سَمِيعٌ) بمقالتكم وأيمانكم ، (عَلِيمٌ) بإرادتكم فى حلفكم.

وقوله : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ).

قال الشيخ ـ رحمه‌الله تعالى ـ فى قوله : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) : إن كسب القلوب لا يكون عقدا ولا حنثا ، إنما هو تعمد الكذب.

كقوله : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) [الأحزاب : ٥] فعلى ذلك أمر يمين اللغو والتعمد. وهذا يبين أن اليمين يكون فى موجود ، لا فيما يوجد ؛ إذ فيه وصف المآثم ، وفيما يكون لم يكسب قلبه ما يأثم فيه. فعلى ذلك أمر اللغو ؛ فهو فى الماضى ، ولا يأثم بالخطإ ، ويأثم فى غير اللغو بالتعمد.

ثم قال الله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) [المائدة : ٨٩] ، وبين أن المؤاخذة تكون فى هذا بالكفارة وفى الأول بالمأثم ، وفى اللغو لا يؤاخذ بهما ، فلزم تسليم البيان لما جاء فى كل ذلك ، ثم جميع المؤاخذات فى كسب القلب بالمأثم ولزوم التوبة ؛ فكذا فى هذا.

وقد روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أمر اللعان ، أنه قال : «إن أحدكما كاذب ، فهل منكما من تائب؟» (١) ومعلوم كذب أحدهما ولزوم التوبة ، مع ما فى تركه الوعيد الشديد من الغضب أو اللعن. ولو كانت فيه كفارة لكان لا سبيل إلى العلم بها إلا بالبيان ؛ فهى أحق أن يبين لو كانت واجبة ، دل ما لم يبين أنها غير واجبة على أنها تجب للحنث ، والحنث عقيب العقد يدفعه ، وكان هاهنا ملاقيا له ، فهو يمنعه على نحو جميع الحرمات التى تفسخ الأشياء ، فهى عند الابتداء تمنع. وليس ذلك كالطلاق ونحوه ؛ لما قد يكون بلا شرط ، واليمين لا يصح إلا به ولم يكن فأنفذ.

وقوله : (وَاللهُ). وقد يخرج مخرج الاستخفاف الحلف بالله كاذبا والجرأة على الله ، فيجىء أن يكون كفرا ، لو لا أن المؤمن يخطر بباله ما يحمله على ذلك دون قصد

__________________

(١) أخرجه البخارى (١٠ / ٥٧٤) كتاب الطلاق ، باب قول الإمام للمتلاعنين : إن أحدكما كاذب (٥٣١٢) ، ومسلم (٢ / ١١٣١ ـ ١١٣٢) كتاب اللعان (٥ / ١٤٩٣) ، وأبو داود (١ / ٦٨٦) كتاب الطلاق ، باب فى اللعان (٢٢٥٧) ، والنسائى (٦ / ١٧٧) كتاب الطلاق باب التفريق بين المتلاعنين.

١٤٠